البيئة الطبيعيّة والمَسْكن من الأمور الموجودة سلفاً في عالم الحيوان. أمّا الواقع فليس موجوداً سلفاً في عالم الإنسان، على الرغم مما يدّعيه التّجريبيّون. ينبغي السعي إلى الواقع سعياً باستمرار، وأكاد أن أقول إنّه ينبغي انتزاعه انتزاعاً.
درجنا على أن نقابل الواقع بالخياليّ، كأنّما الأوّل هو دوماً في متناول اليد فيما الثّاني هو النّائي صعب المنال. هذه المقابلة مغلوطة. فالأحداث هي التي نجدها دائماً في متناول اليد. على أنّ ترابط تلك الأحداث وهذا ما نعنيه بالواقع بنيانٌ خياليّ. وهكذا، فالواقع يقع دائماً في ما يتعدّانا، وهذا يصحّ عند المثاليّين كما عند المادّيين. عند أفلاطون كما عند ماركس. فالواقع كائناً ما كانت تفسيراتنا له يكمن في ما يتعدّى شبكة من الترسيمات السائدة. تنتج كلّ ثقافة مثل تلك الشبكة تسهيلاً لممارساتها (أي من أجل إرساء عاداتها والتقاليد) من جهة، ومن أجل تدعيم سلطتها، من جهة ثانية. ذلك أنّ الواقع معادٍ دوماً لأصحاب السّلطان.
يُجمع الفنّانون الحديثون على النظر إلى تجديداتهم على أنّها توفّر مقاربة أدقّ للواقع أو على أنّها وسيلة لاستظهار ذلك الواقع على نحو أوضح. هنا وهنا فقط يلتقي الفنّان والثوريّ على العمل بوحي من فكرة مشتركة هي فكرة تمزيق شبكة الترسيمات هذه وقد ازدادت تفاهةً وأنانيّة. على أنّ العديد من أولئك الفنّانين يختزل ما يجده وراء تلك الشّبكة على مقاس موهبته وموقعه الاجتماعيّ كفنّان، وعندما يحصل ذلك، تجده يبرّر نفسه باللجوء إلى واحدة أو أخرى من المنوّعات العديدة لنظريّة «الفنّ للفنّ». فنلقاه يعلن، مثلاً، أنّ الواقع هو الفنّ وهو يأمل باستخراج منفعة فنّية من ذاك الواقع.
كان فان غوغ أبعد الناس عن مثل هذا السّلوك. نعلم الآن من رسائله مدى حدّة إدراكه لوجود تلك الشّبكة. بل إنّ كلّ سيرة حياته كناية عن حنين متواصل إلى الواقع. فالألوان والمناخ المتوسّطي والشمس كلّها عنده وسائط للاتّجاه صوب ذلك الواقع، ولم تكن مرّة موضوعات حنين بذاتها. وقد ازداد ذاك الحنين حدّة ووطأة بسبب الأزمات الّتي عانى منها عندما شعر أنّه بات عاجزاً عن انتشال أيّ واقع على الإطلاق.
لن نضيف جديداً إذا نحن شخّصنا تلك الأزمات على أنّها فصاميّة أو صَرَعيّة. إنّها من حيث المضمون، وفيما يتعدّى وجهها المرضيّ، رؤية للواقع تحرق نفسها بنفسها مثل طائر العنقاء. وتُعلمنا رسائله أنّ فان غوغ لم يقدّس أمراً قدر تقديسه لعمله. رأى إلى الحقيقة الفيزيائيّة للعمل على أنّها في آنٍ معاً: ضرورة ومَظْلمة وجوهر الإنسانيّة عبر التّاريخ. كما رأى إلى إبداع الفنّان على أنّه فعل واحد من بين تلك الأفعال العديدة. فآمن بأنّ العمل هو خير وسيلة لمقاربة الواقع، لأنّ الواقع تحديداً هو شكلٌ من أشكال الإنتاج.
هذا ما تنبئنا به لوحاته بأوضح ما تنبئ به الكلمات. فضربات ريشته التي سمّيت خرقاء والتي بها يضع الأصباغ على القماش، والحركات (المخفيّة الآن مع أنّه لا يصعب تخيّلها) الّتي بها اختار الألوان ومزَجها على لوحة مزْج الألوان، وجميع الحركات التي بها تناول وعالج وصنع مادّة الصورة الزيتيّة، كانت توازي فعل كينونة الشيء الذي هو بصدد تصويره. إنّ لوحاته إنّما تقلّد الوجود الحيويّ لما هو قيد التصوير، أي فعل كينونته.
كرسي. سرير. حذاء.
إنّ ممارسته التصويريّة الزيتيّة لهذه الأشياء أقرب عنده ممّا هي عند أي فنّان آخر إلى عمل النّجار أو الإسكافيّ وهو في معرض صنع تلك الأشياء. انظره يجمّع عناصر المنتوج بعضها إلى بعض: القوائم، العوارض، مسند الظهر، المقعد، وأيضاً النّعل، والفرعة واللسان، والكعب كأنّما هو أيضاً يركّبها تركيباً، وكأنّما عمليّة التركيب هذه هي واقعها.
في إزاء مشهد طبيعيّ، تزداد العمليّة تعقيداً وغموضاً إلّا أّنها تظلّ محكومة بالمبدأ ذاته. وإذا كان لنا أن نتخيّل الباري خلال عمليّة خلقه العالم من أديم وماء أي من الصلصال فإنّ طريقة معالجته لخلق شجرة أو حقل ذرة هي المعادل لكيفيّة معالجة فان غوغ للألوان الزيتيّة عندما كان يصوّر شجرة أو حقل ذرة. مع أنّ فان غوغ آدميّ ليس فيه من الألوهة أثر، فإنّنا، إذ نفكّر في خلق العالم، لا نستطيع أن نتخّيل العمليّة إلّا من خلال الشواهد البصريّة الدالّة على طاقات قواها الفاعلة الآن وفي زماننا الحاضر.
والحقيقة أنّ فان غوغ كان متناغماً بطريقة مذهلة مع تلك القوى. فعندما صوّر شجرة إجاص صغيرة منوّرة كان صعود النّسغ وانبثاق البرعم وتفتّح الزّهرة وانتصاب قلم السمة ونضوح الصمغ على السمة ذاتها كانت هذه الأفعال حاضرة جميعها في فعل التصوير ذاته. وعندما صوّر درباً، كان عمّال الأشغال حاضرين في مخيّلته. وعندما كان يصوّر الأرض المنقوبة في حقل مفلوح، ضمّن فعله الإبداعيّ حركة السكّة تشقّ الأثلام في الأرض. فحيثما التفت كان يرى كدح الوجود. وإذ تعرّف عليه بما هو كدح، صار هو الواقع بالنسبة إليه.
وحتّى عندما صوّر صورته الذاتيّة، إنّما كان يصوّر تعرّجات مسار إنتاج مصيره، ماضياً ومستقبلاً، تماماً مثلما يظن قارئو الكفّ أنّهم يستطيعون قراءة ذلك المسار في خطوط اليد. وإذ رأى إليه معاصرون على أنه كائنٌ شاذّ فإنّهم لم يكونوا بالبلاهة التي نتصوّرهم عليها اليوم. فقد كان فان غوغ يصوّر أقرب ما يكون إلى الإرغام. وما من فنّان آخر كان الإرغام عنده بالعنف الذي كان عند فان غوغ. وما إرغامه هذا إلا سعيه للمقاربة أكثر فأكثر بين الفعلين اللذين تنطوي عليهما عمليّة الكدح هذه: الكدح على اللوحة وكدح الواقع المنقول إلى اللوحة. على أنّ هذا الإرغام لم يكن صادراً عن فكرة مسبقة عن الفنّ. ولهذا السبب لم يخطر ببال فان غوغ أنْ يجني فائدة ما من الواقع. كان صادراً بالأحرى عن شعور غلّاب بالتّماهي: «إنّي معجب بالثّور والنّسر وبالإنسان بل إنّي أعبد هذه الكائنات عبادة، بشغف سوف يمنعني حتماً من أن أصير أبداً إنساناً ذا طموح».
كان مرغماً على أن يقترب أكثر فأكثر، أن يدنو ويدنو ويدنو. وفي النّهاية، دنا إلى الحدّ الذي تحوّلت فيه نجوم الليل إلى زوابع من ضياء، وأشجار السّرو إلى عُجُرات حية تكوّنها عناصر الريح والشمس على هواها. سوف تلقى لوحات امّحى فيها الفنّان في الواقع. لكنّك ستجد الفنّان في المئات غيرها يأخذ المشاهد إلى أقرب نقطة بلغها إنسان وبقي إنساناً من العمليّة الدائمة، عمليّة إنتاج الواقع.
في زمان مضى، كانت اللوحات الفنّيّة تشبّه بالمرايا. الأحرى أن نشبّه لوحات فان غوغ بأشعّة اللايزر التي لا تنتظر حتّى تلتقي موضوعها بل تسعى إلى ملاقاته سعياً، مخترقة لا الفراغ، وإنّما فعل الإبداع ذاته، أي عمليّة إنتاج العالم.
فإذا اللوحة إثر اللوحة مفردات لغة تهتف بك برهبة ولكن بلا كبير ارتياح «هلمّ! تجرّأ على الاقتراب إلى هذا الحدّ وانظره قيد الكدح!».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.