العدد ١٧ - ٢٠١٧

الطائفيّة كثورةٍ مضادّة

السعوديّة و«الربيع العربيّ»

العربيّة السعوديّة بلدٌ ثريٌّ منتجٌ للنّفط، سكّانه قليلون لا يتجاوزون ٢٥ مليون نسمة، ثلثهم أجانب. كانت أسرة آل سعود التسلّطيّة الحاكمة قد سيطرت على البلاد منذ عام ١٩٣٢. تاريخيّاً، استخدمت الدولة السعوديّة الريعيّة الهبَات الاقتصاديّة مقابل إبداء الولاء للنّظام. ومع ذلك، لا تُبيّن الأدبيّات حول الدولة الريعيّة الاستراتيجيّات الأخرى التي تُستخدَم غالباً لاكتساب الولاء وإرغام السكّان على الخضوع. أمّا الطائفيّة كاستراتيجيّةٍ يستخدمها النظام، فغالباً ما يتمّ تجاهلها في الأدبيّات التي تتناول الدولة الريعيّة، خصوصاً في البلاد التي تضمّ تنوّعاً دينياً.

الطائفيّة بما هي استراتيجيّة

باتت الطائفيّة استراتيجيّةً ثوريّةً مضادّةً وقائيّةً يُطبّقها النظام السعوديّ لتضخيم الاختلاف الدينيّ والكراهية والحيلولة دون تطوّر السياسة الوطنيّة غير الطائفيّة، وذلك كردّ فعلٍ على الربيع العربيّ. ومن خلال الخطاب والممارسات الدينيّة، لا تقتصر الطائفيّة في السّياق السعوديّ على تسييس الاختلافات الدينيّة، بل تعمل أيضاً على خلق صدعٍ بين الأكثريّة السنّيّة والأقليّة الشيعيّة. على المستوى السياسيّ، يشير الصّدع إلى أنّ السنّة والشيعة عاجزون عن تشكيل منصّات مشتركة من أجل الحراك السياسيّ. ولا يمكن للمحاجّات الجوهرانيّة بشأن مرونة الطوائف أو الإحالات التاريخيّة إلى المعارك السنّيّة - الشيعيّة منذ القرن السابع حول الخلافة أن تفسّر استمراريّة الخصومة والافتقار إلى منصّات سياسيّة مشتركة تضمّ السنّة والشيعة في بلدٍ كالعربيّة السعوديّة. ولا يمكن بحالٍ من الأحوال فهم الصّراع الطائفيّ بين السنّة والشيعة من دون أن نأخذ بالاعتبار الدّور الذي يلعبه فاعلٌ أقوى من الطوائف بحدّ ذاتها: أي، النظام التسلّطيّ. وعلاوةً على العائدات النفطيّة الهائلة، يمسك النّظام السعوديّ في قبضته أيديولوجيا دينيّة قويّة، باسمٍ سائدٍ هو الوهّابيّة، معروفة برفضها الاعتراف بالشيعة كجماعةٍ إسلاميّةٍ شرعيّة.

ويُسهم الاضطهاد الذي يمارسه النظام السعوديّ على الأقليّة الشيعيّة بدوره في تعزيز الهويّة الطائفيّة لتلك الأقليّة: تفعيل سيرورة التّطييف. لكنّ اختزال العلاقات بين النّظام والأقليّة الشيعيّة إلى الاضطهاد وحده سيكون تبسيطاً شديداً للأمور. إذ يوظّف النظام التسلّطيّ السعوديّ استراتيجيّات عديدة حيال أقليّاته الدينيّة وقيادتها. وقد يكون التّمييز المُمنهج الشّامل ضدّ الشيعة سمةً للحظةٍ تاريخيّةٍ واحدةٍ بعينها، ولكنّ هذا الأمر قابل للتّصحيح، فالوضع السياسيّ قد يستلزم بدائل للقمع. وأحياناً يترافق القمع مع استيعابٍ للأقليّة بل وحتّى تعزيزاً لمصالحها وحقوقها. وعلاوةً على ذلك، قد يقمع النّظامُ الشيعةَ بهدف معالجة قضايا تتعلّق بالأكثريّة السنّيّة، كأن يستميلهم مثلاً، ويستجيب لمظالمهم، أو كي يسعى ببساطة لاكتساب ولائهم في وقتٍ لا يكون فيه هذا الولاء مضموناً. ولذا، من المهمّ الإشارة إلى عدم وجود استراتيجيّةٍ اعتياديّة ومتوقَّعة يستخدمها الاستبداد السعوديّ ضدّ الشيعة. فكلُّ لحظةٍ تاريخيّةٍ تستلزم تعاملاً محدَّداً تجاه هذه الجماعة، يراوح من القمع المباشر إلى الاستيعاب والتّساهل. وقد دفع الربيع العربيّ وأثره المُحتمَل على البلاد النّظامَ إلى إعادة تنشيط الخطاب الطائفيّ ضدّ الشيعة بهدف تجديد ولاء الأكثريّة السنّيّة.

أُفسّر في هذا النصّ كيف استخدم النظام السعوديّ الانقسامات الطائفيّة لتوسيع الهوّة بين الجماعتين خلال الربيع العربيّ. ادّعى النّظام أنّ الفاعلين الخارجيّين كانوا مصمّمين على تقويض استقرار البلاد وأمنها. فاستعيدت التأويلات الدينيّة الوهّابيّة - بالأخصّ، الخطاب الطائفيّ ضدّ الأقليّة الشيعيّة الناشطة سياسيّاً بقوّة، والتي تُقدَّر بمليونَيْ نسمة - كي تُجهض تطوُّر «سياسة وطنيّة» عابرةٍ للحواجز الطائفيّة، والمناطقيّة، والأيديولوجيّة، والقبَلية. ومن خلال اعتبار دعوات التّظاهر في «يوم الغضب» في ١١ آذار / مارس ٢٠١١ مؤامرةً شيعيّةً ضدّ الأكثريّة السنّيّة تهدف إلى نشر النّفوذ الإيرانيّ في الوطن السنّيّ، عمَّقَ النّظام التوتّرات الطائفيّة وقوّض محاولات حراك الشّباب في مدن عديدة، بما فيها تلك التي يقطنها الشّيعة. خوَّفَ النظام السعوديّ أكثريّته السنّيّة عبر التهويل من المشروع التوسّعيّ الإيرانيّ في المنطقة وتأثيره المتصاعد لدى شيعة العالم العربيّ، بما فيها العربيّة السعوديّة ودول الخليج.

نجحت بروباغاندا النّظام في إحباط الاحتجاج الذي لم يكن ليصل إلى مستوى ثورةٍ كاملةٍ على غرار النّموذج المصريّ بأيّ حال من الأحوال. إذ أنّ الاحتجاجات السلميّة الصغيرة جدّاً التي اندلعت عام ٢٠١١ في المدن السعوديّة كانت مجرّد إشارةٍ إلى بداية حراك سياسيّ لم يبلغ مستوى الثورة. وحتى مع عدم وجود الشّروط الممهّدة لثورةٍ في العربيّة السعوديّة، كان النّظام التسلّطيّ سيسارع إلى المباشرة بإجراءاتٍ ثوريّة مضادّة وقائيّة لاستباق تأثير الدومينو في الربيع العربيّ.

ولا بدّ من أن تُفهَم الطائفيّة السعوديّة أخيراً في ضوء الأحداث التي جرت في جزيرة البحرين المجاورة، حيث تحكم عائلةٌ ملكيّةٌ سنّيّةٌ أكثريّةً شيعيّةً. وقد أثبت الخطاب الطائفيّ نجاحه في قمع الحركة البحرينيّة المطالبة بالديمقراطيّة. إذ دخلت القوّات السعوديّة إلى البحرين في شباط / فبراير ٢٠١١ دعماً لآل خليفة ضدّ المحتجّين. وقد أتاح هذا الأمر للنظام السعوديّ إرسال إشارات قويّة لا إلى أقليّته الشيعيّة المُضطهَدة سياسيّاً فحسب، التي يشترك كثيرٌ من أفرادها بصلات دينيّةٍ، واجتماعيّةٍ، وقربى مع البحرينيّين، بل أيضاً - وعلى نحوٍ أهمّ - لأكثريّته السنّيّة داخل العربيّة السعوديّة. فالنّظام السعوديّ يُرغم أكثريّته السنّيّة، التي تربّت طويلاً على خطاب طائفيّ يعتبر الشّيعة أهل بدَع، على اعتبار حكومتهم حامياً لهم ضدّ المؤامرات الشيعيّة والعملاء الأجانب المزعومون الذين يعملون لحساب إيران، القوّة الإقليميّة المنافسة. وكان النّظام يأمل أن تتخلّى الأكثريّة السنّيّة عن المطالبات بتغيير سياسيّ، على الأقل في هذه اللحظة الحرجة من الربيع العربيّ. وتحت ضغط سياقٍ إقليميٍّ حادّ وحراكٍ فعليٍّ وافتراضيٍ داخليٍّ، بدا أنّ سعوديّين كثيرين أجّلوا مواجهتهم مع النّظام ولكنّهم واصلوا المطالبة بإصلاح سياسيّ. وكذلك، بدا أنّ العطايا الاقتصاديّة التي منحها الملك في آذار / مارس ٢٠١١ قد أنهت المظالم الاقتصاديّة والاجتماعيّة المباشرة للسكّان، من دون تقديم إصلاحٍ سياسيّ.

السياسة الطائفيّة السعوديّة: عرض تاريخيّ

دفع الإقصاء السياسيّ المُوثَّق والتمييز الدينيّ المُمنهجُ ضدّ الشيعة في العربيّة السعوديّة إلى اصطفاف الجماعة حول قيادتها الطائفيّة، إذ تؤمّن لها الدّعم والموارد الممنوعة عليها في الساحة الوطنيّة. ويُسهم كلٌّ من الإقصاء والتمييز في تعزيز التّلاحم والتّخوم الطائفيّة الداخليّة الشيعيّة. وعلاوةً على ذلك، بما أنّ حريّة التجمّع مُقيَّدة إضافة إلى وجود حظر على تأسيس أحزاب سياسيّة وفي غياب مجتمعٍ مدنيّ، يبقى المجال الدينيّ مفتوحاً نسبيّاً. وإضافةً إلى كونه مكاناً للعبادة، تعاظمَ دور المسجد كمنصّة من أجل الاحتشاد الشعبيّ حول الرموز والهويّات الدينيّة.

ومنذ السبعينيّات، حلَّت نزعةٌ إسلامويّةٌ سنيّة وشيعيّة كبيرة محلّ التسيّس المحدود السابق الذي كان يشجّع أيديولوجيّات يساريّةٍ ووطنيّةٍ علمانيّة في العربيّة السعوديّة. وقد كان هذا متوافقاً مع حال بلدان عربيّة أخرى حيث انحسرت الحركات الوطنيّة واليساريّة العلمانيّة مع بداية صعود الإسلامويّة. وقد وجد كلٌّ من السنّة والشيعة السعوديّين في الإسلامويّة مصدر إلهام من أجل سياسة وحراك في المعارضة.

بقيت الجماعتان مقسَّمتَيْن في معارضتهما السياسيّة، وعجزت كلتاهما عن عبور الهوّة الطائفيّة واحتواء الجماعة الثانية. وكان الاستثناء الوحيد هو الفترة القصيرة في الخمسينيّات والستينيّات حين أنتجَ الحراك العمّاليّ في المجال النفطيّ احتجاجاً لم يكتفِ بكونه عابراً للانقسامات الطائفيّة، والقبَلية، والمناطقيّة السعوديّة، بل امتدّ عبر الجنسيّات، بما أنّ صناعة النفط اجتذبت عمّالاً من جميع أنحاء العالم العربيّ. وإثر تلك الاحتجاجات العمّاليّة القصيرة والمبكّرة، حظرت الحكومة نشاط النقابات العماليّة والتّظاهرات.

ومنذ السبعينيّات فصاعداً، لم يعد أيّ حراكٍ عماليٍّ ممكناً في ظلّ اللجوء المتصاعد إلى الإسلامويّة السنيّة والشيعيّة. وقد كان هذا نتاجاً لاجتماع عوامل عدّة. إذ أفضت الثورة الإيرانيّة عام ١٩٧٩ وانتصار الإسلامويّة في إيران، وترويج النّظام السعوديّ للإسلامويّة كأيديولوجيا مضادّة للقوميّة وللنّزعات السياسيّة اليساريّة، إلى تقوية الإسلام السياسيّ لا في العربيّة السعوديّة فقط بل في أرجاء العالم العربيّ. وأصبحت السياسة والحراك الوطنيّان اللذان يجسّران الهوّة السنيّة - الشيعيّة مستحيلَيْن مع صعود الإسلامويّة وضعف جماعات المعارضة اليساريّة والقوميّة.

مُستلهمين نجاح الثورة في إيران عام ١٩٧٩، حشد الشيعة السعوديّون أنفسهم كأقليّة دينيّة مُضطهَدة وضحيّة للتمييز. وقد كانوا ناشطين بقوّة في المطالبة بحقوق دينيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وفي وضع نهايةٍ للتّمييز في التوظيف والتعليم. إذ كانوا محرومين، لفترة طويلة، من الحريّة الدينيّة وإمكانيّة الوصول إلى مجال واسعٍ من المهن في السّلكَيْن التعليميّ والعسكريّ. ولم يكن فقههم الدينيّ مُمثَّلاً في التشريعات القضائيّة. وكانوا يمتلكون خبرةً أكبر في تنظيم التظاهرات من الأكثريّة السنّيّة بما أنّ بعض نشطائهم كانوا قد شاركوا في الاحتجاجات القوميّة واليساريّة في المنطقة الشرقيّة في الخمسينيّات والستينيّات. مدفوعين بنجاح الثورة الإيرانيّة وإقامة جمهوريّة إسلاميّة عام ١٩٧٩، بدأ الشيعة السعوديّون انتفاضةً قُمعت بوحشيّة. وتوجّه كثيرٌ من قادتهم في المعارضة إلى المنفى إثر موجةٍ من القمع في المنطقة الشرقيّة حيث يقيمون.

bid17_fihanazar_image004_rgb.jpg


مسيرة «أين حقوقي في وطني» في القطيف في ٢٣ أيلول / سبتمبر ٢٠١٣

في عام ١٩٩٣، جرت تسويةٌ مع الحكومة، تلتها عودة شخصيّات المعارضة الشيعيّة البارزة من المنفى. حدثت التّسوية بعد أن وعدت الحكومة بالسّماح للشيعة بحريّة دينيّة أكبر وبزيادة دمجهم في الاقتصاد. ومع ذلك، بقيت جماعة من الناشطين الشيعة في الخارج واصلوا حشد أنصارهم داخل العربيّة السعوديّة. وبإلهامٍ من الربيع العربيّ، بدأت المعارضة الشيعيّة المنفيّة، إلى جانب ناشطين ورجال دين داخل البلاد، بالدعوة إلى تظاهرات للمطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيّين. كما دعوا أيضاً إلى دعم الحركة البحرينيّة المطالبة بالديمقراطيّة في نضالها ضدّ النظام السنّيّ البحرينيّ، وإلى انسحاب القوات السعوديّة من البحرين. وفيما يشكّل الشيعة أقليّةً في السعوديّة، إلا أنّهم أكثريّة في البحرين.

ظلّت المعارضة الإسلاميّة السنّيّة في العربيّة السعوديّة، المعروفة منذ التسعينيّات باسم «الصحوة»، متجذّرةً ضمن الخطاب السلفيّ، بخاصّة ذاك الذي يُؤبلس الشيعة ويعتبرهم أهل بدَع، وبذا فهم يناصرون التعاليم الدينيّة الرسميّة. ومع أنّ الإسلاميّين السعوديّين يشجبون الدعاة الرسميّين بسبب تبعيّتهم للدولة وفقدانهم للاستقلاليّة، إلا أنّهم يتّفقون معهم حيال المسألة الشيعيّة. إذ يعتقدون أنّ الشيعة يتمتّعون بحريّات دينيّة وفرص عمل كافية في المجال النفطيّ. وبحسب رجل دين سلفيّ مرتبطٍ بمعسكر «الصحوة» الإسلامويّ، فإنّ وضع الشيعة ليس هو الأسوأ في البلاد. فوضع السنّة في المنطقة الجنوبيّة الشرقيّة المُهمَّشة في عسير هو الأسوأ في قراهم الفقيرة. ويعتقد بعض الإسلاميّين أنّ السجناء السياسيّين الشيعة غالباً ما يُطلَق سراحهم بفعل الضغط الداخليّ والخارجيّ، أمّا الإسلاميّون السنّة فيبقون في السجن لفترات طويلة. ويتصاعد هذا الحنق السنّيّ كلّما يطلق النّظام سراح سجناء سياسيّين شيعة، إذ يعتبرون هذه الخطوة تنازلاً أمام أقليّة من أهل البدع. وفي هذا السّياق، تبقى الدّولة، والمؤسّسة الدينيّة الرسميّة، والإسلاميّون متّفقين حيال المسألة الشيعيّة. وبينما تُفضّل أقليّة صغيرة من الإسلاميّين عدم المناقشة صراحةً، لا تتردّد الأكثريّة في شجب الشيعة علناً.

احتجاج خجول

في ضوء موجة عام ٢٠١١ من احتجاجات الربيع العربيّ، دعا الناشطون الافتراضيّون السعوديّون إلى «يوم الغضب» في ١١ آذار / مارس ٢٠١١. ظهرت جماعات شبابيّة جديدة على الإنترنت تحت أسماء مثل حركة الشباب الوطنيّ وحركة شباب الأحرار. وقد دعت كلتاهما إلى التّظاهر ضدّ النّظام. وتركّزت مطالبهما على الحريّة، محاربة الفساد والقمع والظلم والبطالة، وإطلاق سراح السجناء السياسيّين، ومظالم أخرى كانت جميعها غير طائفيّة. وقد اجتذبت كثيرٌ من هذه المنابر الافتراضيّة داعمين من دون أدنى دليلٍ على مناصرين فعليّين على الأرض. لم يكن أحدٌ في العربيّة السعوديّة قادراً على التصريح علناً بمسؤوليّته عن التصريحات الافتراضيّة المناهضة للنّظام من دون أن يعرّض نفسه لخطر الاعتقال. نشر محمد الودعاني، وهو ناشط شابّ، فيديو لنفسه وهو يشجب النّظام ويعلن نيّته في التّظاهر في ١١ آذار / مارس ٢٠١١. اعتُقل حين سارع إلى المشاركة في احتجاج صغير بعد صلاة الجمعة يوم ٧ آذار / مارس.

جماعتان فقط من المعارضة السنّيّة دعمتا يوم الغضب. إذ أصدرت الحركة الإسلاميّة للإصلاح وحزب الأّمة الإسلاميّ المؤسّس حديثاً بيانات تناصر الدّعوة إلى التّظاهر. منذ عام ٢٠٠٥، كانت الحركة الإسلاميّة للإصلاح تدعو أنصارها عادةً إلى الاستعداد لاحتجاجات صغيرة بعد صلاة الجمعة في مدن عديدة. وفي مناسبات نادرة، كانت تلك الدّعوات تُثمر عن تجمّعات صغيرة جداً تنطلق بعد انتهاء صلاة الجمعة مع ترديد «الله أكبر». وقد أملت الحركة الإسلاميّة وحزب الأمّة أن تنتشر حركة احتجاج شبابيّة عفويّة في جميع المدن السعوديّة يوم ١١ آذار / مارس ٢٠١١.

ضمن صفوف الشيعة، دعت المعارضة المنفيّة في الخارج - تحديداً حركة «خلاص» التي تقودها شخصيّات مثل المعارضَيْن المخضرمَيْن الشيعيَّيْن المقيمَيْن في لندن حمزة الحسن وفؤاد إبراهيم - أنصارها إلى الاستجابة لدعوة التظاهر يوم ١١ آذار / مارس ٢٠١١. وعلى أيّة حال، أتى الزّخم الأساسيّ من الناشطين الشّيعة داخل البلاد. فقبل ١١ آذار / مارس، حشد هؤلاء النّاشطون جماعتهم للتظاهر دوريّاً إثر القمع الشديد للاحتجاجات السلميّة في البحرين بمساعدة القوّات السعوديّة.

قبل «يوم الغضب»، استخدمت الجماعات السنّيّة والشيعيّة مواقع يوتيوب، وفيسبوك، وتويتر لإيصال رسالتهم لدعم الاحتجاج الافتراضيّ. كانت تلك المرّة الأولى التي تقوم بها المعارضتان السنّيّة والشيعيّة بالدّعوة إلى التّظاهر في اليوم نفسه. ويوم ١١ آذار / مارس ٢٠١١، مُني يوم الغضب بفشل كبير، ما يشير إلى الحدود التي تصل إليها ما تُسمّى ثورات فيسبوك وتويتر في غياب التنظيم الحقيقيّ والمجتمع المدنيّ المستعدّ للانخراط في الاحتجاج. أقصت «الصحوة»، الحركة الإسلاميّة السنّيّة البارزة والأكبر داخل البلاد التي أشرنا إليها سابقاً، علاوةً على جماعات سياسيّة حديثة التأسيس، نفسها عن الدعوة إلى الاحتجاج. وبما أنّ شعار التظاهرات كان «الشعب يريد إسقاط النّظام»، الذي اشتُهر في ميدان التحرير في القاهرة، لم يكن بمقدور أيّ سعوديّ التصريح بدعمه من دون المجازفة باعتقاله. وفي الواقع، جدَّد ناشطون إسلاميّون سنّة كثيرون داخل البلاد ولاءهم للنّظام وشجبوا الفوضى التي تترافق مع التظاهرات. وأشاروا إلى الحاجة إلى الإصلاح، ولكن ليس إسقاط النظام. ومع امتناع حركة «الصحوة» الإسلاميّة عن دعمها، لم تتحقّق التظاهرات على أرض الواقع.

وبرغم الإخفاق التام الذي مُني به يوم الغضب الوطنيّ، واصلت الأقليّة الشيعيّة التحضير لتظاهراتها في المنطقة الشرقيّة الغنيّة بالنفط، مطالبين بالمساواة وإنهاء التمييز ضدّ جماعتهم. استقطبت التظاهرات الشيعيّة مئات الدّاعمين الذين طالبوا بإطلاق سراح سجنائهم السياسيّين. وانضمّت النّساء إلى الاحتجاج ومشين وهنّ يحملن الشموع عدّة ليالٍ للفت الانتباه إلى مأساة السجناء. وطالبنَ بإطلاق سراح النّشطاء السياسيّين المُعتقَلين منذ أكثر من ستّة عشر عاماً ضمن حملة لدعم «السجناء المنسيّين». كما دعون إلى انسحاب القوّات السعوديّة التي أُرسلت لقمع الانتفاضة المطالبة بالديمقراطيّة في البحرين التي كانت قد بدأت يوم ١٤ شباط / فبراير ٢٠٠١. كان القمع أشدّ وضوحاً في المناطق الشيعيّة كردّة فعل على حجم التظاهرات. كان الشيعة قادرين على حشد أنصارهم دعماً لمطالبهم الخاصّة، وبذلك فقد تبنّوا أجندةً شيعيّةً ضيّقة، وكذلك تعاطفاً مع جيرانهم في البحرين التي تبعد مسافة ستة عشر ميلاً فقط من العربيّة السعوديّة عبر جسرٍ يصل بينهما. وسارعت قوّات الأمن إلى قمع المتظاهرين.

بعد ١١ آذار / مارس ٢٠١١، وفي المناطق ذات الأغلبيّة السنّيّة، كان سعوديّون وسعوديّات يتجمّعون دورياً في أيّام مُحدَّدة حول وزارة الداخليّة مطالبين بإطلاق سراح السجناء السياسيّين. وتجمّع متخرّجون جامعيّون عاطلون من العمل حول الوزارات المعنيّة معبّرين عن مظالمهم الاقتصاديّة ومطالبين المسؤولين الحكوميّين بتنفيذ وعود الملك التي نصّت على زيادة فرص العمل وتسريع تعيين المتخرّجين في وظائف القطاع العامّ. وكان الملك قد أطلق هذه الوعود في شباط / فبراير حين عاد إلى البلاد بعد تلقّيه للعلاج الطبيّ في الولايات المتّحدة. ومع أنّ أياً من تلك الاحتجاجات المحليّة لم تتبلور ضمن تظاهرات فعليّة، بات ثمّة وضعٌ جديد في بلادٍ كانت تحظّر التّظاهرات كلّيّاً. وباستثناء الاحتجاج السنّيّ الداعم للسجناء السياسيّين، سمح النّظام لهذه التجمّعات الصغيرة بالتحرّك. ولكن بين شباط / فبراير وآذار / مارس انتشرت تقارير بأنّ قوات الأمن نفّذت أكثر من ١٦٠ اعتقالاً، اثنان منهما كانا المتظاهرين الوحيدين اللذين استجابا للدّعوات من أجل يوم الغضب، وكان هناك ناشطٌ سياسيٌّ معروفٌ واحد منخرط في قضايا حقوق الإنسان. وفي تموز / يوليو احتُجزت امرأتان في وزارة الداخليّة بسبب مشاركتهما وتنظيمهما لتظاهرة دعماً للسّجناء السياسيّين. وكانت التظاهرات التي تندلع في المنطقة الشرقيّة الشيعيّة تُقمَع بوحشيّة أكبر. سمحت الحكومة باحتجاجات صغيرة بشأن مظالم اقتصاديّة، لكنّها كانت سريعةً في التّعامل مع المتظاهرين الذين يعبّرون عن مطالب سياسيّة أو ينتقدون قمع النّظام.

الطائفيّة كثورةٍ مضادّة

بالرغم من أنّ إسلاميّين سنّة منفيّين معروفين، مثل أعضاء حركة الإصلاح، وحزب الأمّة المؤسّس حديثاً، وناشطين شيعة دعوا كلّهم من أجل الاحتجاج يوم ١١ آذار / مارس ٢٠١١، أصرّ النظام على اعتبار هذه الدعوات مؤامرةً وانتفاضةً شيعيّة مدعومة من قوى خارجيّة، أبرزها إيران. وسعت استراتيجيّة الدّولة نحو تحقيق هدفين. أوّلاً، سمحت للأجهزة الأمنيّة بالتحرّك بسرعةٍ إلى المناطق الشيعيّة لقمع بوادر الاحتجاج الأولى، الذي اعتُبر تمرّداً لجماعة الشيعة، المنفصلة كلياً عن الجماعات الوطنيّة الأخرى وفئات المعارضة الداعية إلى إصلاح سياسيّ. وحقيقةُ أنّ غالبيّة الشيعة يقيمون في المنطقة الشرقيّة، وكانت تظاهراتهم قد اندلعت في الماضي في مدن ذات أغلبيّة شيعيّة مثل القطيف، وسيهات، والعواميّة سهّلتْ إمكانيّة تصديق الرواية الحكوميّة. كما أتاحت لأجهزة الأمن اعتبار أنّ الشيعة هم مَنْ بدأوا بإطلاق دعوات التّظاهر.

أولاً، عبر استحضار خطاب احتجاجٍ مناطقيٍّ شيعيٍّ مدعوم من إيران في المنطقة الغنيّة بالنفط، حشدت الدولة الأكثريّة السنّيّة، بمن فيهم أصحاب المظالم الجديّة الذين كانوا قد دعوا إلى إصلاح سياسيّ. وعمدت آلة بروباغاندا الدولة إلى توصيف الدّعوات إلى الاحتجاج بأنّها محاولة أجنبيّة لإحداث الفوضى، وتقسيم البلاد، وتقويض أمنها. ودُفع السكّان لتصديق أنّ أيّ احتجاج سيؤدّي إلى تقسيم العربيّة السعوديّة وانبعاث المناطقيّة، والطائفيّة، والقبَلية. ولم تكن ردّة الفعل هذه خاصّة بالدولة السعوديّة. فخلال الربيع العربيّ، لجأت أنظمة عربيّة أخرى إلى الخطاب ذاته حين واجهت احتجاجاً شعبياً، كما بيّنت سلوى إسماعيل.

كان الدّين الرسميّ السعوديّ الاستراتيجيّة الأساسيّة الموظَّفة ضدّ إمكانيّة الاحتجاج. حشد النظام شخصيّاته الدينيّة البارزة لدعمه في هذه اللحظة الحرجة المتمثّلة في الربيع العربيّ بطريقتين مختلفتين.

ثانياً، استخدم الدعاة الوهّابيّون المآذن للتحذير من غضب الله الذي سيُسلَّط على المؤمنين المتّقين إن شاركوا في التظاهرات السلميّة التي خُطّط لانطلاقها بعد انتهاء صلاة الجمعة مباشرةً يوم ١١ آذار / مارس ٢٠١١. وفي ٧ آذار / مارس، أصدرت هيئة كبار العلماء، وهي أعلى السلطات الدينيّة الرسميّة، فتوى تُحرّم التظاهرات. ونشرت جميع الجرائد المحليّة تلك الفتوى باحتفاء، ووُزّعت آلاف النّسَخ من الفتوى في المساجد والأحياء، عدا عن نشرها على الإنترنت. وتسلّلت أجهزة الاستخبارات السعوديّة إلى منابر النّقاش في الإنترنت ونُشرت الفتوى في منتديات عديدة مع عدّة بيانات داعمة لها. وتشير مشاهداتي لمنابر نقاش عديدة على الإنترنت خلال فترة يوم الغضب بوضوحٍ إلى وجود بروباغاندا رسميّة متعاظمة. كانت الفتوى التي تُحرّم التظاهرات بياناً سياسيّاً أكثر من كونه دينياً لدعم النّظام بمواجهة الدّاعين إلى الاحتجاج.

ثالثاً، حذّر الدّعاة الرسميّون من مؤامرة شيعيّة - صفويّة - إيرانيّة يقودها السنّة والشيعة السعوديّون المنفيّون في لندن وواشنطن لإشعال فتنة وتقسيم المملكة العربيّة السعوديّة. واعتمدوا على آراء دينيّة طائفيّة تهاجم الشّيعة، الموصوفين تاريخياً بكونهم أهل بدع، ومنذ وقتٍ أقرب بكونهم طابوراً خامساً من عملاء إيران. وذكّروا المؤمنين بالحاجة إلى الإجماع على حكّام البلاد التّقاة، وحذّروا من أنّ التّشرذم، والتناحر القبليّ، والحرب الأهليّة والمجازر الدمويّة ستحدث إن استجاب الناس لدعوات التّظاهر. أمّا الدّعاة الوهّابيّون غير المرتبطين مباشرةً بهيئة كبار العلماء الرسميّة، والمعروفون باسم الوهّابيّين الجدد، كمحمد العريفي ويوسف الأحمد على سبيل المثال، فقد كان لديهم حريّة أكبر في مهاجمة الشيعة في المساجد المحلّيّة، وفي المحاضرات، والخطب التي كانت تُسجَّل وتُنشر على يوتيوب. وانضمّ الداعية المخضرم في حركة الصّحوة الشيخ ناصر العمر إلى المعركة ضدّ الشيعة، ما أسهم في تقوية آراء العلماء من الجيل الأصغر. وإذا كانت مواقف كثيرٍ من هؤلاء الدعاة ناقدةً للملك في ما يخصّ سياساته الجندريّة الجديدة التي خفّفت من قيود القوانين المتعلّقة باختلاط الجنسين في التعليم والعمل، إلّا أنّهم دعموه ضّد الشيعة الذين اعتُبروا غرباء، وأهل بدع، وموالين لإيران. وكان تصويرُ الاحتجاج المحليّ بكونه مؤامرةً أجنبيّةً سياسةً مُجرَّبةً خلال الربيع العربيّ.

كرَّر النظام السعوديُّ وعلماؤه الخطاب المتقن الذي سبقهم إليه طغاة عرب آخرون مثل زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، وحمد آل خليفة في البحرين، ومعمّر القذّافي في ليبيا، وبشّار الأسد في سورية، وعلي عبد الله صالح في اليمن. وحشد النّظام السعوديّ أجهزة استخباراته الرقميّة لنشر شائعات تقول إنّ الإيرانيّين هم القائمون وراء التظاهرات، ولو كان السنّة يأملون الانتصار فلا بدّ لهم من رفض التجاوب مع الدعوات الخارجيّة المشبوهة للاحتجاج. وأظهرت معاينتي لعدد من منابر النقاش على الإنترنت مثل الساحة والشّبكة الليبراليّة السعوديّة، بوضوحٍ، وجود مشاركات غير معتادة مناصرة للنظام تؤبلس الشيعة وتحذّر من المؤامرات الأجنبيّة. وتكوّنت الاستراتيجيّة الدينيّة السعوديّة من التهديد بالغضب الإلهيّ، والتحريض على الاختلاف الطائفيّ والكراهية لتشويه مشهد الاحتجاج السلميّ المطالب بإصلاحات سياسيّة حقيقيّة. أمّا الدعاة الدينيّون المستقلّون المزعومون فقد خدموا مصلحة النظام بقدر ما خدمته البيروقراطيّة الرسميّة. فبينما لعب العلماء الرسميّون دوراً، انتهز الدعاة الآخرون الفرصة على الإنترنت ليرفعوا من شعبيّتهم بين الشباب عبر مهاجمة الشيعة. وأصبحت مواقع فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب هي الحلبة الرقميّة الجديدة ضدّ الشيعة «أهل البدع» وداعميهم الإيرانيّين المزعومين.

ومع انتشار الاستراتيجيّة الدينيّة المزدوجة القائمة على طاعة الحكّام والطائفيّة، كانت الصحافة «الليبراليّة» التي تتحكّم بها السعوديّة تنشر مقالات تشجب الطائفيّة. هاجم مفكّرون ليبراليّون مَنْ سمّوهم دعاة الكراهية الطائفيّة، وتغنّى صحافيّون وناشطون كثر بالوحدة الوطنيّة - أي، الانتماء إلى أمّة، لا إلى طائفة أو قبيلة. وأصبحت صفحات الجرائد المحليّة الرسميّة مثل الرياض، الجزيرة، والوطن، إضافةً إلى الجريدتين العربيّتين الحياة والشرق الأوسط منصّات لشنّ الهجمات على تلك القوى الرّجعيّة التي تقوّض الوحدة الوطنيّة. ولكن هذا لا يعني، بحال من الأحوال، أنّ أولئك الكتّاب الليبراليّين كانوا يرغبون بوجود علاقات قويّة مع الشيعة أو دعم للاحتجاج السياسيّ الحقيقيّ كوسيلة للإصلاح السياسيّ. بل كانوا يدافعون عن النظام بطريقة مختلفة، تحديداً عبر تقسيم وبلبلة الرأي العام السعوديّ، وهي استراتيجيّة مهمّة في إجهاض أيّ توافق وطنيّ لمصلحة الحراك والاحتجاج.

خلال الربيع العربيّ، تعرَّض السعوديّون لخطابين متعارضين، كلاهما تموّله الدولة: خطاب دينيّ داعم للوحدة السنّيّة ضدّ أهل البدَع من الشيعة، وخطاب ليبراليّ مزعوم يشجب الدعاة الدينيّين وطائفيّتهم. فوقع السعوديّون في حيرة وانقسامٍ بين هذين التأويلين المتعارضين للأزمة. ولا تخدم هذه البلبلة إلّا مصالح النظام عبر تأخير الحاجة إلى إجراء تنازلات سياسيّة. وتحافظ الاستراتيجيّة على الانقسامات في المجتمع بين مثقّفين ليبراليّين مزعومين، ودعاة كراهية، وبين السنّة والشيعة. وخلال هذه البلبلة، يُرسّخ النظام في أذهان النّاس أنّه هو وحده القادر على التّوسّط بين المعسكرات المتنوّعة، حيث يكبح تطرّفات الليبراليّين، والإسلاميّين، والشيعة، والسنّة. كما يعزّز الانطباع بأنّ تدخّله هو ما يمنع البلاد من الدّخول في حالة الطبيعة الهوبزيّة حيث تُفلت القبائل والطوائف والمناطق عقال تطرّفها وعنفها ضدّ بعضهم البعض، وتقوّض أمن السعوديّين جميعهم، ما قد يفتح مجالاً لتدخّل عسكريّ أجنبيّ لحماية مصادر الطاقة ذات الأهميّة الكبيرة لا للسعوديّين وحدهم، بل لباقي العالم أيضاً.

bid17_fihanazar_image005_rgb.jpg


وقفة احتجاجية على احتجاز جثامين وللمطالبة بوقف أحكام الإعدام الصادرة بحق بعض المعتقلين في آذار / مارس ٢٠١٦

وفي بلدٍ يتّسم بنزعة وطنيّة ضعيفة، وإسلامويّةٍ قويّة، وتوتّر طائفيّ، نجحت استراتيجيّة الدولة في تصوير الاحتجاج على أنّه مؤامرة شيعيّة حيث دفعت السنّة إلى تجديد اصطفافهم مع النظام. وبما أنّ السعوديّة تخلو من مجتمع مدنيّ وطنيّ منظَّم، مثل نقابات عمّاليّة، وجمعيّات مهنيّة، أو أحزاب سياسيّة، لم تتمكّن جماعات المعارضة فيها من العمل على طول الانقسام الطائفيّ في الفترة الأخيرة. عملت المعارضة الشيعيّة لوحدها منذ السبعينيّات، بينما لم يتقارب الإسلاميّون السنّة مع جماعات غير سنّيّة على الإطلاق، كالإسماعيليّين في الجنوب الغربيّ والشيعة في الشرق. وإنْ كان الإسلاميّون السنّة السعوديّون قد عايشوا نهضةً إسلاميّةً خاصّة بهم، فإنّ الشيعة أيضاً طوّروا معارضتهم السياسيّة ملتفّين حول فقهائهم الدينيّين وناشطيهم السياسيّين.

وكان الشاغل الوحيد للتسلّط السعوديّ هو السيطرة على السكّان السنّة والشيعة على حدٍّ سواء، ومنعهم من السعي نحو حقوقهم السياسيّة التي ستُفضي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالحكم التسلّطيّ. وفي المستقبل المنظور، سيواصل النظام السعوديّ تخويف الأكثريّة بالخطر الشيعيّ / الإيرانيّ لتأخير الإصلاح السياسيّ. أمّا الخطر الذي يهدّد النظام التسلّطيّ فعلياً فهو تطوّر معارضة وطنيّة تتكوّن من السنّة والشيعة، والإسلاميّين والعلمانيّين. وكان هذا قد بدأ يلوح في منتديات محدودة، ما حثَّ الحكومة على المسارعة إلى تضييق الخناق على الاحتجاج الافتراضيّ السنّيّ والتظاهرات الشيعيّة الصغيرة ولكن الفعليّة. وفي حال تمكّنت حركة الملكيّة الدستوريّة الجديدة، التي تضمّ ليبراليّين سنّة وشيعة، من التطوّر أكثر لتصبح قوّة يُعتدّ بها، سيتضاءل الخطاب الطائفيّ ويبقى محصوراً ضمن دوائر سلفيّة رسميّة متشدّدة، لا تزال تحافظ على ولائها للنظام. إذ سيكون من الصعب قمع المعارضة الوطنيّة الرافضة للطائفيّة، بالرغم من الخطاب الطائفيّ المتواصل لعقود برعاية من الدوليّة التسلّطيّة.

ومن دون وجود حركة طلّابيّة، وحركة نسائيّة مستقلّة، وجمعيّات مهنيّة، من المستبعد أن تتمكّن ثورةٌ سعوديّةٌ من الخروج من العالم الافتراضيّ إلى الواقع. وفيما يترقّب الطلّاب الذين يتلقّون إعانات حكوميّة ومنحاً سخيّة تحقُّق فرص التوظيف، لا تزال الحركة النسائيّة تعتبر الدولة راعيتها الأساسيّة ومن المستبعد أن تسحب دعمها للملك الحاليّ. إذ تعتبر ناشطات سعوديّات كثيرات أنّ الدولة هي الفاعل الوحيد القادر على ضبط سلطة العلماء. أمّا الجمعيّات المهنيّة الضعيفة، مثل غرف التجارة وهيئة الصحافيّين السعوديّين، فلا تزال محافظة على ولائها للدّولة التي تحميها من السياسات الشعبويّة. وترتبط النخبة الاقتصاديّة والتكنوقراطيّة بالقطاع العام وتتلقّى مكافآت كبيرة لقاء ولائها. وعلاوةً على ذلك، فإنّ الجماعات القبليّة الرئيسة مستفيدة من النظام عبر التوظّف في القطاع العسكريّ والإعانات والهبات الدوريّة. كما ترتبط قبائل كثيرة بالنظام عبر علاقات مصاهرة. ووحده الانهيار الاقتصاديّ الحادّ والمديد هو الذي سيشعل احتجاجاً شعبيّاً. وإذا كان ثمّة إشارات إلى وجود احتجاج شعبيّ سعوديّ أساساً، فستُوظَّف استراتيجيّات ثورة مضادّة، عدا عن الطائفيّة، لقمع أيّة حركة وطنيّة واسعة تطالب بتغيير سياسيّ حقيقيّ وجديّ. وتُبيّن الحالة السعوديّة أنّ الطائفيّة أداة قويّة تحت تصرّف الأنظمة، بخاصّة خلال فترات الاضطراب. من مصر إلى العراق، اعتُنقت استراتيجيّات مماثلة خلال الانتفاضات العربيّة عام ٢٠١١.

الدكتاتوريّة والطائفيّة عربيّاً

تعجز الطائفيّة كترتيبٍ دائمٍ وبدئيٍّ لمجتمعات الشرق الأوسط عن تفسير الاضطراب الحاليّ في العالم العربيّ. وبالأحرى، فإنّ توظيف الاختلافات، والتنوّع، والتعدديّة الدينيّة في الصراعات السياسيّة للأنظمة ضدّ شعوبها هو الذي يُذكي الطائفيّة القاتلة التي نشهدها في أرجاء المنطقة. وفي الواقع، فإنّ العدسات الطائفيّة المسلّطة على الانقسام السنّيّ - الشيعيّ المزعوم تُعمّي بدلاً من أن تُوضح الوقائع المعقّدة على الأرض. إذ تُخفي التغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة المُعترضة التي تكتسح المنطقة، عدا عن التدخّلات الأجنبيّة المتواصلة وتأثيراتها. كما أنّ تصوير صراعات السلطة في المنطقة كحروب طائفيّة سيُخفي الحرمان والتفاوت الاقتصاديّ المتجذّر الناتج من عقود من الهجرة الريفيّة - المدينيّة، وإفقار الأرياف، واستيلاء النّخب الجديدة في المدن على الأراضي. ويُضاف إلى هذا التّنافسُ الإقليميّ بين إيران والعربيّة السعوديّة، وهما بلدان مهمّان، يدّعي كلٌّ منهما دعم مصالح جيرانه الإقليميّين. وقد تسبَّب التنافس السياسيّ بين البلدين، والتّسابق على مجالات التأثير في لبنان، وسورية، والعراق، والبحرين، وــ مؤخراً - اليمن، في جعل الطائفيّة سرديّةً قويّةً تُخفي التّفاوتات السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة الفعليّة، والتنافسات بين الجماعات، والدول، والفاعلين غير الحكوميّين البارزين. وصحيحٌ أنّ الهويّات الدينيّة تُواصل حضورها، لكنّ الطائفيّة أمرٌ مختلفٌ تماماً: إنّها التسيّس المفرط لهذه الهويّات الدينيّة.

وبهدف تبيُّن لمَ أصبح معظم العالم العربيّ أرضاً يباباً ممزَّقةً بفعل العنف الذي يُقترَف باسم الهويّة والتّضامن الطائفيّ، لا بدّ لنا من الالتفات إلى الحقائق الخفيّة التي يرفض معظم المراقبين رؤيتها.

إحدى هذه الحقائق هي السطوة المتواصلة لرؤساء وملوك متوحّشين أقرب إلى رجال العصابات ولا يتمتّعون بأيّ شعبيّة. فبالرغم من انتخاب الرؤساء وتتويج الملوك والأمراء، عارضَ قادة العالم العربيّ الاندماج الحقيقيّ وتابعوا سعيهم في السياسة عن طريق القوّة أو الرشوة. وقد أدركوا جميعاً أنّ شرعيّتهم الضئيلة لا يمكن أن تتعزّز إلّا عبر تحويل شرائح السكّان إلى تابعين ينتفعون من الفرص الاقتصاديّة السخيّة مقابل الولاء المطلق.

فصدّام حسين، السنّيّ، جعل المسيحيّين يمثّلونه في الخارج، فيما كان شيعة كثيرون يهيمنون على حزب البعث، تاركاً المسائل الأمنيّة والاستخباراتيّة بيد أقربائه السنّة الأكثر ولاءً. ويُبقي الرئيس العلويّ بشار الأسد المناصب الرفيعة في سلاح الطيران وأجهزة الاستخبارات لعصبته المُخْلصة، فيما يسمح للعائلات التجاريّة السنّيّة الجديدة بالانتفاع من انفتاحاته الاقتصاديّة النيوليبراليّة. وكان الرئيس حسني مبارك يستمتع بفكرة التحدّث باسم السنّة قبل أن يُطاح به، فيما كانت مشاغله تتركّز في الحقيقة على تحويل عائلته الصغيرة إلى عصابة قويّة مقتفياً مسيرة نظرائه من الرّؤساء والملوك العرب.

ولا يمكن بسهولةٍ اعتبار هذه القيادات الأقرب إلى العصابات طائفيّةً. إذ لا يمتلك الحكّام هويّةً أو انتساباً طائفياً، لكنّ كلاً من خصومهم - الشعوب المُقصاة أغلب الأحيان - والعالم الخارجيّ يريد رؤيتهم عبر منظورٍ طائفيّ. وقد عمل هؤلاء الرؤساء على افتراض أنّ على المرء، إذا أراد الحفاظ على السيطرة، أن يصنّف الشعب بكونه منتمياً إلى وحدات بدئيّة وأبديّة، محرّضاً كلّ جماعةٍ على الأخرى في لعبة سياسيّة وحشيّة وطويلة. فالنّخب الحاكمة لم تكن سخيّةً على الدوام مع أبناء جماعاتها، ولا يمكن اعتبارهم مخلصين لطوائفهم على نحوٍ أوتوماتيكيّ. ففي الواقع، هم يعبدون عصاباتهم ويُكافئون تابعيهم بصرف النظر عن هويّتهم الطائفيّة.

طمس التناقضات الاقتصاديّة والاجتماعيّة

إنّ الملوك والأمراء السنّة المزعومين مرتبطون بعصاباتهم أكثر من طوائفهم. خذ الملوك السعوديّين العديدين الذين كانوا يطمحون إلى قيادة العالم السنّيّ، من الملك فيصل (الذي توفي عام ١٩٧٥) إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز (تسلّم الحكم بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠١٥) والآن الملك سلمان، والذين غالباً ما كانوا يُتَّهمون بالسماح للخطاب الطائفيّ المناهض للشيعة بالانتشار. منذ الثمانينيّات، أشار الناشطون الشيعة إلى القَدْر الضئيل الذي بذله النظام السعوديّ للسيطرة على الخطاب المناهض للشيعة الذي يطلقه الدّعاة الدينيّون السعوديّون. فعلى سبيل المثال، كانت الفتاوى التي تهاجم المصاهرات بين السنّة والشيعة حاضرةً بقوّة، عدا عن تلك التي تمنع السنّة من أكل اللحوم التي يذبحها اللحّامون الشيعة. واتّهم النّاشطون الشيعة النّظامَ بتهميش سكّان المنطقة الشرقيّة، حيث تركوا بلداتهم وقراهم بلا تنمية اقتصاديّة وحرموهم من إمكانيّة إيجاد فرص العمل ومن حريّتهم الدينيّة.

لكنّ الملوك السعوديّين كأفراد لاعبون سياسيّون تلاعبيّون، مدفوعون بغريزة البقاء أكثر من التضامن الطائفيّ. فلنأخذ الملك فيصل الذي كان قد دعم في الستينيّات العائلة الملكيّة الزيديّة الشيعيّة في اليمن ضد الجمهوريّين المدعومين من الرئيس المصريّ جمال عبد الناصر. أمّا داخلياً، فقد استمال الملك عبد الله وأميره الحاكم للمنطقة الشرقيّة الغنيّة بالنفط عدداً من الوجهاء ورجال الدين الشيعة حيث كانوا يجتمعون أحياناً لإبداء الولاء للملك بعد التظاهرات المتقطّعة واندلاعات العنف. استخدم الملك الشيعة والعنف في المنطقة لإخافة الأكثريّة وكبحها عن المطالبة بأيّة تغييرات سياسيّة. وكلّما تظاهرَ الشيعة، كانت الأكثريّة تُلقَّن بخطاب أنّهم مُستهدَفون من قوى خارجيّة وعملائها المحليّين. وحين خَلَفَ سلمانُ الملك عبد الله عام ٢٠١٥، سارع مباشرةً إلى شنّ حرب على اليمن، تحت اسم عاصفة الحزم، لاحتواء التوتّر والاستياء في الداخل اللذين تسبّبت بهما سياسات سلفه التي بدت ضعيفة وفاترة. وواصلت السرديّة السعوديّة عن الحرب الدائرة التّمظهر في لغة طائفيّة حيث صُوّرت بكونها محاولةً لتدمير نفوذ إيران في شبه الجزيرة العربيّة ونفوذ وكلائها في المنطقة، الحوثيّين الزيديّين في اليمن، ما يُظهر مؤهّلات القيادة كراعٍ للمصالح السنّيّة.

وفي الوقت ذاته، يرى النظام المنفعة المنحرفة الناجمة عن الاعتداءات على المصلّين الشيعة على يد جماعات سنّيّة متطرّفة، ما يُرهب الأقليّة. ثمّ يقدّم النظام نفسه بوصفه الحامي الأفضل للشيعة، فالبديل هو الجهاديّون المتطرّفون. وبعد سنوات من التحذيرات الصحافيّة السعوديّة ضدّ الشيعة المتسبّبين بالاضطرابات الذين يُزعَم أنّهم مدعومون من إيران، يهيمن الحديث عن الوحدة الوطنيّة على المجال العام فيما يُهاجَم المصلّون الشيعة خارج مساجدهم. ويضع النظام تحت تصرّفه أصواتاً متعدّدة، يُقدَّمون كمثقّفين وكتّاب قادرين على التنقّل بين الخطاب الطائفيّ الحادّ وشعارات الوحدة الوطنيّة، بالتوافق مع حاجات العصابة الحاكمة المهيمنة في لحظةٍ محدَّدة. وتستلزم المناورة السياسيّة من النّظام أن يلعب على مخاوف كلٍّ من الأقليّة الشيعيّة والأكثريّة السنّيّة بدلاً من انتحال هويّةٍ طائفيّة ثابتة. وتبقى نجاة آل سعود، بدلاً من حماية عالمٍ سنّيٍّ كامل، هي المشروع الأكثر قداسة.

لا الملكيّات السنّيّة الصريحة مثل العربيّة السعوديّة وملحقاتها ولا الجمهوريّات الرئاسيّة العربيّة منغمسةٌ حقاً في خنادق طائفيّة دائمة، بالرغم من الخطاب الصارخ المُصمَّم بغرض الاستهلاك الشعبيّ وحشد النّاس. وينطبق الأمر ذاته على المجتمعات التي يُفترّض أنّ الطائفيّة منتشرة فيها - كما في لبنان مثلاً، وسورية، والعراق والبحرين. وأن نعتبر أنّ هذه المجتمعات غارقة كلياً في الهويّات الطائفيّة والعنف الناتج منها سيُؤدّي بنا إلى طمس انقسامات سياسيّة واقتصاديّة أخرى ضمن كلّ جماعة، كالتباينات الطبقيّة مثلاً. تصبح الطائفيّة مظلةً تتخفّى تحتها هذه الانقسامات بهدف تعزيز تضامنات وهميّة. نعم، ربّما كانت المنطقة العربيّة تضمّ وجه الطائفيّة القبيح، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا عذراً لعدم الكشف عن وقائع أكثر مرارةً من الفقر، والإقصاء، والتهميش، وطغيان الجماعة الطائفيّة للمرء ومحيطه الخارجيّ على السواء. غالباً ما يُتجاهَل هذا الأمر مع أنّه بُعدٌ مهمّ ينبع من الجماعاتيّة حيث لا تتوافق مصالح المرء مع مصالح الجماعة على الدوام. هذا مهمّ في مجالات مثل المساواة الجندريّة، حيث قد تعمل الطائفة كجماعة على تعزيز التمييز الذي يبقى خفياً وتُفسَّر كلّ مقاومةٍ بوصفها خيانةً للجماعة بأكملها.

وإنْ عجزت الطائفيّة عن تفسير السلوك السياسيّ للأنظمة والتنوّع الداخليّ ضمن الجماعات الطائفيّة، لمَ إذاً يُواصل العالم الخارجيّ رؤية المنطقة وسياساتها عبر موشور طائفيّ؟ اكتشفت القوى الغربيّة التي كانت تاريخياً قد سيطرت على العالم العربيّ أنّ الهويّات البدئيّة المشحونة عاطفياً مثل الطوائف مفيدةٌ للغاية كأدوات لتقسيم ورسم تفاصيل السكّان. وعمدوا إلى تصوير الجماعات بكونها ركائز متوازية وصلبة، وبنوا عليها تصوّراتهم بكونها حقائق تاريخيّة عصيّة على التلاشي. وكانت الحلقة الأخيرة في هذه الرؤية هي التصوّر الأميركيّ للعراق بكونه بلداً من الشيعة، والسنّة، والكرد. وأثبتت عواقب هذه الرؤية كارثيّتها على المواطنين كلّهم. وبعد تصنيمها ومأسستها، لم يكن لدى الجماعات المُهمَّشة خيارٌ سوى الانخراط في رؤيةٍ ثوريّة مضادّة.

كذلك فإنّ تصوُّر العالم العربيّ بكونه محيطاً هائلاً تكون لأسماك القرش اليد الطولى فيه يزيد في تأكيد الاستثنائيّة المزعومة التي يُعتقَد أنّها السمة الأساسيّة للمنطقة، أي، مكاناً تكون فيه المواطَنة والديمقراطيّة ومقارعة الطائفيّة أموراً عصيّةً على التحقّق. ولا يزال كثير من المراقبين في الغرب يفضّلون مثل هذه الكليشيهات الاستشراقيّة القديمة. في كتابه «المجتمع المسلم»، يصرّح الفيلسوف والأنثروبولوجيّ البارز إرنست غلنر بوضوح أنّ المجتمعات المسلمة عصيّةٌ على العلمنة لأنّها تواصل تخندقها في الهويّات الدينيّة والقبليّة، عاجزةً عن تشكيل تجمّعات على أساس مصالح أخرى، كالطبقة، والفكر المشترك، أو مظاهر غير بدئيّة أخرى من هويّتها.

في العالم العربيّ، وفي جميع أرجاء العالم، ستستمرّ الهويّات الدينيّة في احتلال موقع الصدارة، مُرمَّزةً على نحوٍ صريح، ومُغذّاة ثقافيّاً لكنّ الطائفيّة هوّة مظلمة تحفرها عوامل داخليّة وخارجيّة كثيرة. قد يعمد القادة العرب إلى إيقاد التصوّرات الطائفيّة، لكنّ ولاءهم موجَّهٌ في المقام الأول لعُصبتهم وتابعيهم، بصرف النّظر عن انتماءاتهم. وبقَدْرٍ مماثل، تنشغل المجتمعات العربيّة ببؤسها الاقتصاديّ وتهميشها، برغم أنّها تعلّمت مؤخّراً كيفيّة إبراز إقصائها عبر أفعال طائفيّة. الطائفيّة ليست سمةً تاريخيّةً متأصّلة لدى الشعوب العربيّة. وسيواصل المقاولون الطائفيّون ورجال الدين الانتعاش والانتفاع من هذه السرديّة. الطائفيّة، بمعنى آخر، ظاهرةٌ سياسيّة حديثة تتغذّى على يد الدكتاتوريّين الدائمين الذين يعتمد حكمهم على تحريض هذه الهويّات الدينيّة القديمة التي ستصبح مُسيَّسةً على نحوٍ قاتل.

ولا بدّ أن يبتعد تفكيرنا حيال العالم العربيّ والحروب المستعرة ضمن الطوائف وبينها عن الانقسام السنّيّ - الشيعيّ التاريخيّ، ويتركّز على الاستراتيجيّات العميقة الخاصّة بدكتاتوريّات الوليّ - التابع وعلى التفاوت الاقتصاديّ بين الجماعات المتنوّعة وضمنها. وكذلك، فإنّ إعادة النّظر في النموذج الطائفيّ الأبديّ المزعوم للعالم العربي واجبُ قد تأخَّر طويلاً.

العدد ١٧ - ٢٠١٧
السعوديّة و«الربيع العربيّ»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.