العدد ١٧ - ٢٠١٧

معرض ذاك البرازيلي

أخجل من الاعتراف اليوم، وأنا أتمّ عامي الثّامن والثّلاثين على هذه الأرض، بأنّني لم أزرْ يوماً معرض رشيد كرامي الدّولي كلّه. عشت ثماني وعشرين سنة من حياتي في طرابلس، على بعد خمس دقائق بالسّيارة من المعرض، ولم أجرؤ أو أفكّر سابقاً بزيارته كاملاً. تقتصر معرفتي به على القاعة الكبرى حيث يقام معرض سنويّ للكتاب، والباحة خارج هذه القاعة وجزء من الحدائق فيه.

منذ سنتين أو ثلاث، أعدُ نفسي شهريّاً بأنّني سأشارك في جولة سياحيّة تنظّمها صديقة طرابلسيّة لأرجاء المعرض، أو أنّني سأطلب من صديقتي المعماريّة الطرابلسيّة أن ترشدني فيه. لكنّني سرعان ما أنشغل وأؤجّل مشوار طرابلس بسبب عدم رغبتي بقضاء ساعتين على الطريق من بيروت إلى عاصمة الشّمال.

ورغم أنّني لا أعرف المعرض إلّا أنّه ظلّ يلاحقني لفترة طويلة. بقيت كوابيسي لسنوات تدور حول الأمر عينه: أنا محتجزة داخل معرض رشيد كرامي والأعشاب تنمو من حولي وأنا أصرخ ولا أحد يسمعني. استمرّ الأمر سنين لحين توقّفت عن المرور أمام المعرض، حين نقلني أهلي من مدرسة إلى أخرى كان طريقها مختلفاً.

لقد شكّل المعرض لي ولغيري من الطرابلسيّين مصدر خوف لسنين طويلة. فجيل الحرب الذي ولد في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات تخرّج من المدرسة وانتقل إلى حياته الجامعيّة والعمليّة فيما كان المعرض لا يزال مغلقاً ومثيراً للخوف، والرّوايات والأساطير الشعبيّة حوله كثيرة. فبعد دخول قوّات الردع العربيّة إلى لبنان، «استقرّت» مجموعة من الجنود السوريّين فيه لسنوات عديدة، وكان دخوله ممنوعاً على العامّة. لذلك ارتبط المعرض في ذاكرتي وذاكرة الكثير من أبناء جيلي بنوع من الخوف والرّيبة.

لا تمّحى من ذاكرتي حين كنت في العاشرة وكان والدي يأخدنا مرّة في الأسبوع في فصل الرّبيع لركوب درّاجاتنا خارج المعرض في أرض اتّضَحَ لاحقاً أنّها مصمّمة لركن السّيارات. كان يفصلنا عن المعرض سور من الباطون فيه فراغات صغيرة. أذكر أنّنا كنّا نحاول استراق النّظر إلى داخل المعرض فنرى الجنود ونصاب بالرّعب، هذا إذا تمكنّا من رؤية أيّ شيء بسبب نموّ الأعشاب داخل هذه الفتحات. كنت حين نمرّ في السّيارة بتلك المنطقة أحاول عدم النّظر إلى جدران المعرض وأكرّر لنفسي «لا تخافي... لا تخافي... دقيقة ونعبر المكان»، خصوصاً أنّ الرّوايات التي كنّا نسمعها في المدرسة عن المعرض تتراوح ما بين «يقتلون النّاس ويدفنونهم بين الأعشاب»، «يعذّبون المساجين تحت القبّة الكبيرة» وغيرها من القصص التي نسجها الخيال الشّعبي عن الوجود السّوريّ في المعرض. وكنت قد أقنعت نفسي أنّ المباني المطلّة على المعرض فارغة من السكّان، فمن بكامل قواه العقليّة سيسكن في هذا المكان المخيف؟ لم أكن أعرف وقتها أنّ سعر الشّقق في «منطقة المعرض» خياليّ بالنّسبة إلى مستوى معيشة أهل المدينة آنذاك. لم أكن أعرف وقتها أنّ منطقة الأعشاب والجنود تلك هي تحفة معماريّة، ولم أكن بالطّبع قد سمعت باسم أوسكار نيماير.

توقّف والدي عن اصطحابنا إلى المعرض بعد فترة، وبات يفضّل أن نلعب على الكورنيش البحري لمدينة الميناء الأقرب إلى منزلنا. ولذلك نسيت المعرض وجنوده وأعشابه، ولاحقاً توقّفت حتّى عن اللعب على الكورنيش لأتفرّغ للدّراسة.

حين بلغت الثامنة عشرة من عمري وطلبت من أهلي تعليمي قيادة السّيارة كنت أعرف أنّ عليّ مواجهة خوفي من المعرض. فلمن لا يعرف، أماكن ركن السيّارات المحيطة بالمعرض هي لتعليم قيادة السيّارات لكلّ المراهقين الطّرابلسيّين. وكأنّ الأمر قانون أو مادّة في دستور غير مكتوب لعاصمة الشّمال. لا أعرف طرابلسيّاّ أو طرابلسيّةً من جيلي أو أصغر لم يبدأ تعلّم قيادة سيارة في ذلك المكان. إذ تشكّل الأرصفة التي تفصل ما بين الأماكن المخصّصة لركن السيّارات الوسيلة الأفضل لتعليم كيفيّة القيادة بين الخطوط وفي أماكن ضيّقة وكيفيّة إعادة السيارة إلى الوراء. ذهبت إلى هناك بضع مرّات مع والدتي ووالدي، ومن شدّة خوفي من المكان أجزم أنّني في المرّات السّتّ أو السّبع تلك لم أفهم شيئاً من قيادة السّيارة. تطوّع حينها ابن عمّ والدتي لتعليمي القيادة في أمكنة أخرى من المدينة، عند السّادسة صباحاً أو في وقت متأخّر من الليل كي لا نصادف سيّارات أخرى، فنسيت معرض رشيد كرامي كليّاً حتّى سنتي الجامعيّة الثّانية.

درّاجة واستكشاف

اقترحت زميلتي في الدّراسة أن نذهب إلى معرض رشيد كرامي لنمارس رياضة ركوب الدرّاجات الهوائيّة. كدت أقع من الصّدمة. في بضع ثوانٍ تذكّرت الجنود والأعشاب والكوابيس. لم أفهم ماذا سنفعل هناك في هذا المكان المعزول والمخيف. شرحت لي أنّه بعد خروج الجنود السوريّين من المعرض بدأت جمعيّةٌ محلّيّة بتأجير الدّرّاجات الهوائيّة لمن يرغب بسعر زهيد، ويمكننا ركوبها في جزء من حدائق المعرض. رفضتُ رفضاً قاطعاً. واقترحت ممارسة رياضة المشي على الكورنيش البحري.

قد يكون أفضل ما فعلتْه صديقتي تلك أنّها لم تيأس وبقيت تصرّ حتّى قررتُ أن أسايرها وأنا أقول بيني وبين نفسي «اذهبي مرّة واحدة وتخلّصي من نقّها». أذكر تماماً أنّني كنت أرجف وأنا أقود سيّارتي الصّغيرة داخل موقف السيّارات قرب مدخل الحدائق في المعرض. وجدتُ صديقتي إيمان تنتظرني هناك وابتسامة تعلو وجهها مقابل اصفرار وجهي.

لم يطل الأمر حتّى أدمنتُ المكان. صرت آتي لوحدي حين لا تكون صديقتي قادرةً على ذلك. وبعد أن كنت ألحق أيّ مجموعة، ولو كانت من الأطفال، تركب الدّرّاجات كي لا أبقى لوحدي، بتّ أغامر في طرقٍ ومساراتٍ جديدة تعرّفت من خلالها على أجزاء كبيرة من المعرض، من دون أن أتجرّأ يوماً على دخول أيّ مُنشأة منه. كان المكان يشكّل متنفساً لي وللمئات غيري من سكان المدينة لقضاء وقت ممتع وممارسة الرياضة وسط تحفة معماريّة وحدائق جميلة. حفظْتُ اسم المهندس، وقبل عهد غوغل ذهبت إلى مكتبة الرابطة الثّقافيّة وبحثت عنه في الموسوعة وصُدمت حين علمت أنّ المعرض هو واحد من إنجازاته المتعدّدة في البرازيل موطنه وحول العالم.

في تلك الفترة قرّرتْ جمعيّة «الرّابطة الثّقافيّة» التي تنظّم معرضاً سنويّاً للكتاب منذ عشرات السّنين، القيام بذلك في القاعة الكبرى لمعرض رشيد كرامي. تحوّل المكان في بضع سنوات إلى مركز الحركة في المدينة، بعد أن أصبح يشهد تنظيم عدّة معارض سنويّاً. وبتنا نرى عدداً أكبر من العائلات مع أطفالهم في حدائقه، لكنّ المعرض لم يصل إلى قدرته القصوى من الاستخدام. إذ لا يعقل أن يقتصر أمر استخدام مليون متر مربّع من الأرض ومئة وعشرة آلاف متر مربّع من المنشآت على بضعة معارض وحفلات فنّيّة في الأعياد سنويّاً.

سخط شعبيّ

يلوم معظم الطرابلسيّين سياسيّي المدينة حين الحديث عن وضع المعرض الحاليّ. يعتقد أكثر المتفائلين بينهم أنّ هؤلاء السياسيّين لم يبذلوا أيّ جهد لحماية المعرض من محاربة «أهل بيروت» له، فيما المتشائمون يصرّون على أنّ هؤلاء يريدون إبقاء المدينة «متأخّرة» عن غيرها للإبقاء على يدهم على سكّانها، ولا يناسبهم تطوير المعرض أو أيّ منشآت أخرى. فالمعرض الذي انتهى العمل به في السّنة التي بدأت فيها الحرب الأهليّة، بقي ينتظر فرصته مع إعادة الإعمار في التسعينيّات، لكنّه لم يحصل عليها. يقول بعض العالمين بشؤون المعرض إنّ قرار إهمال المعرض مركزيّ، اتّخذته السّلطة السياسيّة في بيروت رغبةً منها بجلب الاستثمارات إلى بيروت وليس إلى طرابلس، والدّليل أنّه منذ خروج الجيش السوريّ منه لم يشهد سوى بضعة معارض دوليّة فيما كانت بيروت تستقبل الكثير منها.

إذا كان السياسيّون المحليّون كما يقال مختلفين فيما بينهم على من يدير المعرض أو يجعله «من حصّته»، أو سياسيّو بيروت هم من يقف عائقاً أمام تطويره لكونه يقع ضمن سلطة وزارتَي المال والاقتصاد، فلا شكّ أنّ المعرض يشكّل فرصة ضائعة للمدينة ليكون لها مرفقها الهامّ الذي سيقوم بالتأثير على كافّة القطاعات الاقتصاديّة في حال تطويره.

لكنّ الأمر ليس بهذه السّهولة، فالمعرض بعد خروج الجيش السوريّ منه كان قد بقي حوالي عشرين سنة من دون أيّ عمليّة تأهيل أو صيانة. ويقول عالمون بشؤونه إنّ حالته نهاية التسعينيّات من القرن الماضي كانت مأساوية، إذ لم يبق فيه أيّ بلاط أو مغاسل أو إضاءة إلى جانب تدهور وضع المنشآت.

يضاف إلى ذلك أنّ فكرة المعارض الدائمة أصبحت مع الألفيّة الجديدة فكرة قديمة. يقول المهندس المعماريّ وسيم ناغي الذي يعمل ويعيش في طرابلس، إنّ التحوّل أصبح لإقامة معارض تخصّصيّة متنقّلة أو موسميّة، ولم يعد هناك حاجة إلى معرض دائم مع التطوّر التقنيّ ووصولنا إلى ما يسمّى القرية العالميّة. وقد أثّر هذا على أهمّيّة المعرض. يضيف ناغي أنّه حين تمّ بناء المعرض كان خطّ سكّة الحديد بين طرابلس وبيروت يعمل ومطار القليعات أيضاً، ومرفأ طرابلس في عصره الذهبيّ، وبالتّالي كانت المدينة عاصمة ثانية حقيقيّة. لكنّ الوضع تغيّر جذريّاً بعد التسعينيّات من القرن الماضي. زاد إهمال مدينة طرابلس وزادت المركزيّة. أكثر من ذلك، تفتقر المدينة للبنى التحتيّة التي تساعد المعرض على لعب دوره. كذلك فإنّ طريقة تنظيم مجلس إدارة المعرض محكومة بتوافقات سياسيّة، ما يجعل العمل من أجل تطوير المعرض صعباً، إضافة إلى اقتصار الأمر على أقلّ من عشرين شخصاً ما بين مجلس إدارة وموظّفين يُديرون هذا المرفق الكبير، مع شكوك حول كفاءة بعضهم في القيام بذلك.

يحلم سكّان طرابلس بآلاف فرص العمل التي ستحظى بها المدينة في حال أصبح معرضاً دائماً كما كان مقرراً له. في السّنوات الماضية قامت، وفق ناغي، شركات عدّة بالتفكير في الاستثمار في المعرض بمشاريع مختلفة، لكنّ الأمر توقّف حين وصلت الأمور إلى الجدوى الاقتصاديّة من هذا الاستثمار: كيف سينجح مشروع في مدينة تشهد معارك موسميّة بين سكّانها في مناطق منها، ويتمّ شيطنتها في الإعلام ويمتنع حتّى لبنانيّون من مناطق أخرى عن زيارتها؟ لا يمكن للمشاريع أن تعيش وتستمرّ اعتماداً فقط على أهل المدينة، ووقف ذلك عائقاً أمام أيّ مشروع جدّيّ. أكثر من ذلك، تفتقر المدينة لأبسط مقوّمات إقامة مشروع دائم: بنىً تحتيّة، مواصلات عامّة، فنادق... إلخ.

يقول ناغي الذي يحمل همّ المعرض منذ سنوات ويجول به حول العالم في المعارض الهندسيّة والمعماريّة والثقافيّة والذي أصبح من دون شكّ الخبير الطرابلسيّ الأوّل بالمعرض، يقول إنّ أيّ تفكير باستثمار مستقبليّ للمعرض يجب أن يراعي أموراً عدّة، منها أن يكون مساحة مفتوحة وحيّزاً عامّاً لسكّان المدينة مع الحفاظ على القيمة الثقافيّة للمعرض، وإمكانيّة استثمار أربعمئة ألف متر مربّع منه في منشآت جديدة. كذلك يتمنّى ناغي تسجيله ضمن التّراث اللبنانيّ والعالميّ لحمايته. كما يناشد المعماريّ السّلطات المسؤولة عن المعرض وضع خطّة للحفاظ على منشآته. ويتطلّب ذلك القيام بتدعيم كلّ الأبنية التي بدأت بعض التصدّعات تظهر عليها.

حين تمّ بناء المعرض في الستّينيّات كانت التقديرات تشير إلى أنّه سيخلق أربعة آلاف فرصة عمل لمدينة طرابلس. اختلف الرّقم اليوم من دون شكّ، لكنّ مهما يكن حجم التوقّعات فهو سيساعد المدينة، التي تقول بعض الدراسات إنّها من بين الأفقر في المتوسّط، على البدء بالخروج من كبوتها الاقتصاديّة.

أتذكّر وأنا أقود سيّارتي حول المعرض قبل العودة إلى بيروت مع انتهاء يومين من العطلة قضيتهما في طرابلس، ما قاله لي أحدهم منذ بضع سنوات: «ربّما حين يتمّ استثمار المعرض تعودين أنت وآلاف الطرابلسيّين الذين هجروا المدينة إليها، وتجدين فرصة عمل هنا». أفكّر كم أنّ هذه المدينة مظلومة ومنسيّة ومهملة حتّى بات خلاصها وأملها في الازدهار الاقتصاديّ معلّقاً بتحفة معماريّة لمهندسٍ برازيليّ اسمه بقي أغلب سكّانها، وأنا منهم، سنوات طويلة حتىّ حفظناه.

العدد ١٧ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.