نقول إنّ «قضيّة» سلمان رشدي قد كلّفت حتّى الآن عدّة ضحايا وهي تنذر بأن تكلّف المزيد. لذا يقتضي الأمر التفكير فيها بنوع من الموضوعيّة الكونيّة بدلًا من استخدامها، كما هو الحال الآن، لتأكيد أغراضٍ ومبادئ عالية الوقع وإن تكن عديمة الدّقّة.
تتعلّق القضيّة بكتابين. أوّلهما القرآن، وهو كتاب ساعد، ولا يزال يساعد، ملايين عديدة من الناس لأن يعطوا معنى لحياتهم ولكونهم مائتين. والكتاب الثاني رواية لسلمان رشدي، وهي رواية تخييليّة على شيء من العجرفة، موضوعها لعبة الألوهة، كان مقدّراً لها أن يطويها النسيان في غضون بضع سنوات، لولا أنّها أثارت موجات من الضجيج والغضب ولا تزال.
في هذه اللحظة يمثّل الكتابان فكرتيَن عن المقدّس. القرآن كتاب مقدّس بالمعنى الأكثر تقليديّة وعمقاً، إنّه كتاب أوحى به الملاك جبريل إلى الرّسول، مبعوثاً من الإله الواحد الأحد. أمّا كتاب رشدي فصار قضيّة مقدّسة بالنّسبة إلى العالم الأوروبيّ لأنّه بات يمثّل حقّ الفنّان في حرّيّة التعبير. في أوروبا، حلّ الفنُّ محلّ الدِّين، كما سبق أن أشير غير مرّة. والفنّ سلعة، فقد تلقّى رشدي ٨٥٠،٠٠٠ دولار دفعة مقّدمة على الكتاب. فكيف التّوفيق بين هاتين الفكرتين عن المقدّس؟
بات كتاب رشدي يمثّل حقّ الفنّان في حرّيّة التعبير لأنّ المؤلّف صدر بحقّه حكم بالموت من آية الله الخميني. العقوبة قاسية جدّاً على اعتبار أنّ رشدي قد دنّس قدسَ الأقداس، وقدس الأقداس في الإسلام ليس بمكان وإنّما هو نصّ مقدّس، وقد فعل رشدي ذلك قصداً هو الذي نشأ بما هو مُسلِم.
الخميني طاغية متعصّب كان عدد لا يُحصى من الإيرانيّين هم ضحاياه الأوائل. على أنّ الإهانة الكبرى التي سبّبها نشر كتاب رشدي لمسلمين في كافّة أرجاء العالم يجب فصلها عن حقيقة أنّ الخميني بلا رحمة. كانت المرّة الأولى التي تشاطره غضبَه أكثريةٌ في دنيا الإسلام، وإن لم يوافقوه بالضرورة على عقوبة القتل.
تدافع أوروبّا عن حقوق الفنّان لأنّ تاريخها قد علّمها، ولا يزال يعلّمها، أنّ فقدان تلك الحقوق يؤدّي إلى ما هو أسوأ، وأنّ هذا الأسوأ لا يقتصر على الفنّ. ومع ذلك فمن الضروريّ أن نتذكّر أنّ مسلمي أوروبا، الذين كانوا أوّل من أتوا بردود فعل على نشر الكتاب، لا يزالون، في معظمهم، يعانون من الإهانات العنصريّة، وبالتّالي فعندما يتعرّض ركن أساسٌ من إيمانهم للإهانة، يكون ردّ فعلهم مثل ردّ فعل مؤمنين ضدّ الكفر أينما كان، أي إنّه يتّسم بالغيظ العظيم.
أمّا القول بأنّ الكفر مجرّد تفصيل في الكتاب، كما ادّعى بعض المعلّقين، فينطوي على ضرب من الخداع لسببين. الأوّل لأنّ الكفر للمؤمن لا يمكن أن يكون تفصيلاً بحكم طبيعته ذاتها. وثانياً، لأنّ الكفر معلن عنه بقوّة في عنوان الكتاب.
بصراحة لا أتوقّع أن يُنصت كثيرون لحجج مثل الحجج التي أقدّمها هنا. ذلك أنّ التغرّضات الكولونياليّة لا تزال عميقة الجذور. لكن قد يسأل البعض: أيّ حلّ تقترح؟
أخمّن أنّ سلمان رشدي، إن لم يكن قد علِق في مسلسل من الأحداث فقد السيطرة عليه كليّاً، قد يكون مستعدّاً الآن للتّفكير في الطلب من ناشريه عبر العالم بوقف إنتاج المزيد من نسخ من «الآيات الشيطانيّة» أو بوقف إصدار طبعات جديدة منه. ليس بسبب تهديد حياته، بل بسبب تهديد حياة الأبرياء من كتابة الكتاب أو من قراءته. وحين يتحقّق هذا، إذا تحقّق، فقد يكون عدد من كبار القادة والسياسيين المسلمين عبر العالم باتوا على استعداد لإدانة إطلاق آيات الله فتاوى القتل التي تتعارض مع كلّ السيادات وكل تقاليد العدالة.
بخلاف ذلك، فإنّ «حرباً مقدّسة» في القرن العشرين، بما تحمله من عصمة أخلاقيّة مرعبة لدى الجانبين، على وشك الاندلاع، متقطّعة ولكن متكرّرة، في المطارات والأسواق والضّواحي والمراكز المدينيّة، حيث يتجوّل مَن هم بدون حماية ويعيشون.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.