العدد ١٧ - ٢٠١٧

ثلاثة أيّام في طهران

إرهاب وجاز وساكسُفون

طهران، الأربعاء ٧ حزيران / يونيو ٢٠١٧

«لا تخرجي! أرأيتِ ماذا حدث؟!» لم أزل في الفراش. نمت البارحة في ساعة متأخّرة، واستيقظت متأخّرة. فتحت الرسائل الإلكترونيّة قبل أن أنهض. ليست عادتي، لكنّي أفعلها أحياناً. عيناي نصف مفتوحتين، فتحت الموقع الإخباريّ. أخبار متتالية، ودون انقطاع، عن هجوم إرهابيّ في طهران. هجومان. انتحاريون وتفجيرات في موقعين مهمّين. البرلمان، ومرقد الأمام الخميني.

شعرتُ بالذنب

كتبت وطمأنت أهلي في الأهواز إلى أنّ الأحداث بعيدة عنّي، وكلّ شيء بخير، كي لا تقلق أمّي. تواصلت مع أختي، وقلت لها إنّي طمأنتهم. بكيت على القتلى. تضاعف أعدادهم بعد العثور على جثث أخرى. ومات بعض الجرحى بعد نقلهم إلى المستشفى. أناس يفقدون حياتهم دون أن يشاءوا، ودون أيّ سبب. مباغتة، وهم يواصلون حياتهم اليوميّة.

أعرف أنّ الكثير من النّاس أصبحوا يموتون هكذا اليوم، بل بأشكال مفجعة أكثر من هذا، في الأنحاء المختلفة من العالم. صباحات كثيرة تبدأ بالموت، في السنوات الأخيرة. في بلدان بعيدة، ومجاورة. تألّمت عليها، وفي كثير من الأحيان شعرت بالذنب! لكنّ كلّ شيء قريب جدّاً منّي هذه المرّة. كتب لي أصدقاء وصديقات من بلدان أخرى، يريدون الاطمئنان عليّ. رددت بأنّي غير مصدّقة، وحزينة. كتب لي صديق: «لمَ أنت حزينة؟ فإنك تقولين إنّ الأحداث بعيدة عن منزلك». ردَدت بكلمة غير لبقة قليلاً، واستطردْت: «كيف تقول ذلك؟ هناك أناس يموتون بالقرب منّي، في المدينة التي أعيش. أناس أبرياء. ولا يمكنني أن أفعل أيّ شيء».

لم أتمكّن من الرّدّ على الاتّصالات الهاتفيّة. تتوالى الأخبار، الصّوَر، ومقطع فيديو قصير نشره الإرهابيّون. كتبت للمرّة الثّالثة: «سأتّصل بك بعد قليل». قهوة، وقهوة أخرى. كلّ ما كنت أريد كانت الموسيقى. أن أسمع «شجريان». قد يسعفني «النفرّي». منقذي في كلّ وقت. لكنّي لا أستطيع ولا أرغب في القراءة الآن.

ما معنى «انغماسي»؟

التقيت أختي بعد انتهاء دوامها اليوميّ، كعادتنا كلّ يوم. سألتْني من جديد باستغراب وقلق: «هل رأيت؟ لم أستطع القيام بالعمل اليوم، وقلبي كان يخفق بشدّة». تمشّينا كعادتنا كلّ يوم، وتسوّقنا. في المجمّع التّجاري قالت أختي «إنّي بدأت أنظر إلى النّاس كأنّهم مشتبه فيهم، بعد الإرشادات التي نشرت منذ الصّباح في العالم الافتراضي»، تعلّم كيف التعرّف إلى الانتحاريّين في الأماكن العامّة. نظرنا إلى بعض الزّبائن، وحدّدنا بعض الانتحاريّين بينهم. ضحكْنا. لأوّل مرّة ضحكْت اليوم.

لم نُطل المشوار. كان عليّ أن أنتظر صديقتي التي انفصلتْ أخيراً عن صديقها. حزينة جدّاً وعليّ أن أجعلها تنسى حزنها، مثلاً! كرّرت لنفسي أنّني لطالما كنت قويّة. الحياة أقوى من كلّ شيء. شعاري الذي شعرت بأنّه يضعف الآن ويَهِن. لكنّني قاومت. بدأت بإعداد «كبّة اليقطين» التي اكتشفتُها وتعلّمتُها في زيارتي الأخيرة إلى لبنان، وأحببتها جدّاً. كان من المقرّر أن أتّصل بصديق لنا، قادم من أميركا وبريطانيا قبل بضعة أيّام، بعد رحلة بحريّة استغرقت عدّة أشهر، ورحلات جوّية، كي نتّفق على موعد لقاء، فهو يسكن مدينة شماليّة، تبعد ثلاث ساعات عن طهران. اتصلْت. قرّرنا أن تكون السهرة يوم السّبت في بيتي، لكنّه سيأتي إلى طهران غداً، وسنزور يوم الجمعة معاً بعض الغاليريهات والمعارض التشكيليّة، فأيّام الجمعة هي أيّام افتتاح المعارض عندنا. لم أتحدّث معه عن الأحداث، سوى بجملتين، أو ثلاث. جاءت صديقتي برفقة صديقتها. بدأتُ الحديث معهما عن أحداث اليوم، ثمّ قلت لنفسي: «كفي، وغيّري الموضوع أمام المسكينتين!». اتّفقنا على أن أذهب للمشي اليوميّ، وتذهبا هما ليكملا مشواراً، ثمّ نذهب إلى مقهى. المقاهي لا تفتح في رمضان، إلّا بعد الإفطار. اّتصل صديق آخر وأنا أمشي، سألني: «مريم، سؤال! ما معنى الانغماسي؟ كتبوا في موقعهم أنّ إرهابيّي اليوم كانوا انغماسيّين». أخيراً أصبحتُ خبيرة في المصطلحات الإرهابيّة! ضحكْت معه. واصلت المشي، وعدْتُ أنتظر الصديقتين. في الطريق إلى المقهى اتّصل صديق لي، لم نلتق منذ فترة بعيدة. سألني: «كيف الأحوال؟» - «بخير، وأنت؟» قال: «إرهاب، وتفجيرات». قلت: «أنت الوحيد الذي لم أشأ أن أبدأ حديثي معه عن الإرهاب، لكنّك أنت بدأت». قال: «نعم، منذ الصّباح وأنا كئيب». في المقهى التقيت صديقي المقرّب، الذي كثيراً ما يرتاد هذا المقهى. جلس معنا قليلاً، وتحدّثنا أيضاً عن أحداث اليوم. في الليل كنتُ أهدأ. كتبت لصديقي معتذرة عن كلمة الصباح غير اللبقة. قرأت سطوراً من كتابٍ جديد، يتحدّث من منظور فلسفيّ عن الزوال. لا! ليس الوقت وقتَه. فكّرت أن أشاهد تتمّة الفيلم الذي لم أكمل مشاهدته منذ أمس، لكنّ الرغبة السينمائيّة اتّجهتْ نحو «الثّامنة والنّصف».

الخميس ٨ حزيران / يونيو ٢٠١٧

إنّه يوم عطلة أختي في العمل، وعادةً ما يكون لدينا نحن الإثنتين برامجنا ومخطّطاتنا الخاصّة بهذا اليوم منذ الصّباح حتى المساء. استيقظْت باكراً وانتظرتها. خرجنا من أجل مشوار إداريّ خاصّ بها، ثمّ أتينا كعادتنا اليوميّة تقريباً، إلى شارعي للتسوّق والمشي. عدنا إلى البيت لتساعدني في بعض أمور المطبخ من أجل سهرة السّبت. دعوت أيضاً عدداً من صديقاتي وأصدقائي المرموقين، من أدباء، وموسيقيّين، وسينمائيّين. ليست السّهرة شبابيّة، والأطباق عليها أن تكون محترمة، محتشمة. غسلَت لي أختي بعض الخضَر ثمّ وأنا أعدّ قهوةً لنا، قرأتُ بعض الأخبار من هاتفها المحمول. أقوال تتّفق مع بعضها أو تتضارب في عدد القتلى، والجرحى جرّاء العمليّة الإرهابيّة يوم أمس. ونحن قد عدنا إلى حياتنا اليوميّة تقريباً، روَت أختي أخباراً أخرى، وبعض النّكات!

ذهبتُ مساءً إلى مشوار المشي. خلال المشي اتصلْت بمن يجب أن أسأل عن حالهم: صديقي الكبير في العمر، وصديقتي التي انفصلتْ أخيراً، الأوّل كان بخير، والأخرى قالت إنّها أفضل، وطلبت أنْ أحدّد موعداً للقاء خلال هذه الأيّام. ثمّ اتصلتْ أختي سائلة إن كنت في البيت، وكان الأمر أن عادت بعد ساعة برفقة زوجها، ليُعدّا لي التّكييف. الصيف بحرارته المرتفعة قد بدأ عندنا، وأنا ما زلت مصرّة على أنّ الطقس لطيف. قاومتهما: «أنا لا أحبّ التكييف». قالا: «وما ذنب ضيوفك؟» وأخيراً رفعتُ يد الاستسلام.

واصلت العمل على تدقيق نصّ أشتغل عليه هذه الأيّام، تخلّله القيام ببعض الأمور المطبخيّة: نصف عمليّة طبخ «الملوخيّة»، لأوّل مرّة سيأكلها ضيوفي. اكتشفتُ هذه المرّة االملوخيّة المسحوقة بتونس، وجلبْتها. طبختُ، واشتغلتُ حتى ساعة متأخّرة، ثمّ كان الحليب، وطقوس قبل النّوم، والنّوم.

الجمعة ٩ حزيران / يونيو ٢٠١٧

قبل قهوة الصباح اتّصلتْ صديقتي المحبّبة من أستراليا. لفارق الوقت بيننا، عادةً ما تكون محادثاتنا التي تجري بين الحين والآخر، في الصباح الباكر، وفْق توقيت طهران، وعند عودتها من العمل. تحدّثنا عن مجيئها القريب إلى إيران، وخطّطنا لجَولات، ورحلة. سعدت بها كثيراً وفتحتُ الأخبار. يا إلهي! تفجير في كربلاء. أخي هناك. يشتغل منذ فترة، متردّداً بين الأهواز وكربلاء. قلقٌ واضطرابٌ وحزن. اتصلتُ سريعاً بأهلي. سألتُ أختي هناك: «أين هو؟» - في العراق. جرت الاتصالات بينه وبيني وبينهم. عاودَت أختي الاتصال بي لتقول إنّهم هاتفوه وطمأنهم بهدوئه المعتاد أنّ كلّ شيء بخير.

طبخ على صوت بوب مارلي

بدأتُ الطبْخ، وأنا أسمع مطربي المفضّل، «بوب مارلي». لا بدّ للصباح أن يبدأ بالموسيقى! مرّ الصّباح والظّهيرة في المطبخ، الجلوس أمام اللابتوب والكتابة، والحركة في البيت. حسب الموعد، ذهبت لألتقي صديقنا البحّار. التقينا في أحد شوارع شمال طهران الفارهة، حيث توجد بعض المعارض والمحالّ والمطاعم. منذ فترة طويلة لم أزر هذا الشارع. كان هناك الغاليري، وكان المعرض عبارة عن صور اختيرت وأعدّت من أرشيف مصوّر بسيط، يذهب إليه العمّال الأفغان المقيمون في إيران، ليصوّروا أنفسهم عنده، ثمّ يركّبها هو إلى جانب بعض الصّور من عائلاتهم في أفغانستان، ويجعلها على خلفيّة جميلة من الأماكن الشهيرة بجمالها في العالم، من سويسرا وبريطانيا وفرنسا وبلدان أخرى. ها هي عائلة أفغانيّة واقفة أمام جبال الألب، وها هو عامل واقف أمام حقلٍ كبيرٍ من أزهار التوليب البنفسجيّة. بعد الخروج، قال صديقنا إنّه سمع أنّ هناك حفلة «جاز وساكسوفون» بغاليري آخر. قال لي إنّنا سنتعشّى الليلة معاً، برفقة صديق وصديقة لنا، في الساعة التاسعة. قال «لنذهب من أجل أن نسأل فقط إن كان ذلك صحيحاً أم لا!» كان الغاليري الثاني في شارع بأقصى شمال طهران. نزلْت من سيّارته لأسأل بسرعة. الجواب: نعم. في الساعة التاسعة. إذن سيبدأون الحفل بعد الإفطار! كانت الساعة قد بلغت السابعة. قال لي: اقترحي ماذا نفعل حتى التاسعة. لا مقهى مفتوحا، ولا المطعم يفتح قبل الإفطار. اقترحتُ أن نزور مشغل صديقتي الرسّامة. من الممكن أن يشاهد لوحاتها، ونشرب معها القهوة. رحّب بالفكرة. اتّصلت بها، رحّبَت هي أيضاً. كنّا عندها خلال ربع ساعة فالطرق فارغة يوم الجمعة. دعوناها إلى اللحاق بنا على العشاء، إلّا أنّني كنت أحتاج لبعض الخضرة من أجل سهرة غد. خرجْنا ونزلنا في شارعها، اشتريت ما كنت أحتاج، وانطلقنا نحو المطعم الذي كان في الشارع الأوّل نفسه، حيث غاليري الصور.

سعدْت جدّاً برؤية صديقتي التي انضمّت إلينا للعشاء، فلم ألتقها منذ فترة. تعشّينا، واقترحت أن نذهب إلى بيتي للتحلية. جاملوني قائلين: «لماذا بيتك كلّ مرّة؟». اتّفقنا في النّهاية على أن نعود كلّنا إلى بيت صديقتي الرسّامة، ونأكل البقلاوة عندها، فكنّا قد رأيناها عندما شربنا القهوة. قلت: «في نهاية الأمر أنا قد قرّرت منذ فترة ألّا آكل الحلويات. إذن، لا فرق بالنسبة إليّ، اخسروا بيتي ولنذهب إلى البقلاوة»! في الطريق بعثَت لي صديقة أخرى رسالة تقول إنّ هناك سهرة في بيتها، وعليّ أن آتي. لم أردّ، وتركت الردّ لوقت آخر. اتصلتْ وأصرّت. قلت لهم «إنّ صديقتي هذه رائعة، وبيتها قريب، وجميل، ما رأيكم أن نأخذ البقلاوة من بيت الرسّامة، ونذهب إليها؟». تمّ الاتّفاق، وذهبنا. كانت السهرة ظلاماً ورقصاً ونشوات، أخذ كلّ واحد حصّته. لم نبْق كثيراً عندها. خرجْت من بيتها، وهي زعلانة منّي كالمعتاد، لأنّي آتي متأخّرة، وأغادر مبكّرة كلّ مرّة. أوصلوني إلى البيت، وكانت الساعة قاربت الثانية بعد منتصف الليل. بدأت بطبْخ «مافن المارتادلا» ليوم غد، فقد مرّ اليومُ دون أن أفعل شيئاً كثيراً من أجل سهرتي غداً. سمعت «شجريان». اكتمل «المافن»، وكان جيّداً. ثمّ ذهبْت لأنام، ومعي مجموعة قصصيّة للكاتب السويسري الذي أحبّه «بيتر شتام».

العدد ١٧ - ٢٠١٧
إرهاب وجاز وساكسُفون

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.