مساهمة في إحياء ذكر الخامس من حزيران / يونيو، ننشر فيما يلي تلخيصاً ومختارات من سلسلة نصوص كتبها المؤرّخ المصري خالد فهمي تسعى لتفسير عوامل هزيمة الجيش المصري من وجوهها العسكريّة بالدّرجة الأولى.
ينطلق خالد فهمي من أنّ البحث في أسباب الهزيمة يتمّ في غياب المحاضر الرسميّة المصريّة التي تصرّ السلطات المصريّة على حجبها. يطالب خالد فهمي بما هو باحث في التّاريخ ومواطن، بالإفراج عن تلك الوثائق والمَحاضر والمراسلات وسجلّات الاتصالات وتقارير الاستخبارات، ليتسنّى لأبناء الشعب المصري على الأقلّ الاطّلاع على حقيقة ما جرى في تلك الأيّام التي لا يزالون يدفعون ثمن الكارثة التي تسبّبت فيها، ومعهم سائر العرب. وممّا يثير الغضب هو أنّ هذه الذّكرى حانت في وقت أقدم فيه الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي وقيادة جيشه وبرلمانه ونظامه على خطوة غير مسبوقة في التخلّي عن قطعة من الأرض المصرية كانت وثيقة الصّلة بتلك الحرب، وقد توّجت بتصويت البرلمان المصريّ على تسليم جزيرتي تيران وصنافير للعربيّة السعوديّة.
يمرّ اليومَ خمسون عاماً على بداية الأزمة التي تطوّرت سريعاً وأدّت إلى اندلاع حرب حزيران / يونيو ١٩٦٧. ورأيت في هذه المناسبة ضرورة تذكيرنا ببعض تفاصيل هذه الحرب اللعينة التي نعاني من آثارها حتّى اليوم، لذا عمدتُ هنا إلى كتاباتٍ تناولتُ فيها الأزمة وبعض تفاصيل الحرب، بهدف إلقاء الضوء على جوانب مخفيّة من الهزيمة، وطرح أسئلة بعضها قديمٌ معروف، وبعضها جديدٌ غير مطروح. وكذلك التّعلّم من دروس هذه الهزيمة المروّعة والاعتبار ممّا تظهره عن طبيعة نظامنا السياسيّ وأساليب اتّخاذ القرار فيه.
معلومات سوفييتيّة مغلوطة
في الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد ١٤ أيّار / مايو ١٩٦٧ فوجئت القوّات المسلّحة المصريّة بصدور توجيهات نائب القائد الأعلى المشير عبد الحكيم عامر برفع درجة الاستعداد في القوّات من الاستعداد «الدائم» للاستعداد «الكامل». وما هي إلّا ساعةٌ واحدةٌ حتى صدرت تعليماتٌ جديدةٌ بتعبئة القوّات المقرّر حشدها في سيناء، على أن يتمّ ذلك في مدّةٍ تتراوح بين ٤٨ إلى ٧٢ ساعة.
لم يفهم القادة السّبب وراء هذه التّوجيهات المباغتة، إذ من المفترض أن تأتي مثل هذه التوجيهات من القائد الأعلى، أي الرّئيس جمال عبد الناصر، وليس من نائب القائد الأعلى، المشير عامر. كما غاب مجلس الدفاع الوطنيّ عن الصّورة ولم يتبيّن للقادة إن كان هذا المجلس قد شارك في اتّخاذ القرار. ولم تكن هناك أيّ علامات على أنّ القوّات المسلّحة تستعدّ للتعبئة أو للحرب، كانت الأمور تسير بشكلٍ طبيعيّ في الدّولة عموماً، وفي القوّات المسلّحة خصوصاً في تلك الأيّام، أنْ وُجّهت الدّعوة إلى الفيلد مارشال مونتغمري، القائد السابق للجيش الثّامن البريطاني، للحضور إلى مصر للاحتفال بمرور خمسة وعشرين عاماً على معركة العلمَين التي انتصر فيها مونتغمري على غريمه إروين رومل في الحرب العالميّة الثّانية. وقد حضر مونتغمري وألقى كلمة يوم ١٣ أيّار / مايو في أكاديميّة ناصر العسكريّة.
وسرعان ما تبيّن أنّ القرار اتُّخذ بناءً على معلوماتٍ وصلت للقاهرة تفيد بأنّ إسرائيل تحشد قوّاتها على الجبهة السّورّية، وقد حشدت بالفعل من ١١ إلى ١٣ لواءً مقسّمةً على قسمين: الأوّل جنوب بحيرة طبريّة، والثّاني شمال البحيرة.
وكانت الجبهة السوريّة الإسرائيليّة شهدت مناوشاتٍ خطيرة على مدى الأسابيع القليلة السابقة، والتي وصلت ذروتها يوم ٧ نيسان / أبريل عندما اشتبك سلاح الجوّ السّوري مع نظيره الإسرائيليّ في سماء دمشق في معركةٍ حامية كانت نتيجتها إسقاط ستّ طائرات ميغ سوريّة.
بناءً على اتّفاقيّة الدّفاع المشترك الموقّعة بين سورية ومصر في العام ١٩٦٦، وجدت مصر أنّ عليها الدّفاع عن حليفتها سورية. وقد اكتُشف لاحقًا أنّ المعلومات عن الحشود الإسرائيليّة غير صحيحة ومصدرها الاتّحاد السوفييتي، إذ اجتمع في اليوم السابق، السّبت ١٣ مايو / أيّار، السفير السوفييتي ديمتري بوغداييف (Dimitri Pojidaev) مع أحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجيّة وأبلغه بالمعلومات. ويضيف محمد حسنين هيكل في كتابه الانفجار (ص ٤٤٥) مصدراً ثالثاً لتلك المعلومات المغلوطة هو مندوب الاستخبارات السوفييتيّة في القاهرة وقد زوّد صلاح نصر رئيس الاستخبارات العامّة بتلك المعلومات. لاستطلاع الأمر، سافر المشير عامر ورئيس الأركان محمّد فوزي يوم الأحد ١٤ أيّار / مايو إلى سورية لاستطلاع الأمر فتبيّن له أنّ هذه المعلومات غير صحيحة. لكن على الرّغم من ذلك، لم يُراجع قرار الحشد والتّعبئة بل جرى الإسراع في تنفيذه. وإذا كان سبب إصدار توجيهات الحشد غير واضح وملتبساً (وهناك العديد من الدراسات التي تناولت تلك النّقطة تحديداً، أي الدّافع وراء تبليغ السّوفييت معلومات مغلوطة لمصر) فإنّ الغرض من الحشد أيضاً تحوم حوله الشّبهات ويطرح الكثير من الأسئلة حول الهدف وراء الزّجّ بأكثر من ١٠٠ ألف جندي لسيناء في غضون أيّام قليلة، خصوصاً أنّ القوّات المسلّحة المصريّة لم تمتلك خطّة هجوميّة بل دفاعيّة اسمها «قاهر» صُدّق عليها في كانون الأوّل / ديسمبر ١٩٦٦. فهل كان الغرض من الحشد استدراج إسرائيل لسيناء وتفعيل «قاهر» بغرض تدمير القوات الإسرائيليّة؟ أم كان الغرض الإبقاء على الحال الجديد وعدم تحريك ساكن بعد الحشد؟ أم القيام بهجوم شامل على النقب؟ أم التّمترس داخل سيناء وخوض حرب استنزاف طويلة الأمد لإهلاك إسرائيل استعداداً للهجوم عليها مستقبلاً؟
ندرك أنّ الاستخبارات الإسرائيليّة طرحت هذه الأسئلة على نفسها كما فعل القادة المصريّون الّذين كانوا على علم بأنّ القوّات المسلّحة المصريّة لم تكن مستعدّة في العام ١٩٦٧ لخوض حربٍ مع إسرائيل، خصوصاً مع وجود ثلثي حجم القوّة الضّاربة في اليمن. بل إنّ هيئة عمليّات القوّات المسلّحة «قاهر» أعدّت للقيادة تقريراً عامّاً عن الخطّة وكيفيّة تنفيذها، ورفعتْه في ١٦ كانون الأوّل / ديسمبر حذّرت فيه من القيام بمواجهة عسكريّة مع إسرائيل ولفترةٍ زمنية طويلة قد تدوم ثلاث سنوات بسبب وجود ثلثي القوّات في اليمن وضعف القدرة القتاليّة للتشكيلات والوحدات ونقص الأفراد والمعدّات والتّجهيزات. وبالتالي فإنّ السّؤال الأهمّ حول قرار الحشد ليس ذلك المُتداوَل بين المؤرّخين والمتعلّق بأغراض الرّوس من إشاعة أخبار خاطئة، بل عن سبب اتّخاذ القيادة المصريّة قرار التّعبئة العامّة ورفع درجة الاستعداد مع العلم أنّ القوّات المسلّحة غير قادرة على مواجهة العدوّ الإسرائيلي.
التفسير التقليديّ الّذي اتّخذه أغلب المؤرّخين في تلك الفترة لذاك السّؤال هو أنّ تلك كانت «تظاهرة» عسكريّة غرضُها الرّدع ولم تؤخد على محمل الجدّ. وبحسب المؤرّخين، حصل هذا التحوّل بعد سحب قوّات حفظ السّلام التّابعة للأمم المتّحدة يوم ١٨ أيّار / مايو، وطبعاً بعد قرار إغلاق مضيق تيران يوم ٢٢ أيّار / مايو. ونتيجة عدم جهوزيّة القوّات المسلّحة للقتال وعدم التّدرّب على التعبئة العامّة، فالطريقة التي جرى بها حشد القوّات لسيناء كانت مأساويّة. صحيحٌ أنّ الكثير من أدبيّات تلك الكارثة يركّز على مشاهد الانسحاب المروّعة يومي ٦ و٧ حزيران / يونيو، إلّا أّنّ مشاهد حشد مائة ألف جنديّ على الجبهة من دون خطّة ولا استعداد كانت هي الأخرى فظيعة، وبما أنّ سجلّات هذه الحرب ما زالت حبيسة المخازن، فربّما يسعفنا الأدب في الوقوف على حجم الكارثة التي حلّت بالجنود أثناء الحشد حتى قبل بدء القتال.
مَن اتّخذ قرار التّعبئة؟
يقول هيكل في كتابه الانفجار، إنّ عبد النّاصر استدعى عامر إلى بيته مساء يوم السّبت ١٣ أيّار / مايو لدراسة الوضع (هيكل، الانفجار، ٤٤٧) واتفقا على دعوة أركان حرب القوّات المسلّحة اليوم التالي، الأحد ١٤ أيّار / مايو، إلى اجتماعٍ طارئ لدراسة ما يمكن اتّخاذه من إجراءات. صباح الأحد وصل عبد النّاصر إلى مكتبه عند السّابعة والرّبع بعد ساعات قصيرة من النّوم المتقطّع وأخذ يحضّر لاجتماع هيئة الأركان. يضيف هيكل تفاصيل عدّة عن انشغال عبد النّاصر بمناقشات «زملائه» «ومعاونيه»، ومنهم نائب الّرئيس زكريّا محيي الدِّين ورئيس الوزراء صدقي سليمان ونائب رئيس الوزراء للشّؤون الخارجيّة محمود فوزي والأمين العام للاتّحاد الاشتراكي على صبري وعدد من أعضاء اللجنة العليا للاتّحاد الاشتراكي.
وعلى الرّغم من أنّ هيكل في سرديّته عن هذه السّاعات الحاسمة قال إنّ هذه المناقشات التي أجراها عبد النّاصر قد تمّت «بعد ذلك»، الأمر الذي قد يعني أنّ عبد الناصر أجراها بعد اجتماع هيئة الأركان، إلّا أنّه يوردها في كتابه بعد وصفه للحظة دخول عبد النّاصر مكتبه في السّاعة السّابعة والرّبع صباح يوم ١٤ أيّار / مايو انتظاراً وتمهيداً لاجتماع هيئة الأركان.
أعتقد أنّ هذه لعبة من ألاعيب هيكل المعتادة والتي قصد منها تشتيت انتباه القارئ لناحية تسلسل الأحداث، لأنّ المحطّة المحوريّة في ذلك اليوم هي عدم اتّصال عامر بعبد النّاصر للتّحضير للاجتماع، بل اتّصل به قرب نهاية الاجتماع، الذي بدأ في غياب عبد النّاصر، ونقَل إليه أنّهم في هيئة الأركان قد توصّلوا إلى إجراءاتٍ بتحريك تشكيلاتٍ متتالية تتوجّه على الفور إلى سيناء وتحتلّ مراكزها هناك (هيكل، الانفجار، ٤٥١).
ثمّ يقول هيكل «لا أحد يستطيع أن يقطع بتفاصيل ما دار بين الإثنين في هذا الحديث التليفوني، وربّما أنّ الإشارة الوحيدة التي يمكن بالاستنتاج أن تشير إليه هي عدد من الإضافات كتبها عامر بخطّ يده على المشروع الأصليّ لتوجيهاته إلى القوّات المسلّحة». ومرّة أخرى يشتّت هيكل قارئه، فيُفرد صفحتين لنصّ تلك التّوجيهات والتّعديلات التي أحدثها عامر عليها بناءً على حديثه مع عبد النّاصر.
لا أعتقد أنّ هذه التّعديلات أو المناقشات التي أجراها عبد النّاصر مع معاونيه هي لبّ الموضوع، بل لبّه هو أنّ عبد النّاصر لم يذهب للاجتماع الّذي ترأسه عامر، وأنّ قرار التّعبئة اتُخذ من دون استشارة عبد النّاصر الّتي جرت عبر الهاتف قبيل انتهاء الاجتماع،أي أنّ قرار الحشد الّذي أدّى لاحقاً إلى هزيمتنا في الحرب اتّخذه عبد الحكيم عامر مع شلّته ولم يتّخذه جمال عبد النّاصر مع معاونيه.
بمعنى آخر، المشكلة تكمن في قرار الحشد التعبويّ الذي كان بداية الأزمة التي أدّت إلى هزيمتنا في حرب ٦٧، فكيف ولماذا سمح جمال عبد النّاصر لعبد الحكيم عامر بأن يأخذ هذه القرار منفرداً؟
الهزيمة: مشاهداتٌ وأسئلة
لم تكن هزيمة ٦٧ عادية، وهي لم تُصب الجيش فقط. إنّها هزيمة نظام سياسيّ واجتماعيّ وفكريّ، وهزيمة رؤيتنا للعالم ولمكاننا فيه. وبالتّالي لا ينبغي أن ينحصر تفسير الهزيمة في النّواحي العسكريّة. ولكنْ إذا أردنا البدء بالشّكل العسكريّ للهزيمة، نرى أنّها تطرح أسئلة صعبة لا أظنّ أنّنا تمكّنّا بعد من الإجابة عليها.
فعلى مدار سنوات قيل لنا أنّنا نملك أقوى جيشٍ في الشرق الأوسط، وفي الذّكرى الرّابعة عشرة للثّورة، أي في ٢٣ تموز / يوليو ١٩٦٦، أقيم عرض عسكريّ مبهر شهده عبد النّاصر مع قادة الجيش، وعندما بدأت عمليّة التعبئة في العام التّالي وقد شاهد الملايين من سكّان القاهرة قوّات الجيش وهي تخترق شوارع العاصمة في طريقها للجبهة في مشهد أقرب إلى استعراض عسكريّ منه إلى حشدٍ تعبوي. كان مشهد الجيش مبهراً، وكان يحقّ للمصريّين أن يفتخروا بأنّ جيشهم من أكبر جيوش المنطقة. فالجيش امتلك أكثر من ١٣٠٠ دبابة (إسرائيل كانت تمتلك ١٠٠٠)، وأكثر من ١٠٠٠ مدرّعة حاملة للجنود (إسرائيل: ١٥٠٠)، و٩٥٠ بطاريّة مضادّة للطّائرات (إسرائيل: ٥٥٠)، و٤٣١ طائرة مقاتلة (إسرائيل: ٢٨٦). ودأبتْ وسائل الإعلام كلّها في كلّ شهرٍ على نقل أخبار الانتصارات التي كان يحقّقها الجيش بالفعل في اليمن، وكانت تتوعّد بالهزائم التي سيوقعها حتماً جيشنا الجرّار بإسرائيل في المعركة المرتقبة.
وفي يوم ١ حزيران / يونيو صدحت أمّ كلثوم بأغنية «راجعين بقوّة السلاح» في سينما قصر النّيل. وكان الثّنائي صلاح جاهين ورياض السّنباطي قد فرغا لتوّهما من الأغنية ولم يتسنَّ لأمّ كلثوم أن تحفظها، لذا نراها هنا ووراءها ملقّنٌ يذكّرها بالكلمات.
وفي صباح ٥ حزيران / يونيو، يوم بدء القتال، عنونت صحيفة «الأخبار»: «بعد انضمام العراق إلى اتّفاق الدّفاع المشترك مع الأردن عبد النّاصر يعلن للعالم والأمّة العربيّة: إنّنا ننتظر المعركة على أحرّ من الجمر».
ولكن عند التّاسعة إلّا ربعاً من صباح هذا اليوم المشؤوم، ضرب الطّيران الإسرائيلي عدداً من المطارات، وكان من نتاج الغارات الإسرائيليّة المتتالية أن دُمر ٨٥ في المئة من سلاح الجوّ المصري، وأصبح ١٠٠ ألف جندي في سيناء بلا غطاء جوّي.
وما هي إلّا ٣٦ ساعة حتّى أصدر نائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة قرار الانسحاب المشؤوم. وطوال يوم ٧ أخذ سكّان القاهرة يشاهدون فلول الجيش زاحفين عليها في البداية ثمّ على شوارع وميادين العاصمة، الشوارع والميادين نفسها التي استعرضوا فيها قوّتهم منذ أيام قليلة خلَتْ. وعلى الرّغم من ذلك، كان المصريّون يسمعون عبد الحليم حافظ يغنّي «يا أهلاً بالمعارك»، وأحمد سعيد في صوت العرب يبشّرهم بأنّ طلائع الجيش على أبواب تلّ أبيب. وقد بشّرت صحيفة «المساء» المصريّين بأنّ النّصر أمسى قاب قوسين أو أدنى.
وبحلول يوم ٨ حزيران / يونيو كان قد سقط من الجيش العربيّ الزّاحف نحو تلّ أبيب عشرة آلاف جنديّ، أي عُشر عدد جنوده الذين حشدوا للجبهة، و١٥٠٠ ضابط. كما وقع في الأسر خمسة آلاف جنديّ و٥٠٠ ضابط (بناءً على ما جاء في خطاب عبد النّاصر الذي ألقاه يوم ٢٣ تشرين الثاني / نوفمبر١٩٦٧).
وبالإضافة إلى تدمير سلاح الطّيران، فقد ترك الجنود وراءهم ٨٥ في المئة من عتاد الجيش، من دبّابات ومدرّعات ومدافع. وأمسى الطّريق للقاهرة مفتوحاً، والبلد بلا جيش يحميه.
أشهر تفسيرات الهزيمة
وفي ما يلي عرض مختصر لأشهر تفسيرات الهزيمة.
في خطاب التّنحّي الشّهير، يقول عبد النّاصر: «في صباح يوم الإثنين الماضي الخامس من حزيران / يونيو جاءت ضربة العدوّ. وإذا كنّا نقول الآن بأنّها جاءت بأكثر ممّا توقّعناه، فلا بدّ أن نقول فى نفس الوقت وبثقة أكيدة إنّها جاءت بأكبر ممّا يملكه، ممّا أوضح منذ اللحظة الأولى أنّ هناك قوى أخرى وراء العدوّ، جاءت لتصفّي حساباتها مع حركة القوميّة العربيّة. ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النّظر، أوّلها: أنّ العدوّ الذي كنّا نتوقّعه من الشّرق ومن الشّمال جاء من الغرب، الأمر الذي يقطع بأنّ هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدّى المدى المحسوب لقوّته، قد أعطيتْ له».
والردّ على ذلك هو أنّ العدوّ جاء بالفعل من الغرب، لكنّ هذا لم يكن نتيجة معونة تلقّاها العدوّ من حلفائه بل نتيجة المسار الذي سلكتْه الطّائرات الإسرائيليّة في الإغارة على المطارات المصريّة في العمق (عكس مطارات سيناء والقناة).
في خلفيّة كلّ محاولات عبد النّاصر لتفسير المصيبة كانت تجربة ١٩٥٦ مسيطرة بقوّة على تفكيره ومهيمنة على تحليلاته. أمّا الجورنالجي (الصّحافي) الأشهر، هيكل فقد كتب كتاباً من أكثر من ألف صفحة يكاد يؤكّد في كلّ صفحةٍ من صفحاته أنّ هزيمة ٦٧، التي غطّى على فداحتها بوصفها أنّها مجرّد نكسة، ما هي إلّا مؤامرة لاصطياد «الدّيك الرومي»، أي الإيقاع بعبد النّاصر، بسبب مواقفه التقدميّة المناهضة للاستعمار والمناوئة للهيمنة الغربيّة على المنطقة.
وإن كان صحيحاً أنّ الغرب كان بالفعل متربّصاً بعبد النّاصر، فالصّحيح أيضاً أنّ عبد النّاصر كان مدركاً لهذا التّربّص، محذّراً منه، إذ أعاد في أحاديثه التي سبقت الحرب على مستمعيه من الأجانب أنّ جيشه ليس مستعدّاً لها.
أمّا الفريق أوّل فوزي فيقول في كتابه «حرب الثلاث سنوات» إنّ المشير هو المتسبّب الرّئيسي في هذه الهزيمة المروّعة، فشخصيّة عبد الحكيم وخبرته وخلفيّته وشلّته التي أحاط نفسه بها عوامل جعلتْه غير مناسبٍ لقيادة جيش.
ويبقى السّؤال: هل الجيش يُختزَل في شخص المشير؟ أليس الجيش مؤسّسة؟ ألا يوجد قادة، وضبّاط أركان حرب، ورئاسة أركان، وهيئة عمليّات؟ وقبل كلّ ذلك، ألا يوجد قائد أعلى؟ لن أطرح سؤال الرّقابة الشعبيّة على الجيش، فلهذا السؤال مقال آخر، ولكن ألم توجد أيّ آليّة للتّقليل من مخاطر قيادة عامر الكارثيّة؟ أم أنّ المشكلة كانت أعمق وأعوص، إذ إنها كانت تتعلّق بعلاقة القائد الأعلى بنائبه؟
الفشل الاستخباراتي
توضح المعلومات القليلة المتاحة لنا عن هزيمة ٦٧، وأنا أؤكّد أنّ ما هو متاح لنا من معلومات لا يرقى بأيّ حال من الأحوال لأهمّيّة الحدث، أنّ جزءاً كبيراً من مسؤوليّة الهزيمة يقع على عاتق المخابرات المصريّة بأجهزتها المختلفة.
في كتابه الجميل «ضباط يونيو يتكلمون»، ينقل لنا عصام درّاز شهادة مأساويّة لأحد الطّيّارين يصف فيها مدى دقّة المعلومات التي استطاعت إدارة المخابرات الحربيّة جمعها عن العدوّ. في يوم ١٤ أيّار / مايو استُدعي الطيّار هشام مصطفى حسن من الاحتياط، وفي أقلّ من ثلاث ساعات كانت طائرة نقل إليوشن تهبط به في مطار العريش. سرعان ما طلب قائد السّرب أن يجتمع به فوراً. يقول الطيّار «قبل أن يبدأ الاجتماع بدقائق تصل طائرةٌ حربيّةٌ أخرى عليها ضابط برتبة كبيرة يحمل مظروفاً مغلقاً ومختوماً بالشّمع الأحمر، ويتنحّى جانباً بقائد السّرب ويتبادلان حديثاً قصيراً والجدّيّة على الوجوه، ويسلّمه المظروف وينصرف في الطّائرة حيث ترتفع بدون أن نعلم من أين أتى، أو إلى أين سيذهب. في حجرة الطوارئ، وحول منضدة كبيرة، يبدأ قائد السّرب في ترتيب صور جوّيّة فوتوغرافيّة غير واضحة المعالم تماماً ويظهر عليها القِدَم. الصور لمدينة إيلات الإسرائيليّة، وقائد السرب يشير بإصبعه إلى هدف ويحدّد التشكيل المطلوب منه تدمير هذا الهدف، وينتقل إلى هدف آخر ويحدّد له تشكيلاً آخر، وهكذا حوالي ستّة أو سبعة أهداف. وسأله أحد الزّملاء الطيّارين عن تاريخ التقاط تلك الصور الجوّيّة، فبان نوع من الألم على وجه قائد السّرب وهو يقول: «سنة ١٩٤٨. يا إله السماوات!! أنذهب لضرب أهداف كانت موجودة منذ ذلك الحين؟!»».
وللفريق صدقي محمود، قائد القوّات الجوّيّة والدّفاع الجوّي أثناء الحرب، نوادر كثيرة تعبّر عن فشله الذّريع في قيادة هذه السّلاح الهامّ، من أطرفها نادرتان أدلى بهما للجْنة توثيق ثورة ١٩٥٢ التي انعقدت عام ١٩٧٦ بقيادة حسني مبارك. ففي شهادته التي نقلها سليمان مظهر في كتابٍ صدر عام ٢٠٠٠ بعنوان «اعترافات قادة حرب حزيران / يونيو»، يعترف صدقي محمود بأنّ أجهزة الاستخبارات فشلتْ في اكتشاف أنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي قد طوّر طائراته بأنْ زوّدها بخزّانات وقود إضافيّة ليتيح لها إطالة مدّة التحليق ونطاقه لتتمكّن من بلوغ العمق المصريّ (ص ١١٩). أمّا اللواء طيار عبد الحميد الدغيدي، قائد الطيران في المنطقة الشرقيّة، أي في سيناء، فيقول في حديث أدلى به لصحيفة «الأهالي» في ٢٩ حزيران / يونيو ١٩٨٣ إنّ قوّة استطلاعيّة في العريش تَبيّن لها ليلة ٤ حزيران / يونيو ١٩٦٧ أنّ العدوّ بدأ بالفعل تحرّكاته، وأنّ قوّات العدوّ تمكّنت من احتلال الخطّ الواصل بين بيرين ورفح والشيخ زويد، وأنّ العدوّ ينوي الهجوم في صباح اليوم التالي، ٥ حزيران / يونيو. وبالفعل أرسل الدغيدي إشارة بهذا المعنى الساعة العاشرة والنّصف ليلاً لقيادة الجبهة، لكنّ القادة كلّهم كانوا قد تركوا أماكنهم استعداداً لزيارة المشير عامر لمطار بير تمادة المقرّر لها صباح ٥ حزيران / يونيو، وبالتالي لم يؤخذ بها.
عنب إيه وبصل إيه!
غير أنّ أفدح خطأ استخباراتي قد يكون ذلك الذي ينقله الفريق أول محمّد فوزي، رئيس الأ ركان، في كتابه «حرب الثلاث سنوات» وهو يتعلّق بالإشارة التي أرسلها الفريق أوّل عبد المنعم رياض، قائد الجبهة الأردنيّة، من قاعدة عجلون الجوّيّة في الأردن. ففي الساعة ٨:٤٥ صباح ٥ حزيران / يونيو، رأى رياض على شاشات الرادار عشرات القاذفات والمقاتلات الإسرائيليّة تتّجه غرباً، فأرسل على الفور إشارة «عنب عنب عنب» المشفّرة والمتّفق عليها سلفاً. تلقّت القاهرة الإشارة، لكن بسبب قيام ضابط الاتصالات بتغيير مفتاح الشيفرة قبل ذلك بدقائق، لم يتمكّن ضبّاط الاتّصال من فكّ الشيفرة وفهْم الإشارة، الأمر الذي كان في إمكانه تغيير تطوّرات الحرب برمّتها. وكانت هناك فرصة ثانية في أن يقوم ضبّاط الاتّصال في مكتب وزير الحربيّة شمس بدران بفكّ شيفرة الإشارة.
يسرد فوزي الحكاية: «أمّا المحطّة الفرعيّة [....] في مكتب شمس بدران [وزير الحربيّة] في كوبري القبّة فقد استلمت الإشارة، وتحليلها واضح ولا يمكن أن يحدث فيه سوء فهم. إنّه إنذار أكيد ببدء هجوم طيران العدوّ على أراضي مصر...، إلّا أنّ الضّابط المناوب في كوبري القبّة لم يُخطر الوزير لعدم وجوده في مكتبه، [....] وبعد مرور حوالي ٤٠ أو ٤٥ دقيقة من استلام الضّابط المناوب للإنذار، وبالصّدفة خلال مكالمة تليفونيّة عابرة مع زميله بالمحطّة الرئيسة… أراد أن يذكّره بنفس الإشارة، وما فيها من اسم كوديّ يدلّل على طائرات العدوّ المغيرة. فقابله الضّابط المناوب على نفس المحطّة الرئيسة بالتهكم قائلاً: «عنب إيه وبصل إيه؟! دول فوق دماغنا»».
أمّا إسرائيل فقد استطاعت أن تجمع معلومات دقيقة وصحيحة عن أدقّ تفاصيل قوّاتنا المسلّحة، وأن تنشئ نظاماّ مكّنها من البناء على هذه المعلومات الدقيقة وأن تضع خططها العسكريّة بناءً عليها. فضرْبة الطيران الساحقة التي وجّهتْها لقوّاتنا الجوّيّة في صباح يوم ٥ حزيران / يونيو كانت نتاج سنوات طويلة من التّدريب المضني، ولكنّها أيضاً كانت نتاج معلومات دقيقة عن قوّاتنا الجوّيّة، فهي امتلكت خرائط أوضحت مواقع جميع المطارات المصريّة وأنواع الطّائرات الرّابضة في كلّ مطار، كما درست عن قرب عادات الطيّارين والضبّاط المصريّين ومواعيد نوباتهم اليوميّة.
قبل اندلاع الحرب بوقت طويل فكّت إسرائيل شفرة الجيش المصريّ، وبالتّالي علمتْ يوم ٦ حزيران / يونيو بأمر الانسحاب الذي أصدره المشير عامر، واستطاعت أن تستمع لمحادثات عامر مع قادته على الجبهة. وكذلك التقاط المكالمة الهاتفيّة التي جرت بين عبد النّاصر والملك حسين صباح يوم ٦ حزيران / يونيو. وعندما علم رئيس المخابرات الحربيّة الإسرائيليّة، أهارون ياريف، أن أجهزته تمكّنت من تسجيل هذه المكالمة فضّل عدم إذاعتها حتى لا يعرف الزّعماء العرب أنّ إسرائيل تتجسّس على مكالماتهم.
الهوّة الشّاسعة التي فصلت بين أداء جهاز المخابرات الحربيّة الإسرائيلي المعروف باسم «أمان»، ونظيره المصريّ لم تكن ناتجةً من تفوّق الإسرائيليّين بقدر من كانت ناتجةً من انحراف إدارة المخابرات الحربية المصريّة عن غرضها الأساسي، فبدلاً من جمع المعلومات عن العدوّ أصبح «موضوع الأمن هو الموضوع الأوّل الذي يشغل بال المشير عامر والوزير شمس بدران، وزير الحربية».
ووصل الأمر إلى أن شكّل عبد الحكيم عامر تنظيماً داخل الجيش، اسمه الكودي «التنظيم (س)»، بغرض مراقبة ضبّاط القوّات المسلّحة في الوحدات والتشكيلات، والتعرّف إلى آرائهم ونيّاتهم ونشاطهم من خلال تجنيد عدد من الضبّاط الموثوق بولائهم لضمان أمن القوّات المسلّحة، أي للحيلولة دون قيام الضبّاط بانقلاب على نظام الحكم.
«قعدة» الحرب
الزمان: الجمعة ٢ حزيران / يونيو ١٩٦٧، الساعة التاسعة مساءً.
المكان: مكتب المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، الدّور السادس، مبني القيادة العامّة بمدينة نصر، القاهرة.
الحضور: القائد الأعلى للقوّات المسلّحة جمال عبد النّاصر ومعاونوه ومستشاروه، ومنهم: رئيس مجلس الأمّة أنور السادات ونائبا رئيس الجمهوريّة حسين الشافعي وزكريّا محيي الدين والأمين العامّ للاتّحاد الاشتراكي العربيّ وعلي صبري. وكذلك المشير عامر ولفيفٌ من شلّته منهم: وزير الحربيّة شمس الدين بدران وقائد القوّات الجوّية الفريق صدقي محمود ومساعدوه، ومدير الأركان في القيادة العليا اللواء علي عبد الخبير. وحضره أيضاً رئيس أركان القوّات المسلّحة الفريق أوّل محمّد فوزي، ورئيس هيئة العمليّات الفريق أنور القاضي ومدير المخابرات الحربيّة اللواء محمّد صادق ورؤساء الهيئات العسكريّة وبعض مديري الإدارات. وتغيّب عنه قائد القيادة الشرقيّة أي قائد الجيش الميداني الفريق صلاح محسن وقائد الجبهة الشرقيّة الفريق عبد المحسن مرتجى ورئيس أركان القوّات الجويّة الفريق جمال عفيفي. ويتّضح من خلفيّات الحضور الوظيفيّة أنّ المؤتمر كان مؤتمراً سياسيّاً عسكريّاً والغرض الأساسيّ منه توصيل رسالة من السّاسة للعسكر تتعلّق بطريقة إدارة المعركة المقبلة.
من أهمّ الشهادات الحيّة عن هذا المؤتمر شهادة الفريق صدقي محمود، قائد القوّات الجوّيّة، للجْنة تسجيل ثورة ١٩٥٢ التي عقدت عام ١٩٧٦ والتي ترأّسها حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية وقتها. وهي محفوظة في سجلّات «دار المحفوظات المركزيّة للقوّات المسلّحة» ولكن لم يُفرج عنها بعد، إلّا أنّ مقتبساتٍ منها نُشرت في كتاب صدر عام ٢٠٠٠ بتحرير سليمان مظهر وعنوان «اعترافات قادة حرب يونيو: نصوص شهاداتهم أمام لجنة تسجيل الثورة».
يقول صدقي: «أعترض على استعمال كلمة مؤتمر [للإشارة لهذا الاجتماع]، لأني أنا طلبت المشير عبد الحكيم عامر قبل المغرب بالتليفون، قال لي «يا صدقي، إذا كنت فاضي تعالى لنا شوية». ذهبت، وكان معي من الناس الذين يعملون معي في المكتب الرّائد حسين عبد النّاصر [أخو جمال عبد النّاصر]. دخلت مكتب سيادة المشير، وكما تعرف توجد قاعة للمؤتمرات والاجتماعات كبيرة، وعليها كلّ الخرائط. لكن لا. كان الجلوس حول مائدة صغيرة: أنور القاضي، اللواء عبد الخبير، اللواء صادق، وأنا. وبعد فترة حضر شمس بدران. كان الكلام كلاماً عاديّاً وعامّاً عن القوّات البرّيّة وأوضاعها... وفي ذلك الوقت فوجئنا بأنّ الرّئيس الرّاحل جمال عبد النّاصر فتح الباب ودخل، وبدأ يتكلّم كلاماً عاماً، وبعدين قال والله دلوقتي أنا بشوف إن احتمال الحرب بقى كبير قوي».
أيّاً كان توصيف هذا الاجتماع، «قعدة» أم «مؤتمر»، فقد أكّد عبد النّاصر فيه أنّنا قد كسبنا المعركة السياسيّة وأنّ إسرائيل قد خسرتها على طول الخطّ. ولكن من الناحية الأخرى فإنّ الظّروف الدوليّة تحتّم علينا ألّا نتبع إستراتيجيّةً عدوانيّة حتى لا نضحّي بموقف أميركا وباقي الدّول الكبرى منّا.
كما أكّد عبد النّاصر أنّ احتمالات الحرب قد أصبحت محسومة بعد تعيين موشي ديان وزيراً لدفاع إسرائيل وتشكيل حكومة حربٍ هناك. والقوّات العراقيّة يُتوقع وصولها إلى الجبهة الأردنيّة بعد ثلاثة أيام، واستنتج أنّ إسرائيل لن تنتظرَ حتّى تصل القوّات العراقيّة للجبهة بل ستبدأ العمليّات العسكريّة ضدّنا بعد يومين أو ثلاثة، وفي الأغلب ستهجم على مطاراتنا في صباح يوم الإثنين المقبل، ٥ حزيران / يونيو. ومن الملابسات الفريدة أنّ قراراً بنفس هذا المعنى كان قد اتُخذ بالفعل في إسرائيل قبل ذلك بساعات قليلة. ففي الساعة التاسعة صباح اليوم نفسه، الجمعة ٢ حزيران / يونيو، اجتمع السّاسةُ مع العسكر في القدس واستمع الوزراء لتحليل الضبّاط عن الموقف ولخططهم لتدمير القوّات المسلّحة المصريّة عن طريق عمليّة تعرّضية. وحصل تململٌ من بعض السّاسة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء ليفي إشكول بأنّ الهجوم على مصر قد يكون متعجّلاً وأنّه يجب عدم استثارة الولايات المتّحدة ببدء الحرب. لكنّ وزير الدّفاع ديان حسم النّقاش بأن قال إنّ أيّ تأخيرٍ في الهجوم قد يساعد المصريّين على استكمال خططهم الدفاعيّة، ولذا يجب التعجيل بالهجوم. وعندما عُرض القرار على مجلس الوزراء الإسرائيلي بكامله يوم ٤ حزيران / يونيو، أعطي الضّوء الأخضر لبدء القتال بضرب المطارات المصريّة بين السّاعة الثّامنة والسّاعة التّاسعة صباح اليوم التّالي، وكان هذا التّوقيت مبنيّاً على اقتراح قائد القوّات الجوّيّة، موردخاي (موتّي) هود، الذي قال إنّ هذا هو أنسب وقت لأنّ الطّيارين المصريّين من عادتهم تناول إفطارهم في تلك الساعة (The Rabin Memoirs، ص ٩٦ - ٩٩).
الفارق الوحيد بين تقدير عبد النّاصر والقرار الإسرائيلي كان في أنّ عبد النّاصر اعتقد أنّ أوضاع الجبهة الأردنيّة ووصول القوّات العراقيّة سيكون العامل الحاسم في التوقيت، بينما رأى الإسرائيليّون أنّ التطوّرات على الجبهة المصريّة وعدم استعداد القوّات المصريّة هو العامل المحوري. لكنّ المهمّ أنّ تقدير عبد النّاصر كان صائباً ودقيقاً سواء في توقيت الهجوم الإسرائيلي (يوم ٥ حزيران / يونيو) أو طريقته (هجوم منظّم على المطارات).
وبالرّغم من أنّ عبد النّاصر ركّز على أهمّيّة عدم البدء بالقتال حتى لا نستعدي القوى الكبرى، وبالتالي ضرورة تلقّي الضّربة الأولى، الأمر الذي يحتّم أهمّيّة تشديد الدّفاع الجوّيّ وتحصين المطارات، إلّا أنّ أياً من هذه التعليمات لم يُبلغ لقيادات الدّفاع الجوّي في القيادة العليا أو في المطارات، ولم ينته هذا اليوم الدّرامي، يوم الجمعة ٢ حزيران / يونيو، إلّا وقد أمر المشير عامر بتوزيع منشورٍ صادرٍ عن المخابرات الحربيّة المصريّة يتعارض تماماً مع ما جاء في المؤتمر / القعدة. فقد جاء في هذا التّقرير أنّ «إسرائيل لن تقْدم على عملٍ عسكريّ تعرّضي (أي هجومي)، وأنّ الصّلابة العربيّة الرّاهنة ستجبر العدوّ بلا شكّ على أن يقدّر العواقب المترتّبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة» (فتحي، مصر من الثورة إلى النكسة، ص ٣٦٣).
ضبّاط في سيّارة أجرة
الزّمان: يوم الإثنين ٥ حزيران / يونيو ١٩٦٧، الساعة الثامنة والنّصف صباحاً
المكان: السماء فوق مطار بير تمادا بوسط سيناء
الحضور: المشير عبد الحكيم عامر، الفريق أوّل صدقي محمود قائد القوّات الجوّية، الفريق أوّل محمّد فوزي رئيس الأركان، الفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليّات، وعدد ضخم من كبار القادة، بالإضافة إلى رجال الإعلام والمصوّرين.
بعد أن دنتْ طائرة المشير من مطار بير تمادا وبدأت بالهبوط، لم يلبث الطيّار أن ميّز الطائرات الإسرائيليّة وهي تقصف المطار، فغيّر اتّجاهه على الفور. وقد شعر الفريق صدقي في الحال بما قام به الطيّار فدخل عليه كابينة القيادة ليعرف السبب، و«لكنّه بعد أن شاهد الطائرات الإسرائيليّة تدكّ المطار المصريّ وتصول وتجول في الجوّ دون أدنى مقاومة (والكلمات لصلاح الدين الحديدي)، أمر الطيّار بالعودة إلى مطار القاهرة الدّولي بدلاً من مطار ألماظة». وأرسل إشارةً لاسلكيّة إلى تشكيلاته يأمرها بأن تقوم بهجوم مضادّ وتهجم على المطارات الإسرائيليّة. وبالطبع لم يكن يعرف مدى الخسائر التي لحقتْ بالفعل بتشكيلاته وأنّها لم تعد تستطيع تنفيذ أوامره.
«وصلت طائرة المشير إلى مطار القاهرة الدّولي، ولم يكن هناك بالطبع مستقبِلون. استقلّ المشير إحدى سيّارات الأجرة، وكانت الوحيدة الموجودة خارج المطار، ومن نوع عتيق جدّاً يقودها سائقٌ عجوز، إلى مقر القيادة العامّة بمدينة نصر، وصحِبه في نفس السيّارة قائد القوّات الجوّيّة وبعض كبار المرافقين. ولا شكّ في أّنه كان منظراً فريداً في نوعه لم يسبق له مثيل، إذ انحشر قادة يحملون أكبر الرّتَب العسكريّة، بملابسهم الرسميّة، ونياشينهم المصفوفة على صدورهم داخل سيّارة عتيقة بالكاد تتحرّك، وسائقها المدنيّ الهرِم القادم من مصر العليا ذو النّظّارات السّميكة ترتعد فرائصه خوفاً من القصف الجوّيّ من ناحية، ومن خطورة الشخصيّات التي يُقلّها من ناحية أخرى، وهم يستحثّونه ليصل بهم في أسرع وقت إلى مقرّ القيادة. وما إن وصلوا حتى بدأت إذاعات القاهرة تُصدر البيان تلو البيان عن عدد الطّائرات المعادية التي أُسقطت» (الحديدي، شاهد، ص ١٨٦ - ١٨٧).
وهناك واقعةٌ أخرى حصلت يوم الإثنين ٥ حزيران / يونيو ١٩٦٧، السّاعة التّاسعة صباحاً في مطار أبو صوير بمنطقة فايد جنوب الإسماعيليّة. في الوقت الذي حاولت فيه طائرة المشير أن تهبط في مطار تمادا، كانت هناك طائرة أخرى مماثلة، إليوشن ١٤، تحاول هي الأخرى أن تهبط في مطار أبو صوير. هذه الطّائرة الثّانية كانت تقلّ حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهوريّة، بصحبة طاهر يحيى، رئيس الوزراء العراقي الذي أتى لمصر للتّوقيع على اتفاقيّة دفاعٍ مشترك. وبعد أن هبطت الطّائرة بدقيقة أو دقيقتين ظهرت الطائرات الإسرائيليّة وأخذت تقصف المطار بالطريقة المنهجيّة نفسها.
وقد شهد هذه الواقعة الطّيّار تحسين زكي الذي أدلى بشهادته لعصام دراز في كتابه «ضباط يونيو يتكلمون»، فلنقرأ نصّ شهادته:
«قفز ركاب طائرة حسين الشافعي منها عندما شاهدوا قصف المطار، واختبأوا خارج الممرّ خلف ساتر. وبعد ذلك هاجمت الطّائرات الإسرائيليّة الطّائرة وهي تقف على الممرّ الفرعي فاحترقت. وبعد انتهاء الضّربة الأولى كلّفتُ طيّاراً اسمه السمري، أن يركب سيّارة جيب ويقوم بإحضار حسين الشافعي ومرافقيه إلى مبنى المطار. وعندما وصل إلى المطار واجهه الطّيّارون وقالوا له «كده كويّس؟! لماذا لم تتركونا نضرب الضّربة الأولى؟». كان الطّيّارون في حالة توتّر وحزْن شديد لتعرّضهم لهذه الضّربة وعدم إتاحة الفرصة لهم بالقيام بالضّربة الأولى».
«قاهر» وهزيمة الجيش البرّي
في الحديث عن معارك حرب ٦٧، يتركّز الكلام على المعركة الجوّيّة التي وقعت في ٥ حزيران / يونيو وتدمير سلاحنا الجوّيّ، لكنّ الحدث الذي لا يقلّ غرابةً هو تدمير جيشٍ قوامُه أكثر من مائه ألف جنديّ في أقلّ من ٣٦ ساعة.
كان جمال عبد النّاصر يتشدّق بهذا الجيش، وكان صديق عمره ورفيق سلاحه وقائد جيشه، عبد الحكيم عامر، يقول عنه إنّه أكبر وأقوى جيش في الشّرق الأوسط. وما هي إلّا أيام قلائل حتى انفرط عقد هذا الجيش تماماً، وسقط من رجاله عشرة آلاف شهيد، أي عُشر القوّة المقاتلة.
يحلو للإسرائيليّين التأكيد على قوّة شكيمة عبد النّاصر وعظمة شخصيّته، ويشيرون في كتاباتهم لخطَبه العنتريّة حتى يؤكّدوا على قدرتهم على هزيمته وإذلاله. كما يحلو لهم أن يعظّموا من شأن الجيش المصري الذي حُشد أمام جبهتهم الجنوبيّة لكي يعظّموا من حنكتهم وعزيمتهم وحُسن تخطيطهم. والأمر كما سنتبيّن، كان خلاف ذلك، فالجيش الذي قاتلوه كان جيشاً مهترئاً ضعيفاً، وكان قادته الميدانيّون هم أوّل مَن اعترف بذلك وحذّر منه. أمّا عبد النّاصر فقد انهزم عسكريّاً، لكنّه لم يرفع سمّاعة الهاتف لكي يعرض الاستسلام ويطلب الصّلح من ديان، كما تمنّى الأخير وقال في حديثٍ شهير بعد أن سكتت المدافع.
وإذا كان تدمير سلاح الجوّ في ثلاث ساعات نتيجةً منطقيّة لقيادة فاشلة فشلت في التخطيط واستهترت بالعدوّ، وتمثّلت في شخص الفريق أوّل صدقي محمود، قائد القوّات الجوّية والدّفاع الجوّي لمدّة خمسة عشر عاماً، فما هي الأسباب التي أدّت إلى هزيمة الجيش البرّي بهذه السّرعة، وبهذا العمق؟
ألقى عبد النّاصر ومعاونوه باللائمة على عامر، نائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، الذي تربّع على قمّة السّلطة العسكريّة في مصر منذ عُيّن قائداً للجيش عام ١٩٥٤. فبسبب فساد أخلاقه وقلّة خبرته وسوء إدارته تحوّل الجيشُ تحت قيادته إلى دولةٍ داخل الدّولة، وبالتّالي انعدمت الخبرة القتاليّة، وتحوّلت عقيدة الجيش من القتال للاستئثار بمزايا استثنائيّة للضبّاط وعائلاتهم، وشاع الفساد بين كبار الضّبّاط وصغارهم ووهنت هزيمة القتال بين الرّجال.
وتحديداً، يقول رجال الرّئيس إنّ انهيار المشير وإصداره قرار الانسحاب المشؤوم يوم ٦ حزيران / يونيو هو السّبب الرئيسيّ للمأساة التي حلّت بالجيش. فبدون غطاء جوّيّ أمسى مستقبل الجيش البرّيّ في سيناء سوداويّاً. أمّا شلّة المشير فألقتْ باللائمة على ما سمّته «القيادة السياسيّة»، أي عبد النّاصر وأعوانه، وعلى تدخّل تلك القيادة في مجريات الجيش وتحديداً في الخطط القتاليّة والاستعدادات العسكريّة. وتقول إنّ التّعديلات التي أدخلها عبد النّاصر على الخطط العسكريّة لأسباب سياسيّة هي التي أدّت لهزيمة الجيش.
إنّ الصّراع بين الرّئيس عبد النّاصر والمشير عامر كان له بالتّأكيد دورٌ أساسيّ في الهزيمة، غير أنّه من خلال دراسة الخطط العسكريّة الموضوعة وتتبّع أحوال جيش وأوضاع قوّاته البّرّية حتى قبل اندلاع القتال يتّضح أنّ مصير الجيش كان محسوماً سواء بقي سلاح الجوّ أو دُمّر، وسواء قَوي العدوّ أو ضعُف.
يقول الفريق الحديدي في كتابه الهامّ «شاهد على حرب ٦٧» : «إنّ مصر اختطّت لنفسها استراتيجيّة دفاعيّة بحتة إزاء إسرائيل، ولم تفكّر في يوم من الأيّام أنْ تعدّ لعمليّات هجوميّة واسعة». لم تشذ «قاهر» عن هذه القاعدة، فهي خطّة دفاعيّة بالأساس بُنيتْ فكرة الدّفاع فيها على منع العدوّ من الوصول لقناة السّويس وتدمير قوّاته التي تنجح في الاختراق توطئةً للقيام بالهجوم العامّ المضادّ، بالتّعاون مع الاحتياطيّ الاستراتيجيّ للقضاء على العدوّ، بحسب ما جاء في كتاب الفريق أوّل محمّد فوزي، «حرب الثلاث سنوات» (ص ٩٩ - ١٠٠).
وتتكوّن «قاهر» من العناصر الآتية: نطاق أمنيّ ملاصق للحدود ومخصّص له كتائب استطلاع وكتائب صاعقة وأفواج الحدود، بغرض استطلاع تحرّكات العدوّ والتّحذير من أيّ هجوم إسرائيليّ محتمل. وخلف هذا النّطاق الأمنيّ يقبع عمق الدّفاع التكتيكيّ الذي يتكوّن من نطاقين دفاعيّين.
ويحتلّ احتياطيّ المنطقة ثلاثة أماكن: فوج مدرّع شمال نخل، ٢ لواء مشاة بالإضافة إلى قيادة فرقة في منطقة الحسنة، لواء مدرّع على المحور الأوسط غرب أبو عجيلة وبالقرب من جبل لبني.
وخلف هذه القوّات يقبع الاحتياطيّ الاستراتيجيّ، وتكمن الفكرة وراء «قاهر» في تمسّك قوّات النّطاقين الأوّل والثّاني بموقعهما، على أن يستعينا بتعزيزات من الاحتياطيّ الاستراتيجيّ عند الضّرورة، وأن تقوم الفرقة المدرّعة بالتصدّي للعدوّ إن نجح في النفاذ من هذين النّطاقين والقضاء عليه، ثمّ القيام بهجوم مضادّ. ومفتاح هذه العمليّة الدفاعيّة هو التحكّم في المحور الأوسط الواصل بين العوجة وأبو عجيلة والإسماعيليّة.
وبالتالي فإنّ منطق «قاهر» دفاعيٌّ بحت وتكمن فلسفتها في استدراج العدوّ لسيناء، وأن يتمّ توريطه في هجمات قويّة ثمّ تطويقه من الشّمال والجنوب بغرض تدميره.
تعديلات قاتلة
طوال شهر أيّار / مايو أجريت أربعة تعديلات على الخطّة أفرغتها من محتواها وجعلت انهيار الجيش شيئاً محتوماً. أوّلاً، الاعتماد على الاحتياط بشكلٍ أساسيّ حتى وصل الأمر للحدّ الذي صار الاحتياط فيه أكثر من نصف عدد القوّات. ولم «يكن هناك تخطيط واقعيّ لتدريب قوّات الاحتياط دوريّاً بما يضمن وصولها إلى درجة الكفاءة القتاليّة التي تؤهّلها للاشتراك في الحرب في ميدان القتال»، كما يقول الجمسي في مذكّراته (ص ٦٦).
أمّا نائب رئيس الاستخبارات عبد الفتاح أبو الفضل فكتب في «كنت نائباً لرئيس المخابرات» عن قوّات الاحتياط «كان الكلّ في ملابس مدنيّة، ومعظمهم بجلاليبهم الريفيّة ويحملون بنادقهم وليس هناك أيّ زيّ عسكريّ، [....] وشُحنوا في السكك الحديدية كالدوابّ» (ص ٢٧٩).
وإذا انتقلنا إلى التعديل الثّاني فسنجد أنّه، ولدواعي «الأمن» أي الحيلولة دون قيام الجيش بانقلاب على نظام الحكم، كانت تجري بصفة منتظمة حركة تنقّلات بين الضّبّاط، الأمر الذي أثّر في التّدريب تأثيراً بالغاً. وكان من أكبر تلك الحركات حركة تنقّلات صيف ١٩٦٦ التي شملت عدداً كبيراً من الضّبّاط من أعلى الرّتَب إلى أدنها. وكان مبدأ «الولاء قبل الكفاءة» هو الحاكم دائماً في اختيار تنقّلات الضّبّاط، الأمر الذي أدّى إلى تقلّد عدد كبير من القادة غير الأكفّاء مناصب قياديّة عليا. غير أنّ ما أثّر أثراً مباشراً في الخطّة «قاهر» هو الأمر الصّادر بتغيير كلّ قادة الفرَق الإثنى عشر مع أركان حربهم قبل الحرب بأسبوع أو أسبوعين (George Gawrych, Key to the Sinai, ص ٧٧).
وكان ثالث القرارات التي اتخذتها القيادة العليا في الأسابيع القليلة السابقة على الحرب والتي أثّرتْ مباشرةً على «قاهر» إنشاء قيادة جديدة في سيناء، تُدعى «قيادة الجبهة» ومركزها بير تمادا وعهد بها للفريق الأوّل عبد المحسن مرتجى، فـ«قاهر» تفترض وجود قيادة موحّدة للجيش يكون مركزها الإسماعيليّة. أمّا رابع القرارات التي اتُخذتْ في الفترة التحضيريّة السّابقة على الحرب فكان تلك التعديلات التي أدخلت بشكل مباشر على «قاهر» وأفرغتها من محتواها. فكما رأينا، «قاهر» خطة دفاعية بحتة، ومنطقها مبنيّ على الاعتقاد (السليم) بأنّ المحور الذي سيسلكه العدوّ في الأغلب هو المحور الأوسط. على أنه ومن بداية يوم ٢٠ أيّار / مايو اتخُذت العديد من القرارات التي ستخل بهذا الاعتقاد الراسخ، وتجرب تعديلات جوهريّة على أوضاع القوّات التكتيتكية. أوّل هذه القرارات اتخذته القيادة العليا بنقل كتائب من المظلّات إلى شرم الشيخ. وكان هذا القرار صادما لقائد الجبهة، الفريق مرتجى، لأنّ قيادات الجيش اتفقت يوم ١٧ أيّار / مايو على عدم إرسال قوّات إلى شرم الشّيخ ولأنه لم يُخطر به من القيادة العليا بل علِمه صدفة من قيادة القوّات الجوّيّة (مرتجى، الفريق مرتجى يروي الحقائق، ص ٦٧ - ٧٧).
ما هي إلّا ثلاثة أيّام حتى صدر الأمر الثّاني المعدّل للخطّة «قاهر»، ففي يوم ٢٠ أيّار / مايو زار المشير عبد الحكيم عامر الجبهة، وأثناء الجولة سأل المشير عن القوّات التي خصّصت للدّفاع عن غزّة. وعندما أبلغه الفريق أوّل مرتجى أنّه ليست هناك قوّات مخصّصة لهذا الغرض حتى قرّر المشير إنشاء مجموعة خفيفة تتمركز ما بين رفح والعريش. وطوال أيام ٢٢ - ٢٥ أيّار / مايو أخذ عامر يفكّر في القيام بأعمال تعرّضيّة داخل فلسطين المحتلّة وتحديداً في النّقب بغرض احتلال إيلات وفصل النّقب الجنوبي. لكن في ٢٥ أيّار / مايو عُقد مؤتمر عسكريّ كبير في القيادة العامّة اعترض فيه عبد النّاصر على ذلك وفضّل وضع خطّة بديلة للدّفاع عن قطاع غزّة. كما أضاف أنّه يجب تقوية الدّفاع عن شرم الشّيخ.
نتيجةً لكثرة التّعديلات التي أدخلت على الخطّة «قاهر» تهتّكت تلك الخطّة وتمزّقت وفقدت فاعليّتها وقدرتها الدّفاعيّة، وانهارت فكرتها الأساسيّة، فوحدات ترسل إلى سيناء بمهامّ لا تلبث وهي في طريقها لتنفيذها أن تأخذ مهامّ أخرى مختلفة، ووحدات ترسَل بدون مرتّبات الحرب بأمل أن تصلها هذه المرتّبات في أماكن تمركزها الجديدة لكنّها لا تصل، وأخرى ينزع من صلب تنظيمها وحداتٌ صغرى على وجه السّرعة ثمّ تستكمل بوحدات صغرى أخرى من قوّات أخرى لا تعرف عنها شيئاً، وعمليّات تعرّضيّة توضع ثمّ تُدخل عليها التّعديلات التي تبعدها عن هدفها الأصليّ.
الخطّة «فجر» الموءودة في الفجر
عند السّابعة صباحاً من يوم ٢٦ أيّار / مايو ١٩٦٧ بتوقيت القاهرة، منتصف الليل بتوقيت واشنطن طلب مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّة يوجين روستو مقابلة سفير الجمهوريّة العربيّة المتّحدة مصطفى كامل بصفةٍ مستعجلة. وعندما حضر السّفير لمكتب روستو في وزارة الخارجيّة طلب الأخير من مساعديه ترك الغرفة لينفرد بضيفه كي يبلغه الرسالة الآتية: «إنّ أعداءكم [أي الإسرائيليّين] يعتقدون أنّ مصر وسورية على وشك شنّ هجوم في أيّ لحظة. نحن لا نعتقد أنّ ج.ع.م. يمكن أن تتصرّف بتلك الرّعونة، فهذا النّهج سيكون له بالطّبع نتائج وخيمة. وبالتاّلي فنحن ما زلنا نحثّ إسرائيل على ضبط النّفس».
على الفور كتب كامل برقيّة شفريّة للقاهرة بمضمون المقابلة. وفي ٢٦ أيّار / مايو ١٩٦٧ عند السّاعة الخامسة والنّصف مساءً بتوقيت القاهرة، العاشرة والنّصف بتوقيت واشنطن، اجتمع وزير الخارجيّة الإسرائيليّ أبا إيبان، الواصل لتوّه من تلّ أبيب، مع وزير الدّفاع الأميركي روبرت ماكنامارا في مكتبه بوزارة الدّفاع، ليستوضح منه إذا كانت الولايات المتّحدة ما زالت ملتزمة بتعهّداتها التي قطعتْها على نفسها عام ١٩٥٧ بضمان حرّيّة مرور السّفن الإسرائيليّة في خليج العقبة. أثناء المناقشة استُدعي السّفير الإسرائيليّ في واشنطن آفرام هارمان الذي كان حاضراً الاجتماع أيضاً للرّدّ على مكالمةٍ هاتفيّة من تل أبيب، وعندما عاد بعد دقيقتين قدّم لإيبان ورقة تفيد بأنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة تؤكّد على قرب قيام ج. ع. م. بالاشتراك مع سورية بشنّ هجوم مباغت على إسرائيل في أيّ لحظة. أكّد ماكنمارا أنّ أجهزة الاستخبارات الأميركيّة المختلفة تختلف مع هذا التّحليل وتؤكّد على أنّ المعلومات الواردة من سيناء توضح أنّ الحشد المصريّ الذي بدأ في ١٤ أيّار / مايو دفاعيّ وليس هجوميّاً. لكنّ إيبان أصرّ على أنّ ما وصله ليس «تحليل معلومات» ولا حتى «معلومات» بل «يقين».
عند الثالثة فجراً من يوم ٢٧ أيّار / مايو ١٩٦٧ داخل منزل عبد النّاصر بمنشيّة البكري، يتلقّى عبد النّاصر اتّصالاً من السّكرتير المناوب القائم بعمل ساعات الليل يخبره فيه بأنّ السّفير السّوفييتي ديمتري بوغداييف على الباب يطلب محادثته في أمر مستعجل. أخرج بوغداييف من جيبه مظروفاً وقرأ رسالة من رئيس وزراء الاتّحاد السّوفييتي أليكسي كوسيغين تفيد بأنّ الرئيس الأميركي ليندون جونسون اتّصل به لتوّه على الخطّ السّاخن بين البيت الأبيض والكرملين ليخبره أنّ القوّات المصريّة ترتّب لهجوم على إسرائيل، وطلب منه التّدخّل عبر سفيره في القاهرة لمنع هذا الهجوم، وإلّا فالولايات المّتحدة ستعتبر نفسها في حلّ من التعهّدات التي أعطتها للاتّحاد السوفييتي بضبط النّفس. (حسنين هيكل، الانفجار، ص ٥٧٧ - ٥٧٨).
يقول هيكل (الانفجار، ص ٥٧٧) إنّ ما كان يشغل عبد النّاصر ليس الوقوف على حقيقة موقف الاتحاد السّوفييتي أو إذا كانت الولايات المتّحدة تريد أن تبلّغه رسالة تهديد، بل إنّ هذه المعلومات و«تحذيرات ما بعد منتصف الليل» أوضحت لعبد النّاصر أنّ هناك تسريباً ما، والسؤال الذي يقول هيكل إنّه شغَل عبد النّاصر هو إذا كان هذا التسريب من القيادة، أم أنّ إسرائيل قد حصلت على تفاصيل العمليّة الهجوميّة (التي كان اسمها «فجر» كما هو مشروح أسفل) عن طريق كسر شفرات القوّات المصريّة.
ثمّ يشرح لنا هيكل كيف استدعى عبد النّاصر عبد الحكيم عامر في الصّباح الباكر يوم السبت ٢٧ أيّار / مايو كي يصارحه بهواجسه، «وطلب إليه أن تغيّر القوّات المصريّة شفراتها، وأن تفعل ذلك كلّ ثلاثة أيّام توقّياً لكافّة الاحتمالات. لكنّ الموضوع ظلّ يلحّ على خاطره طوال اليوم وحتى أوى إلى فراشه». (هيكل، الانفجار، ص ٥٧٣ و٥٧٧).
وعن خطورة موضوع كسر الشفرات، يقول موشي ديان في مذكّراته إنّ الاستخبارات الإسرائيليّة استطاعت أن تلتقط أمر القتال المتعلّق بالعمليّة «فجر». (Moshe Dayan, The Story of my Life, ص ٣٢٥ - ٣٢٦). ويقول الفريق أوّل عبد المحسن مرتجى في مذكّراته «الفريق مرتجى يروي الحقائق» ( ص ٩١ - ٩٢) إنّ عدداً من الضبّاط المصريّين وقعوا في الأسر يوم ٢٨ أيّار / مايو بالقرب من إيلات عندما تخطّت وحدتهم الحدود الدوليّة، وعندها خشيت القيادة العليا من أن يكون أمر الخطّة «فجر» قد افتُضح.
إذا نحّينا جانباً موضوع الشّفرات وكسرها والجواسيس ومغامراتهم، فممّا لا شكّ فيه هو أنّه كانت هناك بالفعل خطّة هجوميّة اسمها «فجر» مختلفة اختلافاً جوهريّاً عن «قاهر» فالفريق أوّل محمّد فوزي يذكر في كتابه، «حرب الثلاث سنوات» (ص ١١٨)، أنّ الخطّة «فجر» صدرت بها توجيهات المشير رقم ١٦ / ١٩٦٧ في ٢٣ أيّار / مايو ١٩٦٧. ولـ«فجر» وجود حقيقيّ وهي ليست من محض افتراءات الجاسوس الإسرائيلي، كما أنّ توقيتها وتفاصيلها متطابقة إلى حدّ بعيد مع ما ذكره الإسرائيليّون وقتها. وبالتّالي فإنّ هيكل على حقّ في قوله إنّ عبد النّاصر ارتاب بالفعل في مصدر الرسالتين اللتين وصلتاه يومَي ٢٦ و٢٧ أيّار / مايو واللتين تفيدان بأنّ إسرائيل قد علمت بالفعل بأمر الخطّة «فجر».
غير أنّ السؤال يبقى: هل كان ما يقلق عبد النّاصر أنّ أمر هذه الخطّة قد وصل لإسرائيل عبر طريق ما، تسريبٍ من القيادة أو فكّ شيفرة، أم أنّ ما كان يقلقه هو وجود هذه الخطّة من الأساس؟
في يوم ٢٥ أيّار / مايو عُقد مؤتمر في القيادة العامّة للقوّات المسلّحة حضره عبد النّاصر، والمشير عامر، وغيرهم. في صفحتَي ٥٧٣ - ٥٧٤ ينقل هيكل عن عبد النّاصر قوله لعامر إنّه قد «لاحظ في الاجتماع أنّ المشير عبد الحكيم عامر يتحدّث بطريقة ظاهرة وبطريقة ضمنيّة عن الضّربة الأولى ومن يوجّهها والضّربة الثّانية ومن يتلقّاها. وكان رأيه [أي رأي عبد النّاصر] أنّ الدّوَران طويلاً حول هذه المسألة من شأنه أن يخلق بلبلة لدى القوّات. فالحرب جهد سياسيّ شامل يدخل القتال كعنصر من عناصره في وقت من الأوقات». ويضيف هيكل: «ثمّ أشار جمال عبد النّاصر في حديثه مع عبد الحكيم عامر إلى تفاصيل سمعها في اجتماع [القيادة] عن خطّة تعرّضية محدودة تحمل الاسم الرمزي «فجر»، وهي موجّهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي بهدف قطعه عمّا وراءه. وقال إنّه لم يشأ أن يشدّد في الاعتراض عليها في اجتماع القيادة حتى لا يساء فهم اعتراضه. ولم يكن اقتناع عبد الحكيم عامر كاملاً، وإن كان قد قال في نهاية حديثه إنّه سينفّذ الأوامر. والغريب أنّه ظلّ طوال يوم ٢٧ مايو متردّداً في إلغاء «فجر» ثمّ اضطرّ أخيراً إلى تنفيذ الأوامر».
وتتّضح من هذا الاقتباس الهوّة التي فصلتْ بين عبد النّاصر وعامر عن طريقة الاستعداد للمعركة القادمة وإدارتها. ولم يكن هذا الخلاف حول بعض التّفاصيل الدقيقة بل حول التّوجّه العامّ للمعركة.
ولم يظهر هذا الخلاف فجأة في اجتماع القيادة الذي عُقد يوم ٢٥ أيّار / مايو حين اكتشف عبد النّاصر أنّ هناك خطّة تعرّضيّة اسمها «فجر» وُضعت دون علمه.
بل إنّنا إذا رجعنا لكلّ خطوة من خطوات تطوّر الأزمة منذ بدايتها يوم ١٤ أيّار / مايو وحتى يوم اندلاع الحرب يوم ٥ حزيران / يونيو سنجد لهذا الخلاف الجذريّ بين الرّجُلين آثاراً واضحة في كتابات كلّ القادة الذين شهدوا هذه الوقائع وكتبوا عنها.
كانت الخطوة التاّلية التي أدّت إلى الحرب هي خطوة طرد قوّات الأمم المتّحدة يوم ١٦ أيّار / مايو. فكان عبد النّاصر يريد إعادة توزيع محدود لتلك القوّات وليس سحبها كليّاً. أمّا عامر فأراد تصعيد الموقف وتسخينه بالإصرار على سحب شامل للقوّات، وليس إعادة تمركز جزئيّ. أمّا الخطوة الثّالثة فكانت قرار إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيليّة يوم ٢٢ أيّار / مايو.
وأكّد عبد النّاصر في هذا المؤتمر الذي حضره العديد من الطيّارين أنّه لا يريد تصعيد الأمر إلى درجة تستدعي تدخّل الولايات المتّحدة، ولذا يجب علينا ألّا نبادر بتوجيه الضّربة الأولي لإسرائيل، بل أنْ نتلقّاها. لكن فور انتهاء المؤتمر تكالب الطيّارون حول عامر وطالبوه بأن يصرّح لهم بالقيام بالضّربة الأولى، فردّ عليهم قائلًا «ما تخافوش يا ولاد. والله هنحارب»، وذلك حسب شهادة الطيّار المقاتل ممدوح الملط الذي كان حاضراً المؤتمر.
سرديّة بديلة
على أنّه يمكن تقديم سرديّة أخرى لحزيران / يونيو ٦٧ تبدأ بتسمية الأشياء بأسمائها وتعترف بأنّ ما حصل ليس نكسة بل هزيمة، بل هزيمة منكرة. وكما قلت في بداية المقال لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عسكريّة فقط بل كانت هزيمة سياسيّة وثقافيّة وحضاريّة. هزيمة رؤية للعالم ولمكاننا فيه.
أنصار سرديّة النّكسة لا يفضّلون التّفكير عميقاً في الأسباب الهيكليّة التي أدّت بنا لهذه الهزيمة، فهي في رؤيتهم، كما رأينا، لا تعدو كونها نكسة تعافَينا منها. كما يشكّكون فيمن يركّز على الأسباب الهيكليّة للهزيمة، متهمين إيّاهم بالانهزاميّة وبالافتقار للإحساس بالمسؤوليّة. ويذكّرونهم بأنّنا لم نكن أوّل أمّة تُهزم، وأنّ التّاريخ مليء بنماذج لأمم هُزمت ولكنّها نهضت من هزيمتها لأنّها لم تفقد إرادتها. ويشيرون كثيراً إلى حالة فرنسا أثناء الحرب العالميّة الثانية عندما انهارت أمام جحافل النازي، واحتُلت عاصمتها، وخضع أكثر من نصف مساحتها للاحتلال، أمّا النّصف الثاني فكان تحت حكم حكومة عميلة.
غير أنّني أفضّل مقارنة هزيمتنا في ٦٧ بهزيمة فرنسا في حرب أخرى، حربها مع بروسيا عام ١٨٧٠،أو هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى، أو هزيمة الجنوب في الحرب الأهليّة الأميركيّة. هذه الهزائم لم تكن هزائم عسكريّة فقط، بل كانت هزائم لنظامٍ اجتماعيّ وثقافيّ وحضاريّ. هذه أيضاً كانت هزائم أعقبها إمّا انقلاب قصر، أو ثورة عارمة أو زوال عالم بأكمله بقيَمه ومُثُله وأسلوب حياته.
فإذا كان الأمر كذلك، وإذا صحّت هذه المقارنة، فلماذا إذن لم نشهد انهياراً لعالمنا وقيَمنا ومثلنا، أو ثورة عارمة، أو انقلاب قصر في أعقاب هزيمة حزيران / يونيو ٦٧؟ والإجابة هي أنّنا شهدنا بالفعل انهياراً للقيَم والمثل وثورة وانقلاباً.
أمّا الثّورة فكانت إرهاصاتها تلك المظاهرات التي قام بها شباب الجامعات في القاهرة ثمّ انضمّ إليهم عمّال حلوان بعد أن أُعلنت أحكام محكمة الطيَران التي أدانت الفريق صدقي محمود بالأشغال الشاقّة لمدّة خمسة عشر عاماً وبالبراءة للقادة الآخرين، وهي الأحكام التي رأى فيها المتظاهرون التفافاً على الحقيقة وطرمخة على الهزيمة (وإن كان لفظ «طرمخة» لم يكن مستخدماً وقتها). وقرأ النّظام المظاهرات قراءةً دقيقة وأدرك أنّه يجب أن يقدّم بعض التّنازلات حتى يعيد السيطرة على الجماهير، إذ إنّ تلك كانت المرّة الأولى التي يفقد فيها عبد النّاصر الشّارع. غير أنّ هذه التّنازلات، وكما نعرف، لم تكن سوى تنازلات شكليّة لم تلبّ المطالب الحقيقيّة بانفتاح ديمقراطيّ جذريّ وبفتح المجال السياسي الذي رأى المتظاهرون أنّ إغلاقه كان سبباً أساسيّاً من أسباب الهزيمة. فجاء بيان ٣٠ آذار / مارس هزيلاً ضعيفاً لم يمسّ جوهر الإصلاحات المنشودة.
أمّا الانقلاب فقد خُطّط له بعناية ولكنّه وُئد وخرج منه النظام منتصراً.
ولشرح وقائع هذا الانقلاب يجب البدء بشرح مفردات السرديّة الثانية، السرديّة التي تقوم على شرح الهزيمة هيكليّاً. تبني هذه السرديّة على أدبيّات العلوم السياسيّة وعلى علم الاجتماع السياسي، وتحديداً على فرع من هذين المجالين يُعنى بدراسة العلاقات المدنيّة العسكريّة. وقد تناول الكثير من الأكاديميّين الغربيّين حرب ٦٧، سواء من الجانب المصريّ أو الإسرائيليّ، من هذه الزاوية، زاوية علاقة الساسة بالعسكر. على أنّني أعتبر دراسة حازم قنديل، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة كامبريدج، عن النّظام السياسيّ المصريّ من أهمّ هذه الدّراسات.
الصراع بين عبد النّاصر وعبد الحكيم عامر
يسرد حازم قنديل في كتابه تاريخ هذا الثّالوث غير المقدّس من بداية انقلاب تموز / يوليو إلى ثورةكانون الثاني / يناير. ويتناول، بين أشياء كثيرة، علاقة الساسة بالعسكر بدءاً بعلاقة عبد النّاصر بمحمّد نجيب، ثمّ علاقة عبد النّاصر بعبد الحكيم ومحمّد فوزي، ثمّ علاقة السادات بمحمّد صادق والشاذلي والجمسي، ثمّ علاقة مبارك بأبو غزالة وطنطاوي، ثمّ علاقة محمّد مرسي بالسيسي.
وبخصوص حرب ٦٧، يركّز حازم قنديل على أزمة الحكم المتمثّلة بالعلاقة المأزومة بين مؤسّسة الرّئاسة (عبد الناصر) والمؤسّسة العسكريّة (عامر). لا يغفل قنديل الإشارة إلى الطبيعة الشخصيّة لعلاقة عبد النّاصر بعامر، فصداقتهما لم تكن صداقة عاديّة، بل كانت صداقة حميمة، ووُدّ، ومصاهرة، وجيرة (منزلاهما في المعمورة كانا متلاصقين). وكان عامر بحكم زمالته لعبد النّاصر في الكلّيّة الحربيّة، واشتراكه معه في حرب فلسطين، وتخطيطهما معاً لانقلاب تموز / يوليو - كان لهذه الأسباب مجتمعة من أقرب أعضاء مجلس قيادة الثّورة لعبد النّاصر. وكانت صداقتهما القريبة مصدر حقد وغيرة لباقي أعضاء المجلس.
وكانت هذه الصداقة وثقة عبد النّاصر اللامتناهية هي السّبب وراء إصرار عبد النّاصر على أن يتولّى قيادة الجيش عبد الحكيم عامر، ونجح بالفعل في أن يجبر محمّد نجيب على ترقية عامر من رتبة صاغ لرتبة لواء مرّة واحدة. وكان من نتاج هذا الإصرار أن تقدّم قائد سلاح الطيران، اللواء حسن محمود، باستقالته من القوّات الجوّيّة، ورفَض أن يستمرّ في منصبه احتراماً لرتبة اللواء. وحلّ محلّه الطيّار صدقي محمود الذي ظلّ قابعاً في مركزه كقائد لسلاح الطيران والخادم المخلص لعبد الحكيم حتى هزيمة ٦٧.
وبمرور الوقت استطاع عبد الحكيم أن ينشئ قاعدة لسلطانه داخل القوّات المسلّحة، وأن يبني علاقات وينمّي ارتباطات تقوّي من مركزه على حساب سائر أعضاء مجلس قيادة الثّورة. وسرعان ما ظهرت بوادر صراع خفيّ بينه وبين عبد النّاصر نفسه. ويجمع كلّ المراقبين على أنّ هذا الصراع أخذ ينمو منذ ١٩٥٦ وحتى ١٩٦٧. غير أنّ أهمّ محطّاته كانت رفض عبد الحكيم الانصياع لرغبات عبد النّاصر وزملائه من أعضاء مجلس قيادة الثّورة بضرورة تنحية المسؤولين عن الأداء المخزي للجيش في حرب ١٩٥٦، وخصوصاً صدقي محمود. غير أنّ عامر رفض أيّ تدخّل من الرّئاسة في مجريات الجيش.
وكانت ثاني محطّات الخلاف تلك التي ظهرت بعد انفصال الوحدة مع سورية، واكتشاف أنّ الانقلاب في سورية خُطّط له من داخل مكتب عبد الحكيم عامر شخصيّاً، فرؤي ضرورة إبعاد عامر عن الجيش. ولإدراكه أنّ صديقه لن يرضى التّنازل عن قيادة الجيش الذي أصبح «سبّوبة» يدرّ منه ثروات طائلة حاول عبد النّاصر أن يغري عامر بأنْ يشركه فيما سّماه بمجلس الرئاسة على أن يترك الجيش. وبعد أن وافق عامر في بادئ الأمر، عاد بعد إلحاح من الضّباط زملائه وتمسّك بقيادة الجيش، وأصرّ على حقّه، دون سواه، في تعيين كبار القادة، ومنع عبد النّاصر، فعليّاً، من التّدخّل في أمور الجيش. كلّ ما استطاع عبد النّاصر أن يجنيه من تلك المواجهة التي يشير إليها الكثيرون بـ«الانقلاب الأبيض» أن يحتفظ لنفسه بلقب «القائد الأعلى»، وأن يشار لعبد الحكيم بـ«نائب القائد الأعلى». غير أنّ الجميع كانوا يدركون أنّ المشير كان الآمر النّاهي في أمور الجيش، وأنّ عبد النّاصر لم يكن له سلطان حقيقيّ على الجيش.
وفي عام ١٩٦٤ حاول عبد النّاصر أن يبسط يده على الجيش، فعيّن الفريق أوّل محمّد فوزي رئيس أركان. ولكن سرعان ما أن استطاع عامر تعيين واحد من شلّته، علي عبد الخبير، كـ«مدير أركان» حتى يشلّ فوزي ويحدّ من سلطاته.
ويتتبّع حازم قنديل هذا الصراع المأساوي بين عبد النّاصر وعامر قبل وأثناء حرب حزيران / يونيو، فيشرح كيف كان عامر هو الذي يؤجّج الصدام مع إسرائيل، أوّلاً عن طريق حشد القوّات يوم ١٤ أيّار / مايو، ثمّ عن طريق الإصرار على طرد قوّات الأمم المتّحدة يوم ١٨ أيّار / مايو، ثمّ عن طريق الإصرار على غلق مضيق العقبة يوم ٢٢ أيّار / مايو. وفي كلّ مرحلة من تلك المراحل كان عبد النّاصر يعمل على التهدئة، لكنّ يده كانت مغلولة لسيطرة عبد الحكيم على الجيش.
وإذا سأل سائل، هل معنى ذلك هو تبرئة عبد النّاصر، وأنّ المشير هو المسؤول وحده، فالرّدّ هو: بالطبع كلّا. فعبد النّاصر هو المسؤول أساساً عن وضع لبنات النّظام السياسيّ الذي أفضى به لهذا الحال المختلّ، فهو الذي قضى على الأحزاب، وهو الذي قضى على الإخوان، وهو الذي قضى على الصحافة وأممها، وهو الذي قضى على النّقابات العمّاليّة والمهنيّة، وهو الذي قضى على الحياة الجامعيّة.
وأهمّ من هذا وذلك، عبد النّاصر هو الذي صمّم على أن يعيّن عبد الحكيم عامر قائداً عامّاً على الجيش في نظام انعدمت فيه الحياة السياسيّة، وانعدمت فيه بالتّالي أيّ إمكانيّة لرقابة مجتمعيّة أو مؤسّسية على الجيش. ولم يكن سبب تمسّكه بعامر كقائد للجيش هو إيمانه بقدرات عامر العسكريّة بل ثقته في قدرته على تأمين الجيش، أي الحيلولة دون وقوع انقلاب عليه من داخل الجيش. فعبد الناصر وصل للحكم عن طريق انقلاب، وهو أوّل من كان يعي خطورة قيام الجيش بانقلاب ثان، وبالتّالي كان يدرك ضرورة تسليم الجيش لشخص مؤتمن، فكما قال «من المستحيل أن يوكل أمر الجيش لشخص غريب وليس منّا فيتحكّم في رقابنا» (عبد اللطيف البغدادي، مذكرات، جزء ١، ص ٧٨).
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.