إلى رمزي حيدر، شاهداً حيّاً،
إلى إلياس الجوهري وخليل الدهيني شهيدين
كان الذّهاب إلى العمل أشبه ما يكون بالذّهاب لتنفيذ مهمّة بالغة الخطورة، إن لم نقل إنّها شبه انتحاريّة. كان الزملاء المصوّرون كعادتهم في «بوز البندقيّة» أو مرمى القنّاصة، أكثر منّا نحن الصحافيّين، الذين كنّا نكتب مجريات ووقائع تلك الأيّام العاصفة. كان عليهم أن يصوّروا الحرب الأهليّة بعدساتهم في لحظات انفجارها الفارقة. أما نحن الصحافيين فكان علينا أن نكتب بأقلامنا عن المعارك والشهداء والجرحى وعذابات النّاس. كنّا نعمد إلى الاتّصال الهاتفيّ متى توافرت الخطوط ، أو نذهب إلى غرف العمليّات ونسأل عن تفاصيل المعارك التي تدور بين الأحياء والبيوت ونتائجها. وكنّا نلتقي المقاتلين قرب خطوط التّماس الملتهبة، نستعلم منهم ما يجب علينا أن ندوِّنَه ونخرج به على القرّاء، ونتحدّث إلى النّاس عن معاناتهم مع فقدان الأمن والرغيف وحبّة الدّواء.
وللوصول إلى خطوط الجبهة يجب علينا أن نسلك في معارج الأزقّة، ونعبر الثغرات التي فتحتها سواعد المقاتلين في الجدران لتلافي عبور الطّرقات والمناطق المكشوفة على خطوط باتت معبراً للرّصاص والنار. أمّا المصوّرون فقد كان وضعهم دوماً أكثر حرجاً. كان عليهم أن يكونوا في مرمى البنادق ليلتقطوا لحظة الانفجار كي يُخلّدوا دقائقها بعدَساتهم، بينما أيديهم يجب أن تكون ثابتة وغير مرتعشة. كان عليهم ضبْط حركات المقاتلين وهم في لحظات الاشتباك المباشر، يطلقون نيران رشّاشاتهم وقاذفاتهم الصّاروخيّة وهم يتحرّكون بين زخّات اللهيب. أو رصْد الحرب اليوميّة والجموع والأفراد المدنيّين الذين تشاء ظروفهم العاثرة أن يتنقّلوا بين المعابر، أو يقصدوا هذا المكان أو ذاك، لا يقيهم من الرّصاص المتطاير سواء أطلقه القنّاصة أو سواهم سوى ثيابهم، قتلى في الشّوارع والسّاحات والأزقّة وجرحى ينزفون، وأنقاض مبانٍ عَصَفتْ بها الانفجارات وقذائف المدافع.
الياس الجوهري هو البداية
وسط معمعةٍ من هذا النّوع، كان الزّملاء يتساقطون كما فراشات على ضوء انفجار القذائف. كان الياس الجوهري هو البداية. سقط هذا الفتى القادم من الهرمل خلال حصار مخيّم تلّ الزّعتر ثمّ كرّت السّبحة: عبد الرّزّاق السّيّد في انفجار لغمٍ في الوسط التجاريّ بين جولات القتال، حبيب ضيا، عدنان كركي، جورج سميرجيان، والرّفيق العزيز خليل الدهَيْني الذي ظنّت القوى النظاميّة خلال حرب الإلغاء بين «مقاتلي الخندق الواحد» عندما صوَّب كاميرته، أنّه يوجّه قاذفاً نحوهم فأردوه شهيداً بعد أن غادرنا منذ وقت قصير. لكلٍّ من الذين سقطوا حكاية ترويها دموع الأهل والأحبّة وصورهم المعلّقة على جدران القلوب والبيوت.
كان السؤال الذي يراودني كمدير تحرير لمجلة «الحرّيّة» و«بيروت المساء» عندما أطلب من زميل مصوّر الذهاب للتّصوير هو: هل أنا أرسله إلى حتْفه حيث يلقى مصيره المحتوم؟ كان الياس الجوهري سبباً في تَركي العمل في واحدة من الصّحف اليوميّة الأولى التي عملْت فيها. إدارة التحرير تلح عليه أن يذهب وحدْسي ينبئني أنّه لن يعود وفي جعبته مجموعة من صور حصار المخيّم. وقفنا متواجهين: يذهب أو لا يذهب. والياس بيننا لا يعرف ماذا يفعل؟ بالطبْع انتصر قرار الإدارة على هواجسي وعلى موقعي المبتدئ في الجريدة. فكان أن ذهب الياس الشيعي من الهرمل، والذي لم يحْمه التباسُ اسمه، ولم يعُدْ. ظللنا أيّاماً ثلاثة نعمل على سحب جثّته بواسطة الصّليب الأحمر اللبناني. وفي اليوم الرّابع نجحْنا فرافقْناه إلى الهرمل ثم شيّعْناه.
في اليوم نفسه، غادرْت مكتبي ولم أرجع ثانية إلى العمل. أعرف أن لكل منا أسرةً ستنقلب حياتها رأساً على عقب متى حلت الكارثة. كدت أحياناً كثيرة أن أصرخ في وجه الحرب والمهنة التي تتطلب منّا جميعاً أن نكون دوماً حيث لا يجرؤ الآخرون. وسط زخّات الرّصاص يبحث كلٌ عن مكان يحتمي فيه. المقاتلون بمتاريسهم وأسلحتهم. معظم النّاس يأوون إلى بيوتهم، يتقوقعون في الزّوايا والغرَف الداخليّة وحتى الحمّامات الضيّقة، بانتظار أن يتوقّف عصفُ القصف، الموت، وتبادل نار الأسلحة الخفيفة والثقيلة. كنّا الوحيدين الذين عليهم المغامرة بالنّزول إلى ميادين الحرائق. ودوماً، كان المصوّر هو الأقرب منّا جميعاً إلى لحظة الموت. من منّا عاش، عاش بفعل المصادفة والحظّ لا أكثر ولا أقلّ. كم مرّةٍ عبرَت القذيفة والرّصاصة على بُعد شعرة من رؤوسنا وأجسادنا. لا أدري كم هي المرّات التي نجا فيها رمزي وعبّاس وجمال وأحمد ونبيل وعلي وهاني وميشال وزهير وبلال وباقي الزملاء.
لا لم ينجُ الجميع كما يتوهّم القارئ، حتى الذين سلِموا، معظمهم يحمل الجراح وشماً في ذاكرته وعلى جسده. والجميع يختزنون الحرب في مسامهم وأرواحهم. مقيمة معهم هي، أو هم مقيمون معها. لا هي تُبارحهم ولا هم يستطيعون الرّحيل بعيداً عنها. ودَوماً الحروب تترك بصماتها على النّفوس والنّاس والأشياء. وهؤلاء الزّملاء كانوا يحملونها معهم، تعويذة معلّقة في رقابهم لا تقيهم شرّ العيون الحاسدة ولا الأرواح الشرّيرة. إنما تضعهم دوماً في عين العاصفة أو قلبها، عاصفة الذّاكرة التي تطالعهم كما تطالعني، وجوه أحبّةٍ ورفاقٍ وأصدقاء عبَرَت الحرب والسيّارات المفخّخة على أجسادهم فقصفت أحلامَهم وربيع شبابهم.
كنيسة الأرمن قبل أن تصل الجرّافات
كانت المرّة الأخيرة التي رافقتُ فيها رمزي حيدر للتّصوير عشيّة وقف الحرب الأهليّة في أعقاب التوقيع على اتفاقيّة الطائف. يومها هدأت المدافع بعد أن حدث ما حدث في جبهات سوق الغرب، وصولاً إلى سيطرة القوّات السوريّة على بعبْدا واجتياح محيطها، واضطرار العماد ميشال عون إلى مغادرة «قصر الشعب» واللجوء إلى السّفارة الفرنسيّة. راج الحديث في تلك الأثناء عن مخطّط لإعادة إعمار الوسط التجاريّ في بيروت. ومعه ارتفع صخَب الجدل حول هذا المخطّط الذي وضعه فريق المهندسين الذين كلّفهم الرئيس رفيق الحريري إعداده. لكنّ شيئاً لم يحدث بعدُ على الأرض. كلّ ما شاع ليس أكثر من خرائط على طاولات المهندسين، استلزمَتْ قدْراً كبيراً من المعارضة باعتبار أنّ ضحيّتها ستكون روح المدينة ونسغها وناسها من كلّ الطّبقات والمهَن والحرَف والمناطق.
أخبرني رمزي أنّه ينوي تصوير الوسط قبل أن تصل الجرّافات، وتبدأ أعمال الهدم وتغيير المعالم التي نعرف كأبناء جيلٍ ذهب إلى دُور السّينما في ساحة البرج فشاهد أفلاماً غراميّة وحربية، وتغدّى في مطاعمه الشعبيّة من مطعم فلسطين إلى فلافل فريحة وسواهما. ونزل من القرية بالبوسطة ثمّ عبر على قدميه الصّغيرتين ساحتَي الشهداء ورياض الصّلح حتى وصل إلى موقف السرفيس في بناية العسَيلي، قاصداً مدرسته الداخليّة، ودفع للوصول إليها خمسة عشر قرشاً، ثمّ ربع ليرة بعد أن ارتفعت الأجرة. وقال لي رمزي إنّه نزل أكثر من مرّة ولم يهْتد، لهَول المشهد، إلى ما يستحقّ ويجب تصويره من عدمه. تحمّسْت للفكرة. كان الوسط التجاريّ ما زال هو هو كما تركتْه الحرب في آخر أيّامها. منظره العام يجعله أشبه ما يكون بغابةٍ أو حرج يحتفظ بأسرارٍ لا نعلمها. أسرار قد تودي بالمغامرين باختراق حرمته كمسرح حرب إلى التهلكة. لا شيء ممّا نراه يتقاطع مع ما نعرفه عنها خلال سنوات الحرب. المكان هادئ. هدوء أكثر رعباً من منوّعات الحرب. حجارة المنازل والمباني، ومعها أعمدة الكهرباء صدئة وملقاة بين أعشاب عالية، وهشير وشجيرات، مجارير تلقي محتوياتها على بقايا الأسفلت، حيوانات شاردة وقوارض تتقافز هنا وهناك. مبانٍ مبقورة الوجوه والواجهات والمداخل، إطاراتُ أبوابٍ مفقودة باستثناء ما يتعذّر نزعه من موقعه الأصليّ، نوافذ مخلّعة فقدت مساحتها ما سبق أن تمتّعتْ به كعيون للداخل على الشارع. متاريسُ رمل أو إسمنت متراكم داخل الأبنية وعلى زوايا الشوارع، لم تبرح مكانها بعد، لا تزال تفتح فوّهاتها على تقاطعاتٍ وشوارعَ، وأكوام من خراطيش فارغة قرب ما كانتْ مرابضَ للأسلحة. هذا متراسنا وذاك متراسهم. متراسان متقابلان لكنْ كلاهما صدئان وصامتان الآن. وشظايا في كلّ مسام جسدِ ما تبقّى من المدينة أو البلد. لم يكن أحد قد سبقنا في جولات مماثلة إلى المكان بعد، بمن فيهم مَن كانوا يملكون المكان، سواء كانت ملكيّاتهم عقارات وشركات تجاريّة، أو بسطات ومحالّ محترفات صغيرة في الأسواق المدمّرة التي غرقت وسط أكوام العشب البرّيّ. ولم تكن فرَق نزع الألغام قد وطئت بالآت الاستشعار أرضَ المكان. كان هذا النّزول أشبه ما يكون بمغامرةٍ جَسور وغير محسوبةٍ. أيّ دعسة كاملة أو ناقصة، أو زلّة قدم أو عبور أهوج إلى مبنى مفخّخ كان من شأنه أن يكلّفنا حياتنا. مع ذلك نزلنا في جولات استطلاع قبل الشّروع في التصوير. أخبرْتُه أنّ علينا أن نصوِّر بيروت التي ستختفي قريباً. لكنّ السؤال الذي كان يراودني هو: ما هي هذه البيروت التي ستختفي عن أنظار عارفيها في القريب العاجل، لا سيما أنّنا لم نعلم طبيعة المخطّط وتفاصيله، وإن كنّا نعلم أنّ هذه البيروت ستنقلب رأساً على عقب، وأنّ ما ستعرفه يشابه ذلك الزّلزال الذي حدث خلال العهد الرّومانيّ الذي دمّر منشآتها، وأحال كلّيّتها للقانون أثراً بعد عَيْن. اقترحتُ عليه أن نكتفي بتصوير النّوافذ الباقية والمباني القديمة التي هتكتْ تناسقَها الحرب بما فيها من أعمال حفر وكرانيش وواجهات وبوّابات بيوت من الخشب أو الحديد المشغول أبدعتْها أيدي معماريّي وحرفيّي أجيال ومراحل سابقة.
عندما سألتُ أحد الأشخاص الذين عثرنا عليهم في المكان، هل يمكننا الوصول إلى كنيسة الأرمن في ساحة الدبّاس؟ كنت أسأله وأنا أنظر إلى المبنى، بينما رمزي يجوب بناظرَيه محيط المشهد باحثاً عمّا يشبع فضول عدسة الكاميرا... يؤكّد مجيباً على سؤالي أنّ لا مشكلة تعترض عبورنا ودخولنا إلى المبنى لتفقّده. المسافة التي يجب اجتيازها تتراوح بين أربعين إلى خمسين متراً، علينا اجتيازها للوصول إلى المبنى. مسافة ليست طريقاً ولا درباً قادومية. مجرّد مسافة قصيرة بين الشجيرات المتشابكة. كنّا قد انتهينا من تصوير المنطقة الممتدّة بين مقهى الحاج داود وساحة الدبّاس بما فيه جوامع المجيديّة والعمَّري والأمير منصور عسّاف وكنيستا مار جرجس للموارنة المقابلة لمبنى اللعازاريّة، والروم الأرثوذكس المقابلة لمبنى الساعة والبرلمان. كنت أخمّن أن كنيسة الأرمن البيضاء المتوّجة بالقرميد ستكون عامرة بلوحات القدّيسين الذين ينظرون إلينا بدهشة نحن الدّاخلين إلى الكنيسة بغتة بعد سنوات من غياب المؤمنين عن الحضور. قدّيسون بألوان الأسود والأحمر والذّهبي يرفلون بالصّمت وسط مَشْحات من الدّخان. كنتُ قد حدّدت في ذهني صوراً قد لا يكون لها من وجود أصلاً. إذ من الممكن أن تكون الكنيسة قد احترقت بالكامل، وأنّ السّخام الأسود يغطّي الجدران، والمذبح متهدّم والمقاعد الخشبيّة عبارة عن مجرّد قطَع محترقة كلّياً أو جزئياً، والمباخر ومعها كلّ أدوات الطّقوس الكنسيّة الفضّيّة قد نُهبت، وثياب الكهنة المذهّبة قد التهمتْها نيران سنوات متلاحقة من الحرائق والإهمال. كنت أتصوّر كمّاً هائلاً من المشاهد القابلة للتصوير الذي لن يتحقّق لسوانا. وعندما سأل رمزي الشّخص نفسه: هل سبق لأحد أنْ عبَر المسافة ليدخل إلى الكنيسة؟ أجابه: لا، لم يسبق، بحسب علمي، أنّ أحداً فعل ذلك. يلتفت نحوي رمزي ويقول: يريد أن يجرِّب بنا الطريق إذا ما كان ملغّماً أم لا!
تضجّ المناطق اللبنانيّة كافّة بشيوع عادة القتل اليوميّ في المرابع الليليّة والطّرقات وكلّ الأمكنة. عسكريّون يتعرضون للاغتيال انتقاماً من تنفيذهم أوامر قياداتهم في ضبط المخالفين. أزواج يصرعون زوجاتهم في ما يُسمّى العنف الأسَريّ. آخرون لا يطيقون إعطاء أفضليّة السَّير لسواهم، أو أنّ فنجان «النسكافيه» الذي أعدّه لهم بائع عربةٍ على شكل مقهى غير مطابقٍ للمواصفات التي يريدونها، فيمتشقون سلاحهم ويردّونهم بالرّصاص. من لا يملك مسدّساً يستلّ سكّيناً يطعن بها مواطنه وسط الشّارع وعلى مرأى من المارّة والكاميرات. شباب بعمر الورد يقضون برصاص متفلّت يطلقه أناس لا يقيمون أدنى قيمة لحياة النّاس. المجتمع المدنيّ يتظاهر في الشّوارع، والأسَر تحجر على أبنائها وبناتها ليلاً كي لا يخسرون حياتهم بفعل فاعل أرعن. يستغرب اللبنانيّون شيوع هذه الظّاهرة في العام الحالي ٢٠١٧ على نحو متضخّم عن سنوات سابقه. البعض يترحّم على مجريات سنوات الحرب، رغم وجود هياكل الدّولة والأجهزة الأمنيّة والعسكريّة والاستخباراتيّة. والسّلطة السياسيّة تقف بين نارين: نار العودة إلى تفعيل قانون الإعدام مع مضاعفاته على صعيد العلاقات مع الدّول الأوروبّية والمنظّمات الدوليّة، ونار بقاء الوضع على ما هو عليه وزيادة التفلّت ليتوسّع إلى باقي المحافظات أسوة بمنطقة البقاع التي تحظى بالمنسوب الأعلى من الجرائم اليوميّة الموصوفة.
صورة الإعدام
نال رمزي حيدر جائزة دوليّة عن صورة له التقطها في منطقة الشيّاح لعمليّة إعدام أحد المتّهمين خلال الحرب. الصّورة تلك لفتتْ لجنة الجائزة التي رأت فيها بالتأكيد خروجاً على كلّ المألوف من التّقاليد التي أرْستْها الشعوب حيال المحاكمات وقراراتها بما فيا حكم الإعدام. يحدث هذا في زمنٍ ترفع فيه المنظّمات الحقوقيّة والإنسانيّة الصَّوت مطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام أصلاً من قوانين وتشريعات الدّول التي لا تزال تحتفظ بها.
عندما شاهدتُ الصورة قرّرت أن أكتب عنها، وفعلاً سمّيتها «عمليّة إعدام في بيروت» ونشرتُ صفحة عنها في جريدة «السفير» وصفت فيها مشهد العمليّة كما تتبدّى وتبدّتْ في الصورة أمامي. شابٌّ مُلقى على الأرض، يداه مربوطتان خلف ظهره، وآخر يقف في مواجهته، يرتدي ثياباً يوميّة كالّتي يرتديها الشبّان الذين يمكن أن تصادفهم في أيّ مكان، بما فيه حذاءٌ رياضيٌّ حديث. يمسك هذا الشابّ بيده رشّاش كلاشنكوف يصوِّبه نحو صدر ووجه الضحيّة الذي يبدو دون حَوْل أو قوّة لاستقبال الرّصاص الذي سينطلق بعد لحظات فيخترق جسده. المواطنون الذين تجمّعوا لمشاهدة المنظر كانوا يقفون على نحوٍ مُوارب، وجوههم إلى مركز الحدَث، حيث يقف القاتل والضحيّة، وأجسادهم شبه متوجّهة نحو خارج الحلقة الدائريّة، كأنّهم يتخوّفون من أن يقرّر هذا المسلّح أن يوجّه بندقيّته نحوهم في لحظة غطرسة أو نوبة جنون. قيل يومها إنّ الضحيّة يستحقّ الإعدام لأنّه متّهم بوضع عبوة متفجّرة في أحد الشّوارع، وقد قُبض عليه واعترف بارتكابه هذه الفِعلة. لكنْ لا شيء يشي بأنّ تحقيقاً مكتمل العناصر قد جرى معه، كما أنّه لم يحصل على محاكمة عادلة قد عُقدت له، وقد حظي فيها المتّهم بمحامٍ تولّى الدّفاع عنه، أو أتيح له حقّ الدّفاع عن نفسه في مواجهة اتّهام من هذا النّوع. ما حدث، وكان يحدث، لم يكن حكراً على منطقة أو قوّة من قوى الأمر الواقع. أكثر من ذلك: جرى تحويل المناسبة إلى طقسٍ احتفاليّ، إذ تمّ تشييع الخبر في المحلّة من أنّ عمليّة إعدامٍ ستُنفّذ في حرج الصنوبر القريب، خبر تنفيذ الإعدام انتشر كالنّار في الهشيم في المنطقة المجاورة لمسرح التّنفيذ. دعا من عَرف بالنبأ، مَن لم يعرف إلى مرافقته للمعاينة، وهكذا تجمّع حشد من النّاس لا رابط بينهم سوى اللقاء في هذا الميدان ومعاينة العمليّة.
باستثناء كاميرات المراقبة التي تلتقط الشّاردة والواردة في الجهة الموجّهة عليها، لم يتمكّن أحد من الصحافيّين المحترفين من التقاط صورة أو صوَر لعمليّات الإعدام الميدانيّ التي تشهدها شوارع المدن والقرى اللبنانيّة. صوَر هذه الأجهزة رغم تقنيّاتها، كالحة، ولا تتمتّع بالوضوح، ولا علاقة لها بانفعالات أو وجه الضحيّة أو قَسَمات القاتل. ما تنقله ليس سوى صورة مكبّرة لمنطقة أو شارع أو مدخل حيث يتصادف أن يلتقي القاتل بضحيّته. صوَر يمكن أن تفيد أجهزة التّحقيق، لكنّها لا تخبرنا القصّة كما تفعل وفعلت كاميرا رمزي حيدر عندما رافقتْ لحظات عمليّات الإعدام في بيروت في غضون سنوات الحرب الأهليّة.
مع ذلك يمكن القول إنّ لا شيء تَغيّر في حياتنا، مع فارقٍ واحد هو أنّنا نفتقد قدرة عين الشّاهد على النّفاذ، ونقْل هَوْل جريمة أودت بحياة إنسان دون أن تحمل تفويضاً من الإله أو المجتمع للقيام بمهمّة الحفاظ على أمنه مع توفير الضّمانات اللازمة للمتّهم.
الرّصاصة عند أسفل الرأس
قال محمود: لقد أصيب رمزي. وخرجت زلفة مذعورة. قال آخر يبدو أنّه استشهد. جريح أو شهيد لا نعرف بالضبط. جميع الزّملاء من محرّرين وإداريّين: حسن بزون وحسن عزالدين ومحمد قدوح وأحمد بزون وعاصم الجندي وفرج الله صالح ديب ووفيق هوّاري وفادي حمّود وقاسم طفيلي. جميعنا عشنا لحظة استحقاق لم نكن قد خرجنا منه بعد. كنّا في مقرّ مجلّة «بيروت المساء» في الطابق السابع في منطقة وطى المصيطبة. وصلَنا الخبر فأثار فينا تلك المَواجد والمَواجع التي سبق أن رافقتنا لدى تفجير السيّارة المفخّخة في شارع عفيف الطيبي في العام ١٩٨١ حيث قضت ميّ حمّود ودلال الزين شهيدتَين بينما سقط الباقون جرحى. كان الطّابق الذي نشغله والذي يصادف نفس الطابق الذي كنّا نعمل فيه تحضيراً للإصدار في شارع الطيبي لا يزال سليماً، لكنّ أثر الشّظايا ظلّ أوضح على وجوه الشهيدتين والجرحى أمثال عبد الله وبلال وإسعاف، الصورة تراءت لنا كأنّها تتكرّر بعد وقت ليس بالطّويل، اللقطة تُستعاد ثانيةً مع اختلاف في التفاصيل.
أصيب رمزي وكان في منطقة اشتباك في الجبل في عمليّة تصوير كالتي دأب مع باقي «أبناء الكار» على القيام بها. كانوا يذهبون جماعات جماعات يحاولون شدّ أزر بعضهم بعضاً، وهم يحملون أكفانهم على أكتافهم مع عدّة التصوير. يسيرون بحذر على خطوط التّماس، وهم لا يعرفون بالضّبط أين هي الكمائن التي يختبئ القنّاصة بين أجَماتها يراقبون صيداً ما. لا ضرورة لأن يكون هذا «الصَّيد» محارباً معادياً. يكفي أن يكون هدفاً في مرمى النّار، من ناحية الجبهة المعادية. كلّ من يتحرّك في هذا القطاع يصبح عدوّاً يجب قتلُه بمجرّد أن يكون في مدى الرماية الفعّالة. لا فرق بين رجل وامرأة، صغير أو كبير. إنسان أو حيوان حتّى. كان رمزي يتحيّن اللحظة لالتقاط الصورة من على جبهة سوق الغرب - عاليه، حيث الجبهة التي ظلّت حتى اللحظة الأخيرة من عمر الحرب مستعرة. لم تعد في حينها تلك الجبهة مجرّد تفصيل في «حروب صغيرة» كما أطلق عليها المخرج الصديق الراحل مارون بغدادي عنواناً لفيلمه. كانت «نيوجيرسي» تطفو على مياهنا وتطلق قذائفها على الجبل. كانت الدعاية قد سبقتها. قذيفتها تزن ١٢٥٠ كلغ بالتّمام والكمال. ومدافعها قادرة في غضون فترة لا تتجاوز اللحظات أن تجعل مكاناً يقام عليه بناء كبير ومن عدّة طبقات، أرضاً صالحة لزراعة البندورة. طائرات القوّة متعدّدة الجنسيّات هي الأخرى كانت تأتي ّمن صوب البحر وتتّجه نحو مواقع الجبل. لم تكن الحرب قد توقّفت، بل كانت أكثر اشتعالاً ممّا عرفَتْه في جولات سابقة مرّت على البلاد. هذا على الرّغم من أنّ ميزان القوى بات مختلاًّ بعد انسحاب المقاومة من بيروت في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي صيف العام ١٩٨٢.
جريح أم شهيد؟ كنّا نتأرجح على وقع السؤال الذي يقلقلنا. ما عرفناه لاحقاً ضاعف من حيرتنا. عرفنا أنّه جريح في حكم الشهيد. وقد يكون شهيداً في حكم الجريح. فقد استقرّت الرصاصة في رقبته، عند أسفل الرأس. وأنّ الأطبّاء لم يستطيعوا مباشرة الاقتراب منها أو محاولة نزعها من مستقرّها. كانت حياته معلّقة بهذه الرّصاصة التي تُظهرها الصّوَر الشعاعيّة، وقد تسمّرت في مكانها في أعلى الرقبة عالقة في ما بين الفقرات. كانت التوقّعات التي نتداولها بناءً على تقدير الأطبّاء طبعاً مفزعة، وهي تتراوح بين احتمالات الشلّل أو الموت باعتبار أنّ فُرص النّفاذ محدودة. مجرّد كُسور في المئات لا العشرات. ونجا رمزي بأعجوبة كتلك التي يتداولها المؤمنون بوصفها معجزات لا تتحقّق إلّا بقدرات الأنبياء والقدّيسين وبما يكسر ثبات القوانين ونفاذها. بعد أشهر سيظلّ رمزي يتحرّك بتثاقل جرّاء هذه الرّصاصة التي تركت حياته معلّقة في مطهر الحياة أو الموت قبل أن يتعافى ويعود لمزاولة حياته العاديّة.
تشبه تلك الرصاصة في موضعها المحدّد كما ظهرت في الصور الشعاعيّة تلك التي تحدث لدى عمليّات الإعدام الميدانيّة التي تنفّذها الجيوش خلال الحروب. شاهدنا صوراً مماثلة خلال حروب فيتنام وكوريا وفي الحرب الثانية. ضبّاط يمسكون بقبضاتهم مسدّساتهم المذخَّرة يقتربون من خلف «المحكومين» مكتوفي الأيدي ويطلقون عليهم طلقة واحدة فقط، طلقة واحدة قاتلة وتنتهي حياة إنسان بعدها. كأنّها رصاصة القتل التي لا نجاة منها. مع ذلكنجا رمزي وها هو يحمل كاميرته وعدّة التصوير ويخوض في ثنايا الحياة التي انتزع حقّه بها مثله مثل الشهود الأحياء من المصوّرين الصحافيّين الذين عاشوا الحرب الأهليّة اللبنانيّة أو الحروب العربيّة اللاحقة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.