قد تتراءى بوضوح ومنذ الوهلة الأولى، لكلّ من يحاول متابعة أعمال الموسيقيّ اللبنانيّ الكبير الرّاحل زكي ناصيف (1916ــ 2004)، أنّ للأخير «مَنْجَمَي» موسيقى كان يستقي منهما الطريقَ لصياغة تلاحينه الجديدة. فالأوّل، هو منجم أصيل خاصّ بتلك التقاليد الموسيقيّة المشرقيّة العربيّة الأصيلة وعلى رأسها مباشرة التقليد الموسيقيّ الشعبيّ اللبنانيّ/الشاميّ، أي ما يعرف بالتّراث الموسيقيّ اللبنانيّ/الشاميّ، وهو تقليد موسيقيّ كان قد تشرّبه ناصيف من جوانب اجتماعيّة طبيعيّة عاشرها في زمانه منذ نعومة أظافره. أمّا الثاني، فهو منجم «دخيل» حينها، كان ناجماً عن التثاقف مع الموسيقات العالميّة وعلى رأسها التقليد الموسيقيّ الأوروبيّ الفنّي المعروف بالموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة وذلك بسبب ظروف اجتماعيّة وثقافيّة معيّنة أرستها نتائج الحَربين العالميّتين الأولى والثانية على المنطقة.
وبما أنّه في الاعتقاد أنّ الحديث الموسيقيّ عن النقطة الثانية قد يكون مألوفاً بعض الشّيء عند أغلب المتتبّعين للمسيرة الناصيفيّة، لذا تجدر الإشارة إلى أهميّة النقطة الأولى والإضاءة عليها وإظهار فلسفتِها ومقوّماتها العلميّة الموسيقيّة والمنهجيّة، تلك الآيلة إلى صياغة آليّة تسمح بصناعة ألحان «جديدة» و«متجدّدة» إنّما على غرار «التقليد»، وبمفهومه المتحرّك والحيّ، البعيد كلّ البعد عن الصنميّة والمتحفيّة. ما سمح لنا أن نرى ونسمع ألحاناً ناصيفيّة جديدة، ولكن في الوقت نفسه بقيت ألحاناً يمكن اعتبارها امتداداً لذلك النسق التقليديّ الموسيقيّ المشرقيّ العربيّ الأصيل.
ألحان متجدّدة من عمق التقليد
ولإظهار كيفيّة الترابط، لا سيّما اللحني، بين النوع الأوّل من الموسيقى الناصيفيّة (الذكيّة) الوليدة حديثاً، وبين ألحانٍ عريقةٍ معروفةٍ في التقاليد الموسيقيّة المشرقيّة العربيّة المختلفة، تطرّقنا إلى دراسة عيّنة واحدة فقط، كنموذج مثال مختار، وهي عبارة عن مقتطف من لحن الأغنية الشهيرة للمبدع الرّاحل المعروفة بِـ«يا جار الرضا» من مقام السيكاه، محلّلين هذه الصيغة على قاعدة «السيمياء المقاميّة»، تلك المنهجيّة التي أرسى قواعدها الباحث الموسيقيّ اللبنانيّ البروفيسور نداء أبو مراد، لإظهار المستويات اللحنيّة الخلفيّة في بُناها العميقة، فنرى انبثاقها من ألحانٍ أُمٍّ في التراث الموسيقيّ الشعبيّ اللبنانيّ/الشامي.
التدوين
نستعرض أدناه التدوين الخاصّ بِـ«لازمة» الأغنية
التحليل
تَعتبر منهجيّة السيمياء المقاميّة، أنّ الصيغة اللحنيّة المدوّنة أعلاه هي صيغة أماميّة متقدّمة في مستويات السطح العائمة، وتشير في الوقت عينه إلى أنّه يمكن البحث عن جذور أعمق لهذه الصيغة اللحنيّة ما يؤول بنا إلى مستويات خلفيّة أعمق. ولهذه الغاية تبحث هذه السيمياء المقاميّة عن تلك النغمات الجذريّة متغاضية عن نغمات أخرى ثانويّة، آخذة بعين الاعتبار الحيّز الإيقاعيّ وكيفيّة توقيع اللحن عليه. وبعيداً عن هذا التفصيل العلميّ يمكن اعتبار النغمات المشار إليها بدوائر هي تلك النغمات الأساسيّة في مستوى لحنيّ أعمق كما أدناه:
ويمكن اقتراح طريقة تدوين بسيطة لها، مع كتابة رمز يظهر النواة١ التي تنتمي إليها هذه النغمة الجذريّة، فإمّا أن تكون في النواة الأساسيّة الزلزليّة «أ» المكوّنة من تسلسل ثالثتين متوسّطتين٢ (راست(دو) ــ سيكاه(مي نصف بيمول) ــ نوى(صول)) والمتمحورة حول قرار هذا المقام «السّيكاه»، أو من نواة أخرى ثانويّة صغيرة «ب» تتواتر معها والمكوّنة من (دوكاه(ري) ــ جهاركاه(فا)) كما يلي:
هنا يمكننا استشفاف العلاقة التي تحكم فيما بين هذه الثويّ أعلاه لتتراءى لنا الصورة التحليليّة لهذه الجملة اللحنيّة كما الآتي: (أ،أ) + (ب،ب) + (ب،ب) + (أ،أ) + (أ،ب) + (أ،ب) + (ب،ب) + (أ،أ)
فالثويّ إن كان متشابهاً فهو جملة امتداديّة (أ،أ) أو (ب،ب)، وإن كان الثويّ مختلفاً فلديه تفسيران للجملة اللحنيّة فهي إمّا معلّقة في حالة (أ،ب) وإمّا مقفلة في الحالة المعاكسة (ب،أ).
ويمكن الغوص في أكثر في عمق الجملة اللحنيّة، لاختزال المعادلة، فتتمّ المحافظة على النغمة الجذريّة الأولى فقط دون ثانيتها لتصبح الرؤية كما الآتي:
لتكون معادلة الثويّ كما الآتي: (أ،ب) + (ب،أ) + (أ،أ) + (ب،أ)
التطابق
وهنا في هذا المستوى العميق والخلفيّ من صيغة اللحن الأساسيّة، يمكننا أن نجد الكثير من الألحان «الأمّ» المعروفة في التراث الشعبيّ اللّبنانيّ والتي تتوافق تماماً خطوطها النوويّة مع هذه المعادلة التي تمّ التوصّل إليها أعلاه. نأخذ على سبيل المثال لحن الحدا المعروف في المقام عينه.
وبتحليل سريع له نصل إلى النتيجة التالية المطابقة للجملة الأولى من يا جار الرضا ولو أنّ الدورتين الإيقاعيّتين مختلفتان٣:
وها هي معادلة الثّويّ: (أ،ب) + (ب،أ) المتطابقة.
كما يمكننا أخذ مثل ثانٍ معروف وهو لحن «الهوّارة» الذي تتطابق معادلته الثويّة مع الجملة الأولى من «يا جار الرّضا»:
ومثالٍ ثالث هو الجملة اللحنيّة الثانية من أهزوجة «عالعميّم» التي تتطابق تماماً مع الجملة الأولى من أغنية «يا جار الرّضا»:
تبقى الجملة الأولى من هذه الأغنية والتي نرى لها تطابقات عدّة مع الكثير من الألحان التراثيّة مثل:
أهزوجة «جبنا الكبّة» ذات معادلة الثوّي التالية: (أ،أ) + (ب،أ)
كما نرى مثالاّ ثانياً وهو أهزوجة «بيلبقلك» ذات المعادلة: (أ،أ) + (ب،أ)
كذلك نرى مثالاً ثالثًا هو أهزوجة «شاميّة» ذات المعادلة عينها: (أ،أ) + (ب،أ)
خاتمة
من الواضح أنّ هناك الكثير من النّماذج اللحنيّة الموجودة في صلب التراث الموسيقيّ اللبنانيّ/الشاميّ والتي تتوافق تماماً مع الصّيغة اللحنيّة التي اخترناها من أغنية «يا جار الرّضا» في مستوياتها الخلفيّة العميقة، وحتماً لو كانت هناك مساحة لتحليل كلّ الأغنية لوجدنا حقيقةً ألحاناً جمّة تطابقها، ولو حلّلنا أغاني كثيرة أخرى من إرث الناصيف الخالدة لحصلنا على النتيجة عينها.
إذاً، فمسألة التلحين هنا يمكن اختصارها أو توصيفها بأنّها محض عمليّة «توليد» لنصوص متجدّدة ولكن على غرار سابقات لها مترسّخة في منظومتها التقليديّة، مع اشتراط احترام تلك القواعد الموجودة والتي تحكم فيما بينها، مع حريّة في التشبيك الإيقاعيّ مع أيّ دورة إيقاعيّة يراها الملحّن مناسبة.
والرّيادي زكي ناصيف، لم يكن حُكماً على دراية موسيقولوجيّة بهذه المفاهيم والمنهجيّات وحتى غير مهتمّ بها ربّما، لكنّه كان مُتَمَوسقاً قد تشرّب التقليد بطريقة صحيحة وكاملة في مسيرته الموسيقيّة، ما يجعل منه موسيقيّاً قادراً على ابتكار نصوص منسجمة مع هذا التقليد بطريقة الفطرة، كما المثال الحالي.
هذه النتيجة الأخيرة تسمح لنا بأنْ نختم هذه العجالة مع استخلاص لنقطتين مهمّتين هما:
أوًلاً: إنّ لناصيف بُعداً موسيقيّاً وفضلاً موسيقيّاً على التقاليد الموسيقيّة المشرقيّة العربيّة المختلفة في الكثير من مؤلّفاته الموسيقيّة الجديدة (وليس كلّها)، إذ إنّه اعتبر رصيد التقليد (أو عدّة تقاليد) ألحاناً نموذجيّة مرجعيّة في مرحلة، ثمّ اقتنع بأنّها ألحانٌ قابلة للتولّد ثانياً، فولّد ألحاناً جديدة على نسقها وغرارها ثالثاً أطرب بها آذان ومسامع أجيال عديدة تواترت على سماع نتاجه.
ثانياً: ما تمّ برهانه أعلاه يعتبر تأكيداً عمليّاً على قدرة «التقليد»، على الاستمرار والعيش مع المتغيّرات الثقافيّة والاجتماعيّة العصريّة جمّة، ولكن من خلال الابتعاد عن حركات موسيقيّة تلفيقيّة بين عناصر دخيلة من هنا ومن هناك تؤدّي في نهاية المطاف إلى الحدّ من الاستمرار في النّسل بسبب عقم ما قد يطرأ على حركيّة المنظومة الموسيقيّة ككلّ!
لذا، أسمح لنفسي في الختام بالدعوة إلى احترام خصوصيّة التقاليد الموسيقيّة جمّة وعلى رأسها تلك التقاليد الموسيقيّة المشرقيّة العربيّة المختلفة في نطاق هذه الجغرافيا، والتعاطي معها بأمانة وبمسؤوليّة، والبحث عن ابتكار نصوص موسيقيّة جديدة بكثير من الذكاء، بعيداً عن كلّ مسائل التشويه التي اعترت هذه الطريق من خلال تلفيقات لا يمكنها أن تلتقي لا من قريب ولا من بعيد، داعياً إلى الاستفادة من تجربة المبدع زكي ناصيف في هذا الإطار على أن تؤخذ تجربته مثالاً يُمكن الاحتذاء به في هذا السّياق الموسيقيّ.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.