العدد ١٦ - ٢٠١٧

عُلبة سيزان السوداء

كلّ أوروبيّ شغوف بالتصوير الزيتيّ عاش في القرن العشرين تساءل بصدد أعمال بول سيزان (١٨٣٩ - ١٩٠٦) عن سرّها، عن إخفاقها أو عن انتصارها. توفي الفنان بعد ست سنوات من بداية القرن وله من العمر ٦٧ سنة. كان نبيّاً، مع أنّه مثله مثل العديد من الأنبياء لم يكن يرغب في أن يكون نبيّاً بادئ الأمر.

في هذه الآونة، وإلى ٢٦ شباط / فبراير (٢٠١١)، يستقبل قصر اللوكسمبورغ بباريس معرضاً رائعاً لـ٧٥ من لوحاته تنتمي إلى كافّة مراحل حياته، يرافقه كاتالوغ بديع وغنيّ يمنحنا فرصة النظر إلى الفنّان، مرّة جديدة، بكامل أصالته.

بعد سنوات من المسيرة إلى جانبه، يبدو معرض سيزان هذه المرّة بمثابة عمليّة كشف. نسيت الانطباعيّة والتكعيبيّة وتاريخ الفنّ في القرن العشرين، والحداثويّة وبعد الحداثويّة، ولم أرَ غير تاريخ علاقته الغراميّة مع المرئي. ورأيت ذلك التاريخ بما هو رسم بيانيّ كالذي نلقاه في دليل استخدام آلة أو أداة جديدة.

لنبدأ بالأسود الذي نلقاه في العديد من أعماله الأولى، عندما كان في العشرينيات من العمر. هذا الأسود لا يشبه أيّ لون أسود آخر في فنّ التصوير الزيتيّ. يا لحضوره، يا لمادّته! طغيانه أشبه بالعتمة في آخر أعمال رانبراندت. لكنّ هذا السواد أكثر قابليّة للّمس. إنّه سواد عُلبة تُخفي داخلها كلّ ما هو موجود في العالم الجوهريّ!

بعد دزّينة من الأعوام، بدأ سيزان يُخرج الألوان من العلبة السوداء، لم تكن ألواناً أوّليّة، فهذه مجرّدات، هي ألوان أساسيّة معقّدة، سعى إلى أن يجد لها مكاناً في مرمى نظره الثاقب عبر المدى: اللون الأحمر لسقف البيت او للتّفاحة، لون البشرة للجسد، اللون الأزرق للمكان حيث تنقشع فيه السماء بين الغيوم. تبدو هذه الألوان كأنّها عيّنات من الأنسجة غير أنّها مصنوعة من آثار تتركها الريشة أو السكيّن على اللوحة بدلاً من أن تكون مصنوعة من خيوط أو قطن.

خلال السنوات العشرين الأخيرة من عمره، بدأ سيزان يضع عيّنات من الألوان على القماشة، لا حيث تتوافق تلك الألوان مع اللون المحلّيّ للشيء، وإنّما حيث تستطيع أن تدلّنا، بطاقتها الذاتيّة، إلى طريق ينأى أو يدنو في المدى المنظور. في الوقت ذاته، أخذ سيزان يترك المزيد والمزيد من البقع البيضاء على اللوحة لا يمسّها باللون، غير أنّ تلك البقع لم تكن بكماء: إنّها تمثّل الفراغ، الفتحة الفاغرة، التي منها يخرج الأساسيّ مع كلّ المدى الذي يحيط به.

الأعمال المتأخّرة لسيزان نبوئيّة لأنّها تتعلّق بعمليّات الخلق، خلق العالم أو خلق الكون، إذا جاز التعبير. أنا الآن أحاول تسمية «العلبة السوداء» التي أرى أنّ نقطة انطلاقتها «ثقبٌ أسود»! لكن يستهلّ هنا اللعب على الكلمات، في حين أنّ ما يصنعه سيزان بعناد ومثابرة، عسير، على العكس من ذلك.

أعتقد أنّ الحالة النفسانيّة لسيزان، خلال مسيرته الفنّيّة، تغيّرت بطريقة تتعلّق بالأخرويّات. منذ البداية، كان لغز الجوهري يسيطر عليه. لماذا الأشياء صلدة؟ لماذا كلّ شيء مصنوع من «أشياء»، حتّى نحن البشر؟ في لوحاته الأولى، كان يميل إلى اختزال الأساسي بالجسدي، بالجسم البشري الذي حكم علينا أن نعيش فيه. وفي إزاء الجسم البشري، كانت له نظرة ثاقبة إلى غرائز الرغبة العمياء وإلى الاستعداد للعنف المجّاني. من هنا اختياره في مناسبات عديدة لمواضيع مثل «القتل» و«التجربة». لعلّ ذلك كان أفضل من «العلبة السوداء» التي احتفظ بها مغلقة.

لكنّه أخذ تدريجيّاً يوسّع فكرة الجسمانيّة أو الإحساس الجسماني فانداحا معه على أشياء لا نفكّر عادة أنّ لها أجساماً. ويتبدّى ذلك بنوع خاصّ في لوحات الطبيعة الصامتة التي رسمها.

التفّاحات التي صوّرها تشبه الأجساد. أمسكَ كلَّ تفاحة بيده وكانت كلّ تفاحة فريدة بالنسبة إليه. أكواب الخزف التي صوّرها فارغة تنتظر أن تُملأ. فراغُها مليءٌ بالانتظار. الطاولة حيث وضع اشياء أراد تجميعها، قصْد رسمها، تتحوّل إلى ساحة عامّة أثينيّة (آغورا) يدور فيها النقاش حول الملموسيّة، حيث اللغة المستخدمة هي لغة النطق المكاني. وهي ما يصعب اكتناهها إنّنا في حضرة نبيّ.

في المرحلة الثالثة والأخيرة من أعمال سيزان، دفع بفكرة الجسمانيّة إلى أبعادٍ غير مسبوقة، فاكتشف التكامل بين توازن شِراحة الجسد والحتميّة الطبيعيّة والجيولوجيّة لمشهد طبيعيّ. فتى (قد يكون ابنه) ممدّد على العشب بجوار قارب في ضواحي باريس، يمسّه الهواء المحيط به بالطريقة نفسها التي يمسّ نورُ الشمس والهواءُ جبلَ «سانت ڤِكتوار» في مقاطعة «پروڤانس» في يوم معيّن. تقويرات الصخور في غابة فونتينبلو لها حميميّة الآباط. «السابحات» الأخيرات تتشكّلن في سلسلة أشبه بسلسلة جبال. والمقالع المهجورة في بيبيموس كأنّها صورة شخصيّة.

ذهبتُ لمشاهدة أماكن عديدة لمقارنتها بالطريقة التي رسمها بعض كبار المعلّمين: منطقة الجورا وكوربيه، جنوب هولندا وڤان غوغ، منطقة الأومبري وپييرو دي لا فرانسيسكا، روما وپوسان. لكنّ زيارة المناظر التي رسمها سيزان في منطقة أيكس آن پروڤانس، وإعادة زيارتها، تجربة فريدة من نوعها.

البيوت حيث كان يرسم قد تغيّرت كثيراً، كذلك المناخ المحيط بها. مرسمه موجود الآن في حيّ قريب من سوبرماركت. و«جاس بوفُان» بحديقته الكبيرة والممشى المرصوف بأشجار الكستناء، تحوّل إلى جزيرة في بحر من محوّلات الطرقات. مزرعة «بيلڤو» غير مسكونة تفترسها المزروعات البرّيّة. وفي «شاتو نوار» يخيّم الطلاب في نهايات الأسابيع.

لم يتغيّر المشهد الطبيعيّ في القسم الأكبر منه: جبل «سانت ڤكتوار»، الصخور ذات اللون الأحمر المائل نحو الصُفرة، أشجار الصنوبر المميّزة للمنطقة موجودة هنا مثلما هي في اللوحات. في البدء، يبدو كلّ شيء أصغر ممّا كنّا نظنّ. عبثاً نقترب من موضوع من المواضيع التي رسمها سيزان، فسوف تبدو لك دائماً ابعد ممّا هي في اللوحة. ولكن بعد برهة، عندما نعتاد على الأمر، عندما لا نعود نركّز على مظهر الجبل والأشجار وسقف القرميد أو الدرب في الغابة، في لحظة معيّنة، نلاحظ أنّ ما رسمه سيزان، وما نعرفه أصلاً من خلال لوحاته، هو عبقريّة المكان التي تتجلّى في كلّ منظر من تلك المناظر. إنّ المشاهد الطبيعيّة هنا مسكونة بجوهرها ذاته.

يبدو جبل «سانت ڤكتوار» بدئيّاً، مثله مثل السهل عند سفحه. وحيثما تنظر، يساورك شعور بأنّك وجهاً لوجْه أمام جوهر ما يصادفك. فتعيد اكتشاف الصمت الشهير للوحات سيزان في الحقبة التي هي حقبة ما تشاهدها فيها. لست أريد القول إنّ الأصل الجيولوجيّ للجبل يتكشّف لك، وإنّما أنت تشاهد أصل رؤية المشهد الذي هو أمامك. ما هو سرّ سيزان؟ إنّه اقتناعه بأنّ ما نشاهد على أنّه هو المرئيّ ليس أمراً محدّداً سلفاً، وإنّما هو بناء نتشارك نحن والطبيعة في تركيبه.

كان يقول «المشهد الطبيعيّ يتفكّر فيّ، وأنا هو وعيه». «اللون هو حيث دماغنا والكون يلتقيان» بهذه الطريقة فتح لنا العلبة السوداء وأفرغ ما فيها.

bid16_p87_1.jpg


بول سيزان، صفيحة حليب وتفاح، 1879-1880

bid16_p87_2.jpg


بول سيزان، قمة سان فيكتوار، 1895

العدد ١٦ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.