العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

زكي ناصيف: أُنشودة الرَّهَف

النسخة الورقية

حين اقتربت من عالمه شعرت بأنّني أدنو من محراب معبد. تملّكتني رغبة في المشي على أطراف أصابعي حتى لا أحدث صوتاً يؤذي هدوء المكان وطمنأنينته. سكينة دافئة دفعتني إلى التشبه بهذا العابد لأبدو على هيئة المصلّين أو النسّاك لعلّي أستطيع النفاذ إلى أغوار روحه الشفيفة. ها أنا أبلغ العتبات، يلفحني نسيم في رَهَف وردة أحاذر أن أخدش رقّته. إنه زكي ناصيف الملحّن الإنسان الزاهد في الأضواء، لطالما استظلّ فيء التواري واستمدّ من شعاع الخجل جلاء الطريق. لا يشخصن المجد بل يبتغي مجد الموسيقى اللبنانية، يؤمن بأنّ في إعمارها إعماراً للوطن. على هذ النحو تماهى عمره مع عمرها من بداية التشكُّل إلى الاكتمال والثبات، ملامحَ وهويةً وسِمات.

لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إننا في مئويته نحتفل بمئوية الموسيقى اللبنانية ونُكرِّم صاحب أسلوب ومدرسة تلحينيّة لبنانية تأثّر بها جيل لافت من الملحّنين والمطربين، في مقدمتهم وديع الصافي، ترتكز على فكر تلحيني شكّل اتجاهاً موسيقياً طبع الموسيقى اللبنانية بطابعه. زكي ناصيف مشروع موسيقي اتخذ من الموروث الشعبي مُنطلقاً للتحديث الذي يرتكز على الأصالة وليس على لعبة أسلوبيّة لجأ إليها للتميُّز وحسب، مستلهماً من أساليب الغرب ما يلائم الذائقة المشرقيّة ولا يجور على الهوية، في توليفة موسيقية صاغها من صميم مكوّناته الذاتيّة والاجتماعية والثقافية والوطنيّة. وقبل الولوج في تفاصيل لغته الموسيقيّة، لا بد من وضع الإطار العام لنتاجه الضخم الذي بدا في جميع أحواله أنشودة للرهف والإحساس الُملهَم الرقيق. بلسم موسيقيّ يمسح الكراهية والأحقاد عن القلوب ويصفّي النفوس من آفة الكراهيّة والأنانية. إنّه زكي ناصيف العامل في دبّاغة الجلود وربيب ألوانها التي صرفت خياله إلى تلاوين النغم ليخطّ برئِف الوتر ألحاناً للريف تعزفها المدن، تحاكي طبيعة القرى وتستقي من موروثها القيَمي أمثولة الموسيقى ووظيفتها التي تهذّب النفس وترتقي بالإنسان.

موسيقى عذبة الرواء كأنّها لحن السليقة ونوطة الفطرة التي تنساب في الآذان والأرواح كرشفة ماء. ليست موسيقى زكي ناصيف من النوع الذي يدهشك لأول وهلة، إنما بهدوء بعد تأمل وإصغاء. إنّ مقولة السهل الممتنع الدارجة حدّ الابتذال تكتسب هنا قيمتها الحقيقية ومعناها الأكيد. يعوزك بعض الوقت لتكتشف أنّ هذه الجمل اللحنيّة الخاطفة حبلى بالاحتمال ومفتوحة على فضاءات التأويل، وأنّها كثيراً ما تتجاوز أفق التوقّع إذ يفاجئنا بالتفاتاته اللحنيّة والانزياح الدلالي الجمالي الذي يشكّل تحوّلاً خاطفاً في الاتجاه. وهذا الرواء المتواصل للخيال عبر موسيقى تحمل في طيّاتها بذور التحوّل من أعمال قصيرة وضعت للغناء إلى مقطوعات موسيقيّة تعزفها الموسيقى الآلية موظِّفاً الآلات الغربية في مقدّمتها البيانو، آلته الأثيرة، بكل ثرائها للارتقاء باللغة التعبيريّة إلى آفاق ومناخات ترسل إشارات التخييل في لوحات موسيقيّة تفسح في المجال لألوان الطيف التوزيعي ولمقاربات سيمفونية صالحة لكل زمان ومكان. لغة ناقصة لكنّها تحمل إمكانيّة الامتلاء اللامتناهي. لفتة نظر لحنيّة، ايحاءات وظلال تتوارى خلف جملته الموسيقية القصيرة وكلام كثير لم يقله بعد يُبشِّر بالنور المنتظر. التلميح، والإضمار، والإيجاز اذاً عناصر أساسيّة ترتكز عليها لغته الموسيقيّة المكثّفة التي تشبه في الأسلوب ضيق العبارة عند المتصوّفة من حيث الإيجاز اللفظي والرحابة الدلاليّة. لا أعرف على وجه الدقّة لماذا استحضرت هذا البعد الصوفي للحديث عن موسيقى منقطعة الصلة به من حيث الخصائص، ربما لما تحمله موسيقاه من ملامح أيقونية مثقلة بالرمز والدلالة الروحية والنقاء القدسيّ.

إيقاع البراءة

نحار من أين نبدأ وكيف نقتفي أثر هذا الموسيقيّ الغزير والبريء الذي ما لوّثته المحَن ولا غيّبت طفولة رافقته حتى الرمق الأخير. براءة هي ميزته النوعيّة كملحّن متنوّع وكإنسان لم يكبر إلّا في السن وظل كما الأطفال على وفائه للحقول. يشارك الطبيعة أشواقه وأحلامه، يُحدِّث الشجرة ويستنطق الوردة، يطارد الفراشات ويأمر السنابل أن تجود بقمحها. يشحن الأمكنة باللغة، والأحلام، والأمنيات، يستخرج طاقة المكان وخصائصه السحرية والرمزية، الريح الماء الجبال الوديان ويوظّفها موسيقيّاً في المقام والإيقاع. زكي ناصيف لا يحنّ إلى الطفولة، بل يعيشها بتمامها هو في قلبها. طفولة تمرجح ذائقتنا بلا توقّف بين الهمس والصهيل. بين طرفين لا نقيضين، وفي الحالتين يذهب إلى أقصى الحدّ.

زكي ناصيف يهدهد الجملة اللحنيّة بين ذراعيه كطفل يحدو له لينام أو «يهشّكه» ليلعب. يعمّدها بماء الحنان قطرة قطرة بمنتهى الرفق على مهادٍ مُوقّع يحاكي طفولة الموسيقى وفجر ضميرها. إنّه عنصر تكوينيّ لا ريب في خواطره الموسيقيّة التي تستلهم في الإيقاع معناه البكر بوصفه ركيزة الحركة الكونيّة للمجرّات والطبيعة والإنسان، لكأنّ موسيقاه لا تتّخذ ماهيّتها ودلالاتها إلّا من خلال الإيقاع، لذا فإن علاقتها به علاقة عضويّة مصيريّة، علاقة تماه وهويّة. جملته الموسيقيّة مجبولة بإيقاعها حدّ التطابق التام. الكلمة نغمة والعبارة الشعرية شديدة الالتحام بالجملة اللحنية كأنها هي هي. لذا آثر ربما أن يكتب غالبيّة أعماله في المرحلة التي تلت البدايات معتمداً على الأوزان الرشيقة السهلة مثل الخبب، في تكرار متّسق لا يُعنى دائماً بمطابقة اللحن للمعنى، بل التطابق عنده بين نبض الكلمات ونبض الموسيقى التي ترتديها كأنّه يصوغ الميلودي لتخدم الإيقاع ابتداءً، في تجاوز واضح لثنائية الشكل والمضمون إلى علاقة جدليّة بين الإيقاع والميلودي، ما جعل الإيقاع من أهمّ خصائصه وخصوصيّات تجربته الموسيقيّة.

ضمن هذا الملمح العامّ، تبدو البساطة آليّة أساسيةً من آليات التعبير التي تعزّز معنى الطفولة في نتاجه ككل، لكنّها بساطة خادعة توهمنا أنّنا نخوض بحراً ساكن الموج، نغوص في أعماقه بحُرّية سهلة ولا يستوجب كثيراً من التأمّل لإدراك كنهه وما كمن، فإذا الظنّ ظنّ والتوقّع غير التوقّع. أترانا استمعنا إلى زكي ناصيف أم تراءى لنا ذلك؟

لبنانه

ليس يبن أعضاء «عصبة الخمسة»١ (الأخوين رحباني، توفيق الباشا، عبد الغني شعبان، وزكي ناصيف) متشابهات سوى هذه الرغبة في إحداث نهضة موسيقيّة والتميّز عن المدرسة المصريّة السائدة ومحاولة اجتراح النغم من لحن هذه الأرض. لكنّ الأرض اختارت أن تمهِّد ذاتها وتهَبَ نفسها لواحد من هذا الخماسي المتألّق هو زكي ناصيف، فقد بدا أكثرهم تعبيراً عن طبيعتها بموسيقاه التي تشبه الجغرافيا اللبنانية وتضاريسها التي تتراوح بين البسط والنتوء. لبنان زكي ناصيف هو بالضبط هذه الطبيعة الساحرة المثيرة للخيال التشكيلي الحالم والواقعي في آن، وهو أيضاً ذاك العنفوان الذي يتردّد صداه في الجبال والوديان. هو صوت الراعي إذ يغنّي لحناً شجيّاً مطمئناً لأغنامه الطيّبة في رواحها ومجيئها فوق التلال، وهو ذاك الصخب المدوّي المنبعث من وقع الأقدام المتراصّة في المواكب والأعراس الريفية، أو في الاحتفالات السعيدة بخير المواسم وسخاء الحقول. لم يسعَ زكي ناصيف كثيراً إلى الاعتراف اللفظي بحبّه للبنان، لأنّ ما تجذّر في قلبه من حب لم يحتج إلى تأكيد بالجهر، بل ظهر من خلال تجلّياته وليس بذاته.

بين لبنان زكي ناصيف ولبنان الأخوين رحباني ما بين الحقيقيّ والمتخيَّل من خيوط اختلاف وائتلاف. كلاهما يحكي لبنان الأجمل، لكنّه من حيث النظرة لبنانان، أحدهما ثابت مستقر ومتفائل يُعبِّر عنه زكي ناصيف (مهما يتجرح بلدنا منلمو ولو كنا قلال، قلال ولكن ما تعودنا نبكي ونندب عالأطلال)، والثاني يبدو معلّق القدر، ما ورائياً، بعيد المنال والتحقُق لكأنّه أحياناً يفرّ من بين أيدينا. يترجمه الأخوان رحباني بخطاب مباشر يؤكد باستمرار حبّهم وانتماءهم، كما لو أنها محاولة مستمرة لدحض الشك بالتحدّث اليه وجهاً لوجه ومناداته بالاسم واستجلاب مشاعرهم وصورهم من عالم الغيم والغيب، سواء في الأعمال التي كتبوها «وطني يا جبل الغيم الأزرق»، «بحبّك يا لبنان»، أو في نصوص لحّنوها لغيرهم من الشعراء كسعيد عقل على سبيل المثال (لي صخرةٌ عُلِّقت بالنجم أسكنها٢) وغيرها. حب أسطوري لوطن «من ذهب الزمان الضايع»٣ يخشون عليه من الرحيل بعد ويلات الحرب الأهليّة، إلّا أنّ رؤيتهم الأسطوريّة تلك كانت حاضرة قبل الحرب في الملمح العام لنتاجهم المتأثّر بفكر سعيد عقل الذي أسّس لصورة لبنان المستحيل.

إنّ لبنان زكي ناصيف هو لبنان القريب هنا لا هناك، لبنان البسيط الواقعي المطمئنّ على المصير. يحبّه على علّاته، لا يخاطبه مباشرة، ولا يسمّيه كثيراً إلّا في مناسبات خاصة وطنيّة بعد الحرب الأهليّة على وجه الخصوص (راجع يتعمر لبنان)٤. في الغالب يحاور تفاصيله وطبيعته الماديّة، عاداته وتقاليده الراسخة وقيَمه المعنويّة، وما يميّزه بشكل واضح وجليّ، ويؤكّد حدوثه واستقراره في الزمان والمكان. لا يرسم له صوراً خياليّة أو ملحميّة أسطوريّة، ففي الذهاب إلى الأسطورة نوع من الهروب والاغتراب.

لقد قدّم زكي ناصيف في نصوصه وموسيقاه المفهوم الحقيقي للانتماء الوطني من خلال حرصه الدائم على إظهار الضمير الجمعي. إنّ ضميرالمتكلّم الجمعي يكاد يكون القاسم المشترك لغالبيّة أعماله حتى في الأغاني العاطفيّة الرومانسية (حبابنا.. حبايبنا.. بلدنا.. جبالنا..) وعشرات الأمثلة. لا تكاد رومانسيّاته العاطفيّة تخلو من الحسّ الجماعي المرتبط بمشاهد الوصف لطبيعة خلابة تضمّ الجميع في بوتقة شعوريّة واحدة. هذه التوأمة بين المشاعر الحميمة والأمكنة خاصيّته بامتياز هي في نتاجه عنصرأساس من عناصر اكتمال الإحساس بالحبّ وأخذ المشاعر إلى أقصى التحقّق.

يتدثّر زكي ناصيف دائماً بالحشود وتذوب الأنا في بحر الجماعة بشكل لافت، فلبنان من وجهة نظره هو كتلة متراصّة لا مجموعة أفراد، مصيره مرتبط أساساً برباط وحدويّ مقدّس بين أطيافه من دونه لا وجود للبنان. هذا التراصّ يختصره إذاً من خلال أنا الجماعة الحاضرة بجلاء في مجمل نصوصه التي تعتمد لغة تلقائيّة بسيطة ودافقة بالإحساس الصادق.

هو مواطن عاديّ يعيش مع البسطاء، يقاسمهم خبزهم وأحلامهم، يجلس معهم على المصاطب، لا في بروج أفكاره المشيّدة. يغنّي معهم ولهم، ويتحدّث لغتهم المحكيّة، بل إنّ بعض مفرداته شديدة الريفيّة وبعضها بات بعيد الصدى، (على شعرها تشكيلة)٥، (كل لقمة خبزة مرقوقة بتسوى خمسين كماجه)٦.«تشكيلة»، «كماجة» وغيرها ألفاظ ريفيّة لم تعد دارجة، لغة شعرية وموسيقيّة توهمك أحياناً أنّ ما قدّمه محض ارتجال.

ليس في نتاج زكي ناصيف شبهة اغتراب نفسي، بل اقتراب حثيث من أدقّ التفاصيل التي تصنع المشهد الكلّيّ للانتماء والتعلّق الطبيعي بالأرض (عاداتنا عليها ربينا... يا رب لا تغيرنا ولا تنسينا)٧. هذه الكلمات الدالّة ليست شعاراً ولا غواية لغوية، هي خفقات قلب شفيق وعلائق روح وتمدّد في الجذور، هي رؤية زكي ناصيف الشعريّة الموسيقيّة التي أسست لمشروعه الموسيقيّ اللبناني الانطلاقة والإنسانيّ الأهداف بما ضمّنها من معاني الحب والوئام والفضيلة. إنّ مفهوم اللبننة عند زكي ناصيف ليس برؤية شوفينيّة تُحَمِّل الوطن فوق ما يحتمل من صفات غير واقعيّة وترسم له لوحة تجريديّة، بل هو مُنزّه عن التعصب القومي الذي يسود فكر ورؤية البعض من الفنانين والشعراء اللبنانيين. زكي ناصيف جسّد مفهوم الانتساب ببُعد وطني محلي الصياغة، إنساني الروح والتأثير والامتداد، بما ضمّنه من قيم أخلاقيّة خالدة.

رومانسيّة بهيجة

حين نتحدّث عن موسيقى تصدح بمديح الحياة والانبعاث والأمل، فإنّنا نتحدّث عن زكي ناصيف ونحاذي شطاً من شطوط روحه الجميلة، ونقترب من لغته الموسيقية المفعمة بالنبض والحيوية والسمو الإنساني. نتحدث عن هذا الرومانسي الذي أبى أن يشيخ الأمل ولو للحظة، أو يتوارى الفرح خلف أحزان تثقل واقعاً يحياه بتفاصيله المُرة كما نحياه، لكنّ روحه الوثّابة تصرّ بلا انقطاع على المقاومة والنهوض من رماد. نزعة التفاؤل الكامنة في نصّه الشعري والموسيقي تضعنا أمام موسيقى صباحيّة المشهد. شروق سرمدي يُفرغ الليل من رمزيّته السقيمة ليغدو على الرغم من شاعريّته حدثاً يكمل دورة الحياة، يبشّر بنهار جديد ولا يلقي بظلاله القاتمة على الروح والجسد (منخلي الخايف من العتمة يضوي العتمة ويوعى)٨.

مفهوم للحياة لا يعرف الضجر يترجمه زكي ناصيف موسيقياً بهذا الوثب الإيقاعي المتواصل والعدْو بخطى تلامس العجلة، لكنها لا تقع فيها حتى لا تتعب من مواصلة المسير. إنّ رومانسيّة زكي ناصيف هي من النوع البهيج دائما (والمحبة مالها مطرح بالقلب الما بيعرف يفرح، والما بيفرح قادر يجرح المحبة وقلب الموال)٩.

ليس في أعماله بكائيّات لحنيّة حتى في تلك التي تتحدث عن الهجر والألم (رمشة عينك)١٠ ممّا يشي بسلام داخلي. وهذه القدرة الفائقة على تقبّل الواقع بروح لا تقبل الهزيمة والاستسلام، فالأحزان كما يراها ويصوّرها زكي ناصيف ليست قدراً محتّماً بل هي دوماً عابرة. مفردة هي من مفردات الحياة تؤلمنا لكنّها لا تهزمنا. فلامنكو لبناني يحكي المأساة بالرقص لا بالبكاء. هذه «الأوف» الدائريّة والآهات التصاعديّة، هذه الـ «هلي يابا» وغيرها من الألفاظ الأثيرة في أعماله هي صرخات روح متمرّدة تأبى الخضوع وتصرّ على تحويل الألم إلى انطلاقة وبعث، بل لعلّها أيضاً ثورة أدائيّة على ملمح الإشفاق الذي يميّز نبرات صوته المتهدّج الخجول، الخارج من أعماق الحشا والمفعم بالنهدات، يموِّهه زكي ناصيف بحيويّة موسيقيّة تمنحه بُعداً شاملاً يحيل الحياة إلى معنى علوي ممتلئ بإرادة البذل وبقيَم الحقّ والخير والجمال. أتوقّف عند اثنتين من رومانسيّاته الجميلة لم تأخذا حظّهما من الشهرة التي حظيت بها «يا عاشقة الورد» و«نقيلي أحلى زهرة».

«غنيلي بالليل الهادي»

في ثلاث دقائق رسم زكي ناصيف صورة نفسيّة غنيّة بالأحاسيس الرقيقةصاغها من أحد أجمل المقامات العربيّة بالغة التأثير في النفس لما تتضمّنه من بُعد درامي هو مقام الكورد، مستلهماً روح الفلامنكو برقّة بالغة ومفاجئة في موضعين من الأغنية، في المرجّع تحديداً في مدّه التصاعدي لكلمة «مين» في عبارة «مين في الدنيا أسعد مني وقبالتي ملاك عم يغني»، وفي الآه الملتاعة التي ختم بها الأغنية ليترك في روحك أثراً خاطفاً وعميقاً. هذه الآه شديدة التعبير عن حالة من الوجد تسعدك بقدر ما تشجيك، ثنائيّة المسرّة والحزن الخالدة التي من دونها لا يكتمل قمرالحب. يستوقفنا هنا على مستوى النصّ الشعري هويّة ذاك الملاك الذي يناجيه، أهو الحبيب أم تراه الموسيقى ذاتها التي تفعل فعلها السحري في الكائنات وقد أنسنها زكي ناصيف؟ لا نعرف بالضبط.

عمل بسيط بالغ العذوبة والانسيابيّة والهدوء، سار اللحن في ركابه مسترخياً على إيقاع الرومبا ببطء، يعبّر عن حالة تختلط فيها سكينة الليل بسكينة المشاعر الهادئة، محمّلا آلة الأكورديون، التي ظلّلت العمل من البداية إلى النهاية، مهمّة استكمال المسكوت عنه في حوار رقيق بين الآلي والغنائي لما في نغماتها المتصلة من قدرة على أداء غنائيّ يحاكي الصوت البشري. ومن ثمّ يترك البيانو يؤدّي بنبراته المتقطّعة النصف الأوّل من المقطع الغنائي الذي تحوّل إلى لازمة، يليه الأكورديون في النصف الثاني منه، ليعود هو بصوته من جديد مع «مين في الدنيا أسعد مني» في توليفة موسيقيّة مبتكرة تخرج هذه الأغنية عن شكل القوالب المألوفة في حينه.

اللافت في هذه الأغنية الجميلة ثلاثة أمور: أولاً، غياب الوتريات واقتصار الأوركسترا على 3 آلات، لست أدري إذا كان من حقّنا أن نسمّيه «تخت غربي» يتألّف من الأكورديون والبيانو والدرامز، ممّا خلق مناخاً حميماً يليق بهدأة البال والليل والمشاعر. الأمر الثاني اختياره لإيقاع الرومبا وتوظيفه بأسلوب بدا هنا منسجماً تماماً مع حالة الرهف التي تُغلّف العمل ككل من خلال النقر الليّن على الأقراص النحاسية. أخيراً، جاءت الوحدة المقاميّة (الكورد) مناسبة لوحدة الحالة الشعوريّة التي رافقت هذه المناجاة المنغّمة.

أغنية قصيرة ترجع في النفس أثرها الآسر، تغلّف المشاعر بأناقة كشال من الدانتيلا، لا يطبق على روحك بل يتركها تتنفّس وتتأمّل، فلا تكون بعدها قادراً على الاستماع إلى غيرها ردحاً من الوقت. هذا الترجيع التأمليّ الشجيّ يُعدّ من خصائص رومانسيّاته العذبة.

«حبايبنا حوالينا»

ينتمي هذا العمل الأنيق إلى قالب الطقطوقة في مذهب ومقطعين أو 2 كوبليه من اللحن نفسه. تغيب فيها الآلات الإيقاعيّة التقليديّة الشرقيّة مستعيضاً عنها بالنقر على صنوج آلة الدرامز الغربيّة لتعزف برقّة إيقاع الرومبا متوسّط السرعة. اختيار موفّق يناسب مناخ الأغنية الراقي، فآلات الإيقاع الشرقيّة كالدفّ والطبلة تمنح إيقاع الرومبا خفّة لا تتوافق مع الحالة الشعورية المعبّر عنها في هذه الطقطوقة، التي يسير لحنها في ثنائيّة تبادليّة بين مقامي الكورد في المذهب المعبّر عن حالة الاطمئنان بوجود الأحبّة، والحجاز في الكوبليهات يتخلّلها لوازم تصاعديّة تمهّد لمقام الحجاز، مقام الترحال والحنين لما توحي به مسافاته الصوتيّة من إحساس بالمدى، اختاره زكي ناصيف ليعبّر عن معاني الكوبليهات التي تتحدّث عن العودة من سفر بعيد. عودة من المفترض أن تستدعي البهجة وبالتالي مقاماً ربما أكثر حيويّة من مقام الحجاز، غير أنّ الملحّن اختاره ليذهب إلى عمق المعنى الكامن في فكرة الترحال المحكوم، بالشجن بالضرورة لأنّ في كل عودة احتمالاً لرحيل جديد. هي إذاً فرحة يشوبها القلق وهاجس الفراق، يكسرها زكي ناصيف بالعودة إلى الكورد في منتصف الكوبليه وترجيع العبارة الأخيرة من المذهب الكوردي (نسِّم يا نسيم علينا) في محاولة لجعل الإحساس بالأمان مستقراً.

رؤية خاصة بملحّن عالج موضوع الفراق والهجر في الكثير من رومانسيّاته، لكنّ إحساسه الموسيقي به كان دائم التأرجح بين التعبير الشجي الهادئ والتعبير الصاخب المتفائل المُوَقَّع الذي يحوّل الألم إلى فعل مقاومة.

الفولكلور

كغيره من أعضاء «عصبة الخمسة» انشغل زكي ناصيف بالفولكلور واشتغل عليه، بل لعلّه الأغزر في صياغة لوحات ومؤلّفات مخصصة للدبكة والرقصات الشعبية، تتخطّى في معانيها خبطة القدم ولُحمة الأكتاف إلى عناق الأرواح في سمفونية حبّ وبطولة تهلّل للحياة وتحيي قيمة العمل وتبشّر بالخير الوفير. بطولة مكتملة العناصر تتعانق فيها الروح والجسد عبّر عنها بهذا التنغيم الموقّع بفيض الحيويّة ومضاء العزيمة، بطولة ترتقي كلّما تعلّقت بالغايات العظيمة. بين همس الحبّ وصهيل الوطنيّة حدّد زكي ناصيف أهدافه النبيلة، وحمّل الفولكلور مضامين تتجاوز ما استقرّ في الذاكرة الشعبيّة من ألحان إلى آفاق أشمل وأرحب كان ممتلئاً بالفولكلور الذي بدا في أعماله مبتكراً وجديداً بما أضفى عليه من خياله التلحيني لا من رغبته في التجريب والتطوير. في «طلوا حبابنا طلوا»١١ على سبيل المثال، استلهم روح الدلعونا إيقاعياً لكنّه ألبسها مقاماً مغايراً على مستوى الميلودي من خلال النهوند البديع والرحب الذي صاغ منه تحفته الفنيّة تلك. وفي أعمال كثيرة ذهب إلى مواطن لحنيّة تفتح مصاريع الخيال على مسار تغييري أصيل من نسيج الهويّة ومن روح البيئة الطبيعيّة، وتمنح موسيقاه ملامح خاصة وفق نسق تلحينيّ ذي خصائص محدّدة تترك بصمة واضحة لا تخطئها الأذن.

إنّ نصّه الموسيقي يتضمّن التفاتات وصوراً نادرة كما في أغنية «رمشة عينك». نحن هنا أمام نصّ غزليّ عبّر عنه بإيقاع فولكلوري لا بأسلوب شاعريّ، من مقام البياتي الطروب مع تحوّل سلس إلى السيكا البلدي في الكوبليه مانحاً معاني الغزل والهجر بُعداً آخر ليس بالضرورة حالماً وحزيناً. فهذا العاشق القروي حتى النخاع لا يملك ترف الاستغراق في النجوى والانغماس في الخيال وحده فيما تدعوه الأرض في كل حين إلى أشواق تربتها ليغنّي لها أهازيج الثمر. كم هي لافتة هذه التوليفة العاطفية بين الغرام والأرض المسيطرة على مجمل نتاجه، إلى الحدّ الذي يسمح لنا أن نتحدّث عما يمكننا أن نسمّيه «فولكلور الحب». هي بالفعل سِمته الخاصّة وسَمت موسيقاه. إذا تناولنا على سبيل المثال أغنية «طلّوا حبابنا» نجده قد صاغ بناءها الموسيقي من أربع جمل لحنيّة لا غير على شكل مربّع نهوندي بالغ الجمال والذوق. هي أغنية رومانسيّة في قالب فولكلوري تحكي عن عودة الأحباب في احتفاليّة موسيقيّة، همروجة لحنيّة مفعمة بالطاقة الحيويّة التي ترفع وتيرة الفرح والإيجابيّة في الإنسان والطبيعة، تخفي ربما ما يصطخب في نفس الشاعر من مشاعر خاصّة لا يريد أن يبوح بها فعمّمها، من خجل أو من رغبة في إقامة احتفال جماعي على طريقة أهل القرى في الترحيب، فعمد إلى إحلال صيغة الجمع (حبابنا) محل صيغة المفرد وهو شائع في نصوص زكي ناصيف، واكبه الملحّن بشكل موقع متهلّل في المستوى الموسيقي من خلال استلهام فولكلور الدبكة التي هي رقصة جماعيّة في الأساس.

«هِلّي يا سنابل»

لوحة موسيقيّة تشكيليّة مكوّنة من جملتين لحنيتين يؤدّيهما الكورال بتناوب متكرّر بين أصوات الرجال والنساء في تناول حسّاس لمقام العجم في لازمة الدخول ثمّ الانتقال السلس إلى مقام الكورد في المقاطع التي يؤديها الكورال.

لا يخرج التكرار هنا عن وظيفته الدلاليّة والجماليّة كظاهرة أسلوبيّة لغويّة وموسيقيّة تترك أثراً انفعالياً في نفس المتلقّي تعين على تأكيد المعنى وتركيز الإحساس. وقد وظّفه زكي ناصيف بطريقة تبرز القيمة الإيقاعيّة لهذا التكرار، في محاكاة موسيقيّة للفعاليّات الحيويّة للعمل والحركة الجسديّة للعاملين في الحقول وتعاقب المواسم وجني حصادها وفق نظام ثابت يتكرّر بلا انقطاع. وقد عبّر عنه موسيقياً بثبات مماثل من خلال الإعادة الرتيبة غير المملّة للجمِل اللحنيّة التي صاغ منها هذا العمل الجميل، موظّفاً آلة الدفّ الإيقاعيّة كآلة رئيسية لما يتيحه رنين صنوجها من إحساس بالتهلّل والاحتفال الذي تحدّث عنه النصّ الشعري في بنية إيقاعيّة موحّدة بسيطة اعتمدت إيقاع الأيوب أو الزار الذي يقوم أساساً على التكرار المنتظم لنقراته (وزنها اثنان على أربعة)، ويخلق نوعاً من التوازن الهندسي والمعنوي بينها وبين الطقس الحركي المصاحب للعمل، في إشارة خفيّة ربما إلى بعد روحاني لا مرئيّ يكشف عن قدسيّة ما، كما في حلقات الذكر، يسبغها زكي ناصيف على قيمة الكدّ والكفاح.

فيروز

آثرت في ما سبق أن أتحدّث عن نتاجه بشكل عام من دون التوقّف عند ما قدّمه لآحاد المطربين والمطربات لا سيما السيدة فيروز التي يعدّ التعامل معها إضافة لأيّ ملحّن، لا شك في ذلك، إيماناً منّي بأنّ الإنصاف يقتضي عدم تخصيص فيروز دون سواها من الزملاء الكبار الذين قدّموا للأغنية اللبنانية الكثير وأضافوا إلى التراث الغنائيّ اللبناني ما أعانه على تشكيل ملامحه الخاصة المتميّزة، سواء مَن سبقها أو مَن جايلها. ولاعتقادي كذلك أنّ الوحيد الذي استطاع أن يُحدث اختراقاً فنياً مهمّاً في السور الموسيقي العالي والجميل الذي بناه الأخوان رحباني حول فيروز كان الملحن الكبير فيلمون وهبي.

لقد وضع فيلمون بصْمته النافذة إلى العمق في تراثها واستطاع أن يجذبها من النجوم إلى الأرض، وطوّع صوتها للمقامات الشرقية أجمل تطويع فغدا مقام البياتي، الذي صاغ منه العديد من ألحانه لها، بالغ الجمال في صوتها بما أضفته على بُعده التطريبي من جمال تعبيري ورهافة وعذوبة، مُنذ رائعته «يا مرسال المراسيل» التي اعتبرت في أوانها حدثاً فنياً، مروراً بـ«ليلية بترجع يا ليل»، و«إسوارة العروس»، و«طلعلي البكي»، و«جايبلي سلام»، و«طيري يا طيارة»، وصولاً إلى «البواب». قدّم «ملك البياتي»، كما يحلو لزملائه أن يسمّوه، إضافة مهمّة رفيعة المستوى استطاع بها أن يبرز ما يختزنه صوتها غربيّ الوقع من عُرَب شرقيّة ومن قدرات أدائيّة متنوّعة كانت تحتاج إليها لتكتمل دائرة الألوان الغنائيّة التي تصدّت لها جميعاً بحرفة وتمكّن وجمال. وقد بدا لافتاً جداً أنّ موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مرّ بفيروز «مثلما النسمة من بردى» مروراً ناعماً داعب صوتها مداعبة رقيقة كمن يخشى على نبراته الشفّافة من أداء أكثر ثقلاً، فحافظت ألحانه على الجوّ العامّ لموسيقى الأخوين رحباني وحاذرت أن تمسّ نمطية الأداء الفيروزي.

أمّا في ما يخصّ زكي ناصيف، فأعتقد أنّه بدا متهيباً بعض الشيء في مجمل ما لحّنه لفيروز على الرغم من تميّز غنائيّة «يا بني أمي»١٢ لجبران خليل جبران التي تُعدّ محطّة خاصّة وربما فريدة في نتاجه، قدّم من خلالها عملاً كلاسيكياً يليق بالنصّ الجبراني لما تضمّنه من جلال الميلودي، ومن جهد أوركسترالي معبّر ومؤثّر، لكنّه بشكل إجمالي لم يخرج كثيراً، من وجهة نظري الخاصّة، عن الملمح العام لربيرتوارها الرحباني، ولم يتمكّن من إحداث نقلة نوعيّة في نتاجها على غرار فيلمون وهبي.

عصر من الموسيقى

زكي ناصيف عصر من الموسيقى ومساحة لحنيّة مترامية الأطراف والأطياف، تجعل البحث في تلاوينها يُقصِّر لا ريب عن بلوغ المرام، إنْ هي إلّا محاولة للاقتراب من عالمه الفني في مناسبة مئويّته، ولاستكشاف جانب من جوانب لغته الموسيقيّة التي تجمع بشكل مدهش بين البساطة والتعقيد والاستشراف الموسيقي، تتماهى فيها إلى حد بعيد ملامح شخصيته الفنيّة مع شخصيّته الإنسانيّة الزاخرة بقيم الخير والبساطة والرهف.

  • ١. تأسست عصبة الخمسة عام 1954 في إطار إذاعة الشرق الأدنى التي اتخذت لها استوديوهات للإنتاج في بيروت وذلك على غرار العصبة الروسية (1856-1870). وكانت تهدف إلى تعزيز انطلاقة النهضة الموسيقية اللبنانية المعاصرة جامعةً بين خصوصية موروث الغناء الشعبي المحلي والحداثة الموسيقية.
  • ٢. قصيدة لبنان، شعر سعيد عقل، ألحان الأخوين رحباني، غناء فيروز.
  • ٣. أغنية وطني (يا جبل الغيم الأزرق)، شعر وألحان الأخوين رحباني وغناء فيروز، من مسرحية جبال الصوان التي قدمت في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1969.
  • ٤. أغنية «راجع يتعمر لبنان»: نظم ولحن وغناء زكي ناصيف. انتشرت في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لتصبح إحدى أشهر الأغاني الوطنية في لبنان على الإطلاق.
  • ٥. أغنية «فراشة وزهرة»، نظم ولحن وغناء زكي ناصيف.
  • ٦. أغنية «هلي يا سنابل»، نظم ولحن زكي ناصيف وغناء المجموعة. قدمت في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1959 ومهرجان «حكاية لبنان» لفرقة الأنوار عام 1960.
  • ٧. الأغنية عينها في الملاحظة السابقة.
  • ٨. نشيد «مهما يتجرّح بلدنا»، نظم ولحن وغناء زكي ناصيف. من الألبوم الذي يحمل العنوان نفسه من إنتاج «صوت الشرق»، وقد صدر عام 1997.
  • ٩. الأغنية عينها في الملاحظة السابقة.
  • ١٠. أغنية «رمشة عينك»، نظم ولحن زكي ناصيف وغناء وديع الصافي. قدّمت في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1959.
  • ١١. نظم مصطفى محمود ولحن زكي ناصيف وغناء المجموعة. قدمت في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1957، كما غنّاها وديع الصافي في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1959.
  • ١٢. مغناة «يا بني أمي»: قدمت بمناسبة ذكرى خمسين سنة على رحيل جبران خليل جبران (1883- 1931) وصدرت ضمن اسطوانة «فيروز تغني زكي ناصيف» من انتاج صوت الشرق، 1994.
العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.