العدد ١٧ - ٢٠١٧

حلب

من طريق الحرير إلى البرميل المتفجّر

ما إن يعرف السّامع اليوم أنّك من حلب، حتّى يهزّ رأسه أسىً، أو ربّما يتمتم ببضع كلمات مدغمة تفهم منها الحسرة والتّعاطف والألم. قبل بضع سنوات، كان ردّ فعل السّامع نفسه هو الضّحك، أو أقلّها ابتسامة عريضة، ثمّ الحديث عن القدود الحلبيّة، وتكرار اسم صباح فخري، أو ربّما يمصّ شفتيه وهو يتذكّر الكبّة والمحشي، والمطبخ الحلبيّ الذي «لا يُعلى عليه». أمّا الزّائر نصف المتخصص فلا بدّ أن يذكر لك شيئاً عن الخانات، أو الأسواق. لكنّه سينهي قوله ولابدّ عن منطقة الجديدة وبيت وكيل أو زمريّا أو أجق باش. «ولا تنس أن تعود من حلب بكم لوح صابون غار وكيس زعتر مع سمّاق وليفة حمام أو كيس تفريك».

لكنْ ليس من عبثٍ أن يرتبط اسم المدينة بالموسيقى والغناء، أو بالمطبخ شديد التنوّع والغنى، أو بالعمارة الحجريّة الفريدة. فهذه هي هويّة المدينة التاريخيّة التي عبرت الزّمان إلى يومنا القريب يداً بيد مع صفة المدينة التجاريّة الصّفة التي لازمتها مرّات، إيجابيّاً كحاضرة مدينيّة مستمرّة منذ عصور ما قبل الميلاد، ومرّات سلبيّاً حيث وصفت بالمداهنة والمصلحيّة والمحافظة.

ولاية ضاقت على مدينتها

لكنّ هذا نصف الكلام أو ربّما أقلّ منه بكثير. فحلب التي عَرفت في تاريخها الموغل طعم المملكة الواسعة، ثمّ في تاريخها الأقرب، معنى أن تكون الولاية الثانية في أمبراطوريّة مترامية الأطراف حيث بلغ عدد سكّانها في أواخر العهد العثماني (١٩٠٠) حوالي ٩٠٠ ألف نسمة على مساحة ٨٦ ألف كلم مربّع، كانت على امتداد الفترة العثمانيّة المحطّة الأكبر في أهمّ طريق تجاريّ في ذلك الزّمان: طريق الحرير. حيث تتقاطع فيها الطّرق، فقوافل تتّجه إلى العراق ومنها الى فارس فالهند ثمّ الصين واليابان. وقوافل تتّجه إلى دمشق ومنها إلى الحجاز فاليمن فعُمان، أو إلى مصر وما يليها في أفريقيا، أمّا القوافل القادمة من تلك الأمصار فتعرف بضائعها الطّريق إلى ميناء حلب: إسكندرونة على المتوسط ومنها إلى كريت وجنَوَه والبندقيّة ومرسيليا، وحتّى إلى مانشستر.

«أعرج حلب وصل للهند» أو «كلّ ضيعة لها درب ع حلب» يقول المثل الحلبيّ الشّائع والذي لا يزال لليوم يستخدمه سكّان المدينة وتجّارها للدّلالة على معرفتهم ورغبتهم في كسر الطوق الذي فُرض عليهم في فترات متعدّدة من تاريخ المدينة وقد تسارع وتزايد في الخمسين سنة الماضية.

ورغم أن الولاية حافظت على امتدادها الجغرافيّ حتّى بعد انهيار الرّجل المريض وتقاسم تركته، التي كانت تضمّ سنجق إسكندرون غرباً مدخلَها التاريخيّ إلى المتوسّط، فإنّها اتّسعت شرقاً حيث أعطتها المسوّدة الأولى لاتّفاقيّة سايكس بيكو، الموصلَ قبل أن تسحبها منها الاتّفاقيّة النهائيّة بعد اكتشاف النّفط في الموصل في عام ١٩٢٠. ثمّ تأتي بعد سنوات ثلاث معاهدة لوزان مع أتاتورك لتقطع شريطاً شماليّاً واسعاً يشمل مدن ومناطق مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلّس ومرعش وأورفه وحرّان وديار بكر وماردين ونصّيبين وجزيرة ابن عمر وضمّها إلى تركيا. ثمّ يمعن الانتداب الفرنسيّ في القصّ ويقتطع سنجق إسكندرون الذي أصبح لواءً في عام ١٩٣٩ لصالح تركيّا أيضاً، ويُبعد حلب عن البحر طريقها التاريخيّ إلى أوروبّا. ويُكمل العهد الوحدويّ ١٩٦٠ تمزيق الولاية التاريخيّة ليأخذ منها إدلب وجسر الشغور وأريحا ومعرّة النّعمان ما كان يشكّل الأراضي الزّراعيّة للمدينة.

وهكذا فالولاية التي كانت مساحتها في أوّل القرن العشرين تصل حتى ٩٠ ألف كلم مربّع، تراجعت خلال ستّين عاماً لتصبح حوالي ١٨ ألفاً فقط.

عشيّة الحداثة

يذكر أبراهام ماركوز في كتابه الذي هذا عنوانه، أنّ المدينة كانت مقسّمة في ذلك الوقت إلى ٧٢ محلّة: ٢٢ داخل السور و٥٠ خارجه. وكان فيها ٦٨ خاناً و١٨٧ مقهى و٣ بيمارستانات (مستشفيات) و٦٤ حماماً عامّاً، و٨ مدارس علميّة، وسجنٌ واحدٌ. وقد بلغ عدد سكّانها وقتئذٍ ٢٣٠ ألفاً، منهم ٣٥ ألفاً من المسيحيّين و٢٠٠٠ من اليهود. وينقل عن وثائق المحاكم الشرعيّة لتلك الفترة أنّ حلب «اختصّت بفاخر الصابون يُنقل منها إلى بلاد الرّوم والعراق. ويباع منها في اليوم الواحد ما لا يُباع في غيرها في أشهر. ومن خصائص حلب نفوق ما يُجلب إليها من الحرير والصّوف والقماش العجميّ وأنواع الفراء من السمور والسّنجاب والثّعلب وسائر الوبر والبضائع الهنديّة. فإذا أُحضر إليها مائة حمْل حرير فإنّه يباع في يوم واحد ويُقبض ثمنه، ولو حضر إلى القاهرة عشرة أحمال لانباع (لبيعَ) في شهر، ويدخل حلب السّجّاد والتنباك من العجم، واللؤلؤ والأحجار الكريمة من البحرين، والطِّيب والتّوابل والأفاوية والعقاقير من الهند».

إفطار رمضاني العام ١٥٤٩

وصف لمأدبة رمضانيّة حضرها الملحق التّجاريّ الفرنسيّ في عام ١٥٤٩ وأورَدَها في كتابه «ذكري أتي في بلاد ألف ليلة وليلة» المطبوع في ليون العام ١٦٥٥: «اختارتْني بلادي لأكون ملحقاً تجاريّاً لها في حلب العظيمة. وبعد أن حصلت على الفرمان الشاهاني من إستانبول (إسطنبول) ركبت سفينة شراعيّة إلى جزيرة أرواد فطرابلس، ومنها سلكتُ في البرّ طريقي مع حاشيتي إلى قلعة المضيق، واجتزتُ الطّريق الرومانيّ القديم متّجهاً نحو حلب. وفي حلب استقبلتني الجالية الفرنسيّة وغيرها، ثمّ نزلتُ ضيفاً عند زعيم الجالية الإيطاليّة، إلى أن استأجرت داراً ممتعة أمضيت فيها تسع سنين. وفي السنة الثانية سنة ١٥٤٩ دُعيت في شهر رمضان إلى حفلة عشاء في قصر الحَسْبي بين باب الأحمر والبيّاضة: هذا القصر الفخم الأخّاذ بسحر مباهجه يتوسط صحْنَه حوضٌ مزدانٌ بتماثيلَ تقذفُ المياه من أفواهها على نور فوانيس الشمع، تَذُرُّ مع النّور الوداعةَ والأنسَ، و تَشْمَلُ المدعوين الذين غَصَّ بهم الصحن، أقدّر عددهم بين الثّلاثين والأربعين مدعوّاً من الوجهاء والآغاوات وقوّاد الانكشاريّة والمفتي والقاضي وآغة القلعة، كلّهم كانوا بأحسن زيّ، وكانت العمائم والزنانير العريضة تُشْعِر بمقام هؤلاء المدعوين الذين كانوا كلّهم ملتحين. وجلسنا في قاعة قرب الليوان، أرضها من الفسيفساء ومسجّاة بالسّجّاد العجمي، ورفوف القاعة تزخر بطرائف القيشاني وبدائع تحف الصين... وأقيمت في القاعة مائدة تضمّ نحو العشرين من ألوان الطّعام، بينها الفواكه والكبّة النيّة والنّخاعات والكلاوي وبيض الغنم وضروب السّمك وغيرها وغيرها ممّا لا أعرف اسمه في صحون الفضّة اللمّاعة أو في أواني الصين. ها هو ذا مدفع رمضان يدوّي قربنا من القلعة يؤْذن بالفطور، ويشمّر المدعوون عن سواعدهم، ومضت الأكُفُّ تُلَقِّم أفواهَهَم الشرهة، وإذا سال الدّهن من لقمتهم مسَحوا أكفّهم بلحاهم، ولا يضرّ هذا فالصّابون والماء الفاتر ينتظرانهم. ولفت نظري أنّهم يختلسون منّي النّظرات ويتساررون إلى أن انتهى الأكل. هذا وجوقة المطرب بظاهر القاعة تطرّب ويبعق المغنّي فتردّ عليه الجوقة بمثل بعيقه.

«تفّضلوا إلى القاعة الثانية حيث العشاء» صاح الحسبيُّ مضيفُنا، قلت: أيّ عشاء؟ أما أكلنا وشبعنا، أجابوا: إنّ ما تناولتَه بضع لقيمات مقبّلات أمّا العشاء فهذا. ودخلت فإذا مائدة طولها سبعة أمتار تسبح فيها ضروب الطّعام في غدير السّمن والدّهن: هذا خروف محشوّ وغير محشوّ، وهذه ضروب طعام الدّجاج والطيور، وهنا طناجر المحاشي وصواني الكبب... ويأتي أخيراً دور الحلويات والفطائر والمهلبيّات... التي اتخذت من العسل وغيره وسُجّيت باللوز والجوز والصنوبر والفستق، يفوح منها روح ماء الزهر».

لغات ومفردات

تعدّ قنصليّة البندقية أقدم تمثيل ديبلوماسيّ تجاريّ في المدينة، تعود إلى القرن الثالث عشر إبّان حكم الملك الظاهر غازي، ويلي البنادقةَ الفرنسيّون ثمّ الإنكليز ثمّ الهولنديّون والتوسكانيّون، واللغة الشائعة بينهم هي الايطاليّة - التي عبرَت إلى مفردات الحلبيّين بكثرة وعاشت معهم إلى اليوم كالسكرتون، والسكمبيل والمانيفاتورة والبروفا والدوبيا (بمعنى الحساب المزدوج) والطابّو والطابوية (سدّادة القنّينة وأطلقت أيضاً على نوع من المفرقعات) - والبندورة التي هي تحريف لـ poma d’ora (بحسب الأسدي في موسوعته الشهيرة عن حلب) والتي تعني التفاح الذهبي - أمّا مفردة «بندوق» والتي تعني في الحلبيّة الحاليّة معنى الذّكي والشاطر، وكانت قبلاً تعني ابن الحرام ذا العيون الزّرْق الذي بزعمهم (كما يقول الأسدي أيضاً) زنا بأمّه أحد تجّار البنادقة!

وليست الإيطاليّة التي جاءت عن طريق تجّار البندقيّة وتوسكانيا وجنَوّه هي فقط ما دخلتْ مفردات حلب، فتجّار الأمصار الأخرى جاؤوا أيضاً بمفرداتهم كاليونانيّة (الكرويته karravatos بمعنى المقعد الطويل) والفرنسيّة التي دخلت مفرداتها قبل فترة الانتداب الفرنسي بزمن طويل، كالبَبور (على السفينة البخاريّة) وبراو (بمعنى برافو)، والسّكْلمن (اللون الأحمر)، ولاحقاً مفردات الأزياء كالجبونه والإيشارب والمانطوفه. حتّى السنسكريتيّة وجدت لها موقعاً بين لغة الحلبيّين وخاصّة أسماء الأعشاب والأدوية والتوابل كما هو متوقّع كالجنزبيل كما يلفظه الحلبيّون (وهو الزنجبيل)، والورس (وهو الزعفران). لكنّ قائمة المفردات الفارسيّة والتركيّة لا تعدّ ولا تحصى، من الكرابيج (الفارسيّة بمعنى الصرّة والتي أطلقت على الحلوى المعروفة) إلى الجايدان والأرتي والجنتر حفا وتعتبر اللاحقة التركيّة (جي) التي تضاف إلى الاسم لتعطي معنى صاحب المهنة، من أكثرها شيوعاً حيث إنّ الكثير من العائلات الحلبيّة حاليّاً تحملها كالتتنجي (بائع التتن) والبصمه جي (وهو طابع النسيج) والكعكه جي، والتفنكجي ( وهي رتبة عسكريّة - التفنكه هي البارودة) وغيرها كثير.

أمّا السريانيّة فهي القاعدة الأساس ليس فقط كمفردات وأسماء أمكنة بل ربّما يمكننا أن نزعم أنّها طريقة لفظ واشتقاقات صرفيّة حيث الألف الوسطى في كثير من المفردات الحلبيّة تُلفظ مائلة كما في السريانيّة، فالحلبي يقول عن الجامع جيمع، وعن الثياب تييب أو حوييج بدلاً من حوائج والتي تعني أيضاً الثياب، وباب الجنان أحد أبواب حلب يصبح باب جنين. أو إضافة الباء الساكنة إلى أول الفعل كـ: بْكتب، بْلقش، بشْتغل... وهكذا وهكذا.

ولا أعرف لماذا خطر لي وأنا أكتب عن المفردات السريانيّة ذكْرُ العجور ولا يبرّر هذا التّداعي أنّ العجور هي الاسم السريانيّ لضرب من البطّيخ الصغير الذي يظلّ أخضر لكنْ ما دمنا بهذا الصّدد، فسأذكر القليل عن هذا النّوع من الخضروات الذي لا يأكله الكثيرون خارج حلب. وهو يؤكل نيئاً مع السلَطة، أو مكبوساً، أو مطبوخاً حيث يتّخذون منه العجور المحشي بالرّز أو البرغل أو الفريكة ويسكب فوقه اللبن المِثوّم بارداً. ولشهرته بين الحلبيّة، صار له مثلاً بينهم فيقولون: «قلبي من العجور منجور» (ويقال لمن ثقلَتْ عليه الهموم).

أمّ المحاشي والكبب

وبما أن الشّيء بالشّيء يُذكر، فإنّ محشي العجّور سيجرّنا - ولا بد إلى الحديث عن شهرة حلب بمحاشيها وكببها، والتي نالت بسببهم لقبها الشهير بأنّها (أي حلب) أمّ المحاشي والكبب.

والحلبيّون يحشون كلّ ما تقع عليه أيديهم من الخضروات، فهناك محشي الباذنجان والكوسا والقرع والعجور والجزر الأسود والبطاطا والبندورة والفليفلة الحمراء والخضراء التي يسمّونها فرنجيّة، والكماية والأرضي شوكي والبصل ويلفّون أوراق بعض الخضروات كنوع آخر من المحشي، كالملفوف والسلق واليبرق (وهو محشي ورق العنب الذي يحتوي على الرّزّ واللحم) أمّا ما هو بدون لحم من ورق العنب أي فقط محشي رزّ وخضر فيدعى يالنجي (أي الكذّاب) لكنّ شيخ المحاشي قاطبة هو ما يُحشى باللحم المفروم والصَّنوبر فقط أي دليل الثّراء والمنزلة الرفيعة.

أمّا عن الكبب، فحدّث ولاحرَج. فلكثرة شهرة حلب بكببها يقتنع المرء أنّه من اختراعها. والحقيقة أنّ أطيب الكبب كما يذكر الأسدي في الموسوعة ما يُجهّز في غربي حلب لتوافر أطيب البرغل فيها وهو البرغل العمقي والذي لا يوجد مثيل له في المعمورة. وفي زمن كتابة الموسوعة يعترف الأسدي بأّن بيت الكيخيا ورستم والكيالي وهنانو هم أفضل من صنع الكبب لاتخاذهم من البرغل العمقي ثمّ سخائهم بالسّمْن واللحم والجوز والصّنوبر. ثمّ يعدّد أنواعها حتى تحسب أنّه موسوعة عن الكبب، فيذكر منها ٥٩ نوعاً كالكبّة السّفَرجليّة والسّمّاقيّة والقصابيّة واللبنيّة والعنتبليّة والأورفليّة والمختومة والمسلوقة والزنكليّة والملقوزة والمحبرمة (وأعترف أنّني لم أذقها أبداً وهي تُطبخ بحمض حَبّ الرّمّان!)، والقائمة تطول.

لكنّ الحلبيّين أيضاً مُولعون بالطّعام الحرّيف أو الحدّ كما يسمّونه (الحَر بلهجة لبنان) وربّما هو بسبب تجارتهم القديمة مع الهند حيث تعرّفوا إلى نوعيّة طعامهم، ولعلّ الأكلة الشعبيّة المسمّاة «أبو أمّون» تعكس هذا الولع. وأبو أمّون رقائق تُصنع من طحين البرغل تبسط عليها الفليفلة الحمرا الحَرّة المدقوقة مع الزّيت ودبس البندورة ويُرشّ عليها الكزبرة اليابسة والكمّون بكثرة وتخبز بالتّنّور. وإذا كانت كثرة زيت الزيتون الكردي تسهّل ابتلاع هذه الرقاقة المتفجّرة، فلا شيء يحمي حين خروج بقاياها بعد ساعات قليلة.

في أطعمة حلب (وهي أيضاً في دمشق) مجال لتبادل الغمزات واللمزات بين الطّوائف. فالباذنجان المطبوخ في البرغل يطلق عليه المسلمون في هاتين المدينتين «يهودي مسافر»، فيردّ عليهم يهودها بتعديل بسيط على هذه الأكلة ويطلقون عليها اسم «مسلم هربان». أما «قسّيس مشطّح» فهو الباذنجان بالفرن والمغطّى بالطّرطور والمحشي باللحم ودبس الفليفلة الحلبي.

والمشكّك في مرور طريق الحرير من حلب، عليه ليزول شكه أن يتأمّل في «الدقّة الحلبيّة»، تلك الخلطة السرّيّة بمقادير سبع أنواع من التّوابل كالبهار الحلو والفلفل الأسود وجوزة الطِّيب والقرفة وكبش القرنفل، ثمّ لا بأس في بعض الإضافات كالفلفل الأحمر والزّنجبيل والمحْلب.

ولكي تكتمل الوجبة بالتّحلية هناك الكنافة بنارين والمعجوقة والمدلوقة أو البالوظة والكرابيج أو إن شئت زنود السّتّ والقمر بعبّ الغيم.

الخانات والأسواق

والقارئ الأنثربولوجي المتأمّل في مكوّنات هذه الأنواع وطريقة إعدادها وتقديمها لن ينتابه أيّ شكّ في أنّ المطبخ الحلبيّ هو مطبخ ثقافات متنوّعة لا يفسّرها إلّا موقُع المدينة ودورها التاريخيّان. فالتّجّار القادمون من مسافات بعيدة في آسيا أو آوروبّا يلتقون هنا، ويطول مكوثهم أحياناً أشهراً طويلة تتمّ فيها المبادلات التجاريّة، لكنْ خلالها تتسلّل أنواع الأطعمة المختلفة والمفردات والموسيقى. وتعتبر الخانات الحلبيّة منزلاً للتّجّار القادمين، ومستودعاً لبضائعهم ومأوى لدوابّهم. وأكثر الخانات مبنيّة على شكل مربّع طول ضلعه قد يصل لستّين متراً ويؤلّف من طابقين: غرف الأرضي منه لخزن البضائع والعلوي فندق يشرف على الباحة الداخليّة. ويرغب القناصل بسكنى الخان لأنّهم تجّار أيضاً ولكونه أكثر أماناً ومن خانات حلب: خان البنادقة، وخان الكمرك، وخان الوزير، وخان النّحّاسين، وخان الحرير وخان الصابون وخان الحبال. وإذا كان للبضائع المجلوبة سوق وخان فالسوق لبيع المفرّق والخان لبيع الجملة. وصاحب الخان يُدعى الخانجي. وأمّا القيسريّة فهي بناء دون الخان حجماً وبداخله دكانان ومعامل صغيرة.

وحلب مبنيّة من الحجارة، وحجارتها (الشهباء) كلسيّة سهلة الاقتلاع والنّحت وتدعى بالنحيْتْ يتصلّب مع الزّمن ويتّصف الحجر الحلبيّ بألوانه الثلّاثة الأبيض والأصفر والزّهري، بأنّ صفاته الفيزيائيّة لا تتغيّر مع مرور الزّمن وهو قليل التأثّر بعوامل الطّبيعة المختلفة، وقساوته جيّدة تعطي صوتاً رنّاناً عند النّقر عليها وكثيراً ما يميل الحجّارة عند نحت الحجر إلى الغناء بإيقاعات. من مثل (يا الأسمر اللون… هالأسمراني... دم دم تك).

صمدت أبنية حلب المملوكيّة والعثمانيّة طويلاً، فخلال تلك الفترة التي تصل إلى أكثر من ٦٠٠ عام شهدت حلب أكثر من ٧ زلازل مدمّرة أكبرها الذي حدث في القرن الثامن عشر وأدّى إلى تهديم ٣ مساجد و٢٠٠ بيت. لكنّ البراميل المتفجّرة التي سقطت على المدينة في السّنوات الخمس الماضية هدمت ما لم تفعله عوامل التّاريخ والطّبيعة مجتمعين. فمئذنة الجامع الأمويّ الكبير فريدة التّصميم والتي بُنيتْ في عام ١٠٩٠ ميلاديّة تهدّمت بالكامل في نيسان / أبريل ٢٠١٣ إثر استهدافها بشكل مباشر. وتضرّرت كثيراً من الخانات والحمّامات الأثريّة والدُّور القديمة كبيت زمريّا وبيت وكيل.

عوامل تراجُع حلب

منذ نهاية مشروع دولة حلب الفرنسيّ التي خلّفت ولاية حلب العثمانيّة، حلمت المدينة على الدّوام بإمكانات جعرافيّة أوسع بكثير من حدودها الحاليّة. ولطالما اعتبر الحلبيّون أنّ سورية منطقة داخليّة صغيرة جدّاً لقدراتهم. لقد تكوّنت الشريحة السياسيّة الحاكمة في سورية حتّى الاستقلال في العام ١٩٤٦ من رجال الكتلة الوطنيّة وهم إجمالاً من الأغنياء والمحافظين وهم مَن أدار معارك الاستقلال السياسيّة والبرلمانيّة. انقسمت الكتلة بعيد خروج الفرنسيّين إلى كتلتين هما حزب الشعب، وهو مَن مثّل مصالح المنطقة الشماليّة وفي قلبها طبعاً حلب، والحزب الوطني الذي مثّل دمشق.

وظلّ التّنافس بين الكتلتين حتّى قيام الوحدة مع مصر في العام ١٩٥٨. فقد ظلّ حزب الشعب مسيطراً على الحياة البرلمانيّة منذ الاستقلال وحتى الوحدة، وكان المحرّك للسّياسات الداخليّة والخارجيّة السوريّة، حيث شهدث سورية في تلك الفترة نشاطاً اقتصاديّاً يشبه الغليان، فتحسّن الإنتاج الزراعيّ بشكل هائل، ويُعزى السّبب بشكل غير مباشر إلى تجّار حلب الذين استثمروا في الزّراعة، وأدخلوا الآلة إليها، وحرثت أراضي بكر في السّهول غرب الفرات وشرقه، وفي منطقة الجزيرة. كما سيطرت رؤوس الأموال الحلبيّة على معظم الحركة الصناعيّة الناهضة وأهمّها صناعة النّسيج. لقد ألقى حزب الشعب الحلبيّ ثقله في السّياسة السوريّة، لنقض الحدود الجائرة على المدينة، وإعادة التوحّد مع العراق، وإزالة الحواجز التجاريّة، والحدود السياسيّة التي خنقت سوريّة.

وظلّ نفوذ حلب السياسيّ قائماً حتى موجة التأميم الأولى في عهد الوحدة مع مصر. ويعود تراجع هذا النفوذ إلى صعود سياسة مصر القوميّة بزعامة عبد الناصر، والتّقارب مع السّوفييت والكتلة الشرقيّة، وتراجع تعاطف الشارع السوري مع العراق بعد توقيع حلف بغداد العام ١٩٥٤، وظهور أحزاب الطبقات الوسطى (كحزب البعث) ذات البرنامج الاجتماعيّ التغييريّ الحاملة للمشروع الوحدويّ العربيّ مع مصر، ولأوّل مرّة خلتْ حكومة ١٩٥٦ بعد العدوان الثلاثي، من ممثّلي حزب الشعب، بعد أن اتُهموا فيها بتلقّي أموال عراقيّة، والتخطيط لإقامة انقلاب عسكريّ بتنظيم فرنسيّ إنكليزي يُبعد سورية عن مصر.

تراجع التمثيل الحلبيّ بشدّة في مرحلة الوحدة وما بعدها، وترافق مع التّأميمات الكبرى التي طاولت رساميله وخروج معظمها إلى لبنان وأوروبّا، ولم يتغيّر الأمر عقب الانفصال حيث كان لتدخّل الدولة المركزيّة في القاهرة إبّان الوحدة دور كبير في حسم التّنافس الحلبي الدمشقي لصالح العاصمة. جاءت المرحلة البعثيّة لتكرّس التشوّهات البنيويّة للتطوّر الطبقيّ الطبيعيّ للبرجوازيّة الوطنيّة، التي أحدثتها الوحدة مع مصر. ففي سياق الصّراع داخل أجنحة البعث تمّت تنحية الكتلة الحلبيّة أيضاً (ممثّلة آنذاك بالبعثي الحلبي أمين الحافظ) عن سلطة الشرعيّة الانقلابيّة. واكتمل خروج حلب نهائيّاً من المعادلة السياسيّة في زمن حافظ الأسد بعد اتّهامه لها بمساندة حركة الأخوان المسلمين، واستمرّ هذا الخروج طوال مرحلة الأسد الأب، لتعاد استمالة الطبقة الصناعيّة وما تبقّى من برجوازيّة هرمة وعائلات عريقة في السنّوات الأولى للأسد الابن قبل أن تنقضّ طائرات الميغ والسوخوي وبضعة صواريخ سكود ومئات البراميل المتفجّرة لتحيل تراباً حجارةَ مدينةِ المحاشي والكبب، وتشرخ صوت المنشد الحلبيّ الذي وقف بين حطام منزله يهتف:

فوالله ما مال الفؤادُ لغيركمْ
وإنّي على جور الزمان صبورُ
بعدتمْ ولم ينأى عن القلب حبكمْ
وغبتمْ وأنتم في الفؤاد حضورُ

العدد ١٧ - ٢٠١٧
من طريق الحرير إلى البرميل المتفجّر

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.