استراتيجية الجنرال جياب
المقارنة بين خي سانه و«ديان بيان فو» لا بد منها، لا للتشابه الجغرافي بين المعقلين وحسب، بل للأهمية السياسية التي يعطيها المراقبون للانتصار النهائي فيها الذي سيكون كورقة رابحة على طاولة المفاوضات. سقطت «ديان بيان فو» في أيدي «الفيت منه» إثر حصار دام ٥٦ يوماً، وكلف ٢٢ ألف ضحية من «الفيت منه» ومن الفرنسيين. وكان ذلك في ٨ أيّار ١٩٥٤. ومهندس الانتصار هو الرجل نفسه الذي يهندس انتصاراً مماثلاً في خي سانه بعد ١٤ سنة: الجنرال «جياب». وكانت استراتيجية «جياب» واضحة: هجوم مركّز من الشمال عبر الأرض المجرّدة، مع هجوم من الجنوب والجنوب الشرقي عبر لاوس. أمّا التكتيك، فكان هو نفسه المتَّبع في ديان بيان فو، مع تعديلات طفيفة تحسب فارق الزمن، كاستعمال الفيتناميين الشماليين الدبابات للمرّة الأولى في الهجوم الذي وقع على الخطوط الدفاعيّة الأولى. وفي «ديان بيان فو» حفر «جياب» نفقاً ضخماً في جبل ليجعل منه مركزاً غير مرئي للمدفعية. أمّا مراكز المدفعية الأميركية الثقيلة، فكانت إلى الشرق من خي سانه في قواعد مشاة البحرية في «روكبيل» و«كامب كارول».
الخطوة التالية للقصف بالمدفعية، كانت المشاة. فمن المفترض أن يبقى جيش «جياب» البالغ نحو ٤٠ ألف جندي وراء الهضاب ليهجم في الليل أو تحت ستار الضباب الجاف الذي يستمر منتشراً على تلك المنطقة حتى الظهر في هذا الوقت من السنة. في «ديان بيان فو»، لم يزد عدد الفرنسيين، في أي وقت، على ١٣ ألف جندي مقابل ٤٥ ألفاً من «الفيت منه» مع ٥٥ ألف مقاتل مساند. وكان للأميركيين نحو ستة آلاف جندي مقابل ٤٠ ألفاً لـ«جياب»، لكن مع ٤٠ ألف أميركي في الاحتياط، على بعد ٤٥ دقيقة طيراناً، في معسكر «فو باي».
والطيران هو مفتاح خي سانه، وهو أيضاً العامل الحاسم في أي انتصار، كما كان في «ديان بيان فو». وللطائرات الأميركيّة ثلاث مهمّات: الأولى، إمداد خي سانه بالمؤن والعتاد. الثانية، قصف مدفعيّة «جياب» وإسكاتها. الثالثة، قطع طرق التموين عن جنوده. وكان بوسع القوّة الجويّة أن تنقذ «ديان بيان فو»، لكنّ الطيران الفرنسي فشل في إسكات ١٤٤ مدفعاً ثقيلاً لـ«لفيت منه»، كذلك فشل في قطع طرق التموين التي كانت عبارة عن عشرات الدرّاجات القادمة من الصين، واستطاعت أن تحمل آلاف الأطنان من الأغذية إلى المقاتلين الفيتناميّين، وقد كان في خي سانه مدرج وحيد. وفيما يشبه معركة «ديان بيان فو»، استطاعت مدافع «جياب» أن تسقط ٤٨ طائرة للفرنسيّين وتدمّر ١٤ على الأرض وتعطّل ١٦٧.
لكنّ المقارنة التاريخيّة قد تقف هنا لتفصل بين حلم الجنرال «جياب» وهاجس وستمورلند. فالفارق بين وضع الفرنسيّين والأميركيّين كبير. ذلك أن للأميركيّين أسطولاً جويّاً لم يحلم به أي جنرال فرنسي، ومواقعهم أكثر تحصيناً، وأسلحتهم أحدث وأوفر وأفضل من السلاح الفرنسي الذي كان يستعمل إذ ذاك. كذلك فإنّ الجنديّ الأميركيّ، مهما جاءت نتيجة الحرب، قد فرض احترامه على الفيتناميّين كما لم يستطع الجندي الفرنسي. إنّما التاريخ قد يعيد نفسه، لو أخطأت الحسابات الصغيرة، ووقفت الطبيعة والطقس، وهما عامل أساسيّ في الحرب يمكنه أن يعرقل خطّ التموين الجوّيّ، إلى جانب الفيتناميّين لا إلى جانب الأميركيّين. وحتّى لو تحقّق الانتصار العسكريّ للشماليّين في خي سانه لكانت الهزيمة السياسيّة للأميركيّين، كذلك هزيمة الشماليّين عسكريّاً ما كانت لتفيد الأميركيّين ولا أن تكون انتصاراً سياسيّاً لهم.
وفي مصير خي سانه الذي يعتمد على الطيران وجهٌ من السّخرية هو: عندما كانت «ديان بيان فو» تموت، فكّر الرئيس أيزنهاور بإرسال الطيران الأميركيّ لمساعدة الفرنسيّين. واجتمع لهذه الغاية في ٣ نيسان / أبريل ١٩٥٤ إلى ثمانية شيوخ. إلّا أنّ شيخاً ظلّ يعارض التدخّل الأميركيّ في فيتنام، ويدعو إلى عدم زجّ الطائرات الأميركيّة في معركة خاسرة مع الفرنسيّين، وكان اسمه ليندون ب. جونسون.
ليس من حلّ وسط
واليوم، تقف الولايات المتّحدة وجهاً لوجه أمام عدوّ فيتناميّ من جهة، ومع حليف فيتنامي من جهة. العدوّ الفيتناميّ هو، عسكرياًّ، الفيتكونغ في الجنوب والقوّات النّظاميّة لفيتنام الشماليّة، وسياسيّاً جبهة التحرير الوطني، الذراع السياسية للفيتكونغ في الجنوب، والنظام الشيوعي الذي يرأسه هو شي منه في الشمال. وبعد الهجوم الصاعق الذي شنّه الفيتكونغ طول أسابيع ثلاثة، في أكثر المدن «أماناً» في فيتنام الجنوبيّة، من سايغون إلى دالات حتّى هيوي، ناسفاً البدهيّات التي كانت تقوم عليها الاستراتيجيّة الأميركية، ها هو يتصلّب موقف الفيتكونغ عند المواقع الآتية:
أوّلاً، لا حلّ وسطاً للحرب الفيتناميّة. فالنّضال «حتّى النهاية» الانتصار أو الموت.
ثانياً، الشرط الوحيد لإنهاء الحرب هو الهزيمة الحتميّة للولايات المتّحدة وحليفتها فيتنام الجنوبيّة.
ثالثاً، مشاكل فيتنام الجنوبيّة تُحلّ في محادثات بين الأميركيّين وجبهة التحرير، وليس بين واشنطن وهانوي. وكما قال أحد زعماء الفيتكونغ: «في الوقت الذي يوقف فيه الأميركيّون قصف فيتنام الشماليّة يستطيعون التحدّث مع هانوي. أمّا إذا أرادوا المفاوضة مع فيتنام الجنوبيّة، فعليهم أن يتحدّثوا مع جبهة التحرير».
رابعاً، إنّ وجود قوّات فيتناميّة شماليّة في الجنوب هو واجب ملقىً على عاتق الشّمال لمساعدة إخوانه في الجنوب. ولا انسحاب قبل التحرير الشامل. إنّ الواجب الطبيعي لـ٣١ مليون فيتناميّ يؤلّفون أمّة واحدة أن يحاربوا معاً. فالأميركيّون يعتقدون أنّ القوّات الشماليّة قوات غازية، وينسون أن فيتنام أمّة وشعب واحد.
خامساً: شرط المحادثات الوحيد بين الفيتكونغ والأميركيّين هو الاعتراف بجبهة التحرير الممثّلة الوحيدة لشعب فيتنام الجنوبيّة، أي التخلّي نهائيّاً عن الحكومة الحاليّة ورجالاتها في سايغون.
وتبقى الاستراتيجيّة الأميركيّة في فيتنام موضع «شكّ كبير»، على حدِّ تعبير خبير دفاعيّ بريطانيّ، وخصوصاً عقب تبرير هجوم الفيتكونغ الأخير على المدن الجنوبيّة، بأنّه عمليّة «يائسة». فما زال الأميركيّون يُصرّون على تعليم العدوّ «ما يجب» أن يفعله، لا «ما يريد» أن يقوم به. غير أنّ هذا «الشكّ الكبير» لا بدّ له من أن يولِّد نوعين من ردود الفعل: الأوّل يتعلّق بالفيتناميّين، والثاني بالأميركيّين. فبعض هؤلاء في سايغون من الذين يحافظون على إدراكهم الصحيح، يأملون أن يكون هجوم الفيتكونغ الأخير قد أدّى إلى نتيجة إيجابيّة، هي أنّ على الفيتناميّين أن يختاروا الآن وفوراً إلى أيّ جانب يريدون أن ينضمّوا وينتموا. إذ إنّ الأيّام الأخيرة أظهرت أنّ الأميركيّين والشيوعيّين هم الطرفان اللذان يحاربان باقتناع والتزام دفاعاً عن مبدأين مختلفين لشعب تعب من الحروب على مدى ٢١ سنة كاملة منها، فلجأ إلى عدم الاكتراث ليحمي نفسه من ويلاتها.
لكنّ الإدراك الثاني يقع على عاتق الأميركيّين، وهو أنّ الهدف المباشر للهجوم الشيوعيّ الكبير الذي وقع عليهم في فيتنام، من السفارة الأميركيّة في سايغون جنوباً حتّى الجامعة الإمبراطوريّة في هيوي شمالاً، لم يكن الاستيلاء على المدن، أو احتلال السفارة الأميركيّة. كما لم يكن إثارة معارك جانبيّة، إذ إنّ هذه المعارك نشبت منذ أشهر في «لوك نيه» و«داك تو» و«لانغ في» على مقربة من «خي سانه». كما لم يكن هو معركة خي سانه نفسها. إنّ الهدف الأساسيّ من الهجوم الصاعق ذاك، كان تدمير الجهد الحربي للأميركيّين والفيتناميّين الجنوبيّين، ووقف «التمشيط والإبادة»، وبالتالي عمليّات «السيطرة السلميّة» على المناطق الجنوبيّة التي جرى «تطهيرها» من الفيتكونغ، ثمّ جعل الحكومة الجنوبيّة تنهار. ونجح الفيتكونغ في إلهاء الأميركيّين وحلفائهم عن إمكان قيامهم بكلّ ذلك، بواسطة تضخيمهم إمكان غزو تقليديّ للجنوب عبر المنطقة المجرّدة في الشمال أو حدود لاوس وكمبوديا، وبالتالي تركيز القوى الأميركيّة على هذه المناطق تركيزاً يمنع معه وجودها على نحو كافٍ في المدن.
والجنرال جياب يعرف، حتّى لو تجاهل القادة الأميركيّون، أنّ هذه الحرب يجب ربحها في عقول الفيتناميّين الجنوبيّين وقلوبهم، أكثر من ربحها في الغابات الكثيفة والجبال النائية. لذلك، قد تبدو خي سانه عمليّة إلهاء ضخمة، أكثر منها معركة حربيّة يترتب عليها تحديد مصير الحرب الفيتناميّة كلّها. أمّا واشنطن فتواجه أكبر تحدٍّ عسكريّ للقوّات الأميركيّة منذ الحرب العالميّة الثانية. فأمام الجنرال جياب اختياران: الأوّل، أن يستمرّ في التهديد بالهجوم على خي سانه بواسطة معارك صغيرة جانبيّة، مجمّداً الجزء الأفضل من القوّات الأميركيّة، والثاني الهجوم عليها عند حدوث ظروف مناسبة له واحتلالها بالقصف المتواصل بالمدفعيّة والصواريخ، وإغراقها بعشرات الآلاف من المحاربين الذين يملكهم، وعنده معين منهم لا ينضب، وخلق مواجهة بشريّة، ترخص الحياة فيها وتفقد الرصاصة فاعليّتها.
إنّ الأهداف العسكريّة الأساسيّة للفيتكونغ لم تكن الانتصار التقليديّ الآنيّ في معركة حربيّة بقدر ما كانت الانتصار السياسيّ والنفسي. ما أرادوه: إظهار هزيمة أمام «الرّأي العام الأميركيّ» داخل الولايات المتّحدة، وضعف الإرادة الفيتناميّة أمام الاندحارات العسكريّة المتواصلة داخل البلاد، لكنْ فشل الأميركيّون في خلق استراتيجيّة ناجحة مناوئة، وفشل الفيتناميّون الجنوبيّون في بناء دولة، بمساعدة الأميركيّين، مستقرّة وديموقراطيّة وحرّة تكون بديلاً يختاره الجنوبيّون من الشمال الشيوعي.
كلّ عشر سنوات
إذا عدنا إلى هيوي (تدخل سخرية الأقدار في التاريخ الفيتنامي) نرى أنّ المعارك بين الفيتكونغ والأميركيّين والفيتناميّين الجنوبيّين كانت لا تزال تدور فيها، ونرى السخرية تمتدّ إلى مقارنة مهمّة، هي أنّ هيوي «صِمّام الاضطرابات» في كلّ فيتنام. فمن هيوي اندلعت الاضطرابات التي أحاطت بحكم دييم، ثمّ بحكم الجنرال خانه، ثمّ برئيس الدولة فان خان سوك. ومن هيوي اندلعت حملة البوذيّين واستمرّت سنة ونيفاً ضدّ حكم الجنرال كاو كي عام ١٩٦٦. وفيها حدثت عمليّات الحرق الانتحاريّة التي قام بها الرّهبان والرّاهبات البوذيّون بحقّ أنفسهم. وهيوي معقل البوذيّين، والعاصمة الإمبراطوّرية القديمة التي انطلقت منها شرارات التمرّد كلّها في تاريخ فيتنام السياسيّ. وتمثال بوذا الشهير في المعبد الكبير يقف فوق «نهر العطر» مطلاًّ على «ممرّ الغيوم» كعلامة فارقة لهذه المدينة «الهادئة» هدوء قبور الملوك الفخمة المنتشرة على مداخلها. أمّا جامعتها الكبيرة وقصرها الإمبراطوريّ الفخم الذي بني عام ١٨٠٤، فهما مَعْلَمان على وشك الاندثار. فهيوي التي لم تعرف شوارعُها الضيّقة «التاكسيّات»، ولم تعرف أحياؤها الفنادق، والتي تَحوّل أحد بيوتها القديمة إلى فندق بحكم الظروف، فُضَّت بكارتها بالدبّابات والرّصاص والهليكوبتر. وكما قال لي زميلي الصحافي القديم: «إنّ ما يبدو عادة في هيوي يكون كالوباء، يجتاح كلّ شيء».
ويذكّرني زميلي الصحافي القديم، بأنّ فيتنام مأساة تتجدّد كلّ عشر سنوات، كما تقول أسطورة بوذيّة قديمة، وبأنّ السّنوات العشر الحاليّة قد قاربت النهاية. وهي مثل التنّين واسم فيتنام يعني «التنّين الصغير» يقدح شراراً ويبتلع ناراً، ثمّ يهمد كالبركان وقتاً طويلاً قبل أن يعود فيثور. إنّها تنّين يكاد يختنق من الاستفزاز، ويحترق ويحرق كلّ شيء. ولا شكّ في أنّ الأسطورة البوذيّة صحيحة، لأنّ التنّين الصغير قد كبر.
في قلب المعارك
تحتّم عليّ أيضاً أن أزور بعض المناطق الواقعة بين طرفي فيتنام الشمالي والجنوبي، أي خطوط التّمَاس. دانانغ، مركز قيادة القطاع العسكري الأوّل في فيتنام الجنوبيّة، وكبرى مدن الشمال الساحليّة آنذاك، كانت منبع الاضطرابات السياسيّة التي عصفت بحكومة فيتنام الجنوبيّة. لكنّ الوصول إليها كان مستحيلاً برّاً. أقلّتني طائرة شحن عسكريّة من مطار «تان سان نوث» في سايغون وكانت أولى منازلاتي مع الخوف الحقيقيّ. كان معي سبعة صحافيّين آخرين، غير أنّني كنت الوحيد بينهم الذي يركب طائرة عسكريّة لأوّل مرّة. وعلى ما يبدو، فإنّ قائد الطائرة لاحظ فيّ شيئاً من الخوف أو الارتباك، لكنّه بدلاً من أن يحاول طمأنتي، نظر إليّ فيما كانت الطائرة الضخمة تستعدّ للإقلاع وألقى بين ذراعيّ مظلّة هبوط، قائلاً: «لن أعلّمك كيفيّة استعمال هذه المظلّة، لأنّه إذا سقطت هذه الطائرة، فلن يكون لديك الوقت الكافي لكي تستعملها. بل إنّك لن تتذكّر حتّى طريقة استعمالها. لكنّ التّعليمات تقول إنّني يجب أن أعطيك مظلّة». بينما كانت ملامح زملائي الصحافيّين تخلو من أيّ انفعال أو خوف.
لم يكن مرَحّباً بالصحافيّين في دانانغ. أتذكّر أنّنا كنّا نتجوّل بين السكّان ونرى العداء في عيونهم. كيف لا، ونحن أفراد بعثة أميركيّة؟ كانت المدينة الجميلة ذات الطّابع الفرنسيّ النّافر في حالة غليان. يخيّم عليها شبح الحرب الأهليّة. فهي في السابق كانت موالية لحكومة فيتنام الجنوبيّة ضد الشيوعيّين الذين في الشمال. أمّا الآن، فقد انقسمت القوّات النظاميّة فيها بين مؤيّد ومعارض. وبدأت وحدات صغيرة تنسحب من مطارها تدريجاً لتذهب إلى حفر الخنادق وإقامة المتاريس على مفارق الطرُق. وخضعت المدينة لحظر تجوال ولم يشفع لنا خلعُنا الزيّ الصحافيّ العسكريّ، وارتداؤنا ملابس مدنيّة لننال ودّ السكان، أو نتمكّن حتّى من طرح سؤال عليهم. ذهبتُ بسيّارة جيب مستأجَرة، برفقة صحافيّ يابانيّ كان مزوّداً بمعدّات إلكترونيّة لم يسبق لي أن رأيت مثلها من قبل. قابلتُ المحافظ الذي بدا متوتّراً. إنّهم يريدون أن تستقيل الحكومة. وبعد هدوء قصير ليوم أو يومين، عادت التظاهرات رافعة العداء للولايات المتّحدة الأميركيّة، واعتدى المتظاهرون على الصحافيّين. كان ممكناً لأيّ منّا أن يُقتل. رغم ذلك، اضطررت بعدها إلى البقاء أربعة أيّام في المركز الصحافيّ في دانانغ الذي هو مخيّم عسكريّ أميركيّ، ريثما تهدأ الأمور ويصبح بإمكاني الرحيل.
إلّا أنّ طريق العودة إلى سايغون جوّاً كانت مستحيلة. فمطار سايغون كان قد أصبح مغلقاً. لقد اندلع القتال أخيراً. اشتعلت فيه النيران وبات الطيران المدنيّ فوقه معطّلاً. لكنْ كان علينا مغادرة دانانغ. فالتّظاهرات هنا اجتاحت كلّ شيء، ولم يعد آمناً بقائي في المدينة. نقلتني طائرة الشحن العسكريّة من دانانغ إلى بلدة بليكو. وبليكو مركز قيادة القطاع الثّاني في فيتنام الجنوبيّة، وهي أقرب إلى سايغون أيضاً. لكنّ القطاع الثّاني أكبر مراكز تجمّع الـ«فيتكونغ» وأخطرها. فهو يتضمّن المنطقة الجبليّة الوحيدة في فيتنام الجنوبيّة، وهي ملعب يجيد الشيوعيّون التحرّك فيه. كان للأميركيّين قوّة عسكريّة كبيرة أيضاً، وهي عبارة عن لواء ضخم. وعرفت أنّ ما يحدث حول بلدة بليكو، التي هي عبارة عن شارع طويل على جانبيه دكاكين صغيرة وبارات، وتشرف عليها قرى بدائيّة لقبائل الـ«مونتانيار»، كان عمليّة «تنظيف» أميركيّة دؤوبة. الفرنسيّون قاموا بعمليّة كهذه، وانتهى بهم الأمر قتلى وأسرى بالآلاف.
الـ«فيتكونغ» يحفظون الجبال جيّداً، وهم ينقضّون كالنّمور ثمّ يذوبون في الغابة. وكانوا لا يتوانون عن قتل كلّ مَن يرافق الأميركيّين. كانت حرباً خرافيّة، وقرّرت أن أعاين المعركة بأمّ العين. انطلقت من بليكو مع سلاح الفرسان الأميركيّ ضمن «عمليّة لنكولن» الوقائيّة. وصلنا إلى حدود كمبوديا، حيث قضيت أربعة أيّام في الهضاب المكسوّة بالغابات التي أحاطت بنا من كلّ حدب وصوب. صعدتُ مع فرقة في طائرة هليكوبتر من طراز UH-1 Iroquois المفتوحة من الجانبين. قال لي القائد: «حاول أن تُبقي رأسك منخفضاً، فأنت لا تعرف من أين تأتيك الرّصاصة». لا أتذكّر أنّني شعرت بالخوف في حياتي كما شعرت في ذلك الوقت. ألْقت الهليكوبتر القنابل، وكانت المنطقة تشتعل تحتنا والرّصاص يدوّي. كان هدف «عمليّة لنكولن» ردع كتائب الـ«فيتكونغ» القادمة من كمبوديا القريبة. حلّقنا فوق وادي أياددانغ المسمّى «وادي الموت» العابق برائحة الجثث الأميركيّة وبقاياها بعد حرب نوفمبر / تشرين الثاني ١٩٦٥ التي خاضوها هناك وتكبّدوا خسائر فادحة فيها. صحيح أنّ «عمليّة لنكولن» لم تكن ضخمة نسبيّاً، إلّا أنّ مشاركتي فيها، وإنْ شاهداً، خلَّفت فيّ شعوراً بالإرهاق. لم يرغمني الأميركيّون طبعاً على الصعود إلى الهليكوبتر، والأرجح أنّهم لم يكونوا بحاجة إلى راكب مذعور بطريقة ما ليرافقهم في عمليّة عسكريّة تتطلّب تركيزاً عالياً. لكنّني قلت بما أنّ لا شيء أمامي لأفعله وسط هذه الغابات، فلن أبقى جالساً هكذا بانتظار هجوم مفاجئ يشنّه الـ«فيتكونغ».
دالات وانتفاضة الطلّاب
لكنّ العمليّة انتهت ولم تكن الطريق إلى سايغون قد فتحت بعد، فانتقلتُ جوّاً من بلدة بليكو إلى دالات. ودالات كانت مدينة أصيلة في أواسط فيتنام. في ذلك الوقت، كانت الحرب قد أضحت نشاطاً روتينيّاً خالياً من الإثارة بالنسبة إليّ. كانت تحكم دالات امرأة اسمها «مدام نغوين هو»، وهي المرأة الوحيدة التي تتولّى منصباً حكوميّاً عامّاً في فيتنام. غير أنّ آمر الكلّية الحربيّة في المدينة كان قد عزل المرأة، ليتولّى الطلّاب مقاليد السلطة فيها. تسلّم الطلّاب محطّة الإذاعة، فحوّلوها من منبر لمساندة حكومة فيتنام الجنوبيّة إلى ميدان متواصل لمواهب الطلّاب السياسيّة والشعريّة والنثريّة، وحتّى الغنائيّة أيضاً.
غير أنّ الأمر لم يرقْ الجنرال كاو كي رئيس الوزراء، فأمر من بقي من قوّات الجيش الموالية له باقتحام مبنى الإذاعة وإخراج الطلّاب. كانت الإذاعة تقع في الطبقة الأخيرة من أحد الفنادق، ولم يفكّر الطلّاب في أيّ شيء سوى إحراق المبنى بأكمله. كنتُ واقفاً على الرصيف المقابل أشاهد كلّ هذا. اندلعت النيران في كلّ المبنى، فيما وقف رجال الشرطة والإطفاء دون أن يحرّكوا ساكناً، إذ ليست لديهم أوامر بالتدخّل وإطفاء النّار. في المساء، وقف ثلاثة عشر طالباً منكّسي الرؤوس فوق منصّة، وأخذوا يعتذرون لرفاقهم على إحراق مبنى الإذاعة، ويطلبون منهم الغفران. بعد ذلك، نزلوا عن المنصّة وسارت تظاهرة رفعتْ شعاراً من أخطر ما يمكن أن يكون في ذلك الوقت: «نريد السلام لا الحرب». إنّه تلويح بفكرة هدنة مع الـ«فيتكونغ» وإنهاء القتال. كان في التّظاهرة المئات من الأطفال والأولاد، وبعضهم حمل لافتات تقول: «نريد أرزّاً وحليباً».
نيسان / أبريل ١٩٦٦. أمكنني العودة إلى سايغون بعد أن توقّف القتال واستعادت المدينة هدوءها. لكنّ مهمّتي الصحافيّة كانت قد أوشكت الآن على نهايتها. لقد أمضيتُ قرابة شهرين في فيتنام، وبعد أيّام ينبغي أن أغادر سايغون إلى هونغ كونغ. غير أنّ عليّ أن أجري مقابلة أخيرة. هذه المرّة ليست مع أيّ زعيم سياسيّ، بل مع «تشوتو»، رئيس تحرير جريدة «سونغ» واسعة الانتشار والمناهِضة للمدّ الشيوعيّ. إنّه اللقاء الذي بقيت أهجس فيه وأنا خارج سايغون. وقد قرّرت أن ألتقي الرّجُل بعد أن هاجم متظاهرون بوذيّون مكاتب الجريدة المتواضعة وحطّموها قبل شهر. وكان ذلك أوّل حادث أشهده خلال إقامتي في فيتنام.
كان «تشوتو» رجلاً ليبراليّاً وطنيّاً، معادياً للشيوعيّة والأميركيّين وأتباع بوذا في آن واحد. كان ببساطة حرّاً. مكاتب جريدته تقع في مبنى متواضع. كان عليَّ أن أصعد درجاً قديماً طويلاً حتى أصل إلى مكتبه ولفتني أنّ «تشوتو»، رغم عمره الذي يزيد على الخمسين بقليل، إلّا أّن مظهره لم يكن يوحي بأيّ سنّ. تحدّث إليّ بإنكليزيّة بطيئة وبدائيّة، وكان يريد أن يتحسّس معنى كلّ كلمة قبل أن يلفظها.
قال لي: «إذا كنت ضدّ الشيوعيّة فأنت عميلٌ للأميركيّين، وإذا كنت من دعاة الحياد فأنت طابور خامس، وإذا كنت من الدّاعين إلى إنهاء الحرب فأنت جبان انهزاميّ، وإذا كنت ضدّ الإدارة العسكريّة فأنت مع الـ«فيتكونغ»، وإذا كنت مع البوذيّين فأنت ضدّ الكاثوليك، وإذا كنت ضدّ الكاثوليك فأنت مع الشيوعيّين وهكذا!». كان يتكلم بهدوء ووقار لافتَين. وابتسمتُ. لقد ذكّرني كلامه بما كان يحدث في العالم العربيّ من صراعات سياسيّة وأيديولوجيّة. وفي نهاية المقابلة قال: «هل نتناول العشاء معاً؟»، «نعم، ولكن أين؟» سألتُ. فقال: «أعرف مطعماً صينيّاً صغيراً في تشولون (المدينة الصينيّة في سايغون)، لا يرتاده إلّا المحاربون من أجل قضايا خاسرة. وأنا - وأرجو ألّا تكون أنتَ كذلك - صاحب قضيّة خاسرة». بعد العشاء أوصلني إلى الفندق، ثمّ مضى إلى منزله. لكنّ عشاءه معي كان العشاء الأخير في حياته. ففي التاسعة من صباح اليوم التّالي سيطلق شابٌّ النّار على «تشوتو» أمام باب منزله وهو في طريقه إلى الجريدة. فرَّ القاتل مستقلاًّ سيّارة يقودها زميل له. أمّا «تشوتو»، فأدخل إلى المستشفى الحكوميّ في تشولون. كانت حالته حرجة، لكنّني لم أقَوَ على رؤيته يُحتَضَر. إلّا أّنه لم يفارق الحياة إلّا بعد مغادرتي سايغون بأربع وعشرين ساعة. قرأت ذلك في جريدة تُعنى بأخبار فيتنام، في هونغ كونغ. كان موته آخر خبر في الجريدة. أتذكّر كلماته لي خلال المقابلة: «حامل القلم الذي ليس وراءه حزب أو دولة أو حتّى عصابة، هو ثائر وحيد يا صديقي».
لم يكن «تشوتو» أوّل صحافيّ أو كاتب يُغتال. العديد من حمَلة القلم لقوا المصير نفسه خلال حرب فيتنام. لكنْ يبقى أنّ مأساة البعض قُدِّر لها أن تطول لعقود من الزمن.
عندما نزلت في فندق «إمباسي»، كان معي حشد من الصحافيّين أتوا من كبريات الصّحف حول العالم. كان من بينهم بعض الأسماء العملاقة بالنسبة إليّ. قرابة أربعمئة صحافيّ توزَّعوا بين تِراس فندق «كونتيننتال» وبار فندق «كارافيل» حديث الطّراز في ذلك الوقت. غير أنّ أحداً منهم لم يكن قد سمع بعد بجريدة «الحياة». أتذكّر أنّ صحافيّاً واحداً أصبحت أنا وهو مقرّبين من بين الكلّ. كان اسمه شون فلين. شابّ طويل، نحيل وفي غاية الوسامة. نشيط وجريء. كان ابن الممثّلين الشهيرَين إيرول فلين وليلي داميتا، وهو نفسه عمل فترة في التمثيل. إلّا أنّ الصورة الفوتوغرافيّة استهوتْه أكثر، فجاء إلى فيتنام ليعمل مراسلاً لـ«التايم» الأسبوعيّة بنيويورك. أصبحنا صديقين خلال فترة إقامتي في سايغون، وعاملني بشيء من العطف. لكنّي لم أحظَ بفرصة لقائه عندما رجعت إلى سايغون من «دالات». بعد عودتي إلى بيروت، علمتُ أنّه فُقد في فيتنام. ولم يُعثر له على أثر. ذهب ليلتقط صورة سرّاً لحاجزٍ أقامه أفراد من الـ«فيتكونغ» قرب حقول الأرزّ الكمبوديّة، فألقي القبض عليه. كان على متن درّاجة ناريّة، إلّا أنّهم لم يعثروا عليها هي الأخرى. استمرّت بعثات التفتيش عنه حتّى عام ٢٠١٠. لكنّ الولايات المتّحدة أعلنت في عام ١٩٨٤ وفاته رسميّاً بعد الفشل في العثور على بقاياه في أيٍّ من المقابر الجماعيّة المعروفة. أذكر أنّه قال لي: «إذا أردت أن تفهم فيتنام، فإمّا أن تبقى عشرة أيّام أو عشر سنوات، وإلّا فلن تحلّ الكلمات المتقاطعة الكبيرة التي ستواجهها». شون فلين بقي من الكلمات التي لم يحلّ لغزها حتّى هذه اللحظة.
لقد ملأتْني فيتنام بالأسى، الغضب والخوف. فقدتُ أناساً عرفتُهم، وإن لفترة وجيزة. شممت رائحة الموت من حولي. رائحة كانت تتوارى بعض الوقت، ثمّ تظهر من جديد. كانت مشاهد الخراب تعبث بذاكرتي. تحاول ملئها إلى الآخر. إلّا أنّ شيئاً من هذا لم يهزّ السحر الذي خلّفتْه سايغون فيّ. لقد بقي شيء منّي بحوزتها، تركة ربّما أو تذكار. كنت أظنّ أنّني سأذهب فأنجز المهمّة التي كلّفتني بها «الحياة» ثمّ أعود، محايداً وبعيداً عن أيّ أثر آسيويّ. إلّا أنّني كنت مخطئاً. بعد عودتي إلى بيروت، اكتشفتُ أنّني مفتون بمزيج سايغون الأخّاذ بين أصالتها الشرقيّة ذات الأثر الصينيّ وبين مناخها الفرنسيّ. كما يحدث حين تترك شيئاً منك في مكان ما لينحسر، وعندما تريد العودة لاسترداده، فإنّك لا تستطيع. مع ذلك، تظلّ تشعر بهذا السحر عن بُعد. وأنا لم أكفّ يوماً عن التفكير في أنّ عليّ زيارتها من جديد.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.