الجمعة في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1966. إنه عيد مولدي. اليوم أبلغ التاسعة والعشرين من العمر. أنا واقف في ميدان التحرير داخل سور صنعاء، بانتظار أن أشهد أوّل عملية إعدام بالرصاص في تاريخ اليمن، وتحت راية الأمم المتحدة أيضاً. لقد طلبت مني المخابرات المصرية ذلك، وأنا جهزت نفسي لهذه اللحظة، أو قل حاولت، متجنباً التفكير في الأمر. إنها المرة الأولى لي، وسوف تكون الأخيرة.
من السيف إلى الرصاص
وعليّ الاعتراف بأن هديّة المخابرات الناصرية هذه ستظلّ مشهداً لا ينسى في ذاكرتي. لقد قرأت عن بعض الإعدامات رمياً بالرصاص في مجلّدات التاريخ وكتب السياسة والصحف، لكنّي لم أتوقّع قطّ أن أكون في أحد الأيام شاهداً على واحد منها. قالوا لي إنني لن أكون الصحافي الوحيد، بل سيكون معي ثلاثة صحافيين مصريين. كان في ذلك بعض العزاء لي وشيء من الألفة. لكنّ هذا عنى أيضاً أنّني سأكون الصحافي الأجنبي الوحيد بين الجميع. كانت كاميرتي الصغيرة تتدلّى من عنقي. وضعتُ يدي عليها قليلاً كما لو أنني أتماهى مع جمودها وآلية عملها الحيادية في كل الأوقات والمناسبات والظروف، ثم تناولت سيجارة ودخنتها، متأملاً اليمنيين الذين احتشدوا في المكان، وقد بدت عليهم الحماسة. لقد اعتاد اليمن الإعدامات، إلا أنه لم يشهد إعداماً بالرصاص. قبل الثورة عام 1962، كان الإعدام يُنفّذ بالسيف. يعطي الإمام أحمد الذي كان يحكم اليمن وأغلق البلاد وعزلها عن أية بعثة دبلوماسية أجنبية أو أي سفراء، الأمر، فيُقطع رأس المُدان بالسيف، ويُعلَّق على أسوار البوّابات ليصبح الرأس الجاف من الدم ناقوساً يقرع في ذهن كل مواطن يحاول الاعتراض على الحكم أو الإمام أو توجيه أقلّ انتقاد إليه.
كنت أريد أن ينتهي كل شيء بسرعة، أو يؤجّل مرة واحدة وإلى الأبد، كما يقولون بالإنكليزية. أنا لا أعرف أحداً من المحكومين السبعة، ولم أقابل أياً منهم. إلّا أن فكرة أنّ شخصاً ما سيفقد حياته أمامك، وأنّك ستواصل المضيّ في حياتك، وستمرّ بنفس الميدان الذي أعدم فيه، لم تكن يسيرة عليّ، إذ إنني لن أغادر صنعاء مباشرة. ورحت أفكر في الصحافيين الذين اشتهروا بتوثيق عمليات الإعدام حول العالم. لا شكّ في أنّ لهم قلوباً من تركيبة خاصة جداً. مهما يكن، فإن عليّ الآن أن أتصرّف كما لو أنني واحد منهم الآن، موثّق إعدامات حقيقي. أطفأت سيجارتي ولاحظت أن يديَّ ترتعشان قليلاً. كان واضحاً أنني لا أزال مضطرباً، وقد اقترب موعد وصول المحكومين إلى الميدان. إلا أن أحداً لم يكترث بأمري، فأنا لست الحدث هنا، ولا شيء فيّ يسترعي انتباه الناس ورجال المخابرات إلا كاميرتي. وقد بذلتُ كل جهدي لكي أرفع من رباطة جأشي وأموّه كل الارتباك الذي ألمّ بي. لقد أتيت إلى اليمن مدركاً أن المشهد السياسي في غاية التعقيد، خاصة في ظل الانقسامات والانقلابات وتدخّلات مصر بقوّات عسكرية ولوجستية، والسعودية بشحنات كبيرة من الأسلحة، وأن هناك دماً يسيل في الشوارع وعلى الجبهات ودماً يسيل دون أثر في الاجتماعات والمؤتمرات المتعلّقة باليمن. إذن، ينبغي لي أن أكون ثابتاً وسريعاً. ألتقط أكبر عدد ممكن من الصور في أقصر وقت ثم أغادر الميدان. فبلا شك، سينتهي الأمر في لحظات. ستخترق الأعيرة النارية الخاطفة أجساد المحكومين، يتهاوون، نلتقط الصور والملاحظات، ثم يهدأ كل شيء. وننصرف.
وصل المحكومون السبعة إلى الميدان في سيارة عسكرية مصفّحة، وعلى رأسهم الزعيم القبلي محمد الرعيني، وقد كانوا جميعاً من الزعماء القبليين ومسؤولين في حكومة الرئيس عبدالله السلال، الذي قاد انقلاب اليمن على الملكية عام 1962، والموالي لجمال عبد الناصر. وقفت المصفحة في الميدان، وتقدّم منها سيّاف الدولة، على جري العادة منذ أيام الملكية، فأنزلهم من المصفحة واحداً تلو الآخر وألقاهم على الأرض. كانوا مكبّلين بالسلاسل. ثم تقدم منهم نقيب يمنيّ وأطلق النار عليهم من مدفع رشاش. البعض أصيب في الظهر، والبعض الآخر في الرأس. قتل السبعة على الفور. كانت تهمتهم الخيانة. ورغم أنني حاولت أن أهيّئ نفسي جيداً للحظة الإعدام هذه، إلّا أن الكاميرا اهتزّت كثيراً في يدي بينما كنت أصور. كنت مرعوباً وخائفاً ولم أعرف أين بالتحديد أركّز الكاميرا. فأنا كنت على بعد خطوات فقط من رصاص السيّاف والجثث التي تراكمت والدماء الساخنة تفور منها. وكنت في الوقت عينه أفكر في السبق الصحافي الذي سيتحقق في "النهار".
ممنوع من التصوير
لم تستمرّ عملية الإعدام أكثر من ربع ساعة. اهتاج بعدها اليمنيون بعد أن كانوا مجرّد متفرجين متحمسين. هاجموا الجثث السبع وسحلوها في الشوارع، وصولاً إلى مقرّ الجانب السعودي في لجنة السلام. وما هي إلّا دقائق حتى كانت الجثث قد باتت معلّقة على باب السور، في رسالة مصرية إلى السعوديين. لكنّي لم أرَ الصور التي التقطتها، ولم أعرف إذا كنت فعلاً التقطتها كما يجب. إذ ما إن انتهى هرج الحشود، حتى تقدّم مني ضابط مصري بذراع اصطناعية اسمه على ما أذكر العميد القاضي، وطلب مني تسليمه الأفلام التي صوّرتها والكاميرا أيضاً. أتلف الأفلام وأعاد إليّ الكاميرا. لم أكن مستوعباً تماماً ما كان يجري، خصوصاً أنّه لم يصادر أياً من الصور التي التقطها الصحافيون المصريون الآخرون. فهمت منه أنني الوحيد بين الجميع الممنوع من التصوير، إذ إن ما جرى يجب أن يبقى بعيداً عن الصحافة. فليكن مجرّد خبر. سوف يتكفّل نظام عبد الناصر لاحقاً بتفنيده، متذرعاً بعدم وجود أية صورة تبرهن صحة كلام الصحافي. وهو ما قد يفسّر عدم نشر أيَّ من الصور التي التقطها الصحافيون، وربما ما زالت محفوظة في ملفات اليمن لدى أجهزة الاستخبارات المصرية. كنتُ آنذاك صامتاً، لا شيء لديّ لأقوله أو لأعترض عليه. وأحسست كما لو أنّ العالم صمت ولم يبق فيه سوى ذراع الضابط الاصطناعية التي رحت أتمعن فيها، فقال لي دون أن أحاول الاستفسار منه عن الأمر: "لقد فقدتها قبل سنة هنا، في حرب اليمن". تلك الحادثة كانت ما جعلني أدرك أن التصوير الصحافي ليس مهنتي.
تعزّ والقات وأمين الريحاني
وصلتُ إلى اليمن في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1966. كانت قد مرّت أربع سنوات على الثورة على الإمام أحمد وبعده ابنه الإمام البدر. كنت أنوي الذهاب إلى صنعاء. ركبت الطائرة من أسمرة في إثيوبيا، وكانت تلك الطائرة هي الوحيدة التي يملكها اليمن في ذلك الوقت. أي إنها شكلت وحدها كل ما يمكن تسميته الخطوط الجوية اليمنية. اشتراها الإمام أحمد في أواسط الخمسينيات، لتغدو القناة الوحيدة بين اليمن والعالم. ولعدم توافر طائرة غيرها، باستثناء طائرة أخرى تطير مرة في الأسبوع من جيبوتي إلى تعز ويقودها طيار فرنسي هرم من مخلفات حرب الهند الصينية، كانت الطائرة تعمل بعقلية باص، إذ تتوقف بحسب الركاب. أقلعنا من أسمرة، وبعد نحو ساعتين ونصف ساعة، هبطت الطائرة في الحديدة، لأن هناك ركاباً يريدون النزول هناك. لم يكن لديّ أي خيار سوى أن أذعن وأنتظر حتى تعود وتقلع من جديد. كنت أظنّ أنها ستتجه إلى صنعاء، إلّا أنها بعد أن أقلعت من الحديدة هبطت في تعز. نهض الركاب عن مقاعدهم، ونزلوا من الطائرة. أمّا أنا فبقيت جالساً. تقدّم مني أحد أفراد الطاقم ليخبرني بأنّ تعز آخر محطة اليوم، "لكنّني ركبت الطائرة لا لآتي إلى تعز، بل لأنّني أريد الذهاب إلى صنعاء"، قلت. لكن الطائرة لم تكن لتستطيع الإقلاع من تعز إلى صنعاء براكب واحد، فبقيت في تعز. وكان عليّ أولاً أن أجد أمتعتي التي اختلطت بصرر ثياب الركاب الآخرين وسلال الفاكهة والخضرة والقات.
لم أكن أعرف شيئاً عن اليمن، سوى ما كتبه صحافي ذكي و"ريبورتر" قدير هو أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب". وفي المطار، انتشرت طائرات الميغ المصرية، فضّية اللون، التي كانت تلمع تحت وطأة الشمس. وكان بعضها يحلّق وبعضها يهبط بين أكواخ خشبية وخيام عسكرية في المطار، أبرزت جواز سفري السوري لضابط الأمن، الذي أبدى استغرابه سائلاً "أنت آتٍ من لبنان؟ ما الذي جئت تفعله في تعز؟"، سألني من باب الفضول لا التحقيق، خاتماً جواز سفري بابتسامة ودودة. قال لي إنه لم يأتِ من صحافيي لبنان إلى اليمن قبلي إلّا واحد بقي لعدة أيام بعد ثورة عام 1962.
كان الوقت ظهراً، وبعد أن ناولني الضابط جواز سفري، تقدّم مني شاب وسارع إلى حمل أمتعتي إلى التاكسي. كان يضع خنجراً كبيراً على خصره، ما جعلني أتجنّب المجازفة بإعطائه بقشيشاً قليلاً. اليمني لم يفترق عن خنجره منذ أيام بلقيس ملكة سبأ. "إلى أين"؟، سألني سائق التاكسي. "إلى أقرب فندق"، قلتُ. "ليس هناك في تعز كلها إلا فندق واحد، "فندق الأخوة"، سآخذك إليه"، قال. في الطريق، لاحظت أن سائق التاكسي يمضغ شيئاً ما، ويبقيه داخل فمه مكوّراً بين خدّه وأسنانه، وكان يقود بسرعة لا تتناسب والطريق الترابية. أدركت أنّ ثمّة شيئاً ما غير عادي، فسألته: "لماذا تقود بهذه السرعة؟ أنا لست مستعجلاً". أجاب "لكنّي مستعجل. لقد تأخرت، الساعةُ الثانيةَ عشرة ظهراً، وعليّ أن ألحق حفلة التخزين". لم أشأ أن أزيد في السؤال، ولم أفهم ماذا عنى بكلامه. لكنّي علمتُ لاحقاً أنّ اليمنيين يبدأون بالتململ بعد الثانية عشرة ظهراً، فدوام العمل ينتهي عند فترة الغداء، وينصرف العامّة بعدها إلى "التخزين"، أي مضغ القات، مُدخلين مدينة تعز في حال من الشلل التام. فتعزّ لديها علاقة خاصة مع القات الذي يأتيها من جبل "صبر" المشرف عليها والمحيط بها، و"صبر" مصدر لأجود أنواع القات وأكثره فاعلية في العالم. فاليمن كما سيخبرني لاحقاً وزير اقتصاده محمد سعيد العطار، يضيّع نحو ثلاثة مليارات ساعة عمل في السنة، بسبب القات.
قبل الثورة، كانت الإقامة الوحيدة المتاحة للأجنبي في صنعاء هي بيت الضيافة. دار قديمة، لا يمكن الزائر مغادرتها إلا بإذن الإمام الذي يحدد أيضاً موعد سفرك، لذلك بدت الإقامة في فندق "الأخوة" في تعز إحساساً حقيقياً بالحرية. وكان الفندق مفخرة السياحة اليمنية. عمارة من الباطون، يُتباهى بأن فيه حماماً و"دوشاً"، وكانت لائحة الطعام فيه لا تشتمل إلا على البيض المقلي وطبخات يمنية، كان من بينها لحم غنم مسلوق بحلّة كبيرة بالبهارات يقدَّم مع خبز لذيذ جداً. ولأنّ الفندق يقع على قمّة جبل عال، فقد بدت تعز من غرفتي كأنّها مدينة من الورق.
غير أن أول ما لفت نظري فعلياً في اليمن، كان أنّ العرائض والطلبات الرسمية تكتب من تحت إلى فوق. واحدة من العادات القليلة التي ابتكرها الإمام خلال حكمه، وتوارثها الثوار من بعده. إذ لم يرُقِ الإمام أن يكون توقيعه في أسفل الورقة، فأمر بتغيير الكتابة كلها، وبدلاً من أن تظلّ من فوق إلى تحت كسائر لغات العالم تقريباً، قَلَبها لتصبح من تحت إلى فوق، وبذلك يعتلي توقيعه القمة. رأيت ذلك أول مرة في بيت المحافظ الذي ذهبت لمقابلته في تعز قبل توجهي إلى صنعاء. أتذكّر أن بيته كان يقع أعلى درج لولبي ضيّق وقذر، ولم تكن هيئته توحي بمكانته. وفيما فوجئت بأنه هو المحافظ، فوجئ هو بأنني صحافي من لبنان، إذ أثار ذلك دهشته. وبعد دقائق على بدء الحوار الصحافي معه، تنبّه إلى الوقت قائلاً: "لا يمكنني الاستمرار. إنه وقت التخزين. فلنستكمل المقابلة في المساء".
لا بدّ من صنعاء
مكثتُ بضعة أيام في تعز، ثم ركبت الطائرة القديمة نفسها متجهاًإلى الحديدة. ومن هناك استقللت سيارة لبلوغ صنعاء، بما أن بلوغها جواً يبدو مستحيلاً لقلة عدد الركاب. كان الحر في الحديدة شديداً، ولم يكن اختراع التكييف قد وصل إلى اليمن بعد. وكانت نسخة أخرى من فندق "الأخوة" بانتظاري. رأيت الناس يسيرون في الشوارع وفي أيديهم مناشف لتجفيف العرق. وفي اليوم التالي قبل الظهيرة، ركبت سيارة أجرة. كان عليّ أن أبلغ صنعاء قبل المغيب، إذ بعد السادسة مساء يصبح السفر بين صنعاء والحديدة ممنوعاً. استغرقت الطريق من الحديدة إلى صنعاء خمس ساعات، وكانت الطريق الوحيدة المعبدة في كل اليمن في ذلك الوقت. شَقّها الصينيون أيام حكم الإمام.
كانت صنعاء من أجمل مدن العالم في ذلك الوقت. عماراتها الأيقونية وسورها القديم رسما ملامحها الأقوى. ظننتُ أنني أنظر إلى مدينة خارجة من رسوم أحد الكتب القديمة المجنّحة. صنعاء كانت تستحقّ الانتصار في تلك الحرب.
بعد أن هبطنا في مطار الحديدة، ألقيت حمولة الطائرة مباشرة على الرمال التي كانت تكسو أرض المطار الصحراوي. وساد الهرج واختلط الركاب بضباط الأمن ورجال الجمارك، حتى لم يعد بالإمكان تمييز أي منهم، إذ كان المطار يعجّ بالطائرات الحربية اليمنية، وقد استقرّت في الحديدة خوفاً من ضربها في صنعاء. كان من بينها تسع طائرات نقل سوفياتية طراز "أنطونوف" رفعت العلَم الأحمر. أخذت أمتعتي من كومة الحقائب، وركضت مباشرة إلى طائرة "داكوتا" مجاورة ستنطلق إلى صنعاء فور أن تمتلئ بالركاب. كان الناس يتدافعون إليها، ومن يصل إليها أولاً يكن بإمكانه ركوبها، وإلّا بقي في الحديدة. كان الناس يلقون بأمتعتهم فيها ويرفع بعضهم بعضاً إليها. وبهذه الطريقة، أصبحت داخل الطائرة.
صنعاء قريبة من الحديدة، والرحلة لم تستغرق سوى ساعة واحدة. وإلى هذه اللحظة، لا يمكنني أن أنسى منظر صنعاء محاطة بأربعة جبال شاهقة في مشهد ساحر. أما أبواب صنعاء القديمة، فكانت قد هدمت بفعل الحرب، باستثناء واحد، الباب الحجري وهو الباب الذي تعلّق عليه الرؤوس بعد إعدام أصحابها. لقد شهدت المدينة بعض التغييرات في مظاهرها. ازداد عدد المقاهي مثلاً، حتى أن واحداً منها، وهو "مقهى ساحة التحرير" يذيع أغنيات أم كلثوم كل ليلة. غير أن المحلات التجارية بدت مقفرة، فالزبائن المصريون رحلوا، وهم من كان يشتري الكاميرات والسخانات والبرّادات والترانزيستور.
لفت انتباهي في العاصمة تفشّي المظاهر المسلّحة. كان كلّ مواطن تقريباً مسلحاً بصورة متطرّفة. يمشي في الشارع حاملاً رشاشاً وبندقية، وعلى خصره مسدس وعشر قنابل يدوية أحياناً، ويحيط بصدره ما بين خمسمئة وألف رصاصة موزعة في أمشاط. إلى جانب ذلك، فإن الوجود الصيني الذي بدأ مع الإمام، لم يتأثر بالثورة. فالصينيون لم يتدخّلوا بأيّ شكل من الأشكال. وبفضل ذلك، كان المواطن اليمني يكنّ لهم احتراماً خاصاً، ويبدي ارتياحاً في التعامل معهم. لقد شقوا الطرق، ومنها طريق الحديدة – صنعاء، التي كانت سبباً رئيساً في اندلاع الثورة، إذ تمكّن الثوار عبرها من تأمين الأسلحة من ميناء الحديدة إلى صنعاء. أنجزها الصينيون بأقل من ثلاث سنوات، نكاية بالأميركيين الذين جزموا بأنّ شقّ طريق كهذه سيستغرق وقتاً أطول من ثلاث سنوات، ثم بنوا مصنعاً للنسيج.
وبفضل ذلك المصنع، كانت تلك المرة الأولى التي تعمل فيها المرأة في تاريخ اليمن. ورغم كل هذه الخدمات التنموية التي قدَّمتْها، إلا أن الصين لم تستطع أن تؤثر إيديولوجياً في المجتمع اليمني. صحيح أن كل يمني تقريباً، كان يضع على صدره أزراراً حمراء معدنية عليها رسم ماو تسي تونغ، لكن ذلك لم يكن إيماناً بنهج تونغ أو فكره، بل لأن اليمنيين أحبوا أن يتزينوا بأشياء برّاقة.
عدن الحرب الأهليّة
من صنعاء توجهت إلى تعز، حيث الناس أكثر هدوءاً، ولم يكن الزائر سيصفعه مشهد السلاح المنتشر كما في صنعاء. غير أن الجميع كان مشغولاً بحديث الوحدة اليمنية. ذكّرني ذلك ببيروت وشعارات الوحدة العربية فيها. وبعد تعز، انتقلت بالسيارة إلى عدن، عبر طريق وعرة وطويلة استغرقت ما بين ستّ وثماني ساعات. كان على السيارة أن تتوقّف عند أكثر من ستّ نقاط تفتيش، وفي الطريق، ما إن يعرف الناس أنني متّجه إلى عدن، حتّى يقتربوا ليكتبوا بأصابعهم على غبار السيارة كلمة "قلوسي"، وهي الأحرف الإنكليزية لاسم جبهة التحرير، أحد أحزاب الجنوب. لقد كانوا من أنصار جبهة التحرير، وقد طردتهم الحرب خارج عدن. غير أنّ دخول عدن لم يكن يسيراً. كانت المدينة تعجّ بالمتاريس ومراكز التفتيش البريطانية السابقة. التي ورثتها الجبهة القومية، وراحت تقلّد حد الاستنساخ طريقة بريطانيا القاسية في إحكام السيطرة على المدينة والناس.
عدن، المكان الوحيد الذي زارته الملكة إليزابيث من بين كل المدن العربية، كانت الآن أشبه بمدينة مهجورة، العديد من دكاكينها ممشط بالرصاص والقنابل، والحيطان ملونة بشعارات الجبهة القومية وجبهة التحرير على السواء. لقد كان هناك حرب أهلية بين هاتين الجبهتين اليساريتين اللتين تقاتلتا على تركة الاستعمار، بعد الانسحاب البريطاني واستقلال الجنوب اليمني تحت مسمى "جمهورية اليمن الشعبية". كانت ملامح الحرب الأهلية في الشوارع والأزقّة مختلطة بآثار الزينة التي بقيت من احتفالات الاستقلال. وكانت البيوت في عدن مقفرة. لكنّها كانت لا تزال مضاءة من الداخل، كما لو أن البريطانيين نسوا أن يطفئوها أو أن يقولوا للوطنيين أين تكمن أزرار الإنارة. كانت الجبهة القومية تبسط سيطرتها على المدينة، غير أن جبهة التحرير كانت تُعِدّ العدّة لجولة حرب جديدة، بزعمائها الفارّين إلى تعز وجمهورها الذي لاحق سيارتي ليخطّ عليها رسالته إلى الجبهة القومية. فالحرب بالنسبة إلى اليمني حرفة مثل أية حرفة أخرى. واليمنيون لديهم ضمن رقصاتهم، رقصة الحرب التي توارثوها من جيل إلى جيل. لكنها في الجنوب أصبحت بحاجة إلى النقود والسلاح والتأييد.
أطول بار والبريطاني الأخير
في زيارتي الأولى لعدن عام 1966، ذهبت لمقابلة المندوب السامي البريطاني السير ريتشارد تورنبول الذي كان لقبه "الدوق الحديدي". أتذكر أن موظفاً بريطانياً رافقني من مدخل فندق كريسنت (الهلال)، وهو الفندق الذي أقامت فيه الملكة إليزابيث خلال زيارتها عدن، واشتهر بأن فيه أطول بار في العالم.كان اسم الموظف دافيد روز. وفي الطريق قال لي: "إذا عدت إلى عدن عند الاستقلال، فقد لا تجد فيها من يستقبل الصحافيين، لأن عدن ستكون مشغولة بين الابتهاج بالاستقلال والبكاء على ضحاياه". كان صوته مليئاً بالسخرية واللؤم. فقد كان يعرف أن البريطانيين يخططون لإشعال فتيل الحرب بين اليمنيين قبل الرحيل بأسرع ما يمكن. غير أن روز لم يتوقّع أنه كان يتحدث عن نفسه في شق من الجملة التي قالها لي، ذلك أن أحد اليمنيين المناهضين للاستعمار، أطلق عليه رصاصة أصابته في ظهره، أمام مدخل الفندق، ليصبح روز واحداً من آخر قتلى البريطانيين خلال فترة الاستعمار.
تذكرت كلام روز وأنا أجول في عدن الآن. لقد بدت أشبه بمسرح صامت للرعب والخراب المنتظم. مسرح لا ينقصه سوى حبكة يكتبها ألفرد هيتشكوك ليجعل رعبه نابضاً. لقد كانت الجثث منتشرة في الشوارع، تنهشها الكلاب ولا تجد من يدفنها. ولم تعد عدن تلك المدينة التي فيها أناس من أكثر من ثلاثين جنسية مختلفة. لقد أقفل فندق كريسنت، في خطوة غبية بعد الاستقلال، واستولى اللصوص على المتاجر، وأصبحت كل بيوت المدينة مدموغة بفجوات الرصاص والقنابل. كل باب وكل واجهة كذلك. حتى إن بعض القنابل التي لم تنفجر، كانت أمام البيوت والفنادق. أما الكنيسة التي بناها الإنكليز على الطراز الغوطي، فقد تحوّلت إلى مقر لمجلس النواب على ما أعتقد. عدن لم تعد تشبه ذاتها في شيء. إذ اختلفت نتيجة المعارك عما كانت عليه قبل عام. كل سفن العالم كانت تمر بمرفأ عدن في ما مضى. وكان ميناؤها من أهم الموانئ. أمّا بعد الاستقلال، فقد غادرها قرابة مئة ألف مواطن هرباً. لقد خلفت بريطانيا أكبر عملية فوضى في تاريخها الاستعماري بعد فلسطين، ثم انسحبت. لتختم بذلك تاريخاً طويلاً من استعمار القوى لليمن، من الرومان والفرس، إلى البرتغاليين والأتراك والمصريين. وجميعهم غادروها مهزومين.
دول حضرموت وعمارتها
توجهت بعد عدن إلى وادي حضرموت. إنه وادٍ كبير، جفّ نهره منذ نحو قرن، ويشكل النخيل جلّ خضرته. تُزنِّره جبال متقاربة من الجهتين. أمّا مدنه، فبدت أشبه بالخرافة، في انعزالها وهدوئها، رخائها وبساطتها. فهي ليست محاطة إلا بواحات كبيرة من النخيل، وأبنيتها أشبه بناطحات سحاب من الطين. لم أتوقع أن أجد في حضرموت ما يثير اهتمامي. حطّت الطائرة في مطار صغير وسط الوادي، وسط الصحراء، تابع لقرية غراف الصغيرة والواقعة بين مدينتي سيؤون وتريم. شعرت لوهلة بأن ما يحدث ليس حقيقة وأنني أتوهم، ربما لفرط ما رأيت من جثث وخراب في عدن. لكن كل شيء كان هادئاً هنا، منعزلاً وبسيطاً كحلم. في غرفة من الطين مطلية بالأبيض، سألني الموظف بلباقة لافتة وهو يتفحص جواز سفري: "أين تأشيرة الدخول التي منحتك إياها الدولة الكثيرية؟". "الدولة الكثيرية؟ أنا لم أسمع بهذه الدولة من قبل"، قلت. إلا أنه لم يعلّق. وضع جواز سفري بين أوراق أخرى لمسافرين اكتظّت بهم الغرفة مع أمتعتهم، ثم سألني بلطف: "هل جئت بهدف الزيارة أم العمل؟". "العمل؟"، جاوبت مستغرباً، إذ إنه آخر مكان يمكن أن يتخيل المرء أنّ فيه عملاً.
كنت الآن أدخل سلطنة صغيرة، سلطانها بعيد يعيش منذ أكثر من عشر سنوات على جزيرة سقطرة، تحيط بها دولة غنية نسبياً تسمى الدولة القعيطية، ودولة المهرة التي ليست لديها لغة رسمية بعد، وجبالها غنية بالنفط، ولها قبائل منتشرة بين عاد وثمود، بعضها لم يسمع بالإسلام ولا يتكلم العربية. ولم أكن قدسمعت بأيّ منها من قبل.
أوصلتني سيارة لاند روفر من المطار إلى مدينة سيؤون، التي بدت كما لو أنها تعيش بعداً آخر خارج الحرب والدم والصراعات التي كانت تدور في جارتها عدن. كانت أشبه برسمة بيوت ملونة حمراء وخضراء وزرقاء وبيضاء، ذات هندسة محلية خاصة، مصنوعة من الطين فقط، لا حجر فيها أو إسمنت. بيوت قد ترتفع إلى عشر طبقات. كما لو أنك في حكايات ألف ليلة وليلة، وتفصل بينها شوارع نظيفة. رغم كل ذلك، كنت لا أزال غير مصدّق. سألتُ السائق عمّا إذا كان هناك فندق، فأجاب: "بالتأكيد". كان فندق سيؤون أجمل فنادق اليمن وأكثرها رقيّاً. غرف صغيرة، يحيط بها النخيل وواحات ماء صغيرة للسباحة. كان كل شيء مهيَّاً ليناسب الشعراء. ويجدر القول إن المدينة لا تزال إلى الآن تحتفظ بتقليد مبايعة الشعراء، إذ تختار منهم واحداً ليكون شاعرها الرسمي.
وضعت أمتعتي في غرفة الفندق ونزلت إلى شوارع سيؤون. كنت متحمساً لاكتشافها. التقطت عيني قصر السلطان الذي لا يمكن المرء أن يخطئه. صرح ضخم يعتبر إلى الآن من معالم حضرموت، من خمس وأربعين غرفة، فوق هضبة تُطل مباشرة على السوق والباعة.
كانت التجارة التي تميز سيؤون في ذلك الوقت هي بيع الصور. صور لسلاطين ذابت أسماؤهم، ومعها صور لزعماء مثل عبد الناصر، وأيوب خان وشاه إيران وفرح ديبا والملكة إليزابيث. دخلت أحد الدكاكين التي تبيع صوراً كهذه. وقال لي البائع: "يمكنك أن تطلب صورة لأيّ كان وستجدها هنا". ابتسمت. وبعد تفكير قصير قلت له: "حسناً، عنترة بن شداد". فأخرج لي صورة فارس أسود يمتطي حصاناً ويرفع سيفه موشكاً على قطع رأس فارس يبارزه. لم يكن هناك دليل على أنها صورة عنترة بن شداد، مع ذلك احتفظت بها ولم أطلب صورة غيرها.
سكان حضرموت لم يكونوا يعدّون أنفسهم جزءاً من اليمن. كانت علاقتهم باليمنيين قد توقفت منذ قرنين ونصف قرن من الزمن، ومالوا مع الوقت نحو الشرق الأقصى، وأصبحت لهم عادات مختلفة. في مدينة تريم التي وصلتها باللاند روفر، وكان لها باب ضيّق احتشدت خلفه عمارات شاهقة من الطين، رأيت حشداً من الناس كانوا يطلقون النار في الهواء ابتهاجاً. فقد اصطادوا عدداً من الغزلان التي علّق الفتيان رؤوسها على حراب ورفعوها في الهواء، في تقليد قديم. غير أن ما أثار انتباهي فيها هو كثرة المساجد. سألت مرشدي الحضرمي عنها، فقال: "لدينا في تريم 365 مسجداً. أي إن كل يوم من أيام السنة له مسجد. والسبب في ذلك أن أثرياء حضرموت يوصون ببناء مسجد على أرواحهم، بدلاً من أن يبنوا مدرسة أو مستشفى. أرجو أن يتغير الحال". بعد تريم، زرت مدينة المكلا، نافذة حضرموت على البحر والعالم. لم يكن الوصول إلى هذه المدينة ممكناً إلا عبر طريق تمرّ عبر منحدر جبلي ضيّق. ركبت الطائرة أولاً من عدن إلى الريان، القرية الصحراوية المتاخمة للمكلا، ومن هناك كان عليّ أن أستقلّ لاند روفر لبلوغ المكلا، وكان معي زميل أجنبي. لكنّنا لم ننطلق باللاند روفر إلا بعد أن انتظرنا لقرابة ثلاث ساعات في الريان ريثما يتراجع المدّ، ويصبح من الممكن للسيارات السير بمحاذاة الشاطئ. عندما وصلنا، كان المدّ قد ترك آلاف الأسماك الملونّة على الشاطئ، التي كانت عجلات اللاند روفر تسير فوقها، فيما السلاحف تقف على مقربة متهيئة لالتهام السمك، والطيور البحرية تضرب بأجنحتها زجاج السيارة. كانت المكلا كما لو أنها مقطع من رحلة خرافية.
السلطان الأخير
كانت أمامي مهمّة أخيرة الآن، هي أن أقابل السلطان، سلطان الدولة القعيطية. كان أصغر سلطان في العالم في ذلك الوقت، قبل أن يضطر إلى التنازل عن عرشه في أيلول 1967 بعد أن بسطت الجبهة القومية اليسارية يدها على سلطنته لتجعل منه آخر السلاطين الذين حكموا الدولة القعيطية لنحو أربعمئة سنة. توجهت إلى قصره في المكلا، ولم يكن هناك من حراس على بابه سوى جندي واحد حافي القدمين وبين يديه بندقية عتيقة. لم يسألني "إلى أين؟" وأنا أعبر بوابة القصر. بدا كل شيء في غاية الهدوء، ثم ظهر شاب لاستقبالي. ظننت بداية أنه أحد العاملين لدى السلطان، إذ كان يحمل عصا من البامبو الهندي، ووقف على رأس درج من الخشب. عندما وصلت إليه صافحني وتحدث إليّ بلغة إنكليزية سليمة، قائلاً بصوت بالكاد أمكنني سماعه: "أنا السلطان". بدا مرتبكاً وهو يستقلبني كما لو أنني إنسان من عالم غريب. كان ينظر إلى الأرض ويفرك يديه ونحن نتحدث دون أن يرفع صوته. أخبرني أنّ والده كان سلطاناً وأمه ابنة عم حيدر أباد. يتكلم الأوردية وعربيته ركيكة. قال إنه تلقّى علومه في بريطانيا، وكان طموحه أن يدرس الفلسفة في أوكسفورد، إلا أن موت والده عوض حال دون ذلك. كان حزيناً وهو يحدّثني عن أحلامه بأن يواصل تعليمه. اختنق صوته وأحسست بأنه على وشك أن يبكي، فقد كان مجرّد شاب في الثامنة عشرة من عمره لا يفقه أي شيء في أصول الحكم أو السياسة.
عندما شعرت بأنه على وشك البكاء، انتقلت من مقعدي إلى الكرسي الذي بجانبه. قال لي إنه يريد أن يزيح عبء الفقر عن كاهل شعبه في القعيطي. تحدثنا قليلاً في السياسة، إلا أنه عندما جاء خادمه بالشاي غيرت الموضوع وانتقل الكلام إلى الكتب. لم يكن يطالع الشعر أو الرواية، وكان في ذلك الوقت يقرأ دستور سورية وكتاباً عن قراءة الكفّ. لم أسأله أي دستور من دساتير سورية بالضبط ذلك الذي يقرأه. لربما كان أكثر السلاطنة فقراً في العالم. فأي بيت في حيّ السراسقة في بيروت كان يحوي تحفاً أكثر قيمة مما في قصر السلطان كله. وبدا واضحاً أنه غير مدرك بعد أبعاد المأزق السياسي الذي سيكون عليه مواجهته. عندما خرجت من قصره، رحت أبحث في شوارع المكلا عن صورة له بين باعة الصور، إلا أن أياً منهم لم يكن يملك صورة لسلطان الدولة التي يعيش في كنفها. كانوا يقولون لي: "عندنا صورة لعبد الناصر أو للمشير عامر أو السلال، أما السلطان فلا". غير أن قصة بحثي عن صورة له وصلت إلى السلطان، فأرسل لي في صباح اليوم التالي صورة له عليها توقيعه. كانت تلك الصورة الوحيدة التي يمتلكها. غير أن قصتي معه لم تكن لتنتهي هنا. ففي بداية السبعينيات، حصلت على منحة دراسة في جامعة كامبريدج في بريطانيا. وفي أحد الأيام، فيما أنا جالس في المكتبة، تقدم مني شاب أسمر البشرة. قال: "ألست السيد رياض الريس؟"، أجبته: "نعم، أنا هو. من حضرتك؟"، فأجاب: "أنا غالب، السلطان الذي قابلتَه في المكلا قبل أعوام". "ما الذي تفعله هنا؟"، سألته. كان قد أصبح لاجئاً سياسياً بعد أن استولى القوميون على دولته، يتلقى راتباً من الحكومة البريطانية ويواصل تعليمه. ثم رأيته مرة ثالثة في الثمانينيات، عندما أتى لزيارة مكتبة الكشكول التي كانت تديرها زوجتي في لندن، لاقتناء بعض الكتب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.