كتب جون برجر هذا النّص في العام ١٩٦٨ في مناخ التظاهرات الطلابيّة والشعبيّة العارمة والإضرابات العمّاليّة وحركات احتلال المصانع والجامعات التي شهدها ذلك العام في أوروبّا وأميركا. لا يزال تحليل برجر للعلاقة بين التّظاهرة والثّورة يحتفظ براهنيّته في حفز التفكير والتحليل بوسيلة التعبئة والاحتجاج الجماهيريّة كما مورست في الأحداث التي عرفها العالم العربيّ خلال السنوات الأخيرة، مع الاستدراك أنّ إطار البحث والتحليل عند برجر ينحصر في أوروبّا وأميركا.
منذ ثلاث وسبعين سنة، وتحديداً في السادس من أيّار / مايو ١٨٩٨، اندلعت تظاهرة حاشدة شارك فيها نساء ورجال في وسط مدينة ميلانو. الأحداث التي أدّت إليها تستدعي رواية طويلة يضيق عنها المجال هنا. قمع الجيش بقيادة الجنرال باكاريس التّظاهرة وفرّقها. عند الظّهر، هاجم الخيّالةُ الجموعَ، ولما حاول العمال العُزّل نصب متاريس أُعلنت الأحكام العرفيّة، وظلّت وحدات من الجيش تقاتل العمّال العزّل طوال ثلاثة أيّام.
تحدّثت الأرقام الرسميّة عن وقوع ١٠٠ قتيل و٤٥٠ جريحاً بين العمّال، فيما قُتل شرطي واحد بطريقة الخطأ على يد أحد الجنود ولم تقع إصابات بين جنود الجيش. بعد سنتين، اغتيل الملك أومبرتو الأوّل لأنّه هنّأ الجنرال باكاريس، «جزّار ميلانو»، علَناً بعد المجزرة.
كنت أحاول فهم بعض جوانب التّظاهرة في شارع «كورسو فينيسيا» يوم ذلك السادس من أيّار / مايو بسبب رواية «أنا» في معرض تأليفها، فتوصّلت إلى بعض الخلاصات عن التّظاهرات قد تكون قابلة للتّطبيق على نطاق أوسع.
التظاهرة، الشَغَب، الثورة
ينبغي التّمييز بين أعمال الشَّغَب وبعض أنواع التظاهرات أو الانتفاضات الثَّوريّة، علماً أنّ أيّ تظاهرة قد تتطوّر لتصبح أعمال شغَبٍ أو انتفاضة ثوريّة، في بعض الحالات، وإن تكن باتت حالاتٍ نادرة. أغراض الشَّغَب عادةً ما تكون فوريّة (وفوريّتها تعكس اليأس الذي تعبّر عنه): الاستيلاء على موادّ غذائيّة، إطلاق سراح مساجين، تخريب ممتلكات إلخ.
أمّا أهداف الثّورات فتكون بعيدة المدى وشاملة: إنّها تتوّج بالاستيلاء على سلطة الدّولة. غير أنّ أهداف التّظاهرات رمزيّة: إنّها تتكشّف عن قوّة نادراً ما تستخدمها.
تتجمّع أعداد كبيرة من البشر في مكان عامّ معروف يُعلن عنه سلفاً. النّاس عزل من السّلاح على العموم. (يوم السادس من أيّار / مايو ١٨٩٨ كانوا عزّلاً من السّلاح كلّيّاً)، يقدّمون أنفسهم هدفاً لقوى القمع التي تخدم سلطات الدولة، السّلطات ذاتها الّتي يحتجّ المتظاهرون على سياساتها.
نظريّاً، يفترض بالتّظاهرات أن تستظهر قوّة الرّأي العام الشعبيّ أو مشاعره، وهي تتوجّه نظرياًّ أيضاً إلى ضمير الدّولة الديموقراطيّ. لكنّ ذلك يفترض وجود ضميرٍ نادراً ما يوجَد. فلو كانت سلطة الدّولة منفتحة على التّأثير الدّيموقراطيّ، لما كان من ضرورة لقيام تظاهرة أصلاً، ثمّ إنّها من غير المحتمل أن تتأثّر بتظاهرة قوّة فارغة لا تحمل أيّ تهديد فعليّ. (تظاهرات التّأييد لسلطة دولةٍ بديلةٍ بهدف تسلّمها السلطة كما في حال دخول غاريبالدي إلى نابّولي العام ١٨٦٠ حالات خاصّة وقد يكون التظاهر هنا ذا فاعليّة فوريّة.
كانت التّظاهرات تنطلق حتّى قبل أن يجري الاعتراف، ولو اسميّاً، بالمبدأ الديموقراطيّ. فالتظاهرات الأولى للشّارتريّين كانت جزءاً من النّضال لانتزاع مثل ذاك الاعتراف. والجماهير الّتي تجمّعت لتقديم عريضة إلى القيصر في سان بطرسبرغ العام ١٩٠٥ كانت تتوجّه للسّلطة الغاشمة لنظام ملَكيّ مطلق، وتقدّم نفسها هدفاً لتلك السلطة. وقد أُطلقت النّار على المتظاهرين في تلك المناسبة، وفي المئات من المناسبات الأخرى على طول أوروبّا وعرضها.
يبدو أنّ التّظاهرات الجماهيريّة الحقّة لا تهدف إلى إقناع السّلطات الحكوميّة القائمة إلى أيّ درجة ذات دلالة. إنّ ادّعاء مثل هذا الهدف هو من قبيل استسهال العقلنة والتبرير. حقيقة الأمر أنّ التّظاهرات الجماهيريّة هي تدريبات على الثورة: ليست تدريبات استراتيجيّة ولا حتّى تكتيكيّة، إنّما هي تدريبات على الوعي الثوريّ. قد تطول كثيراً المهَل بين تلك التدريبات وبين أداء المسرحيّة الحقيقيّة، لكنّ نوعيّتها أيْ كثافة الوعي الذي يجري التدريب عليه قد تتباين كثيراً بتبايُن الظّروف، لكنّ تظاهرةً تفتقد عنصر التّدريب هذا، يفضَّل وصفُها بأنّها مشهد عمومي بتشجيع رسميّ.
التّظاهرات ورْشات تدريب
إنّ التّظاهرة، على ما تتضمّنه من عفويّة، حدَثٌ مصنوع ينفصل انفصالاً نوعيّاً عن الحياة العاديّة. وقيمته هي نتاج اصطناعه هذا، ففيها تكمن طاقات التدريب النبوئية التي ينطوي عليها.
التظاهرة جماهيريّة تميّز نفسها عن تحشّدات جماهيرية أخرى لأنّها تتجمّع علناً لتصنع وظيفتها بذاتها، بدلًا من أن تتجمّع كردّ فعل على مثل تلك الوظيفة. وهي تختلف بذلك عن أيّ تجمّع للعمّال في مكان عملهم، حتّى عندما يتعلّق الأمر بإضراب، كما تتميّز عن أيّ جمع لمشاهدين [لمسرحيّة أو فيلم سينما]. التظاهرة تجمّع يتحدّى معنى اللقاء العاديّ لعدد من النّاس فيما بينهم.
عادةً ما تكذب السلطات بشأن عدد المتظاهرين. على أنّ الكذبة لا تهمّ. قد تهمّ فقط في حال كانت التّظاهرات تناشد حقّاً ضمير الدّولة الديمقراطيّ. إنّ أهمّيّة الأعداد المشاركة ينبغي البحث عنها في التّجربة المباشرة للمشاركين أو المتعاطفين الّذين يصطفّون لمشاهدة التّظاهرة. لهؤلاء لا تعود الأعداد أعداداً بل تصير شواهد على أحاسيسهم، وخلاصات لخيالهم. فبقدر ما تكبر التظاهرة بقدر ما تصير مَجازاً قويّاً وفوريّاً (مرئيّاً ومسموعاً وملموساً) عن قوّتهم الجَمَاعيّة الشاملة.
أقول «مجازاً» لأنّ القوّة، وقد ألقي القبض عليها على هذا النّحو، تتجاوز طاقة القوّة الّتي يملكها الحضور، وتتجاوز بالتّأكيد قوّتهم الفعليّة كما تجلّت في التظاهرة. فكلّما تكاثرت أعداد النّاس المحتشدين، تعزّزت القوّة الّتي بها يمثّلون بعضهم بعضاً ويمثّلون الغائبين عن التّظاهرة. بذلك تكون التظاهرة الجماهيريّة توسيعاً لحالة مجرّدة وتجسيداً لها في آن معاً. فيها يصير المشاركون أشدّ وعياً إيجابيّاً لانتمائهم الطبقيّ. ولكن لا يعود الانتماء إلى الطبقة يعني مصيراً مشتركاً، بل يصير يعني فرصة مشتركة. يدرك المتظاهرون أنّ لا حاجة إلى وظيفة طبقتهم إن كانت محدودة، ويدركون أنّها، مثلها مثل التّظاهرة، قابلة لأن تخلق وظيفتها بذاتها.
ويمكن التدرّب على الوعي الثوريّ بوسيلة أخرى هي اختيار المكان، وهي الأثر الذي يحمله هذا الاختيار. التّظاهرات مدينيّة الطّابع من حيث الجوهر، وعادةً ما يجري تنظيمها لتسير أقرب ما يمكن من مركز رمزيّ معيّن، أكان مدنيّاً أم وطنيّاً. فنادراً ما تكون «أهدافها» استراتيجيّة محطّات قطارات، ثكنات عسكريّة، محطّات إذاعات، مطارات. يمكن تفسير التّظاهرة الجماهيريّة على أنّها رمز أو مجاز للاستيلاء على مدينة أو عاصمة. هنا أيضاً، يعمل الرمز أو المجاز لصالح المتظاهرين.
على أنّ التّظاهرة، بما هي الحدث غير الدوري الذي يخلقه المتظاهرون، على مقربة من مركز المدينة، له استخدامات متباينة جدّاً.
يعرقل المتظاهرون الحياة العاديّة في الشوارع التي يعبرونها أو الأمكنة العامّة الّتي يملأونها. «يعزلون» تلك المساحات، ومع أنّهم لم يملكوا بعد القوّة على احتلالها احتلالاً دائماً، إلّا أنّهم يحوّلونها إلى خشبة مسرح مؤقّت حيث يمسرحون القوّة التي ما زالوا يفتقدونها.
وتتغيّر أيضاً نظرة المتظاهرين إلى المدينة الّتي تحيط بخشبة مسرحهم. ففي فعل التظاهر، يمارسون قدراً من الحرّيّة والاستقلال أي المزيد من الطاقة الخلّاقة، مع أنّ نتاج هذه الطاقة لا يفارق طابعه الرّمزيّ أوسع ممّا قدّر لهم أن يمارسوه على صعيد فرديّ أو حتّى جماعيّ في الحياة اليوميّة. في دأبهم العاديّ، يعدّل النّاس الظروف فقط، لكن في ممارستهم التّظاهر يجابهون تلك الظروف بوجودهم ذاته.
من التدريب إلى التحقيق
إنّ هذه الطاقة الخلّاقة قد تكون يائسة في الأصل، والثّمن الذي يدفع المتظاهرون من أجلها سيكون مرتفعاً، لكنّها تعدّل من رؤاهم ولو مؤقّتاً، فيدركون إدراكاً جسديّاً أنّهم، أو أنّ الذين يمثّلونهم، هم بُناة المدينة، وهم الذين يحافظون عليها. هكذا يرون إلى المدينة بعيون مختلفة. يرون إليها على أنّها صنيعتهم، الأمر الّذي يعزّز من قوّتهم بدل أن يُضعفها.
أخيراً، ثمّة طريقة أخرى يجري بها التدريب على الوعي الثوريّ. يقدّم المتظاهرون أنفسهم هدفاً لما يسمَّون قوى القانون والنّظام.
على أنّه كلّما اتّسعت أعداد المتظاهرين، تَعزّز إحساسُهم بقوّتهم. ولا يمكن تفسير ذلك بمبدأ «القوّة في العدد» التّافه، ولا بالنظريّات المبتذلة عن سيكولوجيا الجموع. التناقض بين هشاشتهم الفعليّة وبين شعورهم بأنّهم لا يُقهرون، هو المعضلة الّتي يفرضها المتظاهرون على سلطة الدّولة.
فإمّا أن تتنازل السلطة وتترك الجمع لحاله، فيتحوّل الرمزيّ إلى فعليّ. وحتى لو كان انعدام التنظيم وانعدام التأهيل لديه يحرمانه من ترسيخ ذلك الانتصار، يبقى أنّ هذا التنازل ينمّ عن ضعف السلطة.
وإمّا أن تقمع السلطة الجمع وتفرّقه بالعنف، وفي هذه الحالة يتكشّف طابعها غير الديموقراطيّ. المعضلة المفروضة هنا هي بين ضعف المتظاهرين وسلطويّة التّظاهرة. (أمّا التّظاهرة المرخّصة والمراقبة رسمياً فلا تطرح مثل تلك المعضلة، لأنّ رمزيّتها مصادَرة، ولهذا السبب أسمّيها مجرّد «مشهد عموميّ».)
في كلّ الحالات تقريباً، تختار السلطة اللجوء إلى العنف. وتتوقّف درجة العنف التي تمارسها على عدّة عوامل، ولكن نادراً ما تتوقّف على درجة الخطر الجسديّ الذي بدر عن المتظاهرين. فهذا الخطر رمزيّ في الجوهر. ولكن في هجومها على التظاهرة تضمن السلطة أن يتحوّل الحدث الرمزيّ إلى حدث تاريخيّ، حدثٍ سوف يُحفَظ في الذّاكرة، وتُستخلَص دروسه، ويخرج من ينتقم له.
مِن طبيعة التّظاهرات أنّها تستنزل العنف على ذاتها. وقد يكون الاستفزاز الذي تمارسه عنيفاً هو ذاته. وفي نهاية المطاف، سوف تكون التظاهرة ضحيّة للأذى أكثر ممّا تكون الطّرَف الذي يؤذي. وهذا درس تكتيكيّ قدر ما هو درس تاريخيّ. ذلك أنّ الدّور التاريخيّ للتظاهرات هو كشف ظلم سلطة الدولة القائمة وقسوتها ولاعقلانيّتها.
على أنّ البراءة نوعان، مع أنّه لا يمكن التعامل معهما إلّا على اعتبارهما نوعاً واحداً على الصعيد الرمزيّ. أمّا لأغراض التّحليل السياسيّ، والتّخطيط للفعل الثوريّ، فينبغي الفصل بينهما. ثمّة براءة تستحقّ أن يدافَع عنها وبراءة ينبغي التخلّص منها، براءة هي ابنة العدالة، وبراءة هي نتاج الافتقار إلى تجربة.
تعبّر التّظاهرات عن طموحات سياسيّة في مرحلة سابقة على ولادة الوسائل السياسيّة لتحقيق تلك الطموحات.
تتنبّأ التّظاهرات بتحقيق طموحاتها الخاصّة، الأمر الذي يمكّنها من احتمال أن تسهم في تحقيقها، لكنّها لن تستطيع أن تحقّق تلك الطموحات بقواها الذاتيّة.
السؤال الذي يتعيّن على الثوريّين مواجهته في كلّ وضع تاريخيّ معيّن هو: هل ثمّة حاجة إلى مزيد من التّدريبات الرمزيّة، أم أنّ المرحلة المقبلة باتت مرحلة التدريب على التكتيك والاستراتيجيّة لأداء المسرحيّة ذاتها القيام بالثورة؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.