في المدن حيث نعيش، نشاهد جمعياً المئات من الصور الدعائية في كلّ يوم من أيام حياتنا. ما من نوع من أنواع الصور يواجهنا بمثل هذا الانتظام. وما من نظام اجتماعيّ آخر في التاريخ عرف هذا الحشد من الصور أو تلك الكثافة من الرسائل البصريّة.
قد نتذكّر هذه الرسائل أو ننساها، إلّا أنّنا نستبقيها لفترة وجيزة فتُلهم مخيّلتنا ولو لبرهة بواسطة الذاكرة أو التوقّع. تنتمي الصورة الدعائيّة إلى اللحظة الراهنة. نشاهدها فيما نحن نقلّب صفحة جريدة أو مجلّة، أو ننعطف في زاوية شارع، أو تجوازنا سيّارة. أو نشاهدها على شاشة التلفزة ونحن ننتظر انقضاء فترة الإعلانات. وتنتمي الصور الدعائيّة إلى اللحظة الراهنة أيضاً لأنّها تتطلّب عمليّة تجديد وعصرنة مستمرّة. على أنّها لا تخاطب الحاضر أبداً. غالباً ما تشير إلى الماضي، لكنّها تخاطب المستقبل على الدوام.
لقد اعتدنا مخاطبة تلك الصور لنا بحيث لم نعد نأبه لوقْعها الإجماليّ أو بالكاد. فقد يلاحظ المرء صورة أو معلومة معيّنة لأنّها تقابل اهتماماً خاصّاً لديه. إنّ انتماء هذه الصور إلى اللحظة الراهنة ومخاطبتها المستقبل في آن معاً له وقعٌ غريب. لكنّه بات أليفاً إلى درجة أنّنا بالكاد نلاحظه. في العادة، نحن الذين نجوز تلك الصور خلال السّيْر أو السفر أو تقليب صفحة جريدة أو مجلّة. ومع أنّ الأمر قد يختلف بعض الشيء على شاشة التلفزة، نبقى نحن العنصر الفاعل في تلك العلاقة نظريّاً على الأقلّ ذلك أنّه بمقدورنا أن نشيح بأنظارنا عن الشاشة أو نقطع الصوت عن الجهاز، أو أن ننشغل بإعداد ركوة قهوة. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنّ الصور الدعائيّة هي التي تجوزنا على الدوام، مثل قطارات سريعة في طريقها إلى محطّة أخيرة بعيدة. نحن هم العنصر المستكين وهي العنصر المتحرّك إلى أن نرمي بالصحيفة جانباً أو تنقضي فترة الإعلانات ويستأنف البرنامج التلفزيونيّ أو يغطّي ملصقٌ جديد الملصقَ القديم.
يقول التفسير والتّبرير الرائجان للإعلانات إنّها أداة تنافس تفيد، في نهاية المطاف، الجمهور (المستهلك) والصناعيّين النشطين معاً فتفيد بالتالي مجموع الاقتصاد الوطنيّ. وهي وثيقة الصّلة ببعض الأفكار عن الحرّيّة الاقتصاديّة كحرّيّة الاختيار للشاري أو حرّيّة النشاط الصناعيّ. حتّى إنّ الثروات الكبيرة والإعلانات المضاءة بـ«النِيون» في مدن الرأسماليّة باتت العلامات الفارقة الدالّة على «العالم الحرّ».
يرى كثيرون في أوروبّا الشرقيّة إلى هذه الصور في الغرب على أنّها تختزل كلّ ما هم محرومون منه. ويسود الاعتقاد بأنّ الإعلانات إنّما توفّر فعلاً الاختيار الحرّ للمواطنين. صحيح أنّ الدعاية هي ميدانٌ للمنافسة بين المنتجات والشركات. إلّا أنّ الصحيح أيضاً أنّ كلّ إعلان يؤكّد الإعلان الذي سبقه ويعزّزه. ليست الدعاية مجرّد تجميع لرسائل متنافسة. إنّها لغة بذاتها يجري اللجوء إليها على الدوام لتأدية رسالة لا تتغيّر. في إطار الدعاية، تطرح الخيارات بين هذا المستحضر أو ذاك وبين هذه السيارة أو تلك، غير أنّ الدعاية بما هي نظام لا تني تطرح مقترحاً واحداً. إنّها تقترح على كلّ واحد منّا أن يحوّل نفسه، أو أن يحوّل حياته، بشراء المزيد والمزيد من السلع. والافتراض الذي يقوم عليه هذا المقترح أنّ هذا المزيد سوف يزيدنا ثراءً بطريقةٍ أو بأخرى. والأصحّ أنّه يزيدنا فقراً لأنّ شراء السلع لا يحصل دون إنفاق المال.
تقنعنا الدّعاية بمثل هذا التحوّل بأن ترينا أناساً يفترض أنّهم قد تحوّلوا فباتوا بالتالي مدعاة حسد الآخرين. أن تكون محسوداً يعني أن تكون مُغرياً. وما الدّعاية إلّا صناعة الإغراء.
يهمّ هنا ألّا نخلط الدعاية بالمتعة أو بالمنفعة الّتي يجنيها المرء من جرّاء السلع المعلن عنها. إنّ الدعاية فعّالة تحديداً لأنّها تتغذّى بالواقع نفسه. فالثّياب والأغذية والسيّارات ومستحضرات التجميل والحمّامات والتّنعّم بأشعة الشمس كلّها أمور ينبغي الاستمتاع بها لذاتها. هكذا، تباشر الدعاية الشغل على غريزة الاستمتاع الطبيعيّة عند البشر. غير أنّها عاجزة عن توفير المادّة الفعليّة للمتعة بمثل ما هي عاجزة عن توفير بديل مقنع عن تلك المتعة بسبب من حدودها هي ذاتها. فبقدر ما تكون الدعاية مقنعة في تصوير متعة الاستحمام في بحر دافئ بعيد، تكون مُقنعة بإشعار المشاهد المشتري بأنّه يبعد مسافة مئات الأميال عن ذاك البحر وبأنّه ليس أوفر حظّاً في الاستحمام فيه.
لذلك لا تملك الدعاية فعلاً أو يكون موضوعها المنتوج أو الفرصة التي توفّرها للشاري المحروم من فرصة الاستمتاع بها. ليست الدعاية أبداً تمجيداً للمتعة بذاتها. إنّ موضوعها الدائم هو الشاري المُقبل، تقدّم له صورة عن ذاته وقد أضحت مغرية بفضل المُنتَج أو بفضل الفرصة التي تحاول أن تبيعه إيّاها. فإذا تلك الصورة تجعله بدورها يحسد ذاته على ما يستطيع أن يكونه. ولكن ما الذي يجعل تلك الذّات محسودة؟ إنّه حسد الآخرين. إنّما الدعاية تتعلّق بالعلاقات الاجتماعيّة لا بالأشياء. ليس وعدها وعداً بالمتعة، إنّما هو وعد بالسعادة: السعادة مثلما يراها الآخرون من الخارج. والسعادةالتي تستشعر بها لكونك محسوداً من الآخرين هي هي الغواية.
أن تكون محسوداً من الآخرين شكل مستوحدٌ من أشكال الطمأنينة، يعتمد تحديداً على حرمان حُسّادك من مشاركتك تجربتك. إنّ الآخرين يراقبونك مراقبة حثيثة فيما أنت بالكاد تكترث بهم. فالاكتراث بالآخرين يعني الانتقاص من حسدهم لك. والمحسودون، بهذا المعنى أشبه بالبيروقراطيّين: فبقدر ما لا يكونون شخصيّين، بقدر ما يتعاظم الوهم بجبروتهم (لديهم ولدى الآخرين). إنّ جبروت الغواة كامن في سعادتهم المفترضة، فيما جبروت البيرقراطيّين كامن في سلطتهم المفترضة. وهذا ما يفسّر أمارات الشّرود وعدم التركيز الّتي تعلو وجوه العديد من صُوَر نجوم الإغراء. إنّهم يتطلّعون إلى ما يتعدّى نظرات الحسد التي عليها يتّكئون.
والمطلوب هنا أن تحسد المُشاهِدة الشارية ذاتها على الحالة التي سوف تصير عليها بعد أن تشتري السلعة المعنيّة. إذ يُفترض فيها أن تتخيّل نفسها وقد أضحت بالسلعة مثار حسد الآخرين، هو حسد يبرّر لها حبّها لذاتها. بعبارةٍ أخرى، تسلب الدعاية من الشارية حبّها لذاتها في حالتها الحاضرة وتعيده إليها شريطة شرائها السلعة.
لغة الدعاية ولغة اللوحة الزيتيّة
هل ثمّة ما يجمع بين لغة الدعاية ولغة اللوحة الزيتيّة التي ظلّت طاغية على طرائق نظر الأوروبيّين خلال أربعة قرون، إلى حين اكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافيّ؟
إنّه سؤال يكفي طرحه لكي نستبين الجواب عليه. فالحقيقة أنّ ثمّة استمراريّة مباشرة بين اللغتين جرى حجبها لاعتبارات الرفعة الثقافيّة ليس إلّا. غير أنّها استمراريّة لا تحول دون وجود فوارق كبيرة تستدعي التمحيص والتّدقيق الدؤوبين.
تكثر الإشارات في الإعلانات التجاريّة إلى الأعمال الفنّيّة العائدة إلى الماضي. وقد تكون الصورة الدعائيّة أحياناً مجرّد نسخة ملفّقة عن لوحة فنّيّة معروفة. وغالباً ما تلجأ الصور الدعائيّة إلى المنحوتات أو اللوحات الزيتيّة لإضفاء الفتنة والسلطان على الرسالة التي تبثّها. وأحياناً تكون اللوحات الزيتيّة المؤطّرة المعلّقة في واجهات المتاجر جزءاً من معروضات تلك المتاجر.
إنّ كلّ عمل فنّيّ تستشهد به الدعاية يخدم غرضين معاً. فالفنّ علامة على البذخ، ينتمي إلى الحياة المتنعّمة. هو جزء من المتاع الذي توفّره هذه الحياة الدنيا للأغنياء والجميلات.
غير أنّ العمل الفنّيّ يوحي أيضاً بالسلطان الثقافيّ. إنّه ضرب من الوجاهة، بل حتّى من الحكمة التي تتسامى على أيّة مصلحة مادّيّة وضيعة. تنتمي اللوحة الزيتيّة إلى التراث الثقافيّ وهي تذكير لنا بمعنى أنْ يكون المرء أوروبيّاً مثقّفاً.
وهكذا فالعمل الفنّيّ المستشهَد به في الإعلان يمنحه فائدة جمّة لأنّه يقول قولين متناقضين. فهو علامة على الثروة وعلى التسامي الروحاني في آنٍ معاً. إنّه يوحي بأنّ عمليّة الشّراء الّتي يدعوك إليها إنّما هي ترَف وقيمة ثقافيّة معاً. والحقيقة أنّ الدعاية أدركت قيمة اللوحات الفنّيّة بعمق أكبر ممّا أدركه مؤرّخو الفنّ. لأنّها وضعت يدها على دلالات العلاقة بين العمل الفنّيّ بين المُشاهد المالِك، وبهذه العلاقة تحاول إقناع المشاهد الشاري واستمالته.
ثمّ إنّ الاستمراريّة بين الرسم الزيتيّ والدعاية أعمق من مجرّد «استشهاد» الدعاية بلوحات زيتيّة معيّنة. فالدعاية تعتمد إلى حدّ كبير على لغة الرسم الزيتيّ، تتحدّث باللغة ذاتها عن الأشياء ذاتها. وأحياناً تكون المقابلة البصريّة قريبة إلى درجة أنّك تستطيع أن تضع صوراً أو تفاصيل من صور شبه متطابقة جنباً إلى جنب.
لا تكتسب تلك الاستمراريّةُ أهميّتها من المُطابقة الصّوريّة وحدها، بل تفعل فعلها على مستوى أطقم الرموز المستخدَمة. قارن الصور الدعائيّة باللوحات الفنّيّة في هذا الكتاب، أو تناول مجلّة مصوّرة أو تجوّل في شارع تجاريّ واستعرضْ واجهات المحالّ، ثمّ قلّب صفحات دليل مصوّرٍ لأحد المتاحف، ولاحظ مدى التشابه في كيفيّة بثّ تلك الواسطتين الإعلاميّتين لرسائلهما. بالطبع، يقتضي الأمر دراسة مستفيضة. لا نستطيع هنا أكثر من الإشارة إلى بعض الميادين حيث التّشابه في الرسائل لافت بنوع خاصّ:
- حركات الموديلات (المانيكان) وحركات الشخصيّات الأسطوريّة.
- التوظيف الرومانسيّ للطبيعة (أوراق، شجر، مياه..) من أجل خلق جنّة للبراءة المستعادة.
- الجاذبيّة السحريّة والاسترجاعيّة للبحر الأبيض المتوسّط.
- الوضعيّات المأخوذة للتلميح إلى أصناف من النّساء:
- الأمّ الحنون (المادونا، السيّدة العذراء)، السكرتيرة المتحرّرة (النجمة السينمائيّة، عشيقة الملك)، ربّة البيت المثاليّة (زوجة المشاهد المالك)، المرأة كأداة جنسيّة (الإلهة فينوس، الحوريّة المباغتة)، إلخ.
- التشديد الجنسيّ على سيقان النساء.
- الموادّ المستخدَمة للإيحاء بالجاه: المعادن المحفورة، الفراء، الجلود اللمّاعة، إلخ.
- تصوير حركات العاشقين ومعانقاتهم بحيث تظهر واضحة للمشاهدين.
- البحر بما هو وعد بحياة جديدة.
- قامات الرجال الذين يوحون بالثّروة والفحولة.
- اللجوء إلى البعد المنظور للإيحاء بالغموض.
- المطابقة بين احتساء المشروبات الكحوليّة والنجاح.
- الفارس القديم وقد تحوّل إلى راكب الدرّاجة الناريّة المعاصر.
غريزة الاستملاك
لماذا تعتمد الدعاية كلّ هذا الاعتماد على اللغة البصريّة للّوحة الزيتيّة؟ إنّ الدعاية هي ثقافة المجتمع الاستهلاكيّ، تعمّم بالصور رؤية ذاك المجتمع لذاته. وثمّة أسباب عدّة لماذا تستعيد تلك الصور لغة الرسم الزيتيّ. كان الرسم الزيتيّ، أو الأمر، تمجيداً للملكيّة الفرديّة. بصفته شكلاً فنّيّاً، كان مستمَدّاً من المبدأ القائل: «أنت تساوي ما أنت مالكه».
غير أنّ من الخطأ الاعتقاد أنّ الدعاية قادرة على الحلول محلّ الفنّ التشكيليّ في أوروبّا ما بعد عصر النهضة، فالأحرى أنّها نزع الاحتضار الأخير لذاك الفنّ. فالدعاية في الأساس استرجاعيّة، يتعيّن عليها أن تبيع الماضي للمستقبل. إلّا أنّها لا تستطيع الارتقاء إلى مستوى ادّعاءاتها. لذا كانت كلّ مراجع النوعيّة لديها محكومة بأن تكون ماضويّة وتقليديّة. فلو أنّها اقتصرت على استخدام لغةٍ معاصرة، لفقدت الثّقة والصدقيّة معاً.
ثمّ إنّ الدعاية مضطرّة إلى أن تسخّر لمنفعتها الخاصّة التعليم التقليديّ الذي يتلقّاه المشاهد الشاري المتوسّط، فيصير كلّ ما تعلّمه في المدرسة من تاريخٍ وميثولوجيا وشعر قابلاً للاستخدام في صناعة الإغراء. هكذا يصير بالإمكان تسويق السيجار على اسم ملكٍ من الملوك، وبَيْع الملبوسات النسائيّة الداخليّة بحجّة تمثال أبي الهول، وتصريف سيّارة جديدة بالاتّكال على الارتقاء في المنزلة الاجتماعيّة الذي يؤمّنه امتلاك قصر ريفيّ.
إنّ تلك الموحيات التاريخيّة أو الشعريّة أو الأخلاقيّة الغامضة دائمة الحضور في لغة الرسم الزيتيّ. غير أنّ التباس معانيها بل افتقادها لأيّ معنى يعملان لصالحها. ليس المطلوب أن تكون تلك الإشارات قابلة للفهم، يكفي أن تذكّر بدروس مدرسيّة لم تُستوعَب الاستيعاب الكافي. فالدّعاية تحوّل التاريخ إلى ميثولوجيا. ولكي يتمّ ذلك على نحوٍ فعّال، تحتاج إلى لغة بصريّة ذات أبعاد تاريخيّة.
وأخيراً، فإنّ التطور التكنولوجيّ قد سهّل ترجمة لغة الرسم الزيتيّ إلى كليشّيهات دعاويّة. تلك هي حصيلة اختراع التصوير الفوتوغرافيّ الملوّن منذ حوالي نصف القرن، وهو القادر على أن يعكس لون الأشياء وقماشتها وملمسها بطريقة كانت حكراً على التصوير الزيتي فيما مضى. وهكذا فالتصوير الفوتوغرافي هو للمشاهد الشاري ما كانه التصوير الزيتي للمشاهد المالك فيما مضى.
تستخدم الواسطتان وسائل شديدة الملموسيّة للّعب على غريزة الاستملاك لدى المشاهد، استملاك الشيء الحقيقيّ الذي تُظهره الصورة. فإحساسه في كلا الحالين بأنّه يكاد يلمس لمس اليد ما تصوّره الصورة، يذكّره بمقدار امتلاكه للشّيء الحقيقيّ (السلعة) أو بإمكانيّة ذلك الاستملاك.
ولكن على الرغم من الاستمرارية اللغويّة، تبقى وظيفة الإعلان مختلفة اختلافاً شديداً عن وظيفة التصوير الزيتي. ذلك أنّ علاقة المشاهد الشاري بالعالم مختلفة كلّيّا عن علاقة المشاهد المالك.
كانت اللوحة الزيتيّة تستعرض ما الذي ينعم به مالكها أصلاً من ممتلكات ومستوىً معيشي. فترسّخ لديه الإحساس بالمنزلة الرفيعة، أي أنّها تعزّز نظرته إلى ذاته كما هو. أي أنّ اللوحة الزيتيّة تنطلق من الوقائع، وقائع حياة مالكها، فتجمّل له الإطار الذي يعيش فيه.
غرض الدعاية، في المقابل، يجعل المشاهد دائم التذمّر من نمط حياته الراهن، ليس من نمط حياة المجتمع، وإنّما من نمط حياته بمفرده في ذاك المجتمع، لتوحي له من ثَمّ بأنّ أحواله سوف تتحسّن إذا ما اشترى ما تعرضه عليه من سلع وخدمات. تروم الدعاية إقناع المشاهد المستهلك بأنّها تقدّم له بديلاً أفضل من وضعه الحالي.
كانت اللوحة الزيتيّة موجّهة للذين يجنون ثرواتهم من خلال السوق. أمّا الدعاية فموجّهة للذين منهم يتكوّن السوق. إنّها تخاطب المشاهد الشاري الذي هو في الوقت ذاته المستهلك المنتج، أي الكائن الذي تتحقّق الأرباح المضاعفة بواسطته مرّتين: مرّة بصفته عاملاً (منتجاً) ومرّة ثانية بصفته شارياً (مستهلكاً). وجدير بالملاحظة هنا أنّ الأمكنة الوحيدة الخالية من الإعلانات هي الأحياء التي يسكنها كبار الأغنياء، فأموال هؤلاء لهم للاكتناز لا غير.
تعيش الدعاية على قلق الناس تتغذى منه وتغذيه. فالمال هو الهدف الأسمى، وتحصيله يعني التغلّب على القلق. واستطراداً، فالقلق الذي تعيش الدعاية عليه هو من أنّك إذا كنت لا تملك شيئاً فأنت لا تساوي شيئاً.
استخدام الجنس
إنّما المال هو الحياة. ليس بمعنى أنّ من لا يملك المال مصيره الموت جوعاً. ولا بمعنى أنّ رأس المال يمنح طبقة معيّنة السلطانَ على حياة جميع أفراد طبقة أخرى. ولكن بمعنى أنّ الحياة هي رمز كلّ نشاط إنسانيّ ومفتاحه. فالقدرة على إنفاق المال توازي امتلاك القدرة على العيش. وتقول خرافات الإعلانات إنّ الذين لا يملكون القدرة على إنفاق المال هم كائنات بلا وجوه. وأمّا الذين يتمتّعون بتلك القدرة فهم القوم المحبوبون.
يزداد استخدام الدعاية للجنس من أجل تسويق سلعها والخدمات. إلّا أنّ هذه الجنسيّة ليست مجانيّة بذاتها. بل هي رمز لما يتعدّاها: نعيم الحياة، حيث تستطيع أن تشتري كلّ ما يشتهيه قلبك. وأن تتمتّع بالقدرة الشرائيّة، يعادل تمتّعك بالجاذبيّة الجنسيّة. أحياناً، تكون هذه الرسالة السافرة للدعاية، ولكنّها ضمنيّة غالباً: إذا كنت قادراً على شراء هذه السلعة، تكون محبوباً. وإذا لم تكن بقادر على ذلك، تتدنّى الرغبة فيك.
ترى الدعاية إلى الحاضر على أنّه ناقص تعريفاً. في حين كان يرى إلى اللوحة الزيتيّة على أنّها سجلّ خالد، إذ إنّ واحدة من المتع التي توفّرها لمالكها هي أنّها سوف تنقل صورة عن حاضره إلى أحفاده في المستقبل. فكان طبيعيّاً أن تُرسم اللوحة الزيتيّة بصيغة الحاضر. إذ كان الرسام يصوّر ما هو أمامه، واقعاً كان أم خيالاً. في المقابل، فالصورة الدعائيّة، المؤقّتة بالضرورة، تعتمد صيغة المستقبل: بواسطة هذه السلعة، سوف تصبح مرغوباً. وفي مثل هذه الأجواء، سوف تصير كلّ علاقاتك سعيدة مُشرقة.
تميل الدعاية الموجّهة أساساً نحو الطبقة العاملة إلى الوعد بتحوّلٍ شخصيّ من خلال وظيفة المنَتج المخصوص الذي تسوّقه (حكاية سندريلا). فيما الدعاية الموجّهة إلى الطّبقات الوسطى تعدُ بتحويل في مجمل العلاقات الاجتماعيّة عبر مناخ عامّ لا توفّره إلّا مجموعة من المنتجات (حكاية القصر المسحور).
تتحدّث الدعاية بصيغة المستقبل، على أنّه مستقبل مؤجّل باستمرار فكيف يمكنها، والحالة هذه، أن تحافظ على صدقيّتها؟ أو كيف تبقى محتفظة بالحدّ الأدنى من الصدقيّة للاستمرار في ممارسة نفوذها؟
تحافظ الدعاية على هذا الحدّ الأدنى الضروريّ من الصدقيّة لأنّ معيار صدقها لا يكون بناءً على تحقيقها لوعودها، بل بناءً على جدوى استيهاماتها بالقياس إلى استيهامات المُشاهد المستهلك. إنّها لا تنطبق على الواقع بقدر ما تنطبق على أحلام اليقظة.
ولكي تتّضح لنا هذه الفكرة تمام الوضوح، يجدر بنا أن نعود إلى فكرة الغواية. إنّ الغواية ابتكار مستحدَث، لم يعرفه العصر الذهبي للتصوير الزيتيّ، حيث كانت قيَم الأناقة والسموّ والسلطان مختلفة كلّ الاختلاف عن الغواية، وإن تكن تبدو مشابهة لها في الشكل.
السيّدة سيدونز، كما رسمها غينزبوره، ليست غاوية لأنّ الرسّام لم يظهرها مشتهاة وبالتالي سعيدة. قد تقول عنها إنّها ثريّة وجميلة وموهوبة ومحظوظة. إلّا أنّ هذه خصال كامنة فيها استظهرها التصوير. لا تتحدّد هويّتها كلّيّاً برغبة الآخرين في أن يكونوا مثلها. أي أنّها ليست النتاج الصرف لحسد الآخرين، كما هو الحال بالنّسبة إلى الطريقة التي يصوّر فيها آندي وارهول مارلين مونرو مثلاً.
لا وجود للإغراء إلّا إذا تحوّل الحسد الشخصّي الاجتماعيّ إلى شعور مشترك ومعمّم. والمجتمع الصناعيّ الذي اندفع نحو الديمقراطيّة ثمّ توقّف في منتصف الطريق هو المجتمع الأمثل لتوليد مشاعر من هذا النوع. فيه جرى تكريس السعي نحو السعادة الفرديّة على أنّه حقّ كوَنيّ. غير أنّ الظروف الاجتماعيّة السائدة تفرض على الفرد الشعور الدائم بأنّه مسلوب القدرات، يعيش تناقضاً حادّاً بين ما هو عليه وبين ما يرغب في أن يكونه. فإمّا أن يعي ذلك التناقض وعياً كاملاً، فينخرط بالتالي في النضال السياسيّ من أجل ديمقراطيّة شاملة تفترض، في جملة ما تفترضه، الإطاحة بالنظام الرأسماليّ، وإمّا أن يعيش حياته كلّها محكوماً بذلك الحسد الذي إذا اندمج مع الشعور بالعجز، ينحلّ إلى عالم من أحلام اليقظة المتعاقبة.
هكذا نستطيع أن نفهم سبب صدقيّة الدعاية. فالفجوة بين ما يقدّمه الإعلان فعلاً وبين المستقبل الذي يعد به، تقابل الفجوة بين واقع المشاهد الشاري وبين ما يرغب في أن يكونه. هكذا تندمج الفجوتان في فجوة واحدة وبدلاً من تجسيرها بواسطة الممارسة المعيشة، يجري ملؤها بأحلام اليقظة المنصبّة على الغواية.
غالباً ما يتعزّز ذلك المسار بسبب ظروف العمل ذاتها. فالحاضر اللامتناهي من ساعات العمل عديمة المعنى يوازيه مستقبل حلميّ حيث النشاط المتخيّل يحلّ محلّ ركود الحاضر. فيتحوّل العامل المستكين (أو العاملة) بواسطة أحلام يقظته إلى مستهلك فاعل ونشط. فإذا الذات المنتِجة تحسد الذات المستهلِكة.
إنّ الأحلام لا تتماثل. فبعضها فوريّ وبعضها يستغرق الوقت المديد. والحلم دوماً شخصيّ بالنسبة إلى الحالم. الدعاية لا تصنع الأحلام. كلّ ما تفعله أنّها تقترح على واحدنا أنّه ليس مسار حسد أو اشتهاء، مع أنّ ذلك في متناوله.
الدعاية والديمقراطيّة
وللدعاية وظيفة أخرى هامّة هي أيضاً، لا ينتقص من أهمّيّتها أنّ العاملين في حقل الدعاية والإعلان أو الذين يلجأون إلى خدماته لم يخطّطوا لها. إنّ الدعاية تحوّل الاستهلاك إلى بديل عن الديمقراطيّة. وبهذا يحلّ اختيار ما الذي يأكله المرء (وما الذي يرتديه أو أيّ سيارة سيركب) محلّ الخيارات السياسيّة المصيريّة. إنّ الدعاية تساعد على التستّر على ما هو غير ديمقراطيّ في المجتمع والتعويض عنه. وهي تحجب أيضاً مجريات الأمور في سائر أنحاء العالم.
وهكذا يمكن القول إنّ الدعاية في المحصّلة أقرب إلى منظومة فلسفيّة متكاملة تفسّر كلّ شيء وفقاً لأحكامها. إنّها رؤية شاملة للعالم.
هكذا يصير الكون بأسره ميدان تحقيق وعد الدعاية بالحياة السعيدة. «العالم يبتسم لنا. إنّه يمنحنا نفسه». ولمّا كانت المخيّلة ترى كلّ الأمكنة على أنّها مشاع لنا، تمسي كلّ الأمكنة متشابهة.
أن تكون حضاريّاً وفق منطق الدعاية يعني أن تعيش فيما يتجاوز النّزاعات. إنّ الدعاية قادرة حتى على تسخير الثّورة ذاتها والحديث عنها وفق مصطلحاتها. غير أنّ التّعارض بين تفسير الدعاية لعالم والحالة الفعليّة لذاك العالم تعارضٌ فاقع. وهو غالباً ما يتجلّى في المجلّات الملوّنة المتخصّصة في القصص الإخباريّة. انظر أدناه محتويات صفحة من إحدى تلك المجلّات.
إنّ الصدمة المتولّدة من تلك التضادّات لهي صدمة كبيرة. ليس فقط بسبب تعايش العالمين الباديين وإنّما أيضاً بسبب حقارة ثقافيّة ترينا الواحد منهما فوق الآخر. ومهما يكن من أمر فالصور المأخوذة في الباكستان والصور المأخوذة لأغراض الدعاية، وضرورات تحرير المجلّة وإخراج الإعلانات وطبع كليهما معاً، وتعذّر التنسيق بين صفحات المعلنين والصفحات الإخباريّة، كلّ هذه هي نتاج الثقافة ذاتها.
ليست الصدمة الأخلاقيّة الناجمة عن هذا التعارض هي التي تحتاج إلى استظهار فهي لم تَخفَ عن المعلنين أنفسهم. كتبت صحيفة «أدفرتايزرز ويكلي» (مجلّة المعلنين الأسبوعيّة)، في عددها بتاريخ ٣ آذار / مارس ١٩٧٢، أنّ وكالات الإعلان، بعد أن أدركت الخطر التجاري الناجم عن مثل تلك المقاربات المؤسفة في المجلات الإخباريّة، قرّرت استخدام عدد أقلّ من الصور الفاقعة والإكثار من الصور الرزينة على أن يكون معظمها بالأبيض والأسود بدلاً من الألوان. المهمّ أن نستبقي من هذا ما تفضحه تلك المقارنات عن طبيعة الإعلان.
الدعاية في الأساس لاحدثيّة. إنّها تحتلّ الحيّز الذي لا يحدث فيه أي حدث آخر. وذلك لأنّ كلّ الأحداث بالنسبة إليها أحداث استثنائيّة لا تحدث إلّا للغرباء الأجانب. في صور بنغلادش، كانت الأحداث فاجعة وبعيدة. ولو وقعت تلك الأحداث في مواقع أقرب إلينا، مثل ديري أو برمنغهام لما كان التعارض أقلّ حدّة. ثمّ إنّ التعارض ليس مرهوناً حكماً بفاجعة الأحداث. إنّ مأساويّة تلك الأحداث تزيد حواسّنا تنبّهاً لوجود ذاك التعارض الذي لن يكون أخفّ وطأةً إنْ تعلّق الأمر بأحداث مبهجة، حتّى لو جرى تصوير تلك الأحداث بطريقة مباشرة وغير منمّطة.
إنّ الدعاية، التي تخاطب مستقبلاً مؤجّلاً باستمرار، تلغي الحاضر فتحذف بالتالي كلّ صيرورة وكلّ تطوّر. إنّ التجربة مستحيلة في ظلّها، فكلّ ما يحدث إنّما يحدث خارجها.
إنّ لا حدثيّة الدعاية كانت ستنفضح فوراً لولا استخدامها للغة تجعل من الملموسيّة حدثاً بذاتها. كلّ ما تعرضه الدعاية ينتظر من يستملكه. هكذا احتلّ فعل الاستملاك محلّ سائر الأفعال الأخرى، واستولت حاسّة التملّك على سائر الحواس.
لمّا كانت الدعاية تتمتّع بنفوذ هائل، فهي بالتالي ظاهرة سياسيّة عظيمة الأهمّيّة، لكنّ مراجعها واسعة بقدر ما عرضها محدود، لأنّها لا تعترف إلّا بقّوة الاستملاك فتخضع لها سائر ملَكات البشر وحاجاتهم. إنّها تراكم الآمال وتنمّطها وتبسّطها فتمسي وعداً مكثّفاً غامضاً سحريّاً تعرضه تكراراً مع كلّ عمليّة شراء. هكذا ينعدم أيّ أمل أو إنجاز أو متعة أخرى في ظلّ ثقافة الرأسماليّة.
إنّ الدعاية هي حياة تلك الثقافة الرأسماليّة ولا حياة للرأسماليّة بدونها، غير أنّ الدعاية هي للرأسماليّة حلمها في آنٍ معاً.
إنّ الرأسماليّة باقية على قيد الحياة من خلال إرغامها الأكثريّة الشعبيّة التي تستغلّها على تعريف مصطلحاتها في أضْيق نطاق ممكن. في السابق، كان بقاؤها على قيد الحياة مرهوناً بالحرمان الشديد للأكثريّة الشعبيّة. أمّا اليوم، فإنّه يتحقّق في البلدان المتقدّمة، بفرض مقياس مزوّر لما هو جذّاب ولما ليس هو بجذّاب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.