وُلد السيّد محمود الطالقاني في طالقان في ٤ مارس/آذار ١٩١١. والده السیّد أبو الحسن الطالقاني من أبرز معارضي دیکتاتوریّة رضا شاه بهلوي وزميل آیة الله مدرسي. ولم یکن کغالبيّة رجال الدین الذین یعیشون من الضرائب الدینیّة بل کان یعمل في تصليح الساعات ویعیش هو وعائلته من هذه المهنة.
دخل السيّد محمود الکتاتیب في قريته، ثمّ أدخله والده إلىمدرسة إسلامیّة في طهران لیتلقّی فیها العلوم الابتدائیّة، وعند بلوغه العاشرة أرسل إلى المدرسة «الفیضیّة» في قم. ثمّ شرع في دراسة الفلسفة والحکمة علی الرغم من أنّ دارسي هذه العلوم کانوا یُتّهمون بأنّهم «مثقّفون» ولیسوا رجال دین حقیقیّین (جرياً على القول «من تفلسف تزندق»).
قطع دراسته بسبب وفاة والده، لكنّه تنحّى عن أخذ مکان أبیه في مسجده بحي شعبي جنوبي طهران وقد آثر إکمال دراسته ومتابعة اهتماماته السیاسیّة والفکریّة والاجتماعیّة. ونال درجة الاجتهاد في الدین من الآیات الکبار في قم والنّجف.
عام ١٩٣٩ استقرّ السيّد محمود في العاصمة وبدأ بتشکیل حلقات من الشباب لمناقشة المقولات الدینیّة والسیاسیّة الوطنيّة والتقدميّة، وإلقاء الخطب في المجالس الدینیّة التي تنتقد نظام الشاه. اعتقل وحُكم عليه بالسجن لثلاثة أشهر بتهمة إهانة النظام. وكان للفترة التي قضاها في السجن الأثر العمیق في نفسه لأنّه رأی بأمّ العين أنواع التعذیب والإعدامات بحقّ المعارضين السیاسیّین، ما أدّی إلی ترسیخ نفوره من النظام الديکتاتوريّ. ومن ناحیة أخری فقد هیّأ له الاعتقال فرصة التعرف عن کثب إلی الکثیر من السجناء السیاسیّین، ومنهم الشیوعیّون من أعضاء «مجموعة الـ٥٣» الذین سوف يؤسّسون حزب توده لاحقاً، وبینهم أبرز منظّريهم الدکتور آراني.
عام ١٩٤١ احتلّ الحلفاء إیران بقيادة بريطانيا وخلعوا رضا شاه عن العرش لمیوله النازیّة، وأحلّوا محلّه ابنه محمد رضا بهلوي الذي سرعان ما خلق جوّاً من الانفتاح النسبي لم يدم طويلاً أُطلق خلاله السجناء السياسيّون، فنشأت أحزاب وتنظیمات سیاسیّة جدیدة ونقابات متعدّدة في کافّة المجالات وسعى کلّ تیّار سیاسيّ إلى توسیع نشاطاته وقاعدته الاجتماعیّة. ومن أبرز تلك التیّارات:
- تیّار وطنيّ ديمقراطيّ بقيادة الدکتور محمد مصدّق و«الجبهة الوطنیّة»،
- تیّار شيوعيّ نشأ مع تأسيس حزب توده. إستطاع هذا التیّار استقطاب عدد کبیر من الطلاب والعمّال وشارك في تأسیس اتحادات ونقابات عمّالیّة وطلابیّة. وتوسّع نفوذه في أنحاء إیران وخصوصاً في المناطق التي کانت تسیطر علیها القوّات السوفیاتیّة في شمال إیران.
- تیّارات دینیّة سیاسیّة: كان التیّار الدینيّ التقدّمي والدیمقراطيّ ضعيفاً في ذلك الوقت ویعمل في إطار الجبهة الوطنيّة بقیادة مصدّق، ویحاول عقد الصِّلات بينها وبين التیّارات المعارضية الدینیّة.
- تیّار دینيّ محافظیمثّل قسماً من البازار والتجّار بزعامة آیة الله کاشاني، وقد لعب دوراً مزدوجاً خلال حرکة تأمیم النفط. وقف في البدایة إلی جانب الحرکة الوطنيّة ولکنّه غیّر موقفه عشیّة الإنقلاب الأنكلو-أميركي في العام ١٩٥٢ وإنحاز إلی الشاه.
- تیّار سلفيّ إرهابيّ بزعامة نوّاب صفوي الذي یطالب بإجراء الشریعة ویستخدم أسلوب الاغتیالات لتصفیة معارضیه، ومنها محاولة اغتیال الدکتور فاطمي وزیر خارجیّة مصدّق والمؤرّخ الإیرانيّ الشهیر أحمد کسروي، وعدد من رؤساء وزراء الشاه أیضاً.
عام ١٩٤٤، أسّس محمود الطالقاني مع محمد مطهري وعلي شريعتي «حركة عباد الله الاشتراكيّين» عام ١٩٤٤ التي تقول بأنّ الإسلام عقيدة عالميّة، قادرة على تقديم أجوبة لكلّ قضايا الشعوب المضطهدة. وقد ارتكزت عقيدتها على الاشتراكيّة بما هي نظام اقتصاديّ ينافح عن العدالة الاجتماعيّة والتوحيد في الفلسفة. وأبرز مقولات الحركة أنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة لوسائل الإنتاج هو أسرع طريق لوأد الاستغلال والفقر والحرمان. وقد جهرت الحركة بخلافها مع الماركسيّين بسبب نزعتهم الماديّة في الفكر وإن كانت تستدرك بأنّهم مثاليّون في الأخلاق (علي راحنيمه، طوباوي إسلامي: سيرة سياسيّة لعلي شريعتي، لندن،٢٠٠٠ص٢٦) وكان الطالقاني قد كتب مقالة بعنوان «الإسلام والمُلكية» دافع فيها عن فكرة الملكيّة الجماعيّة على أنّها بمثابة ركن من أركان الدين في الإسلام. ومن مؤلّفاته في تلك الفترة أنّه أعاد نشر كتاب « تنبیه الأمّة وتنزیه الملّة» لآية الله نائيني، مع تقديم وتعليقات. وآية الله نائیني من قادة ثورة العشرین في العراق ومن منظّري الثورة الدستوریّة في إیران. ویعدّ کتابه أوّل وثیقة فقهیّة في الدفاع عن الدولة الدستوريّة وخوض الصراع الفکري والفقهي ضدّ المراجع الدینیّة المؤیدة للاستبداد وعلی رأسهم الشیخ فضل الله نوري. وأغلب المدافعين عن ولایة الفقیه في إیران الآن هم من أنصار هذا الأخير.
ومع انتصار الثورة الدستوريّة كثّف الإمام الطالقاني نشاطه من أجل نشر « إسلام آخر» یؤیّد الديمقراطیّة والحرکة الوطنیّة، ودعا إلى التمسّك باستقلال إيران وحقّها في تقرير المصير وفي اعتماد سياسة عدم الانحياز التي ينتهجها ناصر ونهرو وسوكارنو وغيرهم. وأيّد بحماسة تأميم النفط، وقال «لا نريد النفط لنجوع، ولكن لكي نعيش مستقلّين أحراراً». وقد أسّس مع الدکتور سحابي والمهندس مهدي بازرکان حركة «نهضة الحريّة».
وبعد الانقلاب الأميركيّ الذي أعاد الشاه واستشراس الحكم الفرديّ الديكتاتوريّ وجهاز السافاك الرهيب، مال الطالقاني إلى الاعتقاد بأنّه لا بدّ من العمل المسلّح لإسقاط النظام. ولمّا انتقل قسم شباب «نهضة الحريّة» إلى خيار حمل السلاح العام ١٩٧٠ وتشكّلت منهم «منظّمة مجاهدي الشعب»، رعاهم وكان بينهم العديد من تلامذته. وكان الطالقاني شديد الإعجاب بماو تسي تونغ وفيديل كاسترو. ويروي علي شريعتي عنه هذه النادرة: ذات مرّة سأله أحد الطلبة عن رأيه بعمليّة مسلّحة في قرية سياحكال ضدّ مركز للدرك في تموز/يوليو ١٩٧٠. أعلنت العمليّة بداية الكفاح المسلّح لإسقاط نظام الشاه، وانبثقت منها منظّمة «فدائيّي شعب إيران» الماركسيّة اللينينيّة، أجابه شريعتي بنادرة قال: «في طريقه إلى المنفى قضى الإمام الطالقاني ليلته في مشهد. خلال إقامته القصيرة تلك، سئل عن رأيه في ما إذا كان فيديل كاسترو سوف يذهب إلى الجنّة أم إلى النار. أجاب طالقاني على السائل الفضوليّ: إن لم يصعد كاسترو إلى الجنّة، فكيف لكائن هزيل مثلك أن يصعد إليها؟ وما إن روى شريعتي النادرة، حتى غادر المكان» (راحنيمه، ٢٦٢)
كان منفاه في بلوشستان ثمّ في كرمان قبل أن يُعتقل العام ١٩٧٥ ويبقى في السجن إلى حين انتصار الثورة الإسلاميّة. خلالها أعلن الطالقاني تأييده لحركة الإمام الخيمني. ولمّا خرج من السجن بدأ التعاون بينه وبين آية الله خميني الذي لَقّبه بـ«أبي ذرّ زمانه» وكلّفه بأن يؤمّ صلاة الجمعة في طهران ودعاه إلى ترؤس «مجلس قيادة الثورة الإسلاميّة» السري. ولمّا تشكّلت حكومة مهدي بازركان تولّى الطالقاني منصب نائب رئيس الوزراء فيها. وانتخب الطالقاني نائباً عن طهران في مجلس الخبراء الأوّل. وتولّى عدّة مهمّات حسّاسة خلال تلك الأشهر الحاسمة، منها التفاوض مع الحركة الكرديّة، والوساطة مع «منظّمة مجاهدي الشعب». بدأ الخلاف بينهما في نيسان/أبريل ١٩٧٩ حول موضوع ولاية الفقيه وقضايا الأقليّات والقضيّة الكرديّة وحقوق المرأة خصوصاً. لكنّ محور الخلاف دار مدار طبيعة السلطة، فقد عارض الطالقاني ولاية الفقيه واقترح صيغة للحكم تقوم على سلطة المجالس الشعبيّة تشارك فيها كلّ القوى التي شاركت في الثورة. خلالذاك، اعتقل حرّاس الثورة ولديه بتهمة الشيوعيّة والانتماء إلى «منظّمة مجاهدي الشعب». خلفه آيه الله منتظري في رئاسة مجلس قيادة الثورة وليس معروفاً ما إذا كان استقال من ذاك المنصب أو أقيل.
توفّي الإمام محمود الطالقاني في ظروف غامضة في طهران في ٩ سبتمبر/أيلول ١٩٧٩ ودفن في مقبرة بهشتي زهراء.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.