ارتبطت جهود مؤسّسات تعليم الموسيقى التي تمّ تأسيسها في الرّبع الأوّل من القرن الماضي بشكل وثيق برفد الحداثة الموسيقيّة في لبنان كما في دول المنطقة من خلال تطبيق مناهج الموسيقى الغربيّة، كالمعهد الموسيقيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت (١٩٢٩) ومدرسة وديع صبرا الموسيقية (١٩٢٥) التي أصبحت فيما بعد «الكونسرفاتوار الوطني». وقد ظهر على أثرها أربعة أجيال من المؤلّفين الموسيقيّين في القرن الماضي: الجيل الأوّل في بداية مرحلة الانتداب ويمثّله وديع صبرا (١٨٧٦ - ١٩٥٢)، وتبعه أنيس فليحان (١٩٠٠ - ١٩٧٠) وهو من رموز الجيل الثّاني. أمّا في الخمسينيّات والستّينيّات فبرز توفيق سكّر (١٩٢٢-)، وتوفيق الباشا (١٩٢٤ - ٢٠٠٥)، وجورج باز (١٩٢٦ - ٢٠١٢)، وبوغوص جلاليان (١٩٢٧ - ٢٠١١)، والأب يوسف الخوري (١٩١٨ - ٢٠٠٨) ومن ثمَّ عبد الغني شعبان (١٩٢٧ - ١٩٧٧) ووليد غلميّة (٩٣٨ - ٢٠١١). في مسار متوازٍ، ترسّخت النّهضة الغنائيّة التي بدأت مطالعها في لبنان بعد نيله استقلاله واستمرّت لحين بداية الحرب في العام ١٩٧٥. وقد برزت كوكبة من الملحّنين والشّعراء والمغنّين والمؤسّسات والمهرجانات الفنّيّة على رأسها الإذاعة اللبنانيّة ومهرجانات بعلبك الدّوليّة وهيئات داعمة أخرى عملت على تقديم أعمال غنائيّة مسرحيّة وإذاعيّة ذات طابع محلّيّ ومعاصر في آن واحد. وتغرف هذه الموسيقى الغنائيّة من مناهل متعدّدة تشمل التّراث الرّيفي، والبدوي، والمُدني المحترف في القاهرة وحلب، والموسيقى الدينيّة البيزنطيّة، والسّريانيّة، والإسلاميّة.
شهدتْ مرحلة الحرب اللبنانيّة ظهور جيل رابع من المؤلّفين، ومن أعلامه في لبنان والخارج بشارة الخوري (١٩٥٧-)، وناجي الحكيم (١٩٥٥-)، وجمال أبو الحسن (١٩٥٧-)، وغبريال يارد (١٩٤٩-)، وعبد الله المصري (١٩٦٢-)، وهتاف خوري (١٩٦٧-)، وقد انضمّ إليهم مرسيل خليفة (١٩٥٠-) في مرحلة جديدة من مسيرته الفنّيّة. وبرزت وجوه جديدة بعد انتهاء الحرب ومنها جويل خوري (١٩٦٨-)، وزاد ملتقى (١٩٦٧-)، وهبة القواس (١٩٧٢-)، ومحمود تركماني (١٩٨٤-)، وبشرى الترك (١٩٨٢-). كما نشطتْ مبادرات فرديّة عدّة تهدف إلى الإضاءة على أعمال موسيقيّين معاصرين من لبنان والدّوَل العربيّة، لعلّ أبرزها كتابات النّاقد نزار مروّة وبرنامجه الإذاعي «أصوات من الضّفّة الثانية» (١٩٩٠). وكان لكلّيّة الموسيقى في جامعة الكسليك مساهمات متعدّدة المستويات، خصوصاً في توجيه طلّابها إلى كتابة أطروحاتهم عن أعلام التّأليف والتّلحين في لبنان ومنهم بوغوص جلاليان وتوفيق الباشا ووليد غلميّة.
أمّا بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة وبدْء مرحلة إعادة الإعمار، فكان للدّكتور وليد غلميّة دور فعّال على صعيد المؤسّسات وذلك في تنمية المعهد الموسيقي الوطني وتوسيع نطاقه الجغرافي بالإضافة إلى إنشاء الفرقة الفلهارمونيّة اللبنانيّة. توالت المبادرات الفرديّة في تلك الفترة لمواكبة هذا القطاع الموسيقي الإبداعي ومبدعيه الذين «اختاروا الطّريق الصّعب المثير للجدل والنّزاع ولمسألة التقبّل والانتشار» كما وصفهم النّاقد نزار مروّة١، فأطلقت المؤلّفة جويل خوري نشاطاً تواصليّاً تحت عنوان «لقاء مع المؤلّف» (Meet the Composer) (٢٠٠٩ - ٢٠١٠) يهدف إلى «اكتشاف المشهد الموسيقي اللبناني المعاصر، الذي قد يؤدّي بدوره إلى تنظيم مهرجان للموسيقى المعاصرة في لبنان». وأنشأ المؤلّف هتاف خوري صفحة خاصّة على الفيسبوك مع قناة خاصّة على اليوتيوب بعنوان «المؤلّفون اللبنانيّون»٢ (Lebanese Composers)، مستفيداً من ميزات منابر التّواصل الاجتماعي للتعريف بأعمال هؤلاء المبدعين، وسعى نحو إصدارات موسيقيّة لبعض رموز التّأليف الموسيقي. كما عملت زينة كيّالي على إصدار كتاب باللغة الفرنسيّة يعرّف بالمؤلّفين والملحّنين اللبنانيّين وتأسيس مركز التّراث الموسيقي اللبناني٣ في مدرسة الجمهور.
يتألّف هذا اللقاء مع المؤلّف الموسيقي عبد الله المصري من أربعة محاور تنطلق مع البدايات الأولى والدراسة في روسيا لتضيء من ثَمّ على أعماله، وتنتقل إلى محاور أخرى لتناقش قضايا وشؤوناً راهنة تتعلّق بمسيرة التّأليف الموسيقي في لبنان والمنطقة عبر تجربته الفنّيّة والعلميّة. حصل المصري على الدكتوراه في التّأليف الموسيقي من كونسرفتوار تشايكوفسكي العريق في روسيا، ويقيم حاليّاً في الكويت حيث يدرّس في جامعة الكويت. قُدّمت أعماله في قاعة البولشوي في موسكو، وليفربول فلهارمونيك ودار الأوبّرا المصريّة والقَطريّة وغيرها مع أوركسترا راديو موسكو، وغلوباليس موسكو، والقاهرة السيمفوني، وليفربول الملكيّة، ونانسي السيمفوني، وقطر السيمفوني، والأوركسترا الفلهارمونيّة اللبنانيّة. وقد أنهى المصري أخيراً تأليف سيمفونيّته الثّالثة، وكرّمه العام الماضي كلٌّ من وزارة الثّقافة اللبنانيّة وأكاديميّة الفنون في مصر مع نخبة من الرّموز الأكاديميّة المصريّة وذلك في ختام الملتقى العلمي العربيّ الثّاني. تتميّز لغة المصري الموسيقيّة بالتّجديد السمعي المستوحى من صميم المزاج العربيّ اللبنانيّ، بعيداً عن موجة الموسيقى التجريبيّة السّائدة، وتتنوّع في عدّة قوالب موسيقيّة.
«أنا شخصيّاً مع من اختاروا الطريق الصّعب، معهم دون تحفُّظ، ومع إعادة تربية موسيقيّة شاملة للأذن الشائعة والذّوق العامّ. إنّنا نراهن على زمنٍ آتٍ تحتلّ فيه الموسيقى الجادّة المكان اللائق في ثقافة الجمهور ووجدانهم. وإلى ذلك الوقت أعتبر أنّنا جميعاً أفراداً ومؤسّسات مقصّرين في جعل هذا الآتي يبدو قريباً»
(نزار مروّة ١٩٨٨)
البدايات
ما هي أولى ذكرياتك عن الموسيقى خلال طفولتك و«ملاعبها»؟
منذ الصّغر كنتُ أغنّي في صالون المنزل في صليما حيث كان الصّدى يكفي ليجعل من صوتي في خيالي أثناء غناء فيروز أحلى من صوت فيروز نفسها. وكانت مخيّلتي وثقتي تزيدانني شغفاً وحبّا لصوت فيروز بتوليفته الرحبانيّة. كانت المصاحبة وقتها الدّربكّة على المَساند الخشبيّة لفرش الصّالون العتيق وكلّ شيء آنذاك بدا رائعاً. كان ذلك في سنّ ٦ أو٧ سنوات. ومن ذكرياتي أنّي كنت أطارد بائع البوظة في كلّ أحياء ضيعتي مستمعاً إلى تسجيلات فيروز والأخوَين رحباني التي تصدح من ميكروفون معلّق على أعلى سيّارته. كنت من الأطفال الذين «فاتلة معهن عالموسيقى». كان مغناطيس الموسيقى يسحبني ويجعلني وقحاً لدرجة أنّي أجد نفسي أمام أحد شبابيك الجيران حيث تصدح الموسيقى من مذياعهم.
في سنّ ٨ سنوات شاركتُ في حفلة المدرسة التي أعدّها أستاذ فيها عمل في فرقة الرّقص التّابعة للأخوَين رحباني. وكان يستغلّ مكانته العريقة لتعليمنا الدبكات وإعادة المسرحيّات الرّحبانيّة. وكان عنده «واسطة» الحصول على الثّياب الأصليّة للفرقة. وأذكر أنّنا أعدنا تقديم «البعلبكيّة» على ما أظنّ. وقتها كنت أسترقُ النّظر على التدريبات لأنّ المشاركين كانوا من الصّفوف العليا، بينما أَنِا أقلّ عمراً من المطلوب. لكنّني فاجأتُ المُدرّس برقص كلّ ما تعلّموه بإتقان، وقد أبهره ذلك فأصبحت «صوليست» الدّبكة بثياب «مبهبطة» نظراً لحجمي الصّغير. سافر أخي الكبير طليع إلى الاتّحاد السّوفييتي وكان كريماً معي في تزويدي بالأسطوانات الكلاسيكيّة وحتّى النوتا التي لم أكنْ وقتها على أيّ صلة معها.
لاحَظَ أبي شغفي بالموسيقى وحاول مساعدتي، فصنع لي غيتاراً خشبيّاً وزوّده بأوتار النّايلون التي كان يستخدمها في مهنة البناء. أخذ هذا الغيتار «الهاند ميد» شهرة كبيرة في الضّيعة ولاموه على مسايرتي في جنوني. كان والدي نحّات أحجار وعازفاً سابقاً على آلة الترمبيت في فرقة النّوبة في الضّيعة، كما كان ممثّلاً في فرقة الضّيعة حيث قدّم مع فنّاني جيله الكثير من مسرحيّات شكسبير عبر نصوص شعريّة. ولا زلت أذكر المبارزات الشعريّة فيما بينهم على نصوص شكسبير.
مع بداية الحرب الأهليّة اشترى لي أخي منصور أوّل غيتار حقيقيّ، وهذا الغيتار شهد ويلات الحرب والحريق الذي تعرضَت لهما قريتي، لكنّه بقي دون سليماً برغم احتراق منزلنا بكامله، فقد كان فراش الصّوف السّميك كفيلاً بحمايته من الحريق. وبعد عودتنا من التّهجير المؤقّت كانت فرحتي لا توصف عندما وجدت الغيتار سالماً رغم الخراب.
ماذا بقي أيضاً من ملامح بيئتك الاولى في جعبة الذّاكرة؟
ليست تلك الملامح جميعها موسومة بسياقات الفرح. في البداية لم أُثمِّن القيمة المطلقة لجمال طبيعة بلدتي صليما وأبنيتها الأثريّة وغابات الصّنوبر والسّنديان المحيطة بها، حيث كنّا نمضي جزءاً كبير من وقت الطّفولة «بالهوشلة والعفرتة» في ربوعها. كنت في لحظات الوحدة أشعر بالحزن ولا أعرف مصدره. وقد اتّهمت جرّاء ذلك بالنّكَد وأصبحت انطوائيّاً أفضٍّل البقاء داخل البيت وأميل للشعور بالطّمأنينة داخله، حتى وصلت لمرحلة أكره فيها الطبيعة وضجيجها. وللتّوضيح أكثر، لا أنسبُ أيّاً من أعمالي إلى جمال طبيعة المكان حيث إنّ محتوى هذه الأعمال ينبض بالحزن والتّراجيديا. كما رافقتْ طفولتي أصوات فرقة النّوبة٤ وتفاصيلها الغريبة. كان ظهورها في المناسبات الاجتماعيّة مصدر رعب لا يُصدَق. فِي أحد المآتم مثلاً، اصطحبتْني والدتي إلى العزاء وكنت في الخامسة أو أقلّ من عمري. وفي لحظة تاريخيّة مشؤومة دخلت النّوبة إلى الغرفة حيث تتواجد النّساء والأمّهات وأولادهنّ بالطّبع، وقاموا بأداء أحد الأناشيد الصاخبة الحزينة مع قرع طبول مرعب، ممّا جعل كلّ أطفال المناسبة يقومون بالفرار خوفاً إلى الخارج. كانت النّوبة بحدّ ذاتها جزءاً رئيسيّاً من اهتمامات أهل القرية بما فيها من تمارين ممزوجة بالصّراخ والآراء المتناقضة، لكنّ كلّ هذا مع وعيٍ موسيقيّ يشهد له. ولا تغيب عنّي قصص الهجرة، خصوصاً سيرة أنطونيوس البشعلاني٥ وهجرته التي كانت مفخرة لضيعتنا التي وصفتْها كتب التّاريخ على أنّها أوّل هجرة لبنانيّة إلى العالم الجديد. ما زلتُ أذكر بيت ذلك المهاجر الطَّموح وحجارته القليلة، ممّا لا يزال يثير مخيّلتي لتجسيد عمل موسيقيّ متكامل عن حياته وهجرته التي ترتبط أيضاً بواقعنا الحاليّ وما فيه من آلام ومعاناة الحبّ والفراق ومن المعاني الوطنيّة.
ما هي فرص الدّراسة الموسيقيّة التي كانت متاحة لك في لبنان خلال مراحل الدّراسة قبل الجامعيّة؟
بسبب الحرب لم يتسنّ لي إلّا متابعة الدّروس الخاصّة مع أستاذي عيسى السّكاف ثمّ في المركز الثّقافي الإسباني في بيروت. في عمر ١٣ سنة بدأت دراسة آلة الغيتار بنفسي ولكنّ بعدها بسنة تعرّفت إلى أستاذي الأوّل عيسى السّكاف الذي علّمني فنون الموسيقى والغيتار لعدّة سنَوات، وهو من بلدة حمّانا التي لا تبعد كثيراً عن مقرّ سكني. وقد ساعدني كثيراً من خلال تسهيل عمليّة شِراء غيتار بسعر رخيص وإعطائي بعض الحصص المجّانيّة، بالإضافَة إلى إدراجي في أمسِيات موسيقيّة كان ينظّمها حيث كنت أقوم بعزف العديد من المقطوعات. وبعدها تابعت مع أستاذ الغيتار الشّهير جوزيف أشخانيان في المركز الثّقافي الإسباني في بيروت. لم تربطني بأشخانيان علاقة خاصّة بِرغم نصيحتهِ لي بالدّراسة في المركز الثّقافي الإسباني. ويعود السّبب إلى أنّني حاولت مِراراً الدّخول إلى الكونسرفتوار، وكنت أحصل منهم على مواعيد خاطئَة لتقديم طلبات الدّراسة، وينتهي الأمر بقدَم قبول طلبي لانتهاء مهلة التّسجيل إلى أنْ لاحظَني أشخانيان وأنا في حالَة أسى وحزن، فوضّح لي اللّعبة التي اتّبعوها حينها في الكونسرفتوار.
في أيّ مرحلة عمريّة بدأت بالعزف والاشتراك مع فرق موسيقيّة محليّة؟ ما هي الأعمال التي كنتم تقدّمونها؟
أودّ أن أذكر بعض المناسبات الهامّة في بداية مسيرتي الموسيقيّة. الأولى هي تأسيس فرقَة الجبل (أنا وبسام ومروان وبشير ضوّ وفيصل وندوى القنطار وتميم وناجي هلال وصادق ملاعب) التي استمَرّت حتى سفري لِروسيا. أنتجنا «كاسيتْ» تضمّن عشرة أعمال موسيقيّة غنائيّة معظمها من ألحاني وتوزيعي الموسيقي. وسجّلناها في استوديو زياد الرّحباني، وكنّا أوّل من سجّلَ في أستديو زياد سنة ١٩٧٩، وقد شارَكَ معنا حينها في العزف على البيانو. ومن نشاطاتي في الضّيعة التي جمعت بين فرقَة الجبل والكَشّاف التّقَدّمي هي إعادة تقديم مسرحيّة «جبال الصّوّان» في أداء حيّ عام ١٩٧٨، وطبعاً التّجربَة لم تأخذ حظّها لأسباب كثيرة أهمّها الإنتاج.
وماذا عن تجربتك مع فرقة الميادين؟
تَعرّفت إلى الفنّان مرسيل خليفة سنة ١٩٧٩ وكنت أحد أعضاء فرقة الميادين حتى ١٩٨٢. كما شاركتُ بشكل متقطّع في الأعمال التي كانت تُقام خلال الصّيف الذي هو فترة إجازتي الدِراسيَة السَنويَة، وذلك حتى العام ١٩٩٢. كانت أجواء حميميّة ونضاليّة بكلّ معنى الكلمَة. قدّمنا مجموعة حفلات في مخيّمات النّضال وفي ظُروف متواضعة جدّاً. وفي هذه الحَفلات رافَقْت مرسيل وأميمة في أوّل مشاركتها مع الميادين. وكنّا ثلاثة فقط: أنا، ومرسيل، وأميمة. كما قِمنا بِجولات عالميّة عديدة في أوروبّا وأميركا وشمال أفريقيا. رحلة أميركا استمرّت لشهرين تقريباً في سنة ١٩٨٢، ورحلة أوروبّا لمدّة أربعة أشهر. كنت شاهِداً على ظهور أجمل إنتاج لِمرسيل خليفَة: «الجِسر»، «منتصبَ القامة أمشي»، «إنّي اخترتك يا وطني» والكثير منَ الأعمال. وكنت عازفاً على غيتار باص وغيتار أكوستيك وكورال. أمّا في بعض رحلات الجزائر، فقد شارَكت في توزيع بسيط لبعض الأغاني. وهذه التّجربة أكسبتني خبرة واسعة إلى أن سافرت لمتابعة الدّراسة في الخارج.
الدراسة في روسيا
سافرت إلى موسكو عام ١٩٨٢ ومكثت فيها ١٢ سنة طالباً في كونسرفتوار تشايكوفسكي٦ إلى أن حصلْت على دكتوراه في التّأليف الموسيقيّ. كيف تمّ اختيار روسيا للتّحصيل الدّراسي الموسيقيّ؟
لم أختر روسيا، بل كانت فترة حرب. تقدّمت بطلب للدّراسة في الخارج عبر القنوات المتاحة، وبعد انتظار عدّة سنَوات جاءتني الموافقة على الدّراسة في روسيا. وكانت الموافقة تتمّ عبر إرسال الأعمال الموسيقيّة (المؤلّفات) إلى روسيا وبعدَها تأتي لجنة لِمقابَلَة المرشّحين واختيارهم في السّفارة الرّوسيّة في سورية. وهذا ما حصل. وطبعاً كان دعم مرسيل خليفة لأنّه أصرّ على متابعة دراستي. كانت تأتي البعثات عبر الحزب الشّيوعي اللبنانيّ وكنت مُستَبعداً لأنّ أخي خريج بعثة، وقالوا إنّه لا يُفترض إرسال شخصين من بيت واحد! مرسيل فصل الأمر بحيث تكون الأولويّة للموهبة والتّخصّص النّادر.
وما الذي دفعك لاختيار معهد تشايكوفسكي بالتّحديد، وهو أحد أهمّ معاهد الموسيقى في العالم الذي يرتبط اسمه أيضاً بـخاتشاتوريان، وبركوفيف، وشنيتكه؟
أيضاً، لم أختر كونسرفتوار تشايكوفسكي. لقد صادف أنْ أُرسلتُ إليهِ ربّما بعد دراسة الأعمال الموسيقيّة التي كنت قد أرسلتها لهم مسبقاً. هناك خضعت لامتحانِ قدراتٍ وتصنيف، وبقيت في موسكو للدّراسة في الكليّة الأكاديميّة التّابعة للكونسرفتوار لمدّة ثلاث سنوات. وبعدها خضعت لمسابقةٍ ثانية للدّخول في معهد تشايكوفكسي، وكنت الأجنبيّ الوحيد ضمن ستة طُلّاب مقبولين لقسم التّأليف.
ما هي مميّزات معهد تشايكوفسكي من حيث المنهج وأسلوب التّعليم؟
هو جامعة نموذجيّة تحمل التّقاليد العَريقة للثّقافة الموسيقيّة النّخبويّة العالميّة والرّوسيّة. وهو تصفيَة قاسيَة لنخبة النّخبة من الذين يرغبون بمتابعة التّحصيل الموسيقيّ في الاتّحاد السّوفييتي سابِقاً، وروسيا قبل وبعد. تسقط كلّ القوانين على عتبة الدّخول، حيث كلّ من يدخله يجب أن يحمل ملامح مبدع. وإذا استعرضنا الأسماء التي ارتبطتْ بهذه المؤسّسة، نرى أنّ أغلبيّة الثّقافة العالميّة الرّوسيّة هي من مخَرَجاته من عازفين ومؤلّفين.
تتلمذت على يد عمالقة مدرسة التّأليف الموسيقيّ المعاصر في روسيا، ودرست تحديداً مع نيكولاي راكوف٧ (Nikolai Petrovich Rakov) التّوزيع الأوركسترالي، رومان ليدينييوف٨ ( (Roman Ledenyov التّأليف الموسيقيّ، ويوري خولوبوف٩ (Yuri Nikolaevich Kholopov) الهارموني الحديث. كيف كانت طبيعة العلاقَة بينك وبين أساتذتك وكيف
تطوّرتْ عموماً؟
نعم، لحسن الحظ أنّني كنت آخر من َدرس التّوزيع الأوركستر الي مع نيكولاي راكوف. وهو صاحب منهج معروف وله شهرة خياليّة في كونه من أحفاد ريمسكي كورساكوف علمياً. تميّز بقسوته العادلة في توضيح مبدأ المادّة. يوري خولوبوف أيضاً من أساطين نظَريّات الموسيقى. وتمحورتْ علاقتي به من حول المثابرَة على محاضراته في الهارموني المعاصر وغيرها من الموادّ. أمّا العلاقة الأساسيّة فدائما تكون مع أستاذ التّخصّص وهو في هذه الحالة رومان ليدينيوف، شخصيّة عادلة مرهفة ويتعاطى بكثير من التّفاني، لكنّه لا يفرض أيّ وجهة نظر فيما يتعلّق بأسلوب وأفكار التّأليف. كان يشجّع اللكنة القوميّة في الموسيقى، ودائما أستاذ التّأليف (الشّيف) له المكانة الأكبر بين كلّ الأساتذة.
وماذا عن زملائك في الدراسة؟
علاقتي مع الطّلاب الرّوس كانت ممتازة. فمنذ وصولي إلى موسكو كوّنت أوركسترا مصغّرة جمَعَت الكثير من الاَلات وكان أعضاؤها من طلّاب الكونسرفتوار. كما أسّست فرقة أخرى سمّيناها «الولّادة». لعلّ هذه التّسمية غريبَة، ورمزيّة، ومتطرّفة بقدر تطرّفنا للفكر الإنسانيّ المناضل. كانت تضمّ مجموعة من الطّلّاب اللبنانيّين من خارج الكونسرفتوار، وهم: محمود تركماني، وبيار خليفة، وناصر حسين. شاركْنا في الكثير من المهرجانات ومنها ما كان عالميّاً مثل مهرجان الأغنية السّياسيّة في برلين. كان أسلوب فرقة الولادة نمطيّاً متأثّراً بفرقة الميادين، ومرسيل خليفة، وخالد الهبر. كنت رئيس الفرقة ولحّنت مجموعة من الأغاني من ضمنها أغنية «حنّا»١٠.
كيف تصف علاقتك الثقافيّة بروسيا عبر تجربتك الدّراسيّة؟ وما هي «زوّادة العِبَر» التي تكتنزها من تلك المرحلة؟
هي مرحلة فاصلة وأساسيّة تحديداً في علاقتي مع الثّقافة الكلاسيكيّة من موسيقى، ومسرح، وفنون تشكيليّة وحبّي لها جميعها. بلورت في مخيّلتي فلسفة ثابتة وعميقَة مختصرُها أّن الإبداع يأتي من الجذور ويتخلّى عن البهرجَة والوصوليّة ويكون ممزوجاً بمعاناة الإتقان والمعرفة. هي تراكمٌ مرجعيّ في تكوين شخصيّة موسيقيّة مستقلّة ونظرَة شاملَة إلى الجمال والحياة.
هي أيضاً مرحلة تمتاز بالتّحوّلات الكبيرة ونهايَة الاتحاد السّوفييتي.
كانت مرحلة التّحولات استمراراً للنّضال بكل معانيه القاسية: من الحرب في لبنان، إلى الانتقال من مرحلة السّوفييت إلى الرّوس وما تبعها من حرمان، وصعوبة حياة، ومشاقّ لإكمال الدّراسة. ولكن لا شيء يؤثّر في الانغماس في تفاصيل الدّراسة مهما كانت الأزمات. هذا ما ميّز الكونسرفتوار الذي مرّ بمراحل الثّورة البولشفيّة، والحرب العالميّة العظمى، والنّصر على الفاشيّة، ومَعاناة المبدعين واتّهامهم بالابتعاد عن أمور الإنسان الواقعيّة، إلى البيروسترويكا. الكونسرفتوار له تقاليده العميقة والمتجذّرة والمستقلّة عن بقيّة الأنظمة المعمول بها في دول أخرى أو في روسيا، حتّى في طريقة تقسيم المراحل الدّراسيّة ومتطلّباتها وعدد سنوات الدّراسة لكلّ منها. على سبيل المثال، كلّ من يريد أن يحصل على شهادة الماجستير عليه أن يدخل إلى المعهد من خلال القنوات الدّراسيّة التّابعة له، وهي إمّا المدرسة الموسيقيّة المتخصّصة وتتطلّب ٨ سنوات دراسيّة، أو الأكاديميّة الموسيقيّة وتتطلّب ٤ سنوات دراسيّة. رفضوا مفهوم ثَلاث سنوات بِكالوريوس وسنتين ماجستير، باعتبار أنّ الأساس هو في التّقاليد والتّراكم العلميّ والمعرفيّ، وليس في عدد وتفصيل السّنوات.
الأعمال الفنيّة
أخبرنا عن عملك التّأليفي الأوّل الذي قمت به خلال سنوات الدّراسة؟
كتبت أوّل عمل في صيغة موسيقيّة تقليديّة بسيطة، وهي عبارة عن مجموعة مقطوعات للبيانو «بريلود» لم أصدرها من ضمن نتاجاتي الموسيقيّة.
كيف كانت ظروف هذه التّجربة وردود الفعل التي تلقّيتَها؟
هي من أصعب المراحل وبداية تكوين الشّخصيّة والتّفتيش عمّا هو مقْنع في محيط الأعمال الخالدة، وتسود فيها حالة من التّردّد وعدم الثّقة. بُليت بانتقادات حادّة من البروفسور المُشرف قسطنطين بِطاشوف (Konstantin Batashov). وملخّص نقده المفيد كان أنّه لا يمكن أنّ تغيّر داخلك، لونَك، عرقَكَ وغيره إذا ارتديت ثياب موّهتْ حقيقتَك. كما أصرّ على رجوعي لأصول وجذور المكان كي أعطي الإبداع الحقيقيّ والمقْنع. كانت صدمة قاسية وتوقّفت لشهور عن التّأليف، وكنت حينها أضع المنطلقات الفكريّة والفلسفيّة لمستقبل مسيرَتي الموسيقيّة.
كيف تبدأ عمليّة التّأليف؟
أكوّن الفكرَة العامّة للعمل، وهي عادّة تكوينٌ فلسفيٌّ سيكولوجيّ، ترتبط برؤية معيّنة أثّرت بي. وتتمحور هذه المرحلَة حول ابتكار البذرَة السّمعية الأساسيّة للعمل الذي هو مسار معقّد وطويل دائماً ما يكون قابلاً للتّغيير والتّعديل.
عملك الأخير هو السّيمفونيّة الثّالثة. أخبرنا عن ظروف هذا العمل ومساره.
نعم، كتبتُ السّيمفونيّة الثالثة خلال صيف ٢٠١٦. وهي مكوّنة من حركتيْن هما على التّوالي «نهايات» (Cadences) و«الرّقصات الضّائعة»، وأردْتُ أن تكون لهاتَين التّسميتين أبعاد ودلالات مزدوجة. الحركة الأولى لها خلفيّات فلسفيّة حول مفهوم نهايات الأشياء والمراحل، وهي مرتبطّة بتلميحات الصّيغ التّقليديّة لخواتيم الجمل اللحنيّة. فيها الحزن مع هروب مفتعل من الدّراما. أمّا الحركة الثّانية فتحوي أيضاً تلميحات على حافّة السّخرية والتّجديد. فيها صخب وحماسة، وفيها شفافيّة ورقَة. أظنّها سيمفونيّة استفزازيّة بالمنحى الإيجابيّ قد تكون صدمة من ناحية اللّغة الموسيقيّة المتّبعة، على أمل الاستماع إلى أدائها قريباً مع إحدى الفرق السّيمفونيّة في العالم. سنرى ما ستحمله الأيّام! كالعادة أكتب أعمالي في فترة العطلة الدّراسيّة ودون أيّ تشتّت في الوقت المخصّص لإكمال العمل. مع العلم أنّ فكرة السّيمفونيّة راودتني لسنوات طويلَة وضعت خلالها العديد من الأفكار، لكنْ أثناء الكتابة تحصل التّغييرات وربّما إلى الأفضل.
يرى بعض المؤلّفين أنّ السّيمفونيّة هي قمّة الأنواع الموسيقيّة الكلاسيكيّة. هل عندك نزعة نحو نوع معيّن من القوالب الموسيقيّة؟
السّيمفونيّة هي العمل الموسيقيّ الصّرف الذي لا يختبئ خلف ظلال قصّة معيّنة أو برنامج صوَريّ (Programme Music). لذا فيها الكَثير لقول الذّات المشبّعة بالعواطف، والجَمال، والدّراما. إنتاجي السّيمفونيّ هو قليل مقارنة مع غيري من المؤلّفين والأسباب عديدة أهمّها انعدام الوقت الكافي والمتتابع لإنهاء العمل السّيمفونيّ.
عملت كثيراً على قالب الكونشيرتو خلال فترة زمنيّة طويلة نسبيّاً. وتعدّدت الآلات التي اخترتها، سواء كانت من مرتكزات التّراث الكلاسيكيّ الأوروبّي أو أخرى مشرقيّة. وهذه الأعمال هي: كونشرتو الكمان (٢٠٠١)، كونشرتو البيانو (٢٠٠٣)، كونشرتو العود (٢٠١١)، وكونشرتو التشيلّو (٢٠١٢). ما هي علاقتك مع تلك الآلات؟ وهل هناك آلات أخرى تطمح للعمل عليها في هذا الإطار؟
البيانو، والكمان، والتشيلّو من الاَلات الأساسيّة لتكوين أيّ عمل موسيقيّ قيّم، لذا لها النّصيب الأوفر من الأعمال الخالدَة. أمّا آلة العود فاخترتها بعد الكثير من الدّراسة والاقتناع بضرورَة الكتابَة لها، بما فيها رمزيّتها وموقعها في ثقافتنا العربيّة. طبعاً، عندي رغبَة شديدة في كتابَة أعمال لآلات أخرى، ولكن الوقت الضّيق بسبب عملي الأساسيّ يجعلني أكمل الأهمّ. أودّ الكتابّة لآلة الفلوت مثلاً.
كيف كانت مقاربتك التّأليفيّة في التّعامل مع العود وتاريخه العريق في موروثنا الموسيقيّ والغنائيّ المشرقيّ، بالأخصّ مع محمّد القصبجي في تقاسيمه المُبكرة، ورياض السّنباطي في «لونغا رياض» ومجموعة التّقاسيم التي سجّلها في خريف العمر والتي تحمل خلاصة تجربته الموسيقيّة وحكمتها، بالإضافة إلى أعمال جميل بشير من العراق؟
هي بعيدة عن كلّ موروث هذه الأسماء. الآلة فيها تفاصيل موسيقيّة غريبَة وقاسية من جهة وطربيّة وتعبيريّة من جهة أخرى. فيها ملامح الارتجال المدروس. إنّها في هذا العمل لا تنتمي لمجموعة آلات الأوركسترا السّيمفونيّة، فهي تواجه هذه المجموعة. هي صوت عربيّ جريح في زمن آلام هذا الشّعب وتخبّطه بثورات مُصدَّرة بشعارات رنّانة نتيجتها الخراب. وقد كتبت صيغة أخرى لنفس الكونشرتو مع آلة البزق إلى جانب العود لإضافة رنين وبريق أظنّه إيجابيّاً ويناسب زخم الأوركسترا السّيمفونيّة.
لك عدد من الأعمال في إطار موسيقى الحجرة والتي كان «رباعي الغيتار» آخرها منذ عشر سنوات في العام ١٩٩٦. لماذا إبتعدَت عن تأليف هذا النّوع من الأعمال؟
مع الأسف معظم أصدقائي الموسيقيّين يطلبون أن اكتب لهم عملاً معيّناً خاصّاً بهم. وقد طلب أحدهم منّي رباعيّاً وتريّاً فقلت له تَفَضّل هذا الرّباعي من أعمالي القديمة، تلك هي أعمالي وليست ممّا «يطلبه المستمعون». وبصراحة كلّ أعمالي نفّذتها من إنتاجي المادّي الخاصّ. لذا أكتب ما أراه مناسباً لِرغبتي في التّعبير. أضف إلى ذلك أنّ المجاميع الموسيقيّة المطلوبَة ليست دائماً متوفّرة.
قدّمت متتالية الفلوت والبيانو مراراً وهي من أكثر أعمالك أداءً. عزفت في التشيلي، وفي مهرجان سلوفينيا الحادي عشر للفلوت مع وسام البستاني وآخرين. كيف تفسّر هذا الإقبال من قِبل عازفين بارزين من بلدان وثقافات مختلفَة؟
لا أعلم. لربّما لتلقائيتَها وصدْق رسالتها الإنسانيّة. أضف إلى ذلك جماليّة البساطة التي تميّز هذا العمل.
ما دمنا نناقش موسيقى الحجرة، يخطر في بالي موضوع ذو صِلة لكنّه غير مرتبط بشكل مباشر، وهو عن التّخت في إرثنا الموسيقيّ المشرقيّ، والذي يرتكز على مهارة العازفين وترسّخهم في مسالك وأسرار المقامات، وبالتّالي القدرة على الارتجال المبدع. برأيك، لماذا انحسر هذا الإرث لصالح الأوركسترا الموسيقيّة من ثلاثينيّات القرن الماضي في التّسجيلات والعروض الموسيقيّة، كما في المناهج الموسيقيّة؟
أظنّ أنّه لعدم وضوح رؤية جماليّة المجموعات الآليّة واختلافها. برأيي التّخت يشبه إحدى مجموعات موسيقى الحجرة في الثّقافة الغربيّة الكلاسيكيّة ولها طعمها الجماليّ الخاصّ، وبالتّالي لا يفترض مقارنته بغير كيان آلي مثل الأوركسترا. أمّا في مجتمعنا فتختلط كلّ المقوّمات بعضها ببعض: الجاز مع الشّرقي مع الكلاسيك مع البوب مع الفلامنكو إلخ... وتبدأ المقارنات غير المجدية. لنعُدْ إلى منحى السّؤال لكي أؤكد أنّ التّأليف لا تكبر قيمته مع ازياد عدد الاَلات. علينا الاتّفاق على تصنيف أنماط الموسيقى وعدم خلط المعايير والمفاهيم ببعضها أو حتّى المقارنة فيما بينها. الموسيقى التّقليديّة يجب أن تستمرّ بمدارس تلقينها للأجيال القادمة، والمحافظة على خصوصيّة جماليّتها وفي الوقت نفسه عدم تأليهها.
صدر لك عمل منذ أعوام قليلة عدّه الكثيرون محطّّة محوريّة في المشهد الموسيقيّ العربيّ الآن، هو القصيد السّيمفونيّ «مطر» للسّوبرانو والبيانو والأوركسترا مع أميمة الخليل، ورامي خليفة، والأوركسترا السّيمفونيّة «كابيلا روسيا»، بقيادة المايسترو الرّوسيّ فاليري بوليانسكي. كيف تمّ اختيار قصيدة «مطر» للسّيّاب التي قدّمها صاحبها بأنّها «من أيّام الضّياع في الكويت، على الخليج العربيّ»وهي من رموز الحداثة الشّعريّة منذ أن نشرتها مجلّة الآداب اللّبنانيّة للمرّة الأولى في حزيْران / يونيو ١٩٥٤؟
سمعت عن القصيدة ولمست أهمّيّتها في الخليج العربيّ. وقمت بدراسات مطوّلة عن حداثتها. وأخيراً أحببت هذه القصيدة بتجرّد وأدركت أهمّيّتها الفنيّة. وأظنّ أنّه اختيار موفّق.
ما هي علاقتك بالكلمة؟ من هم الشّعراء والكتّاب العرب الذين تجذبك أعمالهم؟
قراءاتي ليست بالشغف الكبير بالنّسبة إليّ. ولكنّني أنكبّ في فتَرات معيّنَة على قراءة أعمال بعض الكُتّاب. أحبّ الأدب القصصي أكثر من القصيدَة، ولا أُخفي عليك شغفي بالأدباء الرّوس وتشيخوف أوّلهم، وطبعاً ديستويفسكي وغوغول. في وطننا العربيّ أقف بدهشةٍ عند قصيدة وشاعريّة محمود درويش العبقريّة وأتمنّى للتّأليف الموسيقيّ أن يحذو هذا الطّريق الثّوري الرّؤيوي. محمود درويش هو بيكاسو الشّعر العربيّ المعاصر.
أخبرنا عن مراحل الكتابة والتّأليف؟ ومن ثمّ التّنفيذ والتّسجيل.
طلبت مني السّيدة أميمَة من موقع الصّداقَة القديمَة أوّلاً، وإعجابها بتأليفي الموسيقيّ ثانياً عمَلاً غنائيّاً، وأبدت استعدادها لخوض أيّة تجربة غنائيّة مهما كانت العواقب. استمرّ تأجيل تنفيذ وعدي لها لأكثر من ثلاثة أعوام حتى استقرّ اختياري على أنشودة المطر للسيّاب. في صيف ٢٠١٠ تفرّغت لمدّة ٣ شهور كاملة دون الخُروج من منزلي بالمطلق حتى أنهيت العمل بالكامل، ومدّته ٣٧ دقيقة. عرضْت العمل على أميمة في أوّل الخريف، وأخبرتها عن رغبتي بأن يكون رامي عازف البيانو، حيث كتبْتُ نصّاً موسيقيّاً بمثابة كونشرتو للبيانو، ووجدت جزءاً هامّاً من التّعبير الموسيقيّ مرتبطاً بدور البيانو. أميمة فنّانَة رائعة استطاعت في خلال أسبوع حفْظَ النّص الموسيقيّ المعقّد واستيعابه بعد صدمَة ليست بالسّهلة عليها. نفّذنا العمل بعد سنتين في موسكو حيث توفّقنا بأوركسترا عريقَة ومعها كورال عريق أيضاً. نفّذنا التّسجيل بشكل أداء حيّ بدون جمهور، مع الأوركسترا والكورال، حيث الخطأ غير وارد. وهذا ما أعطى التّسجيل قيمة دراميّة عاليَة.
كيف تشكّلت العلاقة بين النّصين الشّعري والموسيقيّ خلال التّأليف؟
يمكن للموسيقيّ أن يكشف الملامح والمشاعر التي لا يستطيع أن يبرزها الشّعر في حدّ ذاته. وهنا تكمن قدرة إبداع المؤلّف الموسيقيّ. سعيت إلى هذا الأمر في «مطر» وحوّلتُه إلى قراءة سيمفونيّة للنّص الشّعري. ومن يستمع إلى العمل يلمس ذلك، وكلّما أعاد السّماع سيدرك خلفيّات جديدة وجديّة مرتبطَة بالنّص الشّعري المعاصر.
يفيد العديد من الباحثين في الموسيقى العربيّة بأنّها تتمحور حول الصّوت الغنائيّ، وليست بموسيقى آليّة بشكل خاصّ. كيف كانت مقاربتك لهذه المسألة في«مطر» وكيف رسمت هويّة الغناء التّعبيريّ الفرديّ والجماعيّ ضمن البناء الدّرامي لهذا القصيد السّمفونيّ؟
كنت واثقاً من ضرورة وضوح النّطق العربيّ السّليم والمنطقيّ أوّلاً. من هنا المساحات الصّوتيّة لم تكن لإدهاش المستمع أبداً بقدر ما هي فكرة لبناء الجُمَل الموسيقيّة المتطابقة مع تعبير النّص الشّعري. وكنت أستعيد في ذاكرتي عبقريّة صوت فيروز. وكتبت هذا العمل لصوت أميمة العظيم الذي شكّل مع بيانو رامي خليفة ثنائيّاً إبداعيّاً متّحداً ذا خصوصيّة متفرّدة. أمّا الكورال، فكان له حيّز في القسم الثّالث من هذا العمل، وهو تصويري محض، يصوّر الصّدى المتكرّر من النّص: «أصرخ بالخليج: يا خليج... / يا واهب المحار والرّدى / فيرجع الصّدى / كأنّه النّشيج». أظنّ النّص واضحاً وهذا ما قدّمه الكورال.
ما هي الأعمال من رصيدك الفنيّ المتوفّرَة في الأسواق المحليّة أو الأقليميّة على أسطوانات مدمجة؟
صدرت في التّسعينيّات ضمن إنتاج وتسويق خاصّ أسطوانة تحمل السّيمفونيّة الأولى وثَلاثة أعمال لموسيقى الحجرَة، أحدها بعنوان «مرثاة» وهي مهداة لذكرى عاصي الرّحباني. وهذه الأسطوانة للأسف غير متوفّرة حالياً. صدر «رباعي الغيتار» مع شركة «إنيجا» (ENIJA) مع محمود التّركماني، ومتتاليَة الفلوت في أسطوانَة لنبيل مروّة وتانيا خوري، وجميعهم موسيقيّون نخبويّون وأصدقائي. كما صدر «كونشرتو البيانو» بأداء رامي خليفة ضمن أسطوانَة تحمل كونشرتو آخر لبروكوفييف، وكان آخر إصدار هو«مطر» مع أميمة الخليل ورامي خليفة. ولا يزال هناك أعمال أخرى لم تصدر حتى الآن وتنتظر ظروفاً متاحة للإنتاج متل كونشرتو العود والكَمان والتشيللو وبعض مؤلّفات الحَجَرة.
قدّمت الفرقة الفلهارمونيّة اللّبنانية في السّنوات الأخيرة السّمفونيّة الأولى، وكونشرتو التشيللو ومؤخّراً كونشترتو البيانو حين منحك وزير الثّقافَة السّابق الأستاذ ريمون عريجي درع الوزارَة تقديراً لمسيرتك الفنيّة. كما قمت بقيادة الفرقة الشّرق عربيّة وبإعداد جديد لأعمال فيروز والاَخوين رحباني وأسمهان وسيّد درويش وأخرى من الخليج العربي. ماذا تعني لك هذه الإطلالات خصوصاً أنّك مقيّم خارج لبنان منذ سنوات طويلَة؟
انا أفضِّل أن أكون مؤلّفاً موسيقيّاً بالدّرجة الأولى. فتكريمي من قبل وزير الثّقافة الأستاذ ريمون عريجي كان دافعاً معنويّاً رائعاً، لاسيّما أنّه جاء تحت عنوان «صنع في لبنان»، ويقصد بذلك كونشرتو البيانو الذي قمت بتأليفه ومشاركة رامي خليفة عزفاً على البيانو، ولبنان بعلبكي قيادة وطبعاً الأوركسترا الفلهارمونية اللّبنانية. أتمنّى أن تستمرّ تلك الفرَص للاستماع لأعمالنا الموسيقيّة التي نكتبها بدافع الإبداع وليس التّجارة. أمّا ظهوري مع الأوركسترا الشّرق عربيّة كقائد وموزّع لبرامج موسيقيّة فهدفه استعادة الذّاكرة الموسيقيّة الشّعبيّة للأغنية العربيّة برؤية متجدّدة فيها الاحترافيّة، ولكنّ ذلك لن يكون بديلاً عن دوري الأساسيّ وأهدافي كمؤلّف موسيقيّ.
التّأليف الموسيقي في لبنان والمنطقة
ما هي إنطباعاتك عن الأجيال المؤسِسَة وظروف عملهم الإبداعي لحين بدايَة الحرب اللبنانيّة؟
أظنّ يجب دراسة كلّ مؤلّف وظروفه على حدة. وصراحة ليست لديّ المعلومات الكافيَة عن الأجيال الأولى بقدر عدم الإضاءة عليهم إلّا نادراً. وأظنّ أنّ بعضهم هاجر وفرض نفسه بواقع مُشرِّف في الغَرب. وما زالت أعمال فليحان وباز تُعزف وتُقدّم، وفيها إبداع وعطاء كبيران، ويتوازيان مع معاصرَيْهما من المؤلّفين الأوروبيّين والغربيّين. أمّا توفيق سكر فلم ينل التّقدير الكافي ربّما لعدم توافر العازفين ومؤسّسات النّشر. الموسيقار توفيق الباشا كان نصيبه أفضل بقدر توجه إبداعه بين التّلحين والتّأليف الموسيقيّ الصّرف، حيث قدّم أعمالاً لاقت التّرحيب والدّعم في مصر تحديداً وأصبح من عمداء الموسيقى العربيّة في المؤتمرات العلميّة في مصر، وقدّموا أعمالَه بحبّ واهتمام. وطبعاً شهرته في لبنان جاءت نتيجة اهتمامه بالأغنية والمهرجانات وإنتاج إذاعة لبنان. إنّه أحد الأساطين الذي يبقى لديْنا ما ندرسه ونعرفه عنه. أمّا عبد الغني شعبان فمع الأسف لم نسمع إلّا عن شهرته وعن أنّه كتب أعمالاً سيمفونيّة ولم نسمعها.
وليد غلميّة له الفضل الكبير في أنّنا بدأنا من خلال جهوده نلمس واقعيّا ما هو التّأليف والموسيقى الكلاسيكيّة. قدّم الكثير من الأعمال السيمفونيّة المسجّلة، ووجد الدّعم ومصادر الإنتاج، وله باع طويلٌ في الأغنية اللبنانيّة والمهرجانات. أسلوبه الموسيقيّ يترك الحيرَة. قد نراه أحياناً ينتمي إلى مدرسة المينيمالية حيث التّكرار، والتّتابع، ووضوح الفكرة إلى حدّ البساطة. قد يكون ذلك فكراً فلسفيّاً، لكنّ الأهمّ هو الملامح العربيّة في موسيقاه، إضافة إلى ما قدّمه في إنشاء الأوركسترا السّيمفونيّة اللبنانيّة التي بدأت تضيء على الموسيقى الجادّة. وللأمانَة، سمعت الكثير من المحاربة السّاخرة لفكرة تأسيسه للأوركسترا، وجاء ذلك ممّن هم في السّاحة الموسيقيّة المسيطرَة. بوغوص جلاليان مؤلّف بقمّة الجديّة انعتق قليلاً من القيود الموسيقيّة القوميّة، وعالج أعمالَه بكثير من الحداثة، والتّقنيّة العالية، والمُقْنعة.
صدرت مجموعة تسجيلات مختارة لتوفيق سكر منذ سنوات قليلَة على أقراص مدمجة بعد رحلة طويلة في التّأليف الموسيقيّ بجهود شارك فيها المؤلّف هتاف خوري. هل قدَر المؤلّف الموسيقيّ الانتِظار سنَوات طويلة أو أنْ يعمل وحيداً ضمن ظروف مادّيّة صعبة حتى تصبح أعماله متداولة أو متاحة للمهتمّين؟
أظنّ أنّها من أقدم القديم. تبقى نسبة متذوّقي الفنون الرّاقية، ومنها الموسيقى الكلاسيكيّة، نسبة لا تتجاوز ٢٪. فلا حزن على واقع طبيعي. أمّا قدَر المؤلِّفين فهو كذلك منذ زمن النّهضة. الآن الوضع العامّ أسوأ لأنّه «اختلط الحابل بالنّابل» وضاعت المقاييس الصّادقة لتصنيف الإبداع الحقيقيّ. طبعاً، نشكر هتاف خوري وتاتيانا خوري التي بذلت مجهوداً خياليّاً وقامت بأداء كلّ أعمال البيانو للجيلين الأوّل والثّاني بتحدٍّ وعطاء لا يوصفان.
بماذا تتميّز أعمال المؤلّفين الذين برزوا خلال وبعد الحرب الأهليّة عن أسلافهم، خصوصاً أنّ العديد منهم درس خارج لبنان، ومن ثمّ أقام أو عمل أيضاً في الخارج؟
افتتح جيلَنا بشارة الخوري بأسطوانَة أعمال سيمفونيّة كونه شخصيّة فريدة لمؤلّف لبنانيّ الجذور شاعريّ الهوى وعالميّ المصدر. يليه جمال أبو الحَسَن الذي أعتبرُه من الأهمّ، والذي جمع فكراً موسيقيّاً انفعاليّاً واضح المعالِم العربيّة، مغامراً في الرّؤية، وملامساً للمشاعر الإنسانيّة. يكفي عظمة عمله البديع «الشّحرور» الذي أعتبره الإلهام الأوّل للفكر الموسيقيّ السّيمفونيّ اللبنانيّ. أيضاً لَه الأعداء الكثر والذين غابهم ذكاء تقييم البساطَة والحداثة الحقيقيّة مع موجة الحداثة غير المجدية لواقعنا، أقلّه في واقعنا. غبريال يارد نموذج مضيء يجمع الصّورة والمشهديّة مع البعد الموسيقيّ العلميّ بجماليّة عالية. له أعمال نتشرّف بها، من ضمنها باليه غاية في الإبداع والتّوازن الرّوحي السّيكولوجي. له طريقَه الخاصّ البعيد عن الهموم الموسيقيّة العربيّة.
مرسيل خليفة رمزٌ لتجسيد صدى الأغنية وعطر المناخات النّغميّة البسيطة في إطار أوركستراليّ واثق لا يشبه أحداً. صنع أسلوبه الأوركسترالي مازجاً بين حرفيّة الأوركسترا بكلّ تقاليدها وأُسُسها وبساطة بناء الألحان. دون شكّ سيبقى سفيراً محبّباً بين حزب المتشدّدين لتقاليد الموسيقى الكلاسيكيّة وبين صانعي ثقافَة وتاريخ الأغنية اللبنانيّة الحديث.
أعتبر هتاف خوري الفيلسوف الموسيقيّ حيث يكون النّموذج الحيّ والحقيقيّ للمبدع الذي رمى كلّ أنواع الزخرفة والوصوليّة الموسيقيّة وأضاء بهدوء على أسمى خلجات الآلام البشريّة المجرّدة. لكْنته القوميّة لا تعني لَه بقَدَر التّأثير السّيكولوجيّ العام.
جويل خوري ثائرة مثقّفة لا تتوانى في دمج الأنواع، من الآلة إلى الكلمة المجرّدة مع السّخريَة والواقع الأليم مع تقنيّات التّأليف وشفافيّة روحها الجميلَة والرّافضة. محمود التّركماني من أقسى المؤلّفين العرب الذين واجهوا بشدّة التّقاليد السّطحيّة، وزجّ آلتَي العود والغيتار ببعد موسيقيّ عالٍ. تعجبني الغرابَة وبعض تكويناتها السّمعيّة في أعماله التي تفرض آلاف علامات الاستفهام. هبة القوّاس من مدرسة التّأليف الموسيقيّ اللبنانيّ حيث خاضت تجربة مقْنعة وغنيّة بالكتابَة الأوركستراليّة مع تقنيّة الغناء الأوبّرالي العربي.
ماذا عن المرحلة التي تلت جيلك من المؤلّفين؟
ألاحظ ابتعاد هؤلاء المؤلّفين عن التّكوين النّغمي اللّحني واستخدام الصّوت بتجرّد واستقلاليّة، وخاضوا رغبة التّجربة الأوروبيّة المعاصرة باتّجاه ما بعد التّجريديّة. ولهم أعمالهم الممتازة والتي تتوجّه إلى عالم ضيّق نسبيّاً يستمتع بهذه الأحاسيس الصّوتيّة التّجريديّة، وأهمّهم بشرى التّرك وإيلي كوسا. أمّا رامي خليفَة الذي يتميّز بثوريّة بنائه للقالب الموسيقيّ المتماسك، فهو يمزج بين اُسلوب المينيمالية والتّعدّديّة الأسلوبيّة من المدرسة المعاصرة والرّافضة للأسلوب التّجريديّ. إنّه استمرار لفلسفة فيليب غلاس بأنّ الموسيقى عنصرها الأوّل هو النّغمة والحقّ للإنسان باستشفافها.
قدّم ابنك يانيس البالغ من العمر ٢١ عاماً أعماله الأولى أخيراً، كما فاز في مسابقة التّأليف الموسيقيّ - فئة الشّباب لمدينة موسكو عن مقطوعة للعود والبيانو. وفاز أيضاً بالمرتبَة الثّانية لمسابقة المؤلّف شنيتكي عن رباعيّة وتريّة. وهو حاليّاً يتابع دراسته الموسيقيّة في البرتغال. هل كنت من المشجّعين على أنْ يسلك يانيس درب التّأليف الموسيقيّ الصّعب والوعر؟
اختار ذلك بنفسه، لكنّنا أمّنّا له الدّراسة الموسيقيّة المنتظمة مع خبراء ممتازين منذ كان في عمر خمس سنوات. كنت أظنّه سيختار شيئاً آخر بسبب تذمّره من التّمارين، لكنّه اختار الموسيقى وتحديداً التّأليف بنفسه. معرفته بأعمالي ضئيلة، لأَنّ كلّ ما أكتبه وأنا أضع السماعات لا يسمع منه شيئاً. أتمنّى له التّوفيق وأعتبر أنّه اجتاز تحدّياً كبيراً بأن أصبح فائزاً بجوائز رفيعة. فهذا من دواعي الفخر ليس لأنّه ابني بل لأنّه بمستوى لائق وكبير. ولا يحبّ يانيس إعطاء هذا الأمر أيّة أهمّيّة وهو في طور اجتياز الطّريق الصّعب.
هل أنت على اطّلاع على تجربة وأعمال مؤلّفين موسيقييّن في الدّول العربيّة، أمثال رفعت جرانة من مصر وغيره؟
طبعاً، لديّ كلّ المؤلّفات التي أصدرتْها دار الأوبّرا المصريّة، وفيها نتاج موسيقيّ ضخم وأيضاً أجيال موسيقيّة محترفة ومتنوّعة التّوجه والأسلوب. معلوماتي أقلّ عن التّأليف الموسيقيّ في بقيّة الدّول. استمعنا أيضاً إلى صلحي الوادي ونوري إسكندر من سورية، وإلى سلفادور عرنيطة من فلسطين، والذي كتب عملاً غنائيّاً في غاية الأهميّة والدّراميّة والتّقنيّة على قصيدة محمود درويش «سجِّل أنا عربي».
لا شكّ في أنّ إنشاء مؤسّسات تعليم الموسيقى وتطبيق المناهج الغربيّة في تدريس الموسيقى في الرّبع الأوّل من القرن الماضي ارتبط بشكل وثيق في رفد الحداثَة الموسيقيَة في لبنان كما في دول المنطقَة. بناءً على تجربتك في معهد الموسيقى في الكويت، ما هي مقترحاتك لتطوير الجهود الحاليّة في دعم القطاع الموسيقيّ في منطقتنا بالقدرات المطلوبَة بالأخص في مجال التَأليف الموسيقيّ؟
إنّها مسألة شاقّة جداً، حيث إنّ تخصّص التّأليف الموسيقيّ لا يُطعم خبزاً كما هو الحال مع تخصّص الاَلات. ويتشابه الوضع في لبنان والكويت، حيث يُطبَّق النّظام ذاته. برأيي كان يفترض تغيير المبدأ الذي بُني عليه مفهوم تدريس الموسيقى. حتى الآن وبرغم ضخامة الأعداد التي تدرس في الكونسرفتوار في لبنان، تبقى لهذه الدّراسة صبغة الهوايَة. فالطّالب يمكن أنّ يأتي من أيّ تخصّص أو مرحلة دراسيّة ويسجّل الموادّ الموسيقيّة طبعاً ضمن المستوى المناسب له، ولكنّها تبقى دراسة موازية لعمله المهنيّ أو دراسته العلميّة الأخرى. كان من الأفضل تقسيم مراحل الدّراسة الموسيقيّة إلى مدرسيّة وجامعيّة. وتتألّف المرحلة المدرسيّة من ابتدائيّة وثانويّة وتطبّق مناهجها ضمن مدارس متخصّصة تعطي شهادة علميّة لكلٍّ من المرحلتيْن في تخصّص دقيق هو الموسيقى. وعند اجتياز المرحلة الثّانويّة بنجاح، ينتقل الطّالب لمتابعة تخصّصه الموسيقيّ الجامعيّ في الكونسرفتوار وبما يوازي أيّ تخصّص جامعيّ آخر. وحتى لا تُفهم وجهة نظري خطأً، يبقى مستوى الدّراسة مرتبطاً بمستوى الكادر التّعليمي، واختيار الطّلبة بناءً على المواهب الأقوى ودون «واسطة».
هل تلحظ أيّة خطوات جديّة حاليّاً نحو تحفيز المواطنين على تذوّق الموسيقى على أنواعها ابتداءً من سنوات الطّفولَة المبكّرة عبر التّعليم العامّ أو الإعلام؟
هناك تفاوتٌ بين بلد وآخر، وبين مدرسة وأخرى، وبين منطقة واُخرى. يبقى الأساس هو التّربية المنزليّة حيث الموسيقى جزء أساسيّ للثّقافة والوعي وتهذيب الذّات. أصبح العالم الآن أضْيق، ووسائل المعرفة صارت متوافرة أكثر. يبقى تطوير سياسة التّوجيه التّربويّة مع مساندة الإعلام النّظيف بالابتعاد عن التّزلّف والسّطحيّة وتقديس السّطحيّات ضمن تسميات رنّانة.
فيما يتعلق بالفلكلور، هل أصبح لإنتاجنا الموسيقيّ والغنائيّ المنطلَق من الفلكلور موقع مرموق على خريطَة الأعمال الموسيقيّة القوميّة في العالم؟ وماذا عن المبادرات المماثلة في منطقة الخليج كون الكويت مقرّ إقامتك وعملك منذ أواسط التّسعينيّات؟
لا طبعاً. نحن مع الأسف نركب السّفينة ولا نصنعها. أظنّ أنّ أحد الإنجازات الأساسيّة للأمسيات اللبنانيّة في مهرجانات بعلبك قبل الحرب الأهليّة كان أرشفة الفلكلور الغنائيّ من خلال إدراجه في أعمال جميع الملحّنين من الأخوين رحباني إلى زكي ناصيف وتوفيق الباشا وغيرهم. وكان عنصراً لضمان نجاح تلك الحفلات. أمّا فيما يخصّ منطقَة الخليج العربيّ، فلا أرى آفاقاً في العَديد من هذه المبادرات، بل مشاريع ترضي بعض الجهات الحكوميّة والمؤسّسات الأوروبّيّة التي ترغب برويّة التّهجين السّطحيّ للمادّة المحلّيّة مع تقنيّات العالم المعاصر.
ما هي برأيك الخطوات الضّروريّة نحو تعزيز الموسيقى التّعبيريّة الآليّة في لبنان والعالم العربي على أن تكون مرتبطة بثقافتنا المحلّيّة والإقليميّة؟
تتمتّع كلّ من الأجيال التي ذكرتها برصيد غنيّ وتجربة رائدة. هناك عدّة خطوات أو أسباب، لكن أظنّ أنّ السّبب الأوّل هو الثّقافة والعلم الموسيقيّ العميق، وليست الرّغبةً السّطحيّة السّريعة في إنتاج ما نتأثّر به من قبل كبار المدارس العالميّة. فالدّراسة الطّويلة وفهم التّاريخ الموسيقيّ العالميّ ومسبّبات الإبداع لدى العظماء يعطينا العبر لكيفيّة التّفكير المتوازن والمبنيّ على ابتكارات موسيقيّة مستقلّة دون أن ننسى جذورنا السّمعيّة القوميّة. وأكرّر: هذا لا يأتي إلّا من خلال عمر من التّحصيل الموسيقيّ، ولا يلمع دون موهبة وعبقريّة مكنونة داخل المؤلّف.
يقول عاصي الرّحباني عن الالتزام إن «الفنّان يجب أن يكون ملتزماً مع الجماليّات أوّلاً، ومن ورائها تبرز كل إنسانيّته... أحبّ الفنّ ذا الحدود الشّاسعة الكبيرة، هذا الذي يمسّ قلوب العالم كلّه». ما رأيك في هذا الطّّرح؟ وما بقي من مفهوم الفنّ الملتزم الذي كان سائداً خصوصاً خلال الحَرب اللبنانيّة؟
طبعاً موافق. وهنا يظهر تساؤل عمّا هي معايير الجماليّات؟ لا أفهم مقولة «الفنّ الملتزم». ولكن أعرف أنّها أصبحت شمّاعة لإنقاذ البَعض. الفَنّ هو الفَن الذي يبنيه الجمال، والثّقافة، والعلم، والتّقنيَة، والفلسفة، والعمق. ولو ضاع جزء لضاع العمل.
المراجع
- سمحة الخولي، القوميّة في موسيقى القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة،
- الكويت: المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، ١٩٩٢
- نزار مروّة، أصوات من الضفة الثانية (برنامج اذاعي)، صوت الشعب، ١٩٩٠
- نزار مروّة (إعداد وتنسيق وتقديم محمد دكروب)، في الموسيقى اللبنانيّة العربية والمسرح الغنائي الرحباني، بيروت: دار الفارابي للنشر والتوزيع، ١٩٩٨
- كريم مروّة، نزار مروّة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته، بيروت: دار الفارابي للنشر والتوزيع، ٢٠١٤
- عزيز الشوّان، الموسيقا للجميع، القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، ١٩٧٩
- عبد الغني شعبان، الموسيقى العربية وموقعها من الموسيقى العالميّة، مجلة عالم الفكر، المجلد السادس، العدد الأوّل، أبريل - يونيو ١٩٧٥
- حسام الدين الأنصاري، تأريخ الفرقة السمفونية الوطنية العراقية في خمسين عاماً: ١٩٦٢ - ٢٠١٢، بغداد: شركة الديوان للطباعة والنشر المحدودة، ٢٠١٢
- ياسمين فراج، الموسيقيون يبحثون عن فرصة أيضا، جريدة الأهرام، السنة ١٣١، العدد ٤٣٨٦٢، ٨/١/٢٠٠٧
- فتحي الخميسي، ٧٤ عاماً على ظهور الموسيقي السيمفونية المصرية، السنة ١٢٦، العدد ٤٢٢٢٥، ١٦/٧/٢٠٠٢
- توفيق سكر، مشكلات الموسيقى العربية، مجلة الآداب، العدد الرابع،
- السنة الثانية، ١٩٥٤
- أكرم الريس (إعداد)، ملف عن توفيق الباشا، مجلة بدايات، العدد ١١، ربيع ٢٠١٥
- جيزيل بو سمعان عيد، الموسيقار وليد غلمية، بيروت: دار نعمان للثقافة، ٢٠١٣
- سحر طه، جوزيف أشخانيان بعد أربعة عقود من مسيرته: منهجي الوحيد لآلة الغيتار يدرّس في المعاهد العربية، جريدة المستقبل، العدد ١٤٧٤، ١٣/١٢/٢٠٠٣
- بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، مجلة الآداب، العدد السادس،
- السنة الثانية، حزيران ١٩٥٤
- سحر جميل ملحم، الأسلوب الموسيقي لعبد الله المصري وتحليل
- الثلاثي للكمان، التشيلو والبيانو، المجلة العربية للإنسانيّات (الكويت)،
- الجزء ٢٤، العدد ٩٥، ٢٠٠٦
- عبده وازن، مطر: حدث كبير في الحركة الموسيقية والغنائية العربية الحديثة والمعاصرة، جريدة الحياة، ٢٠/٠٣/٢٠١٤
- أكرم الريس، «النهار» تحاور المؤلف الموسيقي عبد الله المصري: سعيتُ أن
- أكتب نفسي وأن أكتب وطني في جماله وحزنه وخصوصيته وتنوعه، جريدة النهار، ٢/٧/٢٠١٦
- فيليب خوري د.ف.، أنطونيوس البشعلاني أوّل مهاجر سوري إلى العالم الجديد: حقائق سيرته مقتطفة من كتاب ظهر بالانكليزية في نيويورك على أثر وفاته، (الناشر وسنة الإصدار غير مذكورين)
- صليما من قيدبيه اللمعي إلى المغترب الأول أنطونيوس البشعلاني تاريخ يغفو بين قرميد وصنوبر، إعداد زهير دبس ونسرين جابر وليال خليل، مجلة المغترب، أيّار ٢٠١٥
- Dossier special compositeurs et interpretes libanais de musique classique, «commusication». (le magazine de la CD-Theque), Beirut, 2004
- Zeina Saleh Kayyali and Vincent Rouques, Compositeurs libanais XX et XXI siecles, Paris: Seguier, 2011
- ١. نزار مروة (إعداد وتنسيق وتقديم محمد دكروب)، في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني، بيروت: دار الفاربي للنشر والتوزيع، ١٩٩٨، ص ٢٠٨
- ٢. يمكن إيجاد صفحتهم على موقع فايسبوك عبر البحث عن Lebanese-composers
- ٣. Centre du Patrimoine Musical Libanais (CPML): http://www.patrimoinemusicallibanais.com/
- ٤. فرقة النوبة التابعة لآل المصري: هي من الفرق القليلة المتبقية التي تعزف في الأفراح والأتراح وشتّى المناسبات الاجتماعيّة إذا ما دُعيت إليها. شاركت في استقبال سلطان باشا الأطرش في جبل العرب بعد رجوعه من الأردن (١٩٥٤)، وفي مأتم فريد الأطرش حيث رافقت الجثمان إلى مطار بيروت الدولي لينُقل منه إلى مصر (١٩٧٤). تتألف النوبة كما يفيدنا د. علي جهاد الراسي من عشرة إلى خمسة عشر موسيقيّاً، وتتضمّن موسيقاها أنغاماً وألحاناً تقليديّة وأناشيد عسكريّة قديمة، منها العربيّة ومنها التركيّة، إضافة إلى ترجمة معرّبة لمؤلّفات موسيقيّة خاصّة بالموت. وتعتمد على آلات موسيقيّة نحاسيّة غربيّة
- ٥. أنطوان بن يوسف ضاهر صافي أبو عطا الله البشعلاني (١٨٢٧ - ١٨٥٦): تلقّى علومه في دير الآباء الكبوشيين في صليما، ثمّ انتقل إلى بيروت، حيث عمل كمترجم لدى قنصل إيطاليا. كان أول مهاجر لبناني إلى أميركا في العام ١٨٥٤، ومعه بدأ تاريخ الهجرة اللبنانية المعاصرة استناداً الى المؤرخ فيليب حتي. كانت بوسطن محطة الوصول، ومنها انتقل إلى نيويورك حيث درس اللغة الانكليزيّة ودرّس اللغة العربيّة. توفّي بعد وصوله أميركا بعامَين بعدما أُصيب بمرض السلّ. وقد أصدر رئيس الجمهوريّة سليمان فرنجيّة مرسوماً في العام ١٩٧١ أصبح بموجبه ترميم منزل البشعلاني في صليما من المنافع العامة
- ٦. كونسرفتوار تشايكوفسكي: هو ثاني أقدم معهد موسيقي في روسيا بعد معهد سان بطرسبرغ. ويعتبر من الجامعات الموسيقية الرائدة في روسيا والعالم. تأسس في العام ١٨٦٦ وحمل اسم تشايكوفسكي منذ العام ١٩٤٠وقد كان أستاذاً فيه للنظريات الموسيقية والهارموني. موقع المعهد على الإنترنت: http://www.mosconsv.ru/en
- ٧. نيكولاي راكوف (١٩٠٨ - ١٩٩٠): مؤلف موسيقي روسي. تميز بأسلوبه المحافظ ومن ثم بالنيو- كلاسيكية في أعماله اللاحقة. كان لراكوف اهتمام خاصّ بموسيقى الحجرة وموسيقى الأطفال، كما له كونشرتو للكمان. هو صاحب منهجيّة في التوزيع الأوركسترالي في المدرسة الموسيقيّة السوفياتية المعاصرة
- ٨. يوري خولوبوف (١٩٣٢ - ٢٠٠٣): عالم موسيقي روسي. درّس في معهد تشايكوفسكي منذ العام ١٩٦٠ وكتب مئات الدراسات الموسيقية التي تناولت جميع نواحي النظريات الموسيقية، وعلى الأخص الهارموني. شكّلت دراساته مرجعاً ومعياراً في التعليم الموسيقي العالي في روسيا
- ٩. يوري خولوبوف (١٩٣٢ - ٢٠٠٣): عالم موسيقي روسي. درّس في معهد تشايكوفسكي منذ العام ١٩٦٠ وكتب مئات الدراسات الموسيقية التي تناولت جميع نواحي النظريات الموسيقية، وعلى الأخص الهارموني. شكّلت دراساته مرجعاً ومعياراً في التعليم الموسيقي العالي في روسيا
- ١٠. يمكن إيجاد نسخة لأغنية «حنا» من أعمال فرقة الولادة تعود للعام ١٩٨٧ على موقع يوتيوب
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.