الحقوق: منشورة في الغارديان البريطانية ١٢ كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٤.
أنا أكتب منذ حوالي ثمانين عاماً. بدأت بالرسائل ثمّ الأشعار والخطب، وبعدها الرّوايات والمقالات والكتب، والآن أكتب ملاحظات. ممارسة الكتابة كانت حيويّة بالنّسبة إليّ، ساعدتني على أن أعطي الأشياء معنى وأن أستمرّ. على أنّ الكتابة فرعٌ لما هو أعمق وأعمّ - علاقتنا باللغة بذاتها. وموضوع هذه الملاحظات القليلة هو اللغة.
لنبدأ بتفحّص نشاط المترجمين من لغة إلى أخرى. معظم التّرجمات هذه الأيّام تقنيّة، أنا هنا معنيّ بالترجمات الأدبيّة: ترجمات نصوص تُعنى بالتجربة الفرديّة.
الرّأي السّائد فيما يتضمّنه ذلك يَفترض أنّ المترجم أو المترجمين يدرسون الكلمات على صفحة واحدة بلغة واحدة ومن ثمّ َيؤدّونها بلغة أخرى على صفحة أخرى. هذا يتضمّن ما يسمّى «الترجمة الحَرفيّة». بعدها يجري التكييف من أجل احترام التقاليد والقواعد اللغويّة العائدة للّغة الثانية واستيعابها. وأخيراً، تتمّ عمليّة تحرير لإعادة إنتاج ما يعادل «صوت» النّصّ الأصليّ. العديد من التّرجمات، وربّما معظمها، تتبع هذا الأسلوب. والنتائج قيّمة ولكنّها من درجة ثانية.
لماذا؟ لأنّ الترجمة الحقّة ليست عمليّة ثنائيّة بين لغتين وإنّما عمليّة مثلّثة. النقطة الثالثة في المثلث هي ما يقبع خلف الكلمات في النصّ الأصليّ قبل أن يُكتَب. تتطلّب الترجمة الحقّة العودة إلى ما هو سابق على الشفويّ. يقرأ المرء ويعيد قراءة كلمات النّصّ الأصليّ من أجل أن يخترقها ليصل إلى الرؤية أو التّجربة الّتي أنجبتها ويلامسها. أحدهم يجمع ما قد اكتشفه هناك ويحمل هذا «الشّيء» المرتعش والذي هو عند حدود البُكم، فيضعه خلف اللغة المطلوب نقل النّصّ إليها. والآن باتت المهمّة الرئيسة هي إقناع اللغة الضَّيفة بأنْ تستقبل هذا «الشيء» الذي ينتظر النّطق وتحتفل به.
تذكّرنا هذه الممارسة أنّ اللغة لا يمكن اختزالها إلى قاموس أو إلى مخزون من الكلمات والجُمل. ولا يمكن اختزالها أيضاً إلى مستودع للمؤلّفات الّتي كُتبت بها. إنّ اللغة الشفويّة جسد، كائن حيّ، جسمانيّته ناطقة ووظائفه الباطنيّة لغويّة. وبيت هذا الكائن هو الأبكم قدْر ما هو النّاطق.
لننظر في مصطلح «اللغة الأمّ»، وهو بالروسيّة «رودنوي - يازيك»، ويعني «الأقرب» أو «اللغة الأحبّ»، وقد نسمّيها بشيء من المبالغة «اللغة المعشوقة». اللغة الأمّ هي أولى لغات المرء، اللغة التي تتناهى إلى سمعه وهو بعدُ طفل. وتحوي لغة أمٍّ واحدة كلّ لغات الأمّهات. بعبارة أخرى، كلّ لغة أمّ هي لغة كونيّة. فقد أبان نوام تشومسكي ببراعة أنّ كلّ اللغات - وليس اللغات الشفويّة وحدها - تتشارك في بُنى وتقاليد مشتركة. وهكذا فإنّ لغةً تتّصل بلغات غير شفويّة - لغات الإشارات والسّلوك والتّموضع المكانيّ (أوَ يكون لها الوقْع ذاته؟). عندما أرسم، أحاول أن أكشف وأدوّن نصّاً من الظواهر، وانا على علم بأنّ لتلك الظّواهر مكانها المؤكّد وإن يكن غير القابل للوصف في لغتي الأمّ.
الكلمات، المصطلحات، العبارات، كلّها قابلة لأن نفصلها عن كائن لغتها ونستخدمها بما هي علامات. إذّاك تصير هامدة فارغة. الاستخدام المتكرّر للكلمات المركّبة هو مثال بسيط على هذا. معظم الخطاب السياسيّ الرسميّ في أيّامنا هذه مكوّن من كلمات هامدة لأنّها منفصلة عن أيّ كائن لغويّ. وهذا العَلْك الميّت للكلمات يمحو الذّاكرة ويولّد تواطؤاً لا يرحم.
ما دفعني إلى الكتابة، عبر السّنوات، هو حدس بأنّ ثمّة شيئاً ينبغي أن يُروى، فإذا لم أفصح عنه، فثمّة خشية من ألّا يُفصَح عنه أبداً. أتصوّر نفسي مالئَ فجواتٍ أكثر منّي كاتباً متساوقاً محترفاً.
بعد أن أكتب بضعة أسطر، أترك الكلمات تنزلق إلى كائن لغتها. هناك، يجري التعرّف إليها فوراً والترحيب بها من جماعة من الكلمات، تلتقي وإيّاها على إلفة المعنى، أو على تعارض أو على كنية ما أو جناس أو إيقاع. أنصتُ إلى مداولاتها. لقد أجمعتْ على الاحتجاج على طريقة استخدامي للكلمات التي اخترتها، وهي تعارض الأدوار التي عيّنتها لها، فأعكف على تعديل السطور، وتغيير كلمة أو كلمتين، وأعيد تقديمها من جديد، فتبدأ المداولات من جديد. وهكذا دواليك إلى أن تنطلق همهمة خافتة تعلن موافقة مؤقّته. إذّاك أنتقل إلى المقطع التالي. وتبدأ المداولات من جديد.
يحلو لآخرين أن يسمّوني كاتباً. بالنّسبة إليّ، أنا ابن كلبة، وتستطيعون أن تخمّنوا ما هي الكلبة. أليس كذلك؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.