العدد ١٦ - ٢٠١٧

عشر رسائل عن المكان

1

يتساءل أحدهم: هل لا تزال ماركسيّاً؟ لم يكن مرّة الاجتياح الذي أحدثه السعي وراء الرّبح بمثل الاتّساع الذي هو عليه الآن. كلّ النّاس تقريباً يعرفون ذلك. كيف يمكن ألّا ننتبه إلى ماركس الذي تنبّأ بهذا الاجتياح وحلّله؟ قد يكون الجواب أنّ أناساً، أناساً كثيرين، قد خسروا كلّ توازنهم السياسيّ. بدون خرائط، لا يدرون إلى أيّ وجهة يتّجهون.

2

اليوم يتبع النّاس إشارات تشير إلى مكان ليس هو بيتهم وإنّما هو وجهة اختاروها. هي إشارات سَير وإشارات مغادرة في المطارات وإشارات نهاية خطّ سير الحافلات. البعض يعتزم رحلاته على سبيل المتعة، والبعض الآخر من أجل الأعمال، وكثيرون يعتزمونها على سبيل الضّياع أو اليأس. عند الوصول يدركون أنّهم ليسوا في المكان الذي تشير إليه الإشارات التي اتّبعوها. كلّ شيء صحيح حيث يجدون أنفسهم الآن خطّ العرض وخطّ الطّول والتّوقيت المحلّي والعملة المحلّيّة لكنّه لا يملك الجلالة المميّزة للمقصد الّذي اختاروه.

إنّهم يجانبون المكان الذي اختاروا المجيء إليه. والمسافة الّتي تفصلهم عنه غير قابلة للقياس. لعلّها بعرض طريق ولعلّها على مبعدة عالم بكامله. لقد فقد المكانُ ما كان يجعل منه وجهة.

أحياناً يعتزم بعض هؤلاء المسافرين رحلة خاصّة ويعثرون على المكان الذي يرغبون ببلوغه، فيكون غالباً أقس ممّا توقّعوا، مع أنّهم يكتشفونه بارتياح لا حدود له. العديد منهم لن يفلح سعيه. يرتضون الإشارات التي اتّبعوها فإذا بهم كأنّهم لا يسافرون، كأنّهم باقون دوماً حيث هم.

3

التّفاصيل في الصّورة على هذه الصفحة التقطتها أنابيل غيرّيرو من مخيّم للصّليب الأحمر للاجئين ومهاجرين في «سانغات» على مقربة من مدينة كاليه الفرنسيّة ومن النّفق تحت بحر المانش. أُقفل المخيّم مؤخّراً بأوامر من الحكومتين الفرنسيّة والبريطانيّة.كان يؤوي عدّة مئات من المهاجرين، العديد بينهم يأمل الوصول إلى بريطانيا. الرجل في الصورة من زائير تفضّل غيرّيرو ألّا تكشف عن اسمه.

شهراً بعد شهر، يغادر الملايين أوطانهم. يغادرون لأنّ لا شيء هناك، خلا كلّ ما لديهم، وكلّ ما لديهم لا يكفي لإطعام أطفالهم. كان يكفي فيما مضى. هذا هو الفقر في ظلّ الرأسماليّة الجديدة.

بعد رحلات طويلة مُرعبة، بعدما اختبروا السّفالة الّتي قد يصل إليها آخرون، بعدما توصّلوا إلى الثّقة بشجاعتهم العنيدة التي لا تضاهى، يجد المهاجرون أنفسهم في إحدى محطّات ترحيل الأجنبيّ، وكلّ ما تبقّى لديهم من قارّتهم هو أنفسهم: أيديهم، أعينهم، أقدامهم، أكتافهم، أجسامهم، ألبستهم، وما يجرّونه فوق رؤوسهم في الليل ليناموا، في غياب السّقف.

بفضل صورة غيرّيرو نستطيع احتساب كيف أنّ أصابع رجل هي كلّ ما تبقّى من قطعة أرض مفلوحة، وراحتيه كلّ ما تبقّى من مجرى نهر، وكيف أنّ عينيه هما تجمّع عائليّ لن يحضره. هذه صورة شخصيّة لقارّة مهاجرة.

4

«أنا نازل السّلالم إلى محطّة قطار جوفيّ لأستقلّ الخط «ب». زحمة هنا. أين أنت؟ حقّاً! كيف الطّقس عندك؟ دخلتُ القطار أتّصل بك لاحقاً...»

بين ملايين محادثات الهواتف النقّالة الّتي تحدث كلّ ساعة في مدن العالم وضواحيها، يبدأ معظمها، أكانت شخصيّة أم مهنيّة، بتعيين مكان المتكلّم. يحتاج البشر فوراً إلى أن يعيّنوا أين هم. كأنّ الشّكوك تعتريهم في أن يكونوا في مكان آخر. ولأنّهم محاطون بكثرة كثيرة من المجرّدات، يحتاجون إلى اختراع أدلّتهم المكانيّة وأن يشاركوا الآخرين فيها.

منذ أكثر من ثلاثين سنة، كتب غي ديبور متنبّئاً: «إنّ تراكم السّلع المنتَجَة للاستهلاك الجماهيريّ، والموجّهة إلى السوق المجرّدة، لم يكتف بتهشيم كلّ الحواجز الإقليميّة والقانونيّة، وتكسير كلّ القيود الّتي كانت طوائف المِهن القروسطيّة تضعها للمحافظة على نوعيّة الإنتاج الحرفيّ، دمّر أيضاً استقلاليّة الأمكنة ونوعيّتها».

إنّ المصطلح المفتاح للفوضى الكونيّة الحاليّة هو إعادة التّموضع. وهذا لا يشير فقط إلى نقل المصانع إلى حيث اليد العاملة أرخص والتّشريعات في حدّها الأدنى. إنّه ينطوي أيضاً على حلم «الأوف شور» المخبّل للسّلطات القائمة: حلم نسف موقع كلّ الأمكنة الرّاسخة وتدمير الثّقة بها، بحيث يصير العالم بأسره سوقاً وحيدة كثيرة السّيولة.

المستهلك هو في الأساس شخص يشعر بالضّياع، أو بأنّه شخص فُرِض عليه الشعور بالضّياع إلّا حين يمارس الاستهلاك. صارت أسماءُ العلامات التجاريّة والوسوم أسماءً لأمكنة في «اللامكان».

ثمّة علامات أخرى تعلن «الحرّيّة» و«الدّيموقراطيّة»، وهي من المصطلحات المنهوبة من فترات تاريخيّة سابقة، تستخدم أيضاً لأغراض التّضليل. في الماضي، كان الذين يدافعون عن وطنهم ضدّ الغزاة يلجأون إلى تكتيك شائع هو تغيير علامات الطّرُق بحيث تصير علامة مدينة «زاراغوسا» تشير في الاتّجاه المعاكس إلى مدينة «بوزغوس». أمّا الآن فإنّهم الغزاة، لا المقاومون، الذين يبدّلون العلامات لتضييع السكّان المحلّيّين، وإرباكهم بصدد مَن يحكم مَن، وتشويشهم وتشتيتهم عن طبيعة السّعادة وحجم الحزن وأين العثور على الأبديّة. وهدف كلّ هذه الأضاليل هو أقناع النّاس بأنّ تحوّلهم إلى مستهلِكين هو السبيل الى الخلاص النّهائيّ.

bid16_p89.jpg


انابيلا غيريرو، العين واليد، من سلسلة «لاجئين»، 1997

غير أنّ المستهلكين باتوا يعرّفون بناءً على المكان الذي يغادرونه ويدفعون فيه فواتيرهم، لا المكان الذي يعيشون فيه وفيه يموتون.

5

إنّ مساحاتٍ شاسعة من الأرض كانت في السابق أراضي زراعيّة وقد تحوّلت إلى مناطق مسوّرة. تتباين تفاصيل العمليّة حسب القارّات أفريقيا أو أميركا الوسطى أو جنوب شرق آسيا. غير أنّ تقطيع الأوصال الأصليّ يأتي دوماً من الخارج ويلبّي مصالح الشّركات وشهيّتها للمزيد من التّراكم، الأمر الذي يعني الاستيلاء على المزيد من الموارد الطبيعيّة: السمك في «بحيرة فكتوريا»، الخشب في غابات الأمازون، النفط حيثما وُجِد، اليورانيوم في الغابون، إلخ. بغضّ النّظر عمّن يملك الأرض أو المياه.

سرعان ما يتطلّب الاستغلال الجاري إلى بناء مطارات، وثكنات عسكريّة أو شبه عسكريّة، للدّفاع عمّا يجري ضخّه نحو الخارج وللدّفاع عن التعاون مع زعماء المافيات المحلّيّة. وقد يعقب ذلك الحروب القبليّة والمجاعات وحتّى المجازر. يفقد النّاس في تلك المناطق المسوّرة كلّ إحساس بالإقامة: يتيتّم الأطفال (حتّى عندما يكون لهم آباء وأمّهات) تُستعبد النّساء، ويتحوّل الرّجال إلى مجرمين. ما إن يتمّ ذلك، حتى يتطلّب الأمر أجيالاً لاستعادة حسّ الانتماء الأسريّ. وكلّ سنة تمضي في عمليّة التراكم هذه تطيل من «اللامكان» في الزمان والمكان.

6

في تلك الأثناء وغالباً ما تنطلق المقاومة السياسيّة في تلك الأثناء أهمّ ما ينبغي إدراكه وتذكّره هو أنّ الذين يربحون من الفوضى السائدة، بمعيّة المعلّقين المنبثّين في أجهزة الإعلام، يواصلون بثّ الأنباء والتّوجيهات المضلِّلة. إنّ إعلاناتهم وجميع شروط النّهب الّتي اعتادوا استخدامها لا يجوز المحاججة معها. ينبغي رفضها فوراً وإهمالها. إنّها لن تفيد أحداً.

إنّ تكنولوجيا المعلومات قد طوّرتها الشّركات وجيوشها من اجل السيطرة على «لا مكانهم» بسرعة أكبر، يجري الآن استخدامها من قبل آخرين كواسطة اتّصال عبر «الـ أينما كان» الّذي يناضلون للوصول إليه.

يجيد الكاتب الكاريبي إدوارد غليسّان التعبيرَ عن ذلك كلّ الإجادة حين يقول:

«الطّريقة الّتي يجب بها مقاومة العولمة ليست في إنكار العالميّة، وإنّما في تخيّل ما هو آخر حاصل الجمع الأخير لكافّة الجزئيّات الممكنة والتعوّد على فكرة تقول: ما دام أنّ جزئيّة ناقصة، لن تكون العالميّة ما يجب أن تكون عليه بالنّسبة إلينا».

إنّنا الآن نضع علاماتنا بأنفسنا، نسمّي الأمكنة ونلتقي الشِعر. نعم، في «في تلك الأثناء» يجب أن نعثر على الشعر:

مثلما قرميدةُ العَصر تخزّن حرّ اليوم الورديّ
مثلما برعم الوردة يختزن غرفة خضراء ليتنفّس
 
ويتفتّح مثل الريح
مثلما أغصان القصب الرقيقة توشوش حكاياتها عن الريح
للمستعجِلين في الشاحنات
 
مثلما أوراق الشجر على السياج تختزن الضوء
الذي يظنّ النّهارُ أنّه فقده
 
مثلما عِشّ مِعصمِها ينبض مثل صَدر عصفور الدوريّ
في الهواء المتقلِّب
 
مثلما جوقة الأرض تعثر على عيونها في السماء
وينزع الواحدُ الغشاءَ عن عين الآخر في الظّلمة الزاحفة
 
كذلك، أتمسّك بكلّ عزيز

(غاريث إيڤانز)

7

إنّ «لا مكانهم» يستولد إدراكا غريباً للزّمن، وهو غريب لأنه غير مسبوق. إنه الزمن الرقميّ، المتواصل إلى الأبد دون تقطّع خلال النّهار والليل والفصول وإبّان الولادة والموت. إنّه لامبالٍ قدْر لامبالاة المال. مع ذلك، ومع أنّه متواصل، إلّا أنّه مستوحد تماماً. إنّه زمن الحاضر المعزول عن الماضي وعن المستقبل. في داخله وحده الحاضر له وزن، الإثنان الآخران يفتقدان قانون الجاذبيّة. لم يَعد الزّمن رواقاً من الأعمدة، بات عموداً واحداً من الأحداث والأصفار. إنّه الزّمن العموديّ الذي لا يحوطه شيء، خلا الفراغ.

أقرأ بعض الصّفحات من إميلي ديكنصُن، ثمّ أذهب وأشاهد فيلم لارس ڤون ترير «دوغڤيل». في شعر ديكنصُن، يحضر الأبديّ عند كلّ محطّة. في المقابل، يرينا الفيلم، بلا ندم، ما الذي يجري عندما يَمّحي كلّ أثر للأبديّ من الحياة اليوميّة. الحصيلة أنّ كلّ الكلمات ولغة الكلمات برمّتها تصير عديمة المعنى.

في داخل شخص واحد، داخل الزّمن الرقميّ، لا يمكن العثور على «أمكنة التّواجد» أو تأسيس مثل تلك الأمكنة.

8

سوف ننقل بوصلاتنا إلى داخل إطارٍ زمنيّ آخر. الأبديّ، عند سبينوزا (وقد كان الفيلسوف الأحبّ إلى قلب ماركس) هو الآن. ليس شيئاّ ينتظرنا، لكنّه شيء نلتقيه خلال تلك البُرْهات المختصرة لكنّها لا زمنيّة عندما يتواءم كلّ شيء مع كلّ شيء ولا يعود التبادل مناسباً على الدّوام.

في كتابها الملحاح «الأمل في الظّلمة» تستشهد ريبيكا سولنيت، بالشاعرة السادينيستيّة جيوكوندا بيللي، تصف اللحظة الّتي سقطت فيها ديكتاتوريّة سوموزا في نيكاراغوا: «هما يومان شعرنا بهما كما لو رقْية سحر دهريّة قد ألقيت علينا فنقلتْنا إلى «سِفر التكْوين»، إلى مشهد خَلْق العالم بالذّات». أمّا حقيقة أنّ الولايات المتّحدة ومرتزقتها قد دمّروا لاحقاً الساندينيستاس فإنّها لا تقلّل بشيء من تلك اللحظة الموجودة في الماضي والحاضر والمستقبل.

9

على مبعدة كيلومتر نزولاً على الطريق من حيث أكتب ثمّة حقلٌ يرعى فيه أربعة حمير، أتانان وفلوان. إنها من فصيلة صغيرة الحجم جدّاً. الأذنان المخطّطان بالأسْود للأتانَين، عندما تنتصبان تصلان إلى حدّ ذقني. الفلوان لا يزيد عمرهما عن بضعة أسابيع، وهما بحجم كلب كبير، مع فارق أنّ رأس الواحد منهما بحجم جَنبه.

أتسلّق السياج وأجلس في الحقل مُسنداً ظهري إلى شجرة تفّاح. الحمير قد سلكت مسالكها الخاصّة في الحقل وبعضها عَبَر تحت أغصانٍ جدّ منخفضة يتعيّن عليّ أنا أن أُنيخ ملتوياً للمرور تحتها. إنّها تراقبني. ثمّة بقعتان خاليتان من عشب على أرض حمراء ترتادهما يومياً لتتقلّب فيهما على ظهورها. الأتانان أوّلاً ثمّ الفلوان. وقد بان الشّريط الأسود فوق أكتاف الفلوين.

إنّها تتقرّب منّي الآن. رائحتها هي رائحة حمير ونخالة لا رائحة الأحصنة الأكثر تواضعاً. الفلوان يحكّان رأسِي بفكّيهما الأسفلَين. خطماهما أبيضا اللون. حول أعينهما يحوم ذباب أشدّ إثارة من نظراتهما المتسائلة.

عندما تقف في الظلّ عند طرف الغابة يبتعد عنها الذّباب، وهي تستطيع البقاء هناك بلا حراك لنصف ساعة. في الظلّ عند الظهيرة، يتباطأ الوقت. عندما يرضع أحد الفلوين (حليب الأتان أقرب أنواع الحليب إلى حليب البشر) تتهدّل أذنا الأتان وتشير نحو ذيلها.

مُحاطاً بالحمير الأربعة وسط نور الشّمس، أركّز نظري على قوائمها، القوائم الست عشرة كلها: دقّتها، استقامتها، تركيزها، صلابتها. (تبدو قوائم الأحصنة هستيريّة بالمقارنة). هي قوائم معدّة لعبور جبال لا يقوى حصان على عبورها، قوائم لحِمل أثقال يصعب تصوّرها، يكفي أن نعاين الرّكَب، القصبات، خُصَل الشعر فوق الحوافر، العراقيب، عظام القصبات، مفاصل الأرساغ، الحوافر: إنّها قوائم حمير.

تبتعد مغادِرة، خافضِةً الرؤوس وهي ترعى، لا يفوت آذانها أدنى صوت، وأنا أراقبها، بعينَين حذرتيَن. في مبادلاتنا تلك، بالرفقة وسط النهار التي نمنحها واحدنا للآخر، قاعدة راسخة لما لا أستطيع إلّا أنأ اسمّيه: العرفان بالجميل. أربعة حَمير في حقل، شهر حزيران/يونيو، العام ٢٠٠٥.

10

نعم، أنا لا أزال ماركسيّاً، مع أشياء أخرى.

العدد ١٦ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.