تبدأ «بدايات» من هذا العدد بنشر فصول من مذكّرات الرفيق جورج البطل (١٩٣٠ - ٢٠١٦)، المناضل والقائد في الحزب الشيوعي اللبناني. والمذكّرات تسجيل لسلسلة من الحوارات أجراها فواز طرابلسي مع الراحل خلال السنوات الأخيرة من حياته سوف تُنشر كاملة في كتاب يصدر قريباً.
ولدتُ في بلدة مشغرة خلال منتصف ليلة ١٥ - ١٦ نيسان / أبريل عام ١٩٣٠، لكنّي اعتمدتُ تاريخ ١٥ نيسان. لا أريد أن أقول كما قال أحمد فارس شدياق، لكنّها فعلاً كانت ليلة نحْس لأنّي ولدتُ في ليلة نحس على أهل مشغرة، وهي ليلة آخر غزوة جراد على لبنان. وعندما أرادوا إيقاظ أخي عزيز، الأكبر مني بحوالي ١٥ عاماً، ليلاً ليخبروه بأنّه أصبح لديه أخٌ، لم يتمكّن من الاستيقاظ بسبب عمله طول النهار بجمع بذور الجراد. كان حينها يُجمَع البذر ويُحرَق.
الدبّاغة وقانون العمل
ولدتُ في عائلةٍ ميسورة. امتلك والدي دبّاغة جعلت أوضاعه المادّية جيّدة. أذكر أنّ وضعنا كان مريحاً لكن معقّد، بمعنى أنّنا سكنّا في أعالي البلدة داخل حيّ آل طرابلسي. في الحي مرابون من آل طرابلسي. طفلاً صغيراً، رأيتُ التناقض بين الحياة الّتي عشتها وبين حياة الفقراء. بقي هذا في ذاكرتي وبقي معي وساهم في تكويني الفكري. انتشر البؤس الحقيقيّ وانتشر الموت. كنت أرى جنازات الأولاد الذين يموتون من أمراضٍ كالتّيفوئيد والجدري المنتشرة في تلك الفترة. أعتقد أنّ هذه المشاهد والشّعور بالفرق بقيتْ في ذاكرتي وساهمت في تكويني المستقبلي.
نحن كنّا أربابَ عمل، لذلك بقي والدي على الدّوام مرتدياً ربطة عنق، بينما بقي العاملون المعتَرون منغمسين بالدبّاغات. عايشتُ عدّة عناصر طريفة، منها التّمايز الطّبقي الّذي لم أعايشه من موقع المضطهَد بل من موقع المضطهِد. ويضاف إلى العوامل المساهِمة في تطوّري ما حصل بعد فترة زمنيّة عندما عشت معركة صراع طبقيّ في الدّباغة عندنا.
عندما صدر قانون العمل عام ١٩٤٤ طالب الشّباب العاملون في الدّباغة بثماني ساعات عملٍ فقط، لكنّ والدي رفض. صحيحٌ أنّ أخي عزيز هو كلّ شيءٍ في الدباغة، لكنّ والدي هو ربَّ العمل. عندما أضرب العمّال استنفر المرحوم والدي، فمشهد أيّ عامل يحمل ساعة منبّهة [قبل عهد الساعات اليدويّة] وهو ذاهبٌ الى الدّباغة كان كبرى الكبائر بالنّسبة إليه، لأنّ معناه أنّه سوف يتوقّف عن العمل عندما تنتهي الساعات الثّماني. لم يكن هذا أمراً يمكن تخيّله. والإضرابُ في الدّباغة مؤذٍ. استنفر والدي كلّ الأقارب والأصدقاء وقام بإنزالهم إلى الدبّاغة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجِلد، لأنّ الجلد كان يتواجد مع الموادّ الكيميائية.
على الرّغم من غضب الوالد من العمّال، بقي كما عهدتُه كريماً وفاعلَ خير. كان في شخصيّته تناقضٌ شديدٌ عندما يصل الأمر إلى علاقته مع العمّال. يكمن التناقض في أن يقوم هذا الإنسان الكريم ذو اليدين السّمحتين الممدودتين بردّة فعلٍ فظيعة. بدأ بشتم الشّيوعيّين ومَن معهم. شتم شفيق الدّبس وشتم شفيق طرابلسي. حتّى أنّه شتم الحزبيّة المحلّيّة التي كان هو نفسه جزءاً منها، لأنّه اعتبر ما حصل من كبرى الكبائر.
عشتُ هذه الواقعة وأنا في الخامسة عشرة من العمر. لعب هذا التّناقض دوراً كبيراً في حياتي، بيّن لي أنّي أعيش بيسر، أحصل على كلّ ما أريد، أتناول مأكولاتٍ بعضُها غير متوفّرٍ في مشغرة يُحضره والدي عندما يرجع من بيروت ومعه «جومبون ومرتديلا» وخبز إفرنجي. حملتْ حياتنا تناقضاً كبيراً، خصوصاً أنّ والدي من الدّباغين الناجحين.
أذكر أوّل عيدٍ للعمّال في العام ١٩٣٥. عمّت الضّجّة المنزل، هنا أيضاً تناقضٌ جليّ، صحيحٌ أنّ العاملَ عاملٌ لكن في يوم العيد نظّمنا جميعاً، نحن وإيّاه، نزهة وغنّينا معاً. الوضع في مشغرة كان طريفاً لأنّ علاقة قرابةٍ جمعت النّاس مع بعضهم البعض. في دباغتنا على سبيل المثال، إضافةً إلى العاملين الذين كانوا من الشّيعة والمسيحيّين، عمل ابن عمّتي وصهر عمّتي وابن عمّي كذلك، كان هناك في الدّباغة خليطٌ من «شيءٍ» عائليّ وآخر غيرِ عائليّ.
النّجاة من «وحش مشغرة»
بسبب العيد والسّيران، عمّت الضّجّة المنزل، طعامٌ يتمّ تحضيره وبيضٌ يتمّ سلقه. وأنا طفلٌ صغيرٌ يغمرني الفرح لأنّنا ذاهبون إلى الكروم وإلى الفوّار، وهو كرْم لآل سلمون (إحدى أسَر البلدة الدبّاغين) تخرج من أرضه المياه.
عندما وصلت السيّارة احتجنا إلى شخصٍ يقوم بخدمتنا فنَدَهنا على ولدٍ يُدعى علّوش، لن أذكر اسم عائلته. علّوش هذا كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً. وضَعَ الأغراض داخل السّيارة وتبعنا إلى الكروم لأنّه لم يكن هناك متّسعٌ في السّيارة، والكرم ليس بعيداً جدّاً، حوالي نصف ساعةٍ من السّير على الأقدام.
في السّيران إلى جانبنا جلس صديق والدي ويُدعى رشيد ناصيف ابن سمعان ناصيف. هذه العائلة أيضاً من الدبّاغين الكبار لكنّهم أفلسوا باكراً. جلسنا معاً. كنت أبلغ حينها من العمر خمس سنوات، وكان لرشيد ناصيف طفلٌ في عمري تقريباً، أضيع في اسمه بين فيكتور وسيمون.
لعبنا معاً، حمل كلٌّ منّا بيده فرنكاً مقلوباً، فرنكاً فرنسيّاً، في حال أردنا شراء غزل البنات أو شيء آخر. اقترب منّا علّوش وبدأ بخدمتنا، وبدأنا في الوقت نفسه نتحادث ونحن ننظر إلى الشّجر. قال لنا علّوش: أستطيع أن أحضر لكم عشّ العصافير لكن عليكم إعطائي الفرنك. كنّا صغاراً فما كان منّي إلا أن هربت، كانت تلك ردّة فعلي. لمَاذا هربت؟ من أجل الفرنك أم خوفاً من علّوش؟ لا أعرف. في ذاكرتي، لا يوجد كلّ شيءٍ بهذه الدّقة. لكن أعلم أنّي هربتُ منه لأنّ الفكرة لم تعجبني، وربّما خفتُ على الفرنك. تركت ابن رشيد ناصيف واقفاً مع علّوش بحسب ما أذكر والتهيتُ بأمور أخرى.
كان لرشيد ناصيف نحو سبعة أو ثمانية أولاد من جيل بعضهم البعض كالصّيصان. أذكر أهل القرية جميعاً في الكروم. التهينا بالنّهار وتعب الأولاد منّا، أمّا الأهل فثابروا على عبارات: «تعى يا صبي» و«عم توسّخ حالك»، «تاكلها كفّ»، كما يحصل تماماً مع الأطفال الّذين يبلغون من العمر حوالي خمس سنوات. عندما شارفنا على الرّحيل، عاد علّوش ليوضّب أغراضنا وعدنا إلى مشغرة. وصلنا إلى هناك منهكين، استحممنا ونمنا.
داخل المنزل جيلان، أخي عزيز يكبرني بخمسة عشر عاماً وأختي آدال تكبرني بعشرة أعوام، أمّا أخي المرحوم إيلي وأنا فمن عمر بعضنا البعض، يفصلنا عامان فقط. علاقتي مع عزيز كانت مثل علاقتي مع الدي، هو رجلٌ كبير ونحن أطفال.
المهمّ ، أمام بيتنا «سطيحة» وحديقة كبيرة. أطلّ منزلنا على كلّ القرية، وكلّ منطقة «العريض» ومنطقة الكروم. وأمام المنزل حديقة كبيرة لبيت خليل طرابلسي، وبالتّالي لا بيوت. أسفل منزلنا كان منزل بيت عبود، منزلٌ «أوطى» بكثير، وبالتّالي لا يوجد شيءٌ يحجب بيتنا. كثيرٌ من الضّجّة، وأهل مشغرة مجتمعون في منزلنا. حوالي عشرين أو خمسةٍ وعشرين شخصاً على «السطيحة» أمام باب المنزل. استيقظتُ من النّوم فوجدت أشخاصاً يحملون «اللوكسات» بأيديهم ويبحثون في العريض كلّه لجهة الكروم. حوالي خمسين أو ستين أو مئة شخص، وسمعتُ أنّ ابن رشيد ناصيف ضائع.
«أنا بعرف»!
في تلك اللّحظة لمع رأسي. هنا ذاكرتي دقيقة للغاية. أذكر أنّي فكّرت حينها في إمكانيّة أن يكون علّوش قد فعل شيئاً لابن رشيد ناصيف. قلت لوالدي «أنا بعرف شي». صفعني على وجهي وأمرني بالتّوجّه إلى السرير، قائلاً «بلا طقّ حنك»! فتوجّهت للنّوم.
استيقظتُ صباحاً على خبر العثور على ابن رشيد ناصيف مقتولاً من قبل قنّاصة الجيش الفرنسي، وأنّه وُجد مرميّاً بين أقدام البغال إلى جانب مَحْوَرَة [غيضة شجر الحور أو موقع صنع الفحم]. صدّق النّاس حينها أنّ الفرنسيّين قتلوا الطّفل. (كان معهم من جنسيّات سنغاليّة ويوغوسلافيّة، أي أشخاصٌ غرباء، وكانوا يطلقون عليهم تسمية «عكسر بو رفش»، لأنّهم اهتمّوا بفتح الطريق).
كنت في مدرسة الرّاهبات خلف الكنيسة مباشرةً. أمام الكنيسة فصيلة للدّرك وسجن لأنّه قبل إنشاء القائمّقاميّة كانت مشغرة مركزاً للمديريّة وكان فيها مركز للأمن العام وفصيلة للدّرك والجمارك، أي أنّ كلّ الدوائر الموجودة في قضاءٍ معيّن من دون أن تكون مشغرة قضاءً بسبب بُعدها عن زحلة. ولأنّ السّجن والمخفر كانا إلى جانب المدرسة، سمعنا ضرباً. كان العساكر المتّهمون بقتل ابن رشيد ناصيف يتعرّضون للضرب. يصرخون قائلين: نحن أبرياء لا دخلَ لنا.
أثّر ذلك فيّ فحادثتُ نفسي: لمَ لا أعود وأصرّ على أنّ هناك رواية متعلّقة بعلّوش وبأنّي هربت عندما أخبرنا عن قصّة عشّ العصافير والفرنك وأنّي لم أرَ ابن رشيد ناصيف منذ ذلك الحين. عندما عدتُ إلى المنزل أخبرتُ والدي عن كلامٍ بحوزتي يجب أن يُقال، وبقيتُ مصرّاً على الرّغم من أنّ والدي غضب منّي، فهو لم يكن يريد التّورّط. قال لي أخيراً: حسناً. حملني أبي وذهب إلى الضّابط الفرنسيّ المسؤول عن التّحقيق، ومعه ضابطٌ لبنانيّ يترجم الكلام. لاحقاً علمت أنّ هذا الضّابط اللبناني هو أنور كرم الذي أصبح في ما بعد زعيماً في الجيش، هذا الذي دمّر طرابلس في العام ١٩٥٨.
ارتبك الضّابط الفرنسيّ. لم يعتبر أنّه يخاطب طفلاً. أخذ القصّة على محمل الجدّ لأنّ العسكر التّابعين لإمرته متّهمون بالموضوع. أخذ يخاطبني ويرشيني بالشوكولا كي أتكلّم مثلما يتصرّفون مع الدّب في السّيرك. أصررتُ على روايتي وتحدّثتُ عن عيون علّوش الّتي لم تعجبني فهربتُ منه. وبالفعل، أحضر العسكرُ علّوش. بعد أوّل كفّين اعترف، لم يأخذ منهم وقتاً كثيراً لذلك. أخبرهم كيف قتل ابن رشيد ناصيف بالحجر وكيف كسر رأسه.
بعدها أُطلق سراح العسكر المساكين وتمّ الاعتذار منهم. كان علّوش يبلغ حينها من العمر أربعة عشر أو خمسة عشر عاماً، أي أنّه من الأحداث. عندما تمّت المحاكمة في زحلة، كنتُ أنا الشاهد الأوّل على اعتبار أنّي كنت الخيط للوصول إلى علّوش. أخذني والدي المرحوم إلى زحلة. قال المباشر على باب المحكمة لوالدي: «يا أستاذ، ممنوع دخول الأولاد إلى المحكمة»، فأخبره الوالد أنّني أنا الشاهد. وبالفعل، دخلنا أنا ووالدي إلى المحكمة. رمقني علّوش نظرةً أرعبتني، لأنّه عرف أنّني أنا من لفت النّظر للقصّة، ملعون، مجرم.
حكيتُ ما أعرف للمحكمة. هذه الصيغة للحادثة بقيت في ذاكرتي. في المحكمة تمّ الاستناد إلى أقوالي وإلى اعتراف علّوش، لكنّ علوش بدأ يصرخ ويقول: «غير صحيح»، متذرّعاً بتعرّضه للضّرب. سُجن علوش بضعةَ أشهرٍ فقط على اعتباره من الأحداث. بعد ذلك، وبينما أنا جالسٌ أمام حديقة البيت، قام علّوش برمي حجرٍ عليّ. لسوء حظّه وحسن حظّي لم يصبْني الحجر ووقع بجانبي. كان علّوش حاقداً عليّ لكن لم يطل الأمر حتّى ألقوا القبض عليه مرّةً أخرى.
لم يعد الأمر يحتاج إلى نباهة، كلّما قُتل طفلٌ كان ييتى بعلّوش الذي أصبح لديه أسلوبٌ معروف في القتل، يكسر رأس الولد بالحجر. قتل طفلاً في كفرحونة، ومجدل بلهيص، وفي البقاع بالقرب من كفريا قتل أربعة أو خمسة أولاد بينهم فتاة. وكلّ أعمار ضحاياه تراوحت بين الأربع والخمس سنوات. وفي كلّ مرّة كان علّوش يغيب في السّجن ثمّ يخرج لأنّه حدث. في الصّحف، أطلقوا عليه تسمية «وحش مشغرة». بعد ذلك، أعلن أهل علوش التّخلّي عنه بالكامل وتبرّأوا منه. أهله معّازة، ما حدا بعضهم إلى القول إنّ علّوش عندما كان صغيراً كان يُحضر تيس المعزة والجدي ويكسر رأسها، هكذا أصبح لديه حبّ الدم وتكسير الرؤوس. المهمّ، استمرّ بقتل النّاس، يدخل إلى السّجن ويخرج، والصّحف مشغولة به: «خرج وحش مشغرة من السّجن»، «دخل وحش مشغرة إلى السّجن».
بسبب سوء عمل المحاكم في لبنان بقيت الأمور على المنوال نفسه من العام ١٩٣٥ وحتّى العام ١٩٤٩، تاريخ صدور الحكم على علّوش بالإعدام. كنت حينها في سنتي الثّانوية الأخيرة في مدرسة الفرير بييروت. عندما عرفتُ أنّ علّوش سيُعدَم، استيقظتُ قبل انبلاج الضّوء. أشارت الساعة إلى الخامسة. قلتُ لنفسي: أريد أن أحضر إعدام ابن الكلب هذا. ركبتُ الترامواي من مكان سكننا بجانب مستشفى الروم إلى السرايا مكان الإعدام. أعدموه في البرج أمام العدليّة. كان كلباً، هذا انطباعي عنه، يصرخ ويجعّر. حمّلوه وعلّقوه على المشنقة.
لكن على الرّغم من كلّ حقدي عليه، لم يعجبني المشهد. مهما كانت الجريمة التي ارتكبها، فأنتَ ترتكب جريمة جديدة عندما تعلّق أحدهم بالحبل. ومع ذلك حقدي عليه، جعلني أستيقظ قبل شروق الشمس كي أحضرَ إعدامه. وبرغم نجاتي، حقدتُ عليه لأنّني كان يمكن أن أكون أوّل الضحايا، لكن شاءت الصّدف أن يكون ابن رشيد ناصيف كذلك.
«حبس» دير المخلّص
درستُ في مدارس كاثوليكيّة جدّاً، ما خلا سنةً واحدةً حين كنتُ في مدرسة كفرشيما، وهي من المدارس الإنجيليّة.
درستُ أوّلاً في مشغرة لبعض الوقت عند الراهبات ولبعض الوقت عند السّريان. انتقلتُ باكراً إلى مدرسةٍ داخليّةٍ في كفرشيما. كان شيئاً عاديّاً في مشغرة عندما ينتقل أحدٌ إلى مكانٍ ما أن ينتقلَ معه الآخرون. كنّا فؤاد سلمون وسميرة سلمون وجورج حبوش ونقولا طرابلسي واسكندر طرابلسي ونعمة بو مراد (وهم أقارب لأنّ جدّتي من بيت بو مراد) وأنا، كنّا حوالي عشرين أو خمسةً وعشرين شخصاً دفعةً واحدة في مدرسة كفرشيما. بعضهم أكمل دراسته ومعظمهم انتهى إلى الجامعة الأميركيّة على اعتبار أنّ معظمهم أتمّ الدراسة باللغة الإنكليزيّة. أنا بقيتُ سنةً فقط في كفرشيما عانيتُ حينها من مشكلةٍ في قدمي، قبعتُ بعدها سنةً في مشغرة لأنّني لم أكن أستطيع المشي. وبعد أن رجعت إلى كفرشيما، انتقلتُ إلى دير المخلّص لمدّة سنة. هناك ثانويّة أقيمت بالتعاون مع الإكليركيّين، لكنّها مدرسة تكميليّة لم تصل للثّانويّة. في دير المخلّص، انزعجتُ من هذا السّجن بين الجبال. نتحرّك داخل الحرج فقط، ونذهب أيضاً لزيارة قصر «الليدي ستانهوب» الذي كان لا يزال واضح المعالم، هذا في الأربعينيّات. نجلس هناك لسّاعات لأنّ القصر في خراج الدير. بقيت سنةً ومللت. سجنٌ كبيرٌ حيث لا ترى بشراً إلّا إذا سمحوا لكَ بالذّهاب إلى كنيسة الدّير، حينها فقط يمكنكَ أن ترى أحد الزّوّار لأنّ المدرسة حوَت كنيسة. قرّرتُ المغادرة، بينما غادر أخي نوئيل باكراً إلى اليسوعيّة وأكمل طريقه، في الوقت الذي كنتُ ذاهباً فيه إلى كفرشيما. في ذلك الوقت كان والدي مسافراً، روحةً وجيئةً من أميركا. تساءل عن سبب اتّخاذنا هذا الخيار، أيْ ذهابي لدراسة الإنكليزيّة، وانتقال نوئيل إلى الفرنسيّين حيث أكمل دراسته حتّى أصبح مهندساً. بسبب رفضي لدير المخلّص لم يقبلوني في «اليسوعيّة»، فأنا قادمٌ من كفرشيما من عند الإنجيليّين. بعدما تمّ رفضي لأنّي بدأت عند البروتستانت، دخلتُ إلى مدرسة الحكمة. والحكمة مدرسة محترمة، سمْعتها جيّدة ويتمّ فيها تعليم لغة عربيّة جيّدة. كانت الأحوال على ما يرام. فرحتُ في مدرسة «الحكمة» بسبب وجود مجموعة طلّاب أرتاحُ إليهم، أصبح الآن أغلبهم وزراء ونوابا. لكن في ليلةٍ سوداء رأيتُ باب المدرسة مفتوحاً فقلتُ لنفسي: أخرجُ قليلاً خارج المدرسة كي أتنزّه لأنّي كنت في القسم الدّاخلي. فجأةً توقّفتْ سيّارة بالقرب منّي رأيتُ داخلها أبي. سألني عمّا أفعله هنا فارتبكت. قال لي: «هربان من المدرسة؟ إنت تستاهل أن تظلّ محجوزاً بدير المخلّص». وضعني في السيّارة وأرجعني إلى دير المخلّص. بقيتُ في الدّير لمدّة ثلاث سنوات متتالية إلى حين انتقالي إلى «الفرير» في الجميزة.
انتقلتْ عائلتي إلى بيروت قبلي. ولأنّي مرفوضٌ في اليسوعيّة، ولا أريد «الحكمة» الّتي هربتُ منها، لم أملك خياراً سوى مدرسة الفرير ذات السّمعة الجيّدة. في «الفرير»، لم أكن مسجّلاً بقسمها الدّاخلي. ركبتُ الترامواي، وأصبحتُ من الأشخاص الذين يقلّدون المهرّجين ويقفزون منه. وبسبب تصرّفاتي هذه عرّضتُ نفسي للخطر غير مرّة. وللأسف وقع أحد زملائي في الصّف أسفل الترامواي فقُطعت رجلاه الاثنتان.
لديّ انطباعان إزاء هذا الحديث. الأوّل عن الحياة العائليّة المعبّرة كثيراً لبلدة مثل مشغرة تضمّ العلاقات الصناعيّة والزراعيّة والرعويّة في وقت واحد. والثانية، حادثة فاجعة على الصعيد الإنسانيّ. ما أثرهما في حياتك؟
أثر العنف والتمايز الطبقي
ربّما كرّهتني حادثة علّوش العنف. رافقني هذا الشّعور طوال فترة الحرب الأهليّة. اعترضتُ كثيراً على مظاهر العنف المجّانيّة التي تحصل. عانيتُ من مشاكل كثيرة في الحزب. كنتُ سلميّاً بمفهومهم السّائد عن العنف المجّاني. قد يكون هذا الأمر نتيجة العنف الذي عايشته في قصّة علّوش على الرّغم من أنّه لم يحصل أمامي. هذا الأمر من التّراكمات التي خرقت شخصيّتي الشيوعيّة فيما بعد.
عايشت النّضال الطبقيّ فعلاً في مرحلةٍ ميدانيّة في الدبّاغة خاصّتنا وفي الدبّاغة بمشغرة، ذلك لأنّ المنطقة اشتهرت بالدبّاغين الشّباب الذين أصبح معظمهم قوميّين سوريّين، وكانوا يواظبون على قراءة جريدة «النّهضة». هذا التّوجّه جاء تمايزاً عن العمال الذين كان معظمهم من الشيوعيّين. والدبّاغون الشّباب اهتمّوا بالملابس: بناطلين «كوبون» و«جخّ» [بذخ] فائض، في حين كان العمّال مساكين. وهو تمييزٌ واضحٌ لأنّ الدبّاغات ازدهرت بعد الحرب.
ودخلت الآلة على الدبّاغة والبرميل والمدعس. صارت الدبّاغات تكبر وتتوسّع، وعدد العاملين فيها لم يعد أربعة أو خمسة، بل أصبح خمسين إلى ستّين عاملاً. لذلك، أصبح هناك تمايزٌ طبقيٌّ واضح يمكن ملاحظته من خلال حياة النّاس. هناك طبقتان في مشغرة، والطبقة الجديدة (أصحاب الدبّاغات) أصبحت أبرز من طبقة الأفنديّة لأنّها أغنى منها. طبقة الأثرياء الجدد تملك الأموال مقابل الأراضي والعزّ والجاه لدى الأفنديّة.
خلال فترة الثّلاثينيّات رافقتني أشياء طريفة. في العام ١٩٣٧ أو ١٩٣٨ كانت هناك مجلّة اسمها «قلب يسوع» ينشرها سوريّ من آل نخلة يُدعى بيار نخلة. واظبت أختي آدال، التي تكبرني بنحو عشر سنواتٍ، على قراءتها وكانت منظّمة عند الرّاهبات. ونحن لمّا كنّا صغاراً ندرس لدى الراهبات لطالما أحضروا لنا كتباً كي يخوّفونا بها من جهنّم. حدّثونا عن كيفيّة شكّ المخطئ بحربة ورميه في النّهر. وكنت تشاهد على غلاف مجلّة «قلب يسوع» صورةً لأشخاصٍ يقومون برمي رجال الدّين في النّار، تبيّن أنّ الإشارة هي إلى البلاشفة في روسيا الذين يقتلون رجال الدّين ويتمّ حرقهم وحرق الكنائس.
قالوا: وصل البلاشفة إلى لبنان وهم في جديدة مرجعيون. كان منزلنا يُطلّ على جديدة مرجعيون. نظرتُ ناحية مرجعيون فلم أرَ شيئاً. اكتشفتُ في ما بعد أنّه كان بالفعل هناك تنظيمٌ أسّسه سلام الراسي ومعه مجموعةٌ من المثقّفين من قرية إبل السقي وهو «حزب اشتراكي ملحد» قبل دخولهم إلى الحزب الشيوعي كانوا يعلنون إلحادهم، أمّا بيار نخلة فقد «بَلْشَفَهُم» لكنّه لم يتحدّث عن بلاشفة بيروت، تكلّم فقط عن بلاشفة مرجعيون على اعتبار أنّ لهم علاقة مع القسّيسين والبطريرك، أمّا بلاشفة بيروت فكانوا شباباً بنكهةٍ أميركيّة، بمعنى أنّهم خرّيجو البروتستانت وإرساليّات القسطنطيّة إلخ، أي أنّه يوجد هامش أكبر لحرّيّة الفكر. بعد فترة قصيرة صار اسمُ البلاشفة «الجيشَ الأحمر». حينها كان عمري لا يزال عشر سنوات.
وصلت الشيوعيّة إلى مشغرة
خلال هذه الفترة تزوّجَ أخي عزيز من زوجته ناديا. كانت بنت عمتها زوجة سلام الراسي، فصار لنا قرابة مع آل الرّاسي، نزورهم ويزوروننا. أصبحت لديّ علاقة مع الشيوعيّين من خلال سلام.
أوّل صلة لي بالشيوعيّين حصلت في العام ١٩٤٣. كان سلام عضو لجنة مركزيّة. وهو محدّثٌ لبقٌ لطالما شدّ الآخرين. كان يقول لي دائماً: أنا عملتك شيوعي. واستمرّ في قولها لحين مماته. كانت علاقةً وثيقة. سكن إبل السقي قبل مجيئه إلى بيروت، لذلك كنا نذهب كثيراً إلى إبل خلال فصل الصيف عندما أذهب إلى مشغرة لأنّي كنت في مدرسة داخليّة.
عدتُ إلى كلمة البلاشفة لأنّ القضايا تنضج من خلال التّراكم. أصبحت أرى عند سلام كرّاسات مثل «البيان الشيوعي» من ترجمة خالد بكداش. بعدها اكتشفت أنّ والد ناديا يملك أيضاً كرّاساتٍ شيوعيّة على الرّغم من أنّه لم يكن شيوعيّاً. كان طبيباً، لكن كما هو معروف اهتمّ جميع المثقّفين والطبقات الوسطى في ذلك الوقت بالشيوعيّين وقرأوا وثائقهم. أصبحت أرى أموراً من دون الوصول بعد لشيوعيّي مشغرة، ما زلت أتكلّم عن حقبة أوّل الأربعينيّات. هناك شيوعيّون في مشغرة وأعرف أنّهم موجودون لكن ليسوا هم من أثّر فيّ.
رفضتُ هذا النّوع من الظلم بين الغنيّ والفقير، لم يعجبني، وتنازعني أحياناً أمران، الرّفض والحسد، بمعنى أنّه يجب عليك المساعدة. أذكر عجوزاً مقعدةً اسمها مريم غزال لديها ابنٌ مختلّ عقليّاً. كنتُ آخذ لها إبريقاً على عين الضّيعة وأنا في طريقي إلى المدرسة وأقوم بتعبئته لها لشعوري بضرورة مساعدتها لأنّها عاجزة. بهذا المعنى حملتْ شخصيّتي تناقضاً أسهم في تكويني. بدأ تكويني الشيوعي الجدّي عندما أصبحنا على صلةٍ بسلام الراسي وصرتُ أتواصل مع الشيوعيّين بطريقةٍ جدّيّة. أصبحتُ أتابع أخبار فرج الله الحلو والمؤتمر الأوّل للحزب الشيوعي السوري - اللبناني، وصرتُ اقرأ صحيفة «صوت الشعب»، وأشاهد المئات من التواقيع المنطلقة من مشغرة تأييداً للمؤتمر. كلّ عائلات مشغرة انخرطت في الحزب الشيوعي. أصبح الكلام مباشراً عن الشيوعيّين وصرتُ أعرف أنّ زعيم الحزب في مشغرة اسمه نعيم الحاج وهو جارنا سابقاً. يحكي النّاس عنه بطريقةٍ طريفة لأنّه كان يقول «افتتح الاجتماع باسم الله والوطن»، فيضحك ال نّاس مستغربين كيف يقال هذا داخل اجتماعٍ للشيوعيّين. نعيم الحاج أقدمُ من حسن عواضة. حسن أصبح شيوعيّاً بسبب سليم الدبس.
من أسّس للشيوعيّة ونقابات العمّال هو سليم الدبس. كان شخصيّة طريفة، فعلى سبيل المثال عُرف بارتدائه «الشّورت» في مشغرة على الرّغم من أنّه رجلٌ كبير في السّنّ وطويل القامة. امتلك دبّاغة لكنّه اختلف مع إخوته وأسّس نقابة لعمّال الدبّاغة. انضمّ إليه لاحقاً حسن عواضة. وأنا تعرّفت إلى حسن بعد العام ١٩٤٣. وبالمناسبة، لطالما أرسل والد حسن ابنه خلال الصّيف إلى دبّاغتنا للعمل وهو قد عمل في التعليم الابتدائي. بدأ حسن حين أصبح هناك حالة شيوعيّة في مشغرة، ووقتها أصبح نقولا طرابلسي شيوعيّاً. حصل كلّ هذا بعد الاستقلال.
متى كان تأسيس نقابة عمال الدباغة بمشغرة؟
تأسيس نقابة عمال الدّباغة
تأسّست في البداية جمعيّة للعمّال على يد سليم الدبس في العام ١٩٣٣. لكنّ الدبس لم يبقَ طويلاً في مشغرة. انتقل إلى بيروت بينما كان نعيم الحاج أوّل مسؤولٍ لمنظّمة شيوعيّة وكان في الوقت عينه عامل دباغة. في ذلك الوقت لم نرَ في مشغرة سوى القومي أو الشيوعي، ولهذا السّبب لم تكن حدود «الحزب القومي» أو «الحزب الشيوعي» واضحة خاصةً عندما تداخل هذا الانتماء مع الانقسام العائلي. والانقسام كان في الحقيقة طبقيّاً أي أنّه بين القسم الأكبر من الرأسماليّين الجدد الذين تكتّلوا وكانوا قد بدأوا بشراء الأراضي بعد أن كانوا بمعظمهم فلّاحين ومرابعين عند كبار ملّاكي الأرض. لذلك، خُلقت حالة من العداء انعكست على الحزب القومي والشيوعي. آل ناصيف وآل كرم أتوا من عيتنيت وكذلك قسم من آل الحجار، وهؤلاء سكنوا حيّاً سمّوه حيّ «الخان». في المقابل أطلق على حيّ الحزبيّة الثانية، حيّ العين، [راجع كتاب مشغرة] قلب مشغرة الفارغ نسبةً إلى الناس المهاجرة. في هذه الفترة كان وجهاء مشغرة لا يزالون من آل طرابلسي.
جميع عائلة سليم الدبس كانوا شيوعيّين بمن في ذلك الوالد. عند تأسيس النّقابة كان سليم بلشفيّاً وملحداً انتسب إلى الحزب باكراً مع أخوة زوجته، أي عزّت إبراهيم وعائلته. هؤلا هم أوّل شيوعيّين لكنّهم سكنوا خارج مشغرة، عملوا في شركة الترامواي، بمعنى أنّهم انتظموا في حركة عمّاليّة قائمة. في ذهني يوجد سليم الدبس «الشيوعي»، لا أعرفه بصفة ثانية، مع أنّه اشتهر بأنّه رجل أعمال وملاّك أراض كبير. هو متمرّد، اختلف مع إخوته وتركهم على الرّغم من أنّ لهم دباغة كبيرة. انتقل إلى بيروت وفتح محلّاً على البور وأسّس دباغة في برج حمود واشترى أراضي ومستودعاتٍ، وعمل في الدباغة لبعض الوقت ثم أجّر الدباغة وانتقل للعمل في التّجارة. أبناء سليم الدّبس أصبحوا شيوعيّين لأنّهم عاشوا في بيتٍ شيوعي، أبوهم شيوعيّ وأخوالهم شيوعيّون. توفيق إبراهيم، خال خليل الدبس، ظلّ شيوعيّاً لحين وفاته في بلدة دوما البترون.
تعرّفت إلى حسن عواضة من خلال الصداقة بين الوالدين. والد عواضة كان الحليف الأساسيّ لحزبيّة بيت طرابلسي، وبالتّالي اعتدتُ رؤية حسن يوميّاً إمّا في منزلنا أو في منزل شفيق طرابلسي داخل الاستراحات. تعرّفت إلى حسن الذي يكبرني بعشر سنوات. يذهب إلى الدباغة كي لا يضيّع وقته ويرى كيف يعمل النّاسُ ويتعلّمون. لاحقاً أتى إلى مشغرة وبدأ التّدريس مع سليم بو خليل، ووالدة هذا الأخير من آل طرابلسي، أخت سليمان طرابلسي، وأبوه طبيبٌ يُدعى سالم بو خليل وقد درس الطّبّ في اسطنبول. لمَ يصبح سليم بو خليل مدرّساً ولم يكمل تعليمه لا أعلم لماذا لأنّ عائلته كانت من العائلات التي تعلّم أبناؤها في المدارس والجامعات.
طريفة مشغرة، الإقطاع فيها طالب علمٍ أيضاً. الياس طرابلسي الذي قام ببناء الإمبراطوريّة [يقصد استملاك عدّة مَزارع وقرى حول مشغرة] أرسل أولاده لتعليمهم، وكان ابنه اسكندر ضمن أوّل دفعة في الجامعة الأميركيّة، وابنه جريس تخرّج من اسطنبول وصهره سالم بو خليل، المتزوّج من اسطنبول، وقد تخرّج من اسطنبول. ثلاثة أطباء مرّةً واحدة في العقد الخامس، السادس أو السابع من القرن التاسع عشر. واستمرّ هذا التّقليد في مشغرة، دائماً تجد في تلك القري أطبّاء.
بين الوالد والحزب
انتقل والدي إلى بيروت مذ كنّا صغاراً، يذهب كلّ يوم إثنين ويعود السبت على اعتبار أنّه عمل في التّجارة. أخي عزيز صار رجلاً وتسلّم الدبّاغة ولم يعد هناك من ضرورة لتواجد الوالد في مشغرة. صار يتاجر بالجلد والنّعل ويستورد ويورّد. وكانت السوق وقتها واسعة، تحديداً قبل القطعية مع سورية وقبل قيام «إسرائيل». سوق الدبّاغات في مشغرة امتدّت من العريش إلى العراق. ماتت سوق الدبّاغات لأنّ تجارتها بُنيت على أسس واسعة شملت كلّ بلاد الشام، وفي النّهاية لم يبق غير سوق الأردن. ثمّ ذهب أحد الأشخاص من آل رفّول من مشغرة إلى الادرن وعمل مع الدّولة، فأنشأوا دبّاغة دفعت إلى إغلاق جميع الأسواق. وبدأت حينها الدبّاغات تموت، حتّى ماتت الأخيرة منذ سنتين. يعني انتهت مشغرة.
عندما انتقلت العائلة إلى بيروت، كنت لا أزال في دير المخلّص، أي سنة ١٩٤٧ أو ١٩٤٦. بقيت كأنّي داخل السجن لأنّ الوالد كان غاضباً منّي إذ هربت من المدرسة. وبعد أن كبرْت عدت إلى الفرير حيث بقيت ثلاث سنوات. وضع العائلة المادّيّ كان في حينها مريحاً وبقي كذلك حتّى وفاة والدي في العام ١٩٥٤، والسّبب أنّ أبي نوّع بالتجارة ولم يكتفِ بالجلد، فأخذ حصّةً من كهرباء مشغرة بعدما اشترى ثلثها من شفيق طرابلسي، كما تشارك مع شخصٍ شيعي من آل مزاحم في معمل غراء، في وقتٍ كان نسيب طرابلسي مشاركاً لشخصٍ من آل عاصي. التنويع في الأعمال أعطانا مجالاً للبقاء مرتاحين. ترك لنا والدي أملاكاً كثيرة، حوالي خمسين دونم أرض ومائة دونم بساتين. آخر بستان قمت ببيعه مؤخراً لصهر فاروق [دحروج] لأنّي أريد التخلّص منه. «حزب الله» يخيّم هناك وأنا خائفٌ عليه من الاحتراق لأنّه كبير، كان عبارةً عن ستّةً وستين ألف متر مربّع.
صحيح أنّني انتسبت إلى الحزب الشيوعي لكنّني لم أكن قد خرجت عن سلطة الوالد. كنت معه في المحلّ، أهرب منه قدر المستطاع. تأسّست في مدرسةً تجاريّة، لا في مهنيّة في الفرير، فيها دبلوم عالٍ أي نصف جامعيّ. درست التجارة، أي المحاسبة، والعلوم الماليّة والاقتصاد. كان ذلك في أواخر الأربعينيّات وأوّل الخمسينيّات. وفي الوقت نفسه، تسجّلت في معهد الآداب الشرقيّة في الجامعة اليسوعيّة بسبب رغبتي الكبيرة في التعلّم والعمل في اللغات السامية. لكن للأسف لم أكمل لأنّ والدي توفّي فتركتُ كلّ شيءٍ لأخي عزيز. كان أبي منزعجاً لأنّه يُعدّني لخلافته في التجارة وفي أشغاله الواسعة على أن يعمل عزيز في الدباغة. وكان مزعوجاً أنّ اخي نوئيل استأجر شقّة كي يدرس الهندسة في مكانٍ آخر. وانزعج والدي لأنّي ذهبت حينها وعملت في الانتخابات لمصلحة خالد بكداش عام ١٩٥٤، وعندما عدتُ منتصراً قال لي يومها: مبروك، لكنّه قالها من طرف لسانه. توفّي فجأةً مع بداية عام ١٩٥٥. كان لا يزال قويّاً. خرج من المحلّ وتوجّه إلى منزلنا في الجمّيزة بشارع مارون النقاش. لدى عودتي ليلاً متأخّراً بعض الشّيء وبيدي صحيفة «اليوم» لعفيف الطيبي، لأنّ والدي كانت تهمّه القراءة وتحديداً الصفحات الاقتصاديّة، دخلتُ عليه وهو مستلقٍ على كنبةٍ طويلة فناولته الصّحيفة ومشيت. شقيقتي الدّاخلة إلى غرفة الجلوس صرخت، نظرتُ خلفي فوجدته وقد توفّي.
قبل وفاة والدي كانت شيوعيّتي قد أضحت معلَنة. هي ظاهرة لا تتكرّر: صرتُ قريباً من الحزب وأنا لم أقدّم طلب انتساب، ولم أنضمّ لأيّ فرع. انتظمتُ أوّل مرّة عبر «منطقة» بيروت التي تمتدّ من الدامور إلى جونية، لأنّ علاقتي بدأت مع المسؤولين في الحزب بالبقاع ومنهم عمّ وصال فرحة [زوجة خالد بكداش]، وقد انتهى عالمَ دينٍ أطال ذقنه، وفوّاز معلوف من نيحا، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمصلحة المياه في البقاع، وصار أخوه مديراً عاماً في الدّولة. أخذوا يكلّفونني بمهمّاتٍ لاعلاقة لها بالعمل الحزبي العادي، مستندين إلى وضعي الاقتصادي المَحمي. وَثَقوا بي. أنا تعرّفت إليهم عن طريق رشدي [عبودي] في منزله، كلّ هذه الأحداث حصلت قبل العام ١٩٥٣. حتّى قبل أن تربطني علاقة بالحزب الشيوعي اعتبرني أهل مشغرة شيوعيّاً، كان هذا يحصل مذ كنتُ تلميذاً لدى الرّهبان.
رشدي [عبودي] ومجموعة فؤاد بارود، هذا الجيل الثاني من الشيوعيّين، اعتبروني شيوعيّاً، وهؤلاء أصغر من جيل نعيم الحاج. ورشدي كان شخصيّة مميّزة بسلوكه، مناضلاً «مهضوماً» ويزاول أشغالاً متعدّدة ما أنزل الله بها من سلطان. من خلاله سمعتُ لأوّل مرّة بصباح (الشحرورة وكان عمرها ١٤ - ١٥ سنة). امتلكَ قهوة وضمّنها، عمل في كاراتٍ متعدّدة، شخصيّةٌ ظريفةٌ و«نسونجي» تشتكي منه النّساء، لكنّه كان صديقاً مقرّباً على الرّغم من فارق العمر الكبير بيننا، وبالمناسبة سُجنّا معاً في عام ١٩٥٧.
العلاقة مع رشدي ليست دائماً مفيدة، سمْعَتُه ليست دائماً حسنة في مشغرة، لكنّني تمسّكتُ بعلاقتي معه لسببين، أوّلاً هو شخص مؤمن بقضيّة، وثانياً لأنّه ظريف، العلاقة معه تُسرّ.
صرتُ صديقاً للشيوعيّين. ودائماً يقول لي نقولا طرابلسي: انتسبْ إلى الحزب، وأنا أردّ قائلاً: كلّا. لا أريد أن أربط نفسي، لا أريد أيّ تنظيم. نقولا أصبح شيوعيّاً قبلي، مذ كان طالباً في مدرسة الصنائع. يكبرني بعامين وكنّا أصدقاء، ربطت عائلتينا علاقة، لذلك كانت لديه مَونة ليطلب انتسابي إلى الحزب. رغبتُ بالعمل في السياسة لكن على مزاجي. استغلّ والدي هذه الرّغبة: «لا تتبع هؤلاء الشّحاذين. غداً، عندما تبلغ الخامسةً والعشرين، بل بدءاً من الآن أعطيك ثلاثمائة ألف ليرة وأجعل منكَ نائباً في أيّ مكانٍ تريد لأنّهم يصنعون نائباً بمائة ألف ليرةٍ فقط لا غير».
مات والدي ولمّا أبلغ بعد خمسةً وعشرين عاماً، أي فشلتْ محاولة الرّشوة كي أبتعد عن المجموعة، لكنّه أصرّ على بقائي معه. شعر أبي بأنّه لا يريد التضحية بالشّيء الّذي بناه، وبالفعل تدهور الوضع الاقتصادي للعائلة بعد وفاته وأنا أتحمّل مسؤوليّةً كبيرة في هذا الأمر.
خبّرني عن المعركة بين الشيوعيّين والقوميّين في أوّل أيّار/مايو؟
معركة بين الشّيوعيّين والقوميّين
في الحقيقة لم تحصل هذه المعركة في أوّل أيّار. تقول الرّواية إنّ شخصاً من مشغرة توفّي في فنزويلا، وكان علي عواضة قد تزوّج أخته زواجاً أوّل، أي إنها والدة المهندس فؤاد والطبيب عدنان وأخواتهما البنات.
اعتبر القوميّون السوريّيون أنّ المتوفّى قوميّ سوريٌّ وكانوا في حينها يفتّشون عن مناسبات، فأحضروا أشخاصاً من الخارج من بينهم كريم عزقول الذي أصبح فيما بعد سفيراً في الأمم المتّحدة. داخل الجامع، الذي تُطلق عليه الآن تسمية «جامع الحسين»، والذي أعيد بناؤه [هدم مطلع القرن، انظر طرابلسي، يا قمر مشغرة]، تجادلوا وهاجموا الشيوعيّة. استنفر الشباب وأنا موجودُ في مشغرة. وتمّ قطع الطريق عليهم. من جملة قاطعي الطريق حينها ابن عمّتك فؤاد عبّود، طويلُ القامة، قبل أن يصبح شرطيّاً، وربّما كان رشدي عبودي معهم. لكنّ الأكيد أنّ فؤاد كان موجوداً لأنّه هو الذي ضرب كريم عزقول عندما عاد هو وجماعته. فؤاد شهم، كسّر عزقول تكسيراً.
تطوّرت المعركة وحصل تبادلٌ لإطلاق النّار بين الشيوعيّين والقوميّين، رصاصة طائشة أصابت سالم غزال. كان في الأربعين من عمره، متزوّجاً ولديه أولاد. حصل ذلك حوالي العام ١٩٤٤. ولما كنت ميّالاً للشّيوعيّين، وبدأت العمل مع سلام الراسي، انتشيتُ لقيام الشيوعيّين بضرب القوميّين، خاصّةً أنّي بتّ أعرف الشيوعيّين وأعتزّ بهم.
توفّي سالم الغزال وثارت ضجّة كبيرة في مشغرة. جرت اعتقالات وكان من بين المعتقلين زوج عمّتي بطرس بركة الذي اعتبروه من المحرّضين. تداخلت حينها حزبيّة الشيوعيّين بحزبيّة القرية. لكنّ آل بركة لم يكونوا شيوعيّين، كانوا من حزبيّة آل طرابلسي. أرادوا استفزاز شفيق طرابلسي لأنّه زعيم العائلة. في ذلك الحين تداخلت أمورٌ كثيرة بين شفيق وبطرس بركة. صعُب التّقارب من شفيق طرابلسي، اعتقله الفرنسيّون في فترة الحرب العالميّة الأولى، واعتبروه عميلاً للإنكليز.
يقول سليم غزال إنّ أخاه سالم قتل عن طريق الخطأ. وبالمناسبة، لم يحقد سليم. كنت وإيّاه من أعزّ الأصحاب، ومن بعدها التقينا في دير المخلّص. كان شخصيةً طريفة جدّاً. ترافقنا كان في القسم الداخليّ بدير المخلّص ولم يخطّط قطّ كي يصبح راهباً. كره رجال الدّين لدرجة أنّه هرب من الّدير مع أنطوان غطّاس، ابن الياس غطّاس من مشغرة (أنطوان غطّاس انتقل إلى البرازيل. قتل أمام باب مصرف وهو يحمل أموالاً).
حينها قمنا أنا وسليم وأنطوان بأمرٍ طريف. في الصفّ الثالث أنشأنا مجلّةً مكتوبة اسمها «دفتر» شتمنا فيها رجال الدّين. وكان هناك شخصٌ خطّه ظريف اسمه فرج بو طانيوس من الفرزل أو أبلح تولّى كتابتها. عندما سألت سليم عن الأعداد أخبرني عن ضياع سبع أو ثماني نسخ. لم يضَع سليم في الحسبان أنّه قد يصبح خوريّاً، قرّر الهرب فذهب ماشياً إلى مشغرة بسبب رذالة الخوارنة وظلْمهم، ومن ضمنهم ناظرٌ سيئٌ جدّاً قاسي القلب خبيث من آل بسّول أصبح مطراناً على زحلة فيما بعد لكنّه لم يبقَ طويلاً على قيد الحياة. ذهب سليم الغزال على قدمَيه من مشغرة ولم يعد إلى دير المخلّص. وأنشأ بعدها مدرسة الصّنائع في مشغرة.
بعد ذلك، عندما سافرتُ وأصبحت كثير التنقّل بعد التزامي الحزبي فوجئت بأنّ سليم الغزال صار خوريّاً ينذر الفقر والطاعة والعفّة [وقد سيم مطراناً فيما بعد]. اعتبرت أنّ حادثاً استثنائيّاً حصل معه ودفعه للانتقال من كرهٍ ونقمةٍ على الخوارنة إلى أن يصبح واحداً منهم. تعود آخر صورة أملكها لسليم الغزال إلى العام ١٩٤٨. يظهر فيها معي ومع أنطوان غطّاس، أنطوان وأنا نرتدي السراويل بينما سليم يرتدي الشورت، أصبح شابّاً واستمرّ بلبس الشّورت. فاجأني عندما أصبح شخصاً آخر، إنساناً مؤمناً لكن على طريقته الخاصّة لأنّه شخصٌ واعٍ جدّاً، امتلك وعياً مدنيّاً وعلمانيّاً، كان شخصاً مميّزاً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.