العدد ١٦ - ٢٠١٧

ضد هزيمة العالم الكبرى

في تاريخ الفنّ يصادف المرء نبوءات غريبة. نبوءات لم يكن الفنّان يقصدها بذاتها. كأنّ المرئيّ بذاته يمكن أن يعاني هو نفسه من كوابيس. فمثلاً، تنطوي لوحة «انتصار الموت» لبروغل، المرسومة في ستينيات القرن السادس عشر، والمعروضة الآن في متحف البرادو، على نبوءة رهيبة عن معسكرات الاعتقال النازيّة.

معظم النّبوءات، عندما تتحدّد، محكوم عليها بأن تكون سيّئة، ذلك أن عمليّات الإرهاب تتكرّر عبر التّاريخ حتّى لو اختفى بعضها، في حين لا تولد سعادات جديدة. السعادة هي دوماً السعادة المنقضية. ما يتغيّر هو أنماط النّضال من أجل تلك السعادة.

قبل نصف قرن من بروغل، رسم هييرونيموس بوش «ثلاثيّة الألفيّة». تُرينا لوحة اليسار آدم وحواء في الفردوس. أمّا لوحة الوسط العريضة فتصف جنّة الملذّات الأرضيّة فيما لوحة اليمين تصوّر الجحيم. وهذه الجحيم صارت نبوءة غريبة عن المناخ العقليّ للعالم في نهاية قرننا هذا، الذي فرضه كلّ من العولمة والنظام الاقتصادي الجديد.

اسمحوا لي أن أحاول تفسير كيف تمّ ذلك. يتعلّق الأمر بالرمزيّة المستخدمة في اللوحة. لعلّ رموز بوش قادمة من لغة سرّيّة مجازيّة وهرطوقيّة تعود لطوائف خلاصيّة من القرن الخامس عشر، طوائف كانت تؤمن على نحو هرطوقيّ بأنّ قهر الشرّ يسمح ببناء الجنّة على الأرض. كُتبتْ عدّة مقالات عن المجازات الّتي يمكن العثور عليها في أعمال بوش. غير أنّه إذا سلّمنا بأنّ رؤية بوش عن الجحيم هي رؤيا نبويّة، فإن النبوّة لا تكمن في التّفاصيل على فظاغة تلك التفاصيل وشبحيّتها إنّما هي كامنة في الكلّ. أو أنّها، بعبارة أخرى، كامنة في ما تتكوّن منه مساحة الجحيم، إن شئنا استخدام عبارة أخرى.

bid16_p66-67.jpg


هيرونيموس بوش، حديقة الملذات الدنيوية

انعدام الأفق

لا أفق هنا. لا تواصل بين الأفعال، لا محطّات، لا مسالك، لا تصاميم، لا ماض ولا مستقبل. لا وجود إلّا لضجيح الحاضر المتفاوت والمتذرّر. المفاجآت والإحساسات في كلّ مكان. ومع ذلك، ليس من مخرج في أيّ مكان. لا مسالك ميسّرة، كلّ شيء عثرة على الطريق. ثمّة هذيان مكانيّ.

قارِنْ هذه المساحة بالتي يشاهدها المرء في وقفة إعلان عاديّة، أو في نشرة أخبار نموذجيّة على الـ«سي إن إن»، أو أيّ تعليق في أيٍّ من وسائط الإعلام الجماهيريّ. ثمّة تشوّش مشابه، وصحراء مشابهة من الحماسات المنفصلة وثمّة سُعار مشابه.

تتعلّق نبوءة بوش بصورة العالم كما يعرضها لنا الإعلام اليوم تحت تأثير العولمة بشهوتها المجرمة على الشّراء والبيع المتواصلين. كلاهما النّبوءة وتحقّقها أشبه بأحجية مصوّرة لا تتطابق قطعاتها البائسة واحدة مع الأخرى ولا تتراكب.

وهذا هو تحديداً المصطلح الذي استخدمه نائب القائد ماركوس في رسالته عن النّظام العالميّ الجديد، السنة الماضية. كان يكتب من الشياپاس، في جنوب شرقي المكسيك. لن أوفي تحليله الكامل حقّه بأسطر قليلة. إنّه يرى إلى الكوكب حاليّاً بما هو مسرح لحرب عالميّة رابعة. الثالثة هي ما سمّيت «الحرب الباردة». هدف المتحاربين غزو العالم بأسره من خلال السّوق. مع أنّ ترسانات تلك الحرب هي ترسانات ماليّة، إلّا أنّ ملايين النّاس يتعرّضون للتّشويه أو القتل في كلّ لحظة. هدف الذين يشنّون الحروب هو حكم العالم من مراكز سلطة جديدة ومجرّدة إنّها مدن الأسواق الجبّارة، الّتي لا سيطرة عليها سوى سيطرة منطق الاستثمار. وفي هذه الأثناء، تعيش تسعة أعشار النساء والرّجال من سكّان هذا الكوكب مع قطع الأحجية المعوجّة تلك التي لا تتطابق واحدتها مع الأخرى ولا تتراكب.

الاعوجاج في جداريّة بوش متشابه مع حالنا إلى درجة أنّي أكاد أتوقّع أن أعثر فيها على القطع السبع التي يسمّيها ماركوس.

أوّل قطعة لها شكل رمز الدولار وهي خضراء. وهي تتكوّن من تركّز جديد للثّروة الكونيّة في عدد متناقص من الأيدي، ومن الاتّساع غير المسبوق لحالات الفقر اليائسة.

القطعة الثانية مثلّثة وتتكوّن من أكذوبة. يزعم النّظام الجديد أنّه يعقْلن الإنتاج والطموح الإنسانيّين ويدرجهما في الحداثة. في الواقع، إنّه ينظّم عودة إلى البربريّة كما عرفتْها بدايات الثّورة الصناعيّة، مع فارق مهمّ أنّ البربريّة هذه المرّة متفلّتة من كلّ وازع أو مبدأ أخلاقيّ. العهد الجديد متزمّت وشموليّ. لا مرجعيّات يُحتكَم إليها في منظومته الخاصّة. إنّ شموليّته ليست معنيّة بالسياسة التي يجب الاعتراف بأنّه جرى تجاوزها وإنّما هي معنيّة بالتحكّم الماليّ الكونيّ. لننظر في حال الأطفال. مئة مليون طفل يعيشون الآن في الشّوارع. ومئتا مليون هم جزء من قوة العمل الكونيّة.

القطعة الثالثة مكوّرة مثل حلقة مقفلة. إنّها كناية عن التهجير القسريّ. الأكثر كدّاً بين المحرومين من كلّ شيء يهاجرون للبقاء على قيد الحياة. على أنّ النظام الجديد يعمل ليلاً ونهاراً وفق مبدأ أنّ أيّ أحد لا ينتج، أو لا يستهلك، أو لا يملك مالاً يودعه في مصرف، هو من قبيل النوافل. هكذا يعامَل المهاجرون والمحرومون من الأرض ومن السكن بما هم نفايات هذا النّظام. نفايات يجب التخلّص منها.

القطعة الرابعة مستطيلة مثل مرآة. إنّها تتكوّن من التبادل الجاري بين المصارف التجاريّة والمافيات العالميّة، ذلك أنّ الجريمة قد تعولمت هي أيضاً.

القطعة الخامسة مخمّسة الأضلع. إنّها متكوّنة من القمع الجسديّ. في ظلّ العهد الجديد، فقدت الدول القوميّة استقلالها الاقتصاديّ ومبادرتها السياسيّة وسيادتها. غرض البلاغة الجديدة لدى معظم السياسيّين هو محاولة لتورية عجزهم السياسيّ، بالتّمييز عن عجزهم المدنيّ أو القمعيّ. والمهمّة الجديدة للدّولة القوميّة هي إدارة ما قد أُودع لديها، وحماية مصالح المنشآت الجبّارة العاملة في السوق، وفوق ذلك كلّه التحكّم بالفئات النافلة من السكان وقمعها.

تقع القطعة السادسة على شكل خربشة وتتكوّن من انكسارات. فمن جهة، يطيح العهد الجديد بالحدود والمسافات عبر التّواصل الإلكترونيّ الفوريّ للمبادلات والعقود، وعبر «مناطق التجارة الحرّة» الإلزاميّة (حسب «اتفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة» NAFTA) وبفرض قانون السوق المفرد غير قابل للمساءلة في كلّ مكان، ما أدّى إلى التذرير وتنامي الحدود، إذ دمّر الدولة القوميّة كما في بلدان الاتحاد السوفييتي أو يوغسلافيا سابقاً، إلخ. «إنّه عالم مرايا متكسّرة» يكتب ماركوس «بعكس الوحدة العقيمة للأحجية النيوليبراليّة».

القطعة السابعة من الأحجية تشبه الجَيب، وتتكوّن من مختلف جيوب المقاومة ضدّ النظام الجديد والتي تنمو على امتداد كرتنا الأرضية. إنّ الزاباتيستاس في جنوب شرق المكسيك هم مثل هذا الجيب. آخرون، في ظروف مختلفة، لم يختاروا المقاومة المسلّحة بالضرورة. وجيوب المقاومة هذه لا تملك برنامجاً سياسياً مشتركاً بالمعنى الكامل للكلمة. كيف يكون لهم مثل هذا البرنامج وهم يعيشون في تلك الأحجية المتكسّرة؟ غير أنّ عدم تجانسهم قد يكون من قبيل الوعد. ما هو مشترك بينهم هو دفاعهم عن النّوافل وعن ضحايا التّصفية القادمين، ما هو مشترك بينهم هو إيمانهم بأنّ الحرب العالميّة الرابعة هي جريمة بحقّ الإنسانيّة.

لن تتراكب القطع السبع لهذه الأحجية بعضها مع بعض لتعطي أيّ معنى. إنّ فقدان المعنى هذا، وهذا العبث، جزء عضويّ من النظام الجديد. كما توقّع جيرانيوم بوش في رؤياه عن الجحيم، لا أفُق. العالم يحترق. كلّ كائن يكافح من أجل البقاء بالتركيز على حاجته المباشرة وبقائه الآنيّ. إنّ خواف الاحتجاز، في أقصى حالاته، ليس ناتجاً من الازدحام الزّائد، وإنّما عن غياب أيّ استمراريّة بين فعل وآخر يدانيه إلى درجة أنّه قد يلامسه. هذه هي الجحيم. إنّ الثقافة التي نعيش في ظلّها لعلّها الأكثر إثارة لرهاب الاحتجاز هذا ممّا في أيّ وقت مضى، في ثقافة العولمة، كما في جحيم جيرانيوم بوش، ليس من ملمح لمكان آخر أو لأسلوب آخر. المعطى هو سجن. والذكاء البشريّ إذ يجابه مثل هذه الاختزاليّة ينخفض ليصير مجرّد جَشَع.

ختم ماركوس رسالته بالقول: «من الضروريّ أن نبني عالماً جديداً، عالماً قابلاً لأن يتّسع لعدّة عوالم، وقابلاً لأن يحتوي كلّ العوالم».

ما تفعله لوحة بوش هو تذكيرنا إن جازت تسمية النّبوءات مذكّرات إنّ أوّل خطوة لبناء عالم بديل يجب أن تكون برفض العالم الصورة المغروس في أذهاننا وجميع الوعود الكاذبة المستخدمة في كلّ مكان لتبرير وتمجيد الدّافع الجرميّ، غير القابل للإشباع إلى البيع والشراء. إنّ وجود مسافة أخرى عن هذا العالم بات ضرورة حيويّة.

أوّلاً لا بدّ من اكتشاف أفق [جديد]. ولذلك يجب أن نعيد اكتشاف الأمل، الأمل ضدّ كلّ المعوّقات التي يدّعيها النّظام الجديد وتلك الّتي يرتكبها.

على أنّ الأمل هو فِعل إيمان لا بدّ من أن تدعمه أفعال أخرى. مثلاً، فِعل المقاربة، فِعل قياس المسافات، وفعل السير نحو هدف ما... هذا ما يؤدّي إلى أشكال من التعاون تتجاوز الانقطاعات. إنّ فِعل المقاومة ليس يعني مجرّد رفض عَبَث العالم الصورة المقدّم لنا، وإنّما استنكاره أيضاً. فعندما تُدان الجحيم من داخلها، لا تعودُ جحيماً.

في جيوب المقاومة، كما هي الآن، يمكن دراسة اللوحتين المتبقّيتين من ثلاثيّة بوش، تلك التي تصوّر آدم وحواء، وتلك التي تصوّر جنّة الملذّات، يمكن دراستهما في ضوء بطارية في الظلمة... إنّنا نحتاج إليهما.

أودّ أن أختم باستشهاد من الشاعر الأرجنتينيّ خوان غلمان.

جاء الموت بذاته متأبّطاً وثائقه
إنّنا سوف نعاود النّضال مجدّداً
ومجدّداً سوف نبدأ من جديد
مجدّداً سوف نبدأ جميعاً معاً
ضدّ هزيمة العالم الكبرى.
أيّها الرفاق الصّغار الذين لا ينضبون
أو لا يحترقون مثل النّار في الذّاكرة،
مجدّداً / ومجدّداً / ومجدّداً.

العدد ١٦ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.