في ٢٤ شباط / فبراير ٢٠٠١، عُرض «الرجل ذو النعل الذهبي» (٢٠٠٠) للسينمائيّ السوريّ الراحل عمر أميرالاي (١٩٤١ - ٢٠١١)، في «مسرح بيروت» في عين المريّسة، بعد وقتٍ على بثّه التلفزيوني على شاشتي «آرتي» الفرنسيّة الألمانيّة، التي أنتجته، وفضائيّة «الجزيرة». يومها، أثار الفيلم نقاشاً صاخباً، لم تستطع الغالبيّة الساحقة من المشاركين فيه أن تتحرّر من سطوة الموضوع السياسيّ، في الدرجة الأولى، بسبب تمحوره حول شخصيّة الرئيس رفيق الحريري (١٩٤٤ - ٢٠٠٥)، الفاعلة والمؤثّرة في الحياة اللبنانيّة العامّة، والتي أدّت إلى انقسامٍ حادٍّ في المجتمع اللبناني، بين مؤيّد (صارخ) له، ومعارض (بقوّة وعنف) لنهجه وسياسته وشخصه.
كان لا بُدّ من حوار مع عمر أميرالاي، لتبيان العديد من النّقاط «الساخنة»، التي سبّبها الفيلم. حوارٌ أجريته معه بعد يوم واحد على العرض المذكور في «مقهى الروضة» (بيروت)، استمرّ ثلاث ساعات، بدا خلالها السينمائيّ حريصاً على انتقاء الكلمات الأنسب، ودقيقاً في صوغ أفضل الأجوبة.
حاولتُ في هذا الحوار أن أبتعد، قدر المستطاع، عن السياسيّ، للاقتراب من الفنيّ والجماليّ والدراميّ. لكن الفيلم دفعني إلى ارتباكٍ إزاء التباسه «السينمائيّ»، على مستوى كيفيّة تقديم شخصيّته الأساسيّة، ومن وراء ذلك، تقديم شخص المخرج، كسينمائيّ ومثقّف، في علاقته برجل مال وسلطة. فبعد مشاهدتي إياه، شعرتُ بأنّ أسلوب المخرج في استنباط ذات رفيق الحريري، وعرضها أمام الكاميرا، لا يختلف كثيراً عمّا فعله في «الحبّ الموؤود» (١٩٨٣) مثلاً، مع نادية الجندي وصافيناز كاظم: ترك الشخصيّة على سجيّتها بهدف فضحها بأقوالها والتصرّفات أمام العين السينمائيّة للمخرج.
لعلّني لم أتوصّل إلى ذلك رغم بعض الأسئلة السينمائيّة. ربّما لأنّ الفيلم، بحدّ ذاته، يُغري المحاوِر بالانزلاق في متاهة السياسيّ والثقافيّ، أكثر من البحث في الفنّي والتّقني. فهل تحرَّرت أسئلتي من «تبسيطٍ» في طرح مضامينها؟ هل توصّلت إلى «استفزاز» السينمائيّ والمثقّف في شخص عمر أميرالاي، وفي «استدراجه» إلى أجوبة «صريحة» و«مباشرة»؟
لا أدري. كلُّ ما في الأمر أنّي أجريتُ الحوار معه، وأنّ الحوار لم يُنشَر في جريدة «السفير»، لسببٍ متعلّقٍ بمناخٍ سياسيّ ما حينها. احتفظتُ بالنسخة الأصليّة، التي ضاعت منّي فترةً طويلة، قبل عثوري عليها مجدّداً. غير أنّي تردّدتُ في النشر، لقلقٍ ألمّ بي إزاء حوار قديم مع سينمائيّ، رحل في ٥ شباط / فبراير ٢٠١١ قبل أيّام قليلة على اندلاع «الثورة اليتيمة» (عنوان كتاب زياد ماجد، «شرق الكتاب»، بيروت، ٢٠١٤) في «الدولة البربريّة» (عنوان كتاب ميشال سورا، «المنشورات الجامعيّة في فرنسا»، باريس، ٢٠١٢)، في ١٥ آذار / مارس ٢٠١١.
أمّا حماسة النشر، فمتأتّية من مشاهدتي، مرّة أخرى، «في يومٍ من أيّام العنف العاديّ، مات صديقي ميشال سورا» (١٩٩٥) لعمر أميرالاي، الذي عُرض بمناسبة إقامة «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى» في بيروت ندوةً (١٨ نيسان / أبريل ٢٠١٧) حول الباحث الاجتماعي الفرنسي سورا (١٩٤٧ - ١٩٨٦)، بمناسبة ترجمة كتابه إلى العربية، بعنوان «الدولة المتوحّشة» («الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر والترجمة»، بيروت، ٢٠١٧).
وهو فيلمٌ، بقدر ما يعكس حساسية السينمائيّ إزاء رحيل صديق، في مدينة أغوتهما معاً، يكشف أيضاً جوانب أليمة من الحرب الأهليّة اللبنانيّة (١٩٧٥- ١٩٩٠)، بمصائبها وأهوالها وحكاياتها.
لن أسألك عن دوافع اختيارك الرئيس رفيق الحريري شخصيّةً محوريّة لفيلمك الوثائقيّ الأخير، «الرجل ذو النّعل الذهبي». فللسينمائيّ حقٌّ في أن يختار من يشاء من شخصيّات، وما يريد من مواضيع. لكنّني أرغب في معرفة سبب انجذابك إلى مثل هذه الشخصيّات المعروفة والمؤثّرة، غالباً، في الحياة العامّة، كبناظير بوتو (مع أنّك لم تقابلها، فأنجزت عنها فيلماً موارباً وجميلاً) وسعدالله ونّوس وميشال سورا وفاتح المدرّس ونزيه الشهبندر ونادية الجندي وصافيناز كاظم وسواهم.
في الواقع، لا يستطيع المرء أن يفصل انجذابه إلى موضوعات أو شخصيّات معيّنة عن مجمل تطوّر علاقته بالعالم الذي حوله، وتحديداً عن سياق بحثه الدائم عن مطارح جديدة لم يستكشفها بعد، في الحياة كما في الفنّ، أكان ذلك مباشرة، أم عبر الآخرين. في محطّة من محطّات العمر، يتحتّم على الإنسان أن يضبط ساعته على بدهيّات الحياة وحقائقها الرّاسخة.
في الماضي، كانت نظرتي إلى «الآخر»، وتحديداً في الأفلام التي كنتُ أصنعها، تنطلق دائماً من زاوية ما يُمكن أن يمثّله هذا الآخر من فئة أو شريحة أو طبقة اجتماعيّة ما، أو ما يُمكن أن يجسّده من ظاهرة أو حالة اجتماعيّة سياسيّة معيّنة، من شأنها أن تخدم تحليلاً أو موقفاً فكريّاً ما.
كان من المهمّ أن تنطبق على «الأنموذج» المواصفات المطلوبة: مُستَضعفٌ، مُستَغلٌّ، مُضطَهد، إلخ. غير عابئين، في كثيرٍ من الأحيان، بالجانب الأهمّ الذي يحجبه هذا النّموذج، وهو الإنسان طبعاً. هذه النّزعة إلى إنكار الخاصّيّة الفرديّة عند الآخر، لا أجد لها تفسيراً اليوم سوى أنّها كانت رغبة خفيّة عندنا في نفي إمكانيّة وجود الكائن البشريّ خارج مصنّفاته الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة.
إنكار «الآخر» هذا، كان يُجاريه، في المقابل، إنكار السينمائيّ لذاته، حين كان يكتم أنفاس مشاعره وأحاسيسه تجاه شخصيّاته، وخصوصاً داخل عمله الفنّي. فعمليّة «التّجريد»، كما ترى، كانت في الواقع عمليّة مزدوجة ومتبادلة بين الطّرفين.
لم تعد تستهويني هذه العلاقة، من طرف واحد، مع «مجرّدات» إنسانيّة. لذا، عقدْتُ العزم، منذ سنوات عدّة، على ألّا أصنع بعد الآن أفلاماً تعرض لأشخاص لا سيماء لهم ولا أسماء، بل لشيء محدَّد يجذبني في أشخاصهم.
استحضار إبليس السّخرية
أعتقد أنّ هذا النّقد الذّاتيّ الذي بدأت تمارسه، بشكل أو بآخر، وبمستويات فكريّة وثقافيّة، وحتى فنّية مختلفة، في أفلامك الأخيرة برز بقوّة أكبر في عملك الجديد. هل يُمكن القول إنّ «الرجل ذو النّعل الذّهبي» تتويجٌ ما لهذا المسار النقديّ؟
أفلامي الأخيرة تحدّثت، بشكل رئيسيّ، عن أصدقاء أعزّاء رحلوا، وبالتالي اتّسمت هذه الأعمال بمسحة وجدانيّة، يُمكن أن تندرج في خانة المواقف النّبيلة. لكنّني لا أعتقد أنّي كائن منزّهٌ، ومُكوَّن فقط من خلايا نبيلة وسامية، وأنّي معافىً من أعراض الضّعف الإنسانيّ، إذْ لا يخلو الأمر من وجود خلايا عندنا ما زالت تعشّش فيها العتمة وغياب مصارحة النفس، خلايا لم «تعزِّلها» بعد ادّعاءاتنا بالشّفافية والمراجعة النقديّة للذّات.
ولأنّ إبليس السّخرية العزيز جدّاً على قلبي عاد ليتلبّسني من جديد، في فيلمي الأخير، بعد سنوات من الهجرة، فقد استهوتْني، منذ البداية، فكرة خوض هذه التّجربة الجديدة كلعبة، على الرّغم من وعيي التامّ بعواقبها. أبَيتُ حساب نتائجها، واستسلمت لقواعدها، إحقاقاً لها، وتحدّياً لذاتي.
أردتُ هذه التجربة أن تكون حالة أتألّب فيها على نفسي، كي أعتقها من أسْر تلك «العفّة» المصطنعة التي رصرصها، لسنين، منطق المحرّمات والنواميس والإيديولوجيّات، حتى غدت نظاماً مرعباً في أصوليّته وتزمّته، لا يُخاطب الواقع إلّا بالآيات المُنزلة، والأحكام المسبقة، والصّيَغ الجاهزة.
في النّهاية، استولتْ هذه الحالة على أذهاننا وحواسّنا وفضولنا، إلى درجة أنّها نجحت في أن تعطِّل إرادتنا الحرّة في مقاربة النّاس ومواقعة الحياة، من دون وجَلٍ أو رهاب. في هذه التّجربة، راودتني أيضاً رغبة التخلّص من عاهة الاستفراد بالحقيقة المطلقة، التي طالما سبّحْنا بحمدها، نحن معشر اليسار، إلى أن جاءت الواقعة، ورأينا بأمّ أعيننا كيف تهاوت حتميّات التاريخ التي احتكرناها، هي الأخرى، ردهاً من الزمن فوق رؤوسنا، كأوراق الخريف.
على خلفيّة هذه المراجعة العامّة، يُصبح «اللعب المرّ»، برأيي، ضرورة مشروعة للسّخرية من الذّات، ومن أنفسنا، وخصوصاً من «دونكيشوتيّتنا»، في مواجهة بعض الامتحانات الصّعبة في الحياة.
هل تبلور هذا الموقف أثناء تصويرك «الرجل ذو النّعل الذهبي»، أم أنّ ما قلتَه أعلاه ليس سوى تبرير لما حصل بعد إنجاز الفيلم؟
بديهيّات السينما تقول إنّ بإمكان المخرج أن ينقذ سمعته الفنّية، أو غير الفنّية، حتى اللحظة الأخيرة من عمليّة صُنع فيلمه، إذا احتاج الأمر إلى ذلك. أي، بمعنى آخر، كان باستطاعتي ليس فقط أن «أنْفذ بريشي» من «المأزق المصطنع» الذي زججتُ نفسي به وحسب، بل أكثر من ذلك: أن يُنادى بي بطلاً قوميّاً. فتحقيق «انتصار» سهل لا يُكلِّف صاحبه، في حالة كهذه، سوى إجراء مقابلة مطوّلة مع أحد «النّجوم» من خصوم الحريري اللدودين، أو حتى أقلّ من ذلك، مرفقاً الصورة بتعليق مبهّر بالإشاعات والتّهم والفضائح المتداولة في الشارع، وفي الكتب الصّفراء.
أساليب هذا النّوع لا ترضي غرور «اللعبة» في مجال الإبداع من أمثالي. وبالتّالي، كان من الطّبيعي جدّاً أن أبحث عن حلّ من داخل العمليّة الفنّية ذاتها، وليس من خارجها. هذا ما ينبغي أن يُفهم من لجوئي إلى دراما الموقف، الذي نجم عن المواجهة بيني وبين شخصيّة الفيلم، وعن أنّ تفريطي ببعض كبرياء «المثقف» كان لمصلحة الحبكة الفنّية للفيلم، ليس إلّا.
أعرف أنّ مثل هذا الكلام سيثير، بالطّبع، غضب الأصوليّين من الجانبين، أي مَن هم مع الحريري، ومن هم ضدّه. فتناول شخصيّة بهذا الوزن الاجتماعي والسياسي لا يُمكن أن يكون، بأيّ حال من الأحوال، موضوع لعبة فنّية برأيهم، وكأنّ مصير أمّة بكاملها يُمكن أن يتوقّف على ما يقوله فيلم ما. من حقّ كلّ طرف، طبعاً، أن يرى رفيق الحريري كما يحلو له. لكنّ المشكلة، برأيي، تبدأ من اللحظة التي يُقرّر فيها كلّ طرف أن يتماهى مع مهمّة السينمائيّ، ويُطالبه بما لا يستطيع، أو يجرؤ على فعله بنفسه. أي أن يتحوّل السينمائيّ، في هذه الحالة، إمّا إلى «أيقونجي»، أو إلى «قاتل مأجور». هنا، أريد أن أذكّر من يُصرّ على مشاهدة الفيلم كحقيقة واقعة وليس كعمل سينمائيّ، أنّ الجمهور، في بداية السينما، كان ينفعل كثيراً، ويصرخ في الصالة محذّراً من خطر الوقوع في قبضة الوحش. يحيا وهْم السينما.
عيون الضمير في سوبّرماركت الحياة
صوَّرْتَ الوالدة أفقيّاً، ومع أنّك فعلت الشّيء نفسه مع أصدقائك المثقّفين الثلاثة (الياس خوري وسمير قصير وفوّاز طرابلسي)، إلّا أنّ ثمّة مشهداً لا يُمكن تجاوزه إطلاقاً: في لحظة مكاشفة ذاتك أمام هؤلاء الأصدقاء، التقطْتَ مشهد لقائك بهم من فوق، فبدا الأمر وكأنّ ثمّة «مؤامرة ثقافيّة» تُحاك في الخفاء.
لا أدري إن كان اختيار جغرافية المكان، وزاوية تصوير هذه الجلسة وإضاءتها، هو من فعل تداعيات اللاوعي عندي، أم لا. غير أنّي لا أستبعد أن تكون وجهة نظر الكاميرا في هذا المشهد هي إحدى «عيون الضمير» المستيقظة والمنتشرة في خبايا «سوبرماركت» الحياة، حيث يُمكن أن يروج الغشّ والخداع.
أودّ العودة إلى سؤال الشخصيّات التي اخترتَها في أفلامك الأخيرة. ذلك أنّك «تعاملت» مع صديقين حميمين لك، هما ميشال سورا (في يوم من أيّام العنف العادي مات صديقي ميشال سورا) وسعدالله ونوس (هنالك أشياء كثيرة كان يُمكن أن يتحدّث عنها المرء): الأوّل بعد وفاته، والثاني قبل رحيله. أعتقد أنّ ثمّة «هيبةً» ما في التعامل مع الصديق، تحتّم اختلافاً في التعاطي السينمائي عن بقيّة الشخصيّات.
إنّها، في الواقع، الرهبة بعينها. امتحان يجري على ضفاف الموت. رهبة لا يغلبها إلّا الحبّ الذي تُكنِّه للصّديق. لكنّ ذلك لا يُلغي الألم، بالطبع، ولا يتمّ من دون عذاب، لأنّه يضعك في تحدّ صارم لا تعرف كنهه ولا محيّاه. فمحبّة إنسان أمر واهٍ، بمقدار ما هو ملموس وحاضر في النّفس. إنك كالقابض على روح، لا تعي حرارتها إلّا لحظة انطفائها. فكلّما غاب صديق أو قريب، اقترب زحف اليباس إليك. أنا اليوم عند هذه العتبة من التأمّل. «الرجل ذو النّعل الذهبي» كان أمراً عرضيّاً. يُخيّل إليّ أنّي سأظلّ أحوم حول هذه النقطة، حتى أخترقها وأجد ضالّتي فيها، أو أنّها ستُعييني، فأتركها. على كلّ حال، هذا الكلام يوصلني تماماً إلى الفيلم الذي أباشر، قريباً، العمل عليه.
وما هو مشروعك الجديد هذا؟
سيكون بمثابة احتفال بجمال الشيخوخة، ومحاولة لالتقاط وتثبيت أجمل لحظات الهرم عند المسنّين في العائلة. إنّها خطوة لملء الفراغ الكبير الذي سيُخلّفه هؤلاء بعد رحيلهم، من خلال الصُوَر التي سيختارونها هم عن أنفسهم، ويُقرّرون تركها لذويهم. إنّها خطوة، أيضاً، لبدء رحلة الحداد، وترويض النفس وتعويدها على الوحدة، بعد غياب الأحبّة.
نبرة الفيلم هي إلى الفرح أقرب، لأنّها تسعى إلى استكشاف سحر الشيخوخة، وتتغزّل بجمالها، بكل ما في هذه الكلمة من معنى: جمال الجسد والروح والحكمة والذّاكرة.
كيف تسبر عالم الشخصيّة التي تختارها، سينمائيّاً؟ لا شكّ في أنّك تجري أبحاثاً ما. لكن، هل ثمّة ارتجال أثناء التصوير، أم أنّ كلّ شيء مدروس سلفاً؟
اعتدت ألّا أضع أيّ تصوّر مسبق للعمل الذي أقوم به. لكنّ هذا لا يعني أنّ موضوعه لا يسكنني حتى العظم، وأنّي أحاول الاطّلاع على كلّ مصادر المعلومات التي تمتّ إليه بصلة. اعتدت، أيضاً، ألّا أدوِّن ما له علاقة بالعمل، وألّا أضع مخطّطاً لما أنا عازم عليه. والسبب، هو حرصي الشّديد على ترك فسحة كافية للدّهشة والمفاجأة، باعتبارهما عمادَي المغامرة الفنّية. لا أدري إن كان ذلك ينطوي على ثقة مفرطة بالنفس، أو أنّه من نوع التهوِّر المحسوب. لكنّني لا أنكر، في المقابل، وجود متعة في جعل الأشياء تتحرّش بي، وتحرّضني على التّواصُل. هذه التلقائيّة ليست حرّة بالضّرورة، لأنّك تستطيع أن تتخلّص بسهولة من تأثير الذَّوق والحساسيّة الفنّية المكتسبة لديك، وتعيش في أغلب الأحيان حالة من النزاع المستمرّ بين مسلّماتك الفنّية، وما تبحث عنه توقاً إلى التجديد. من هنا، كان سعيي الدّائم إلى أن أُدخل نفسي في هذه الدّورة الارتجاليّة، طمعاً في الخروج بإضافةٍ ما، تُغني أسلوبي في التعبير. من دون ذلك، يُخشى على السينمائيّ من أن يتعرّض للسقوط في حالة من الاكتفاء الذاتيّ الفنّي، وبالتالي في التكرار.
انهيار نمطيّة رجل المال والسّلطة
ماذا عن التَّوليف في «الرجل ذو النّعل الذهبي»؟ فحين انتهيتُ من مشاهدتي إيّاه، بدا لي أنّ اشتغالك على المونتاج كبير، وربّما أكثر من اشتغالك عليه في أيّ فيلم آخر.
سبق أن ذكرتُ أنّي لا أنطلق، عادة، في صنع الفيلم، من تصوّر مسبق، أو مخطّط ما، الأمر الذي يجعلني أعلِّق أهمّيّة أكبر على مرحلة المونتاج، ليس على صعيد بناء الفيلم وحسب، بل أيضاً لمعرفة ما إذا كان بين يديّ مادّة صالحة لأن تصبح فيلماً أو لا.
لعلّ الفيلم الأخير يتميّز عمّا سبقه، من ناحية أن بُنية السّرد فيه بدأت، فعلاً، مع قصّة تصويره، وعبر المراحل التي مرّ بها، والتي على أساسها جرت عمليّة توليفه وصوغه النّهائي.
في «الرجل ذو النّعل الذهبي»، نرى رفيق الحريري يستعرض المادّة التي صوّرتها عنه، عبر شاشة التلفزيون، ما يدفعني إلى سؤال عن مدى تدخّله في مجريات فيلمك.
بعد أن قطعتُ شوطاً لا بأس به في تصوير الفيلم، تجمّعت عندي مادّة مُصوَّرة تضمّنت الحوارات التي أجريتها مع الحريري، والتي أقلّ ما يمكن أن يُقال فيها أنّها كانت تفتقر إلى حرارة المماحكة والجدل، وأنّها جنحت باتّجاهٍ «مستقيم»، كان يُمكن أن يصبّ في مصلحة الحريري. من هنا، جاءت ضرورة اختلاق موقفٍ يقوِّم انحراف هذه المعالجة، ويعيد الفيلم إلى جادة الصواب. لم يكن الهدف، طبعاً، عرض المادّة على الحريري ليقول رأيه فيها، أو يعطي توجيهاته، كما يظنّ البعض. السؤال الأهمّ، الذي كان ينبغي عليك أن تطرحه، هو: هل كان من الضّروري أن تدلي باعترافك هذا أمام «الكاهن»، الذي هو الحريري؟ الجواب: نعم. لأنّي عاهدتُ نفسي، منذ البداية، على أن أخوض هذه اللعبة بشفافيّة تامّة، وعلى مرأى ومسمع من الحريري والجمهور أيضاً. هذه اللحظة، كان بإمكان الحريري أن يستثمرها لصالحه، لو لم تخُنْه نزعة رجل السلطة إلى الشموليّة، فأراد بعد استعراضه المادّة المُصوَّرة، المرْضية جداً لشخصه أن يُصادر عند المخرج صفته ووظيفته كمثقّف أيضاً.
لنتوقّف قليلاً عند بعض التفاصيل التقنيّة، كالتصوير والعلاقة بالحريري على المستوى السينمائي المهني الصرْف (مدى تجاوبه، مثلاً)، وغيرها من الصعوبات، إن وجدت.
لا بُدّ لي، هنا، من أن أثني على جرأة الحريري وإقدامه، عندما جازف ووقف، من دون قيد أو شرط، أمام عدسة سينمائيّ لا يُطمئن سجلّه الفنّي والسياسي أيّ رجل سلطة ومال. كما أريد أن أؤكّد، أيضاً، على التعاون والاستجابة الدائمة والأريحيّة التي أظهرها الحريري، والتي لا قبَل لرجل في موقعه أن يمنحها لفيلم غير مضمون النتائج. هذا الجانب، أثار دهشة الغربيّين الذين شاهدوا الفيلم، وأجمعوا على استحالة إمكانيّة تحقيق مثل هذا العمل السينمائي، عن رجل بمواصفات الحريري في بلادهم.
لعلّ أحد أسباب التشوّش الذي حدث خلال مقاربتي رفيق الحريري، يعود إلى انهيار الصورة النمطيّة العقلانيّة، أي الغربيّة، التي نحملها عن رجل المال والسلطة، وذلك أمام الخصوصيّة اللانمطيّة والملتبسة جدّاً لرجل المال والسلطة في بلادنا. ثمّة هرميّة وتراتبيّة وحواجز واضحة ومحدّدة، تضعها الطبقات السائدة في الغرب بينها وبين مَن هم دونها. هذه الحال لا تنطبق، بالضّرورة، على الشرائح السائدة في بلادنا، التي ما زالت تتحكّم فيها الرّوابط والأواصر العائليّة والعشائريّة والطائفيّة، إلى يومنا هذا.
من هذه الزاوية، يُمكن القول إن الحريري نجح، فعلاً، في أن يهزّ الصورة النمطيّة التي كنتُ أحملها في مخيّلتي عن رجل المال والسلطة. لا أظنّ أن عفويّته وشعبويّته كانتا مصطنعتين، بل هما من صلب تكوين شخصيّته.
انعكس هذان الارتباك والتشوّش على المشاهدين، أيضاً. ففي النقاش الذي تلا عرض «الرجل ذو النّعل الذهبي» في مسرح بيروت، في ٢٤ شباط / فبراير ٢٠٠١، تحدّث البعض عن «حيرةٍ» وقع فيها كثيرون.
مثل هذا التشوّش يُمكن أن يحدث حتى في مقاربة إنسان عاديّ، لأنّ المشكلة، أساساً، تكمن عند الذي يحمل التصوّرات والأحكام المسبقة عن الآخر. أما عن عدْوى التشوّش التي انتقلت من الفيلم إلى الجمهور، فإنّي أمنّي النفس بأنّ العمل نجح في إشراك آخرين في طرح بعض الأسئلة الجوهريّة، حول علاقة المثقّف بالسّلطة.
سؤال أخير: هل موّل رفيق الحريري الفيلم؟
الفيلم من إنتاج القناة الثقافيّة الفرنسيّة الألمانيّة «آرتي»، وبلغت ميزانيّته نحو ٢٠٠ ألف دولار أميركي، وأتعابي من القناة كانت مجزية جدّاً. هذا لا يعني أنّ ذمّتي ليست واسعة، وأنّها غير قابلة للشراء من قبل كلّ الشرفاء.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.