كلّف المهندس السوري خالد ملص، بتجهيز الجناح السوري في «بينال البندقيّة الإيطاليّة للعمارة» صيف ٢٠١٤. شاركه في هذا العمل جنى طرابلسي وألفريد طرزي وسليم القاضي. اتخذت المجموعة اسم فريق «سجل» وعنونوا تجهيزهم «حفريات في السماء»١.
انطلقوا من الطيران الميكانيكي الثقيل نموذجاً لتجربة حداثويّة للسيطرة على الأرض وتخصيصاً دور السماء في ما سمّوه «إنتاج الأرض». وقدّموا تجهيزهم عن دور السماء في انتاج الأرض بين تحت عناوين العناصر الأربعة.
الهواء: يروي قصّة أوّل عهد المشرق العربي بالطائرات.
في الأوّل من آذار/مارس ١٩١٤ حطّت في مرجة دمشق الخضراء (موقع معرض دمشق لاحقاً) أوّل طائرة حربيّة عثمانيّة يقودها الطيّار اليوزباشي أركان حرب محمد فتحي بك قائد ومعاونه الملازم أوّل المدفعي سليم صادق. أرادت السلطات العثمانيّة بتلك الرحلة استعراض قوّة وهيبة بعد هزائمها في ليبيا والبلقان. تجمّعت جماهير حاشدة للتفرّج على الطائرة (من صنع ألماني) وتبارى أعيان دمشق في تكريم الطيّارين وضيافتهما. بعد يومين، واصل الطائر الحديديّ رحلته إلى القاهرة، إلّا أنّ الطائرة سقطت بعد إقلاعها في قرية سمخ قرب بحيرة طبريّة بفلسطين، فقتل الطيّار ورفيقه سليم ونقلت رفاتهما إلى دمشق لتدفن، وسط تشييع شعبيّ مهيب، إلى جانب ضريح صلاح الدين الأيّوبي.
كان الشاعر اللبناني فوزي المعلوف في الخامسة عشرة حين وقعت الحادثة، فرثى فتحي بك بقصيدة عمرها في عمر ناظمها: يا من سموتَ إلى العلي عهادها/ وسبقتَ أسراب الطيور طرادا /
خفقتْ ضلوع الريح تحتك والتوتْ/فَرقاً وكم فطرتْ عليك فؤادا/ حتى كَبَتْ أختُ النسور كليلةً فهويتَ لا جُبناً ولا إرعادا/لكنْ علاؤك ما ارتضى بطنَ الثرى/مثوىً فآثر في العلاء رقادا.
سوف تؤثر الحادثة أيّما تأثير في ذهن فوزي المعلوف، فبعد أن غادر الوطن بالطائرة إلى البرازيل ألّف مطوّلة عن الطائرة بعنوان «على بساط الريح».
النار: قصف الطيران الحربي الفرنسي لدمشق لقمع انتفاضة العام ١٩٢٥.
ومن آثاره حريق الحيّ السكني الدمشقي الذي لا يزال يعرف باسم «حريقة». والقصف غمضت ذكراه بعض الشيء وإن بقي له أثر في الشعر في قصيدة أحمد شوقي الشهيرة «نكبة دمشق» التي لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب: سلام من صبا بردى أرقّ ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق/ إذا عصفَ الحديدُ احمرّ أفقٌ على جنباته واسودّ أفقُ/ دمُ الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنّه نورٌ وحقّ/وللحرّيّة الحمراء بابٌ بكلّ يدٍ مضرّجة يُدَقُ.
وخاطب سعيد عقل دمشق يذكّرها بالحدث في قصيدة أنشدتها فيروز من ألحان الأخوين رحباني: ذكّرتكِ الخمسَ والعشرين ثورتها/ذاك النفير إلى الدّنيا أنْ اضطربي/ فُكّي الحديدَ يواعِدْكِ الألى جَبَهوا لدولة السيف سيفاً في القتال رَبِي.
التراب: نظرات من المساء على الأرض يلقيها رائد الفضاء السوري المقدّم محمد فارس المشارك في محطّة «مير» السوفييتيّة العام ١٩٨٧ وحديث من الفضاء للأرض مع الرئيس حافظ الأسد يصف المقدّم محمّد فارس لقائده سورية من الجوّ ويعبّر عن حبّه للوطن وولائه للقائد. جدير بالذّكر أن المقدّم محمّد فارس انشقّ من الجيش السوري لأسباب «جوّيّة»، احتجاجاً على قصف طيران النّظام لمدينة حلب في آب/أغسطس ٢٠١٣.
الماء: أخيراً روى كرّاس «تنقيب في السماء» قصّة رجل مُسنّ من بلدة سرمين ينتحب إثر تدمير برميل متفجّر للمرحاض الخارجي لبيته ويرثي المرحاض في قصيدة بِرازية من وحي المناسبة.
شاركتُ بمداخلة في ندوة ضمن فعاليّات الجناح السوري في المعرض عن حروب السماء على الأرض. حاولت أن أتتبّع الوسائل المستجدّة في قتل المدنيّين من السماء التي بدأتها في مقال سابق «غيرنيكا لكلّ حروب العرب». ما سيلي ليس نصّ المداخلة وإنّما هو تجميع لملاحظات تحضيريّة للمداخلة التي ألقيت شفهيّاً. انطلقت ممّا ذكّرتني به حادثة قصف الطيران الفرنسي لدمشق العام ١٩٢٥ من ضرورة تصحيح معلوماتي التي تقول بأنّ قصف الطيران النازي الألماني لبلدة غيرنيكا الباسكية العام ١٩٣٧ هو أوّل حادثة إستخدام للطيران الحربي ضدّ مدنيّين. الصحيح أنّ قصف غيرنيكا شكّل تلك السابقة بالنسبة إلى العالم الغربي. حقيقة الأمر أنّ القوى الاستعماريّة جرّبت الحروبَ الجوّيّة ضدّ المدنيّين في منطقتنا قبل أنْ تصدّرها إلى بلادها.
الاختراع البريطاني
تشير الأدلّة التاريخيّة إلى أنّ الريادة في استخدام الطيران الحربي ضدّ المدنيّين في المنطقة العربيّة هي لبريطانيا. وأنّ ونستون تشرشل هو صاحب النظريّة عندما كان وزير الحرب والطيران في الحكومة البريطانيّة وهو مَن وضعها موضع التنفيذ بمساعدة هيو تْرِنشارد، قائد «الطيران الملكي البريطاني». كان ذلك بُعيد الحرب العالميّة الأولى. ونقطة الانطلاق الدرس الذي استخرجه ترانشارد من تجربة الحرب العالميّة الأولى من أنّ «الطائرة سلاح هجوميّ وليست سلاحاً دفاعيّاً».
لعلّ أوّل مرّة استُخدم فيها الطيران الحربيّ البريطانيّ ضدّ المدنيّين هو خلال قمع انتفاضة العام ١٩٢٠ الوطنيّة في العراق وقد دارت أبرز حوادثها في جنوب البلاد. طلب تشرشل من ترنشارد استخدام الطيران للتخفيف من كلفة وجود المشاة على الأرض علماً أنّه كان يوجد على أرض العراق حينها لا أقلّ من١٤ ألف جنديّ بريطانيّ نظاميّ يُضاف إليهم حوالى ٨٠ ألف جنديّ هنديّ، قدرت كلفتهم بـ ١٤ مليون جنيه إسترليني سنويّاً.
ولم يقتصر الأمر على قمع ثورة العشرين. على سبيل اختبار تأثير الطيران الحربي على المدنيّين، اجتهد تشرشل بأنّ الغازات السامّة في القصف الجوّي «أرحم على المدنيّين» من المتفجّرات. مع أنّه ليس واضحاً إطلاقاً ولا هو مقنع أبداً، لماذا الموت اختناقاً أرحم من الموت تشظّياً. لعلّ تشرشل كان يرى هنا أيضاً، وخصوصاً أنّ «القتل الرحيم» للمدنيّين بالغازات السامّة أقلّ كلفة من قتلهم بالقنابل. فاقترح على ترانشارد اختبار غاز الخردل على أهالي جنوب العراق. وجدير بالذّكر أنّه تكريماً لدور الطيران الحربيّ الملكيّ البريطانيّ في إخماد ثورة العشرين، سلّمته سلطات الانتداب المسؤوليّة العسكريّة عن العراق.
عن فاعليّة القصف الجوّيّ ضدّ المدنيّين العراقيّين، في تلك الفترة، تباهى آرثر هاريس، الضابط الذي سوف يُشرف على تدمير المدن الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية، بأنّه كان بإمكان الطيران محو قرية كبيرة من الوجود في غضون ٤٥ دقيقة وتحويل جميع سكانها إلى قتلى أو جرحى٢.
خلال تلك الفترة استخدم غاز الخردل ايضاً لقمع عرب المشرق والأكراد والأشوريّين في الشمال العراقي على حدّ سواء. وكان لسلاح الجوّ البريطاني استخدامات شتّى في المنطقة قبيل الحرب العالميّة الثانية وأثناءها وبعدها. فقد استخدم الطيران الملكي مثلاً للدفاع عن عرش عبد الله، أمير شرقيّ الأردن ضدّ غارات آل سعود، واستخدم تكراراً في فلسطين منذ العام ١٩٢٤ ولعب دوراً أساسيّاً في قمع الثورة الفلسطينيّة الكبرى ١٩٣٦-٣٩.
بعد العراق، وربّما في الوقت ذاته، استخدم البريطانيّون الطيران الحربيّ في مستعمرة عدن والمحميّات. أسّسوا مطاراً وقاعدة جويّة للطيران الملكي في ضاحية خور مكسر. وفي اليمن، نشأت فكرة «شرطة الجوّ» في العشرينيّات من القرن الماضي أيضاً. نظّم الطيران الملكيّ دوريّات جوّيّة لمراقبة القبائل وترهيبها وردعها عندما تقاتل ولقمعها وتأديبها عندما تتمرّد. والفكرة السائدة أنّ الطائر المعدنيّ الجبّار كفيل ببثّ الرّعب في السكّان المحلّيّين فيوقفوا الاحتراب فيما بينهم أو يتخلّوا عن العصيان على السلطات البريطانيّة٣. لاحقاً، استُخدِم الطيران البريطاني بكثافة ضدّ انتفاضة ردفان وحرب الاستقلال في جنوب اليمن في الستينيّات من القرن الماضي. لم ينجح القصف تماماً في قمع الانتفاضة الوطنيّة ضدّ الاحتلال، لكنّه مكّن البريطانيّين من تمديد بقائهم في مستعمرة عدن ومحميّات جنوب اليمن، لبضع سنوات إضافيّة، قبل أن يضطرّ الجيش البريطانيّ إلى الانسحاب في أعقاب خمس سنوات من الكفاح المسلّح بقيادة حركة التحرير الوطنيّ اليمنيّة (١٩٦٢-١٩٦٧).
حرب الاغتيال من السماء
هذا بعض ما تجمّع لديّ عن العقاب الجمعيّ على مستوى قبيلة أو قرية أو مدينة. غير أنّ الموت الذي يزخّ من السماء ما لبث أن بدأ يستهدف الأفراد بما هم أفراد.
متى بدأت الطائرات تقنص الأفراد؟
في حصار بيروت طاردت طائرات حربيّة إسرائيليّة ياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة، لقنصه بصاروخ جوّ-أرض. لم توفّق به مع أنها نجحت في تدمير بناية كان يستخدمها بقنبلة فراغية. وفي غزّة بدأت أولى الاغتيالات ضدّ الأفراد بواسطة صواريخ إفراديّة من طوّافة أو طيّارة بدون طيّار. من ضحاياها الشيخ أحمد ياسين، مؤسّس حركة حماس، وأبو علي مصطفى، الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
هنا تبدأ قصّة الطائرة بدون طيّار. الاسم بالإنكليزيّة في القاموس العسكريّ UAV- Unmaned Arial Vehicle أي «مركبة جوّيّة بلا طيّار» أو Drone والدرون بالإنكليزية هو ذَكَر النحل تأكيداً على دقّة اللسعة القاتلة المفترضة. بدأ عهد جديد في الحروب لم يقتصر على توفير ماديّ في كلفة الطائرة وفي كلفة الطيّار. افتتحت الطائرة بدون طيّار عهد الاغتيالات من السماء.
كانت أولى الطائرات بدون طيار طائرة توم كات Tom Cat التي استخدمها الجيش الأميركي لأغراض الاستطلاع خلال حربه على فيتنام. ثمّ خدمت لأغراض التجسّس على كوبا في العام ١٩٦٤. غير أنّ التطوّر الكبير جاء مع طائرة «المفترس» Predator ، التي اخترعها المهندس العسكري إبراهيم كريم، الذي ولد في بغداد ابناً لتاجر يهوديّ، وهاجر إلى الولايات المتّحدة حيث ما لبث أن تخصّص في صناعة هذا النّوع من الطائرات٤. وقد طوّر كريم طائرة GNAT75 التي استخدمها سلاح الجو الأميركي لأغراض الاستطلاع فوق البوسنة ابتداء من فبراير/شباط ١٩٩٤. وفي السبعينيّات كان كريم قد باشر بناء طائرات بدون طيّار لسلاح الجوّ الإسرائيلي. وفي العام ١٩٨٠ حازت إسرائيل على أولى الطائرات وطوّرت من جانبها طائرة «الرائد» Pioneer التي استخدمتها في قتال القوّات السوريّة فوق سهل البقاع بلبنان العام ١٩٨٢.
في عام ٢٠٠١ تحوّلت طائرة «المفترس» Predator الأميركيّة إلى طائرة قاتلة. والطائرة من إنتاج وكالة الاستخبارات الأميركيّة الـ«سي آي إي». وفي أيلول/سبتمبر من ذلك العام، أجازت وزيرة الخارجيّة كوندوليسا رايس تسليح «المفترس» فزوّدت بصاروخ «نار الجحيم» Hell Fire. بناءّ عليه، صارت الوكالة تضع على مكتب الرئيس بوش الابن لائحة بأهداف قتل ذات أولويّة لإجازة ضربها، وما لبثت أن استصدرت من الرئيس السماح لها بالقتل بواسطة الطائرة بدون طيّار دون موافقة مسبقة منه. ومن أولى ضربات «المفترس» اغتيال سنان الحارثي قائد تنظيم القاعدة في اليمن المتّهم بتفجير المدمّرة البحريّة الأميركيّة «يو.إس.إس كول» في ميناء عدن باليمن في ٤ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٠٢.
غير أنّ ازدهار القنص بواسطة الطائرة بدون طيّار ينتمي إلى ولاية باراك أوباما منذ ٢٠١٠. وأوباما هو الرئيس الأميركيّ المهووس بالطائرة بدون طيّار وقد وجد فيها ضالّته حيث شكّل استخدامها الحلّ الوسط بين التدخّل العسكريّ المباشر، الذي تعهّد بعدم اللجوء إليه، والثّبات على الأرض، كما كان الحال عند آل بوش، من جهة، واللاحركة على الأرض والاقتصار على الحركة في السماء، من جهة أخرى. وهكذا في كلّ يوم ثلاثاء يلتقي الرئيس كبار القادة العسكريّين في جلسة لتعيين الأهداف (البشريّة) التي يتعيّن تنفيذ الإعدام بحقّها بواسطة الطائرة بدون طيار.
ولقياس مدى الاهتمام بهذا السلاح الجديد، ارتفعت موازناته من خزينة الدّولة الأميركيّة ارتفاعاً شاهقاً من ٢٨٤ مليون دولار العام ٢٠٠٣ إلى ٣ مليارات دولار بحلول العام ٢٠١٦. وفي عهد أوباما قتلت طائرات الطائرة بدون طيار ٣٩٠٠ هدف بشري في ٤٢٢ ضربة في أفغانستان وحدها تنفيذاً لبرنامج تديره الـ"سي آي إي" منذ العام ٢٠٠٤.
ومنذ العام ٢٠١٣ ووزارة الدفاع الأميركيّة مجهّزة بـ ٢٣٧ طائرة «مفترس» وبـ١١٢ زميلة لها أشدّ فتكاً ودمويّة هي طائرة «الحاصد» Reaper؛ وبنهاية ٢٠١٥ استخدمت طائرات بدون طيّار ٥٠٠ مرّة لمهمّات التعقّب والقتل وقتلت ٣،٩٢٢ هدفاً بشريّاً خارج ميادين القتال التقليديّة، معظمهم في باكستان واليمن.
باكراً استخدمت الطائرات بدون طيّار الأميركيّة لعمليّات ضدّ متّهمين بالانتماء إلى تنظيم القاعدة في اليمن. وباكراً أسقطت أعداداً لا يستهان بها من المدنيّين. تمّ الأمر بتسهيل من الحاكم علي عبد الله صالح لقاء مساعدات ماليّة وغضّ النظر الأميركيّ عن قمعه ضدّ شعبه وفساده، وخرقه كلّ بند من بنود حقوق الإنسان. وتقدّر منظّمة «هيومان رايتس ووتش» أنّ مناطق مختلفة من اليمن تعرّضت لنحو ٨٠ عمليّة قنص بواسطة الطائرات بدون طيّار منذ العام ٢٠٠٩. في واحدة من العمليّات المبكّرة في ١٧ كانون الأوّل/ديسمبر من ذلك العام، أطلقت الطائرات بدون طيّار صواريخها على مخيّم للبدو قتلت فيه ١٤ مشتبهاً بالانتماء إلى «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربيّة»، ولكنّها قتلت معهم ٤١ مدنياً خلال النوم، معظمهم من النساء والأطفال.
وفي ١٢ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٣، قصفت طائرات أميركيّة بدون طيّار قافلة سيّارات متوجّهة إلى عرس في منطقة رداع، تضمّ٦٠ إلى ٧٠ شخصاً، فقتلت ١٢ منهم وجرحت، ١٥ كلّهم مدنيّون٥.
«إنّهم فقط يَقتُلون. إنّهم لا يعرفون ما الذي تسبّبه صواريخهم!».
القول لوالد أحد ضحايا المدنيّين بضربة لطائرة بدون طيّار في حضرموت، بجنوب اليمن، في أغسطس/آب ٢٠١٣، نقلت حديثه رضيّة المتوكّل، رئيسة منظّمة «مواطنة لحقوق الإنسان» اليمنيّة، في شهادتها يوم ٣ يوليو/تموز، ٢٠١٦ أمام البرلمان الأوروبيّ عن أثر الطائرات بدون طيّار على السكّان المدنيّين في بلادها. أشارت المتوكّل إلى أنّ أغلب المناطق التي طاولتها الهجمات مناطق نائية وفقيرة حيث يقول السكّان بسخرية حزينة إنّ أحدث صواريخ العالم وصلتهم قبل أن تصلهم الكهرباء! ومن الحالات الّتي استمع إليها البرلمانيّون الأوروبّيون حالة صاروخين وجّهتهما طائرة بدون طيّار على سيّارة في مديريّة ولد دبيع بمحافظة البيضاء بوسط اليمن. كان ذلك، يوم ٢ سبتمبر/أيلول ٢٠١٢ والسّيّارة تسير في الشارع العام وفيها ١٤ شخصاً عائدين من السوق. قتلت الطائرة بدون طيار١٢ شخصاً على بعد أمتار من حاجز للجيش. لقد قرّرت أميركا قتلهم من دون محاكمة، يقول أهل الضحايا. ودون ممارسة حقّهم في الدفاع. وتحدّثت المتوكّل عن أنّ الطائرات تزرع الرّعب فتسهم في هجرة الأهالي، واستطردت عن عدم الاعتراف الحكومي بالضّحايا المدنيّين وعدم التعويض عليهم في معظم الحالات، وختمت عن فشل القتل كوسيلة لمحاربة الإرهاب مشيرة إلى أنّ عناصر القاعدة و"داعش" في اليمن أكثر عدداً وأوسع انتشاراً من ذي قبل، ومن أسباب قوّتهم غضبة النّاس على الطائرات بلا طيّار.
في ختام مداخلتها، لم تغفل رضيّة المتوكّل الإشارة إلى أنّ سماء اليمن منذ مارس/آذار ٢٠١٥ عرفت وسائط قتل أخرى ضدّ المدنيّين: الطائرات الحربيّة للتحالف العربيّ بقيادة السعوديّة، ومدافع وصواريخ أطراف الحروب المحليّة (قوّات الحوثيّين وعلي عبد الله صالح من جهة، والقوّات التابعة لحكومة عبد ربّه منصور هادي من جهة ثانية) وهذه وتلك مسؤولة عن آلاف القتلي بين المدنيّين.
قد تبدو أرقام الضحايا المدنيّين لصواريخ الطائرات بدون طيّار الأميركيّة متواضعة بالقياس إلى ما كان مسموحاً به في عهد بوش الابن. فبناءً على قواعد تشغيل تلك الطائرات، يجاز استخدام القتل لـ«هدف عالي القيمة»، شرط ألّا يتجاوز تقدير عدد الضحايا المدنيّين الذين سوف يسقطون جرّاء العمليّة ٢٩ ضحيّة، أمّا إذا صار العدد المقدّر ٣٠ ضحيّة، فلا بدّ من أخذ موافقة دونالد رامسفيلد أو جورج بوش بالذّات٦.
تبقى الإشارة إلى الانقلاب النوعيّ في الوجه الشرعيّ والقانونيّ لعمليّات الطائرات بدون طيّار. في ردّ فعل على هجوم تنظيم القاعدة على برجي مركز التجارة العالميّ في نيويورك، طالب الرئيس الأميركيّ جورج بوش حركة الطالبان بتسليم زعيم التنظيم أسامة بن لادن إلى القضاء الأميركيّ لمحاكمته بتهمة تنظيم هجوم يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ٢٠٠١. ولمّا امتنعت قيادة حركة الطالبان عن تسليمه، أعلن بوش أنّه سوف يتعقّب بن لادن عبر العالم للقبض عليه وسَوْقه إلى المحكمة. انقلب الأمر رأساً على عقب مع إعلان حالة حرب لا نهاية لها سُمّيت «الحرب الكونيّة ضدّ الإرهاب». انتهى دور التحقيق، والأدلّة الجنائيّة، والقضاء، والقانون الدوليّ، وقرارات الأمم المتّحدة، وافتراض البراءة، والحق في الدّفاع، وسواها ممّا يشكّل الحدّ الأدنى من منظومة دولة القانون واستقلال القضاء وعدالته. غلبت التّهمة الاستباقيّة والقتل الاستباقيّ: يريدون قَتلنا، قرّرنا قتلهم، هي المعادلة الّتي وردت في إحدى خطب الرئيس أوباما. وهو نوع القرارات التي يتّخذها كلّ يوم ثلاثاء في مكتبه بالبيت الأبيض بواشنطن.
أمّا الضّحايا من المدنيّين الذين يعترف لهم بأنّهم قضوا نتيجة «خطأ» ارتكبته طائرة من دون طيّار، فيتلقّى ذووهم تعويضاً يبلغ في أفغانستان، مثلاً، خمسة آلاف دولار ومعزاة.
حرب الاغتيال الإسرائيليّة
يستخدم الطيران الإسرائيلي الطائرة بدون طيّار منذ العام ١٩٧٠، وقد جرى تصنيعها محلّيّاً ابتداءً من العام ١٩٧٤ ويجري تصديرها منذ الثمانينيّات إلى ٢٤ من أصل ٧٦ بلداً تستخدم الطائرة بدون طيّار، وتشكّل صادرات الطائرة بدون طيّار الإسرائيليّة ١٠٪ من إجماليّ قيمة صادراتها العسكريّة. وإسرائيل هي في طليعة مصدّري ذلك النّوع من الطائرات في العالم حسب تقرير للعام ٢٠١٣. الغرض الأوّل من الطائرة بدون طيّار هو تخفيف المخاطرة وتقليص الخسائر في العنصر البشريّ في الطيران الحربي بإخراج الطيّارين من الميدان.
بسبب تعقيد تجهيزاتها وحذلقتها الإلكترونيّة، تملك الطائرة بدون طيّار مجسّات وكاميرات تجمع معلومات وتمارس «وظائف أمر وسيطرة» وتختار الأهداف وتطلق الصواريخ والقذائف على بُعد مئات، وأحياناً آلاف الكيلومترات من الأهداف البشريّة. وقد جرى تشبيه تشغيل الطائرة بدون طيار بألعاب الفيديو. يستخدم المشغّل العصا الإلكترونيّة وكبسة زرّ لإطلاق قذائف ضدّ أهداف ظاهرة على شاشة الكمبيوتر أمامه في اليمن أو أفغانستان وهو قابع في مكتبه المبرّد في قاعدة نيلليس الجوّية في جوار مدينة لاس فيغاس الأميركيّة.
بدأ استخدام الطائرات بدون طيّار في المنطقة في عمليّات استطلاع ضدّ مصر العام ١٩٧١، وصولاّ إلى حرب تشرين/أكتوبر ١٩٧٣.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل تنفي استخدام الطائرة بدون طيّار لأغراض القتل، فإنّها تمارس القتل بواسطتها باستمرار. ومن أوائل تلك الاستخدامات اغتيال السيّد عبّاس الموسوي، الأمين العام لحزب الله، في موكب سيّارات مع عدد من أفراد أسرته في ١٦ فبراير/شباط ١٩٩٢ بواسطة طائرة بدون طيّار إسرائيليّة من طراز «كشّاف» Scout . مع أنّ المؤكّد أنّ الطائرة بدون طيار تولّت عمليّة الاستكشاف، يبدو أنّ الاغتيال تمّ بواسطة صواريخ موجّهة من طوّافات. في فلسطين، أدلّة على استخدام الطائرة بدون طيّار لتوجيه ضربات على أفراد، منها عمليّة في ٢٤ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٠٤ ضدّ مقاتلين من الجهاد الإسلامي في خان يونس هما الأخَوان زياد وعمر أبو مصطفى، وكانا في العشرينيّات من العمر.
واستخدمت الطائرة بدون طيّار أيضاً، خلال الحرب على لبنان صيف ٢٠٠٦ لتحديد الأهداف ونقلها إلى الطوّافات للتعقّب والضرب، بشهادة تقارير دوليّة وأميركيّة. وقد جهّزت الطائرات بدون طيّار بصاروخ «حربة رافائيل» وقدّرت «هيومان رايتس ووتش» أنّ ما لا يقلّ عن ٢٥ لبنانيّاً قتلوا في ٩ ضربات لطائرات بدون طيّار إسرائيليّة خلال تلك الحرب.
واستُخدمت الطائرة بدون طيار على نطاق واسع في الاعتداءات على غزة «الرصاص المصهور» ٢٠٠٨-٩. قد اقتحمت القوّات الإسرائيليّة غزّة تتقدّمها الطائرات بدون طيّار بـ٥٠٠ ياردة تطلق نيران صواريخها المضادّة للدبّابات والقنابل المضادّة للأفراد، وتولّت قيادة تقدّم القوّات ببثّ معلومات عن الطرق الآمنة ليسلكها المشاة.
في العام ٢٠١٠ ابتكرت مصانع السّلاح الإسرائيليّة طائرة بدون طيّار مختصرة زوّدوا بها القادة الميدانيّين بحيث توفّر لهم المطلوب من المعلومات فلا يضطرّوا إلى الاتّكال على سلاح الطيران. وثمّة أدلّة على استمرار عمليّات الاغتيال الإسرائيليّة بواسطة الطائرة بدون طيّار في العامين ٢٠١٢ و٢٠١٣ حسب مصادر «هيومان رايتس ووتش» ذاتها حيث نفّذت ١٨ ضربة في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢. وقد اغتيل آنذاك درّاج يدعى هيثم مشعل، ٢٩ سنة، وأحد حرّاس مستشفى الشّفاء. وعلى الرغم من أنّه لا دليل قاطعاً على أنّ طائرة بدون طيّار اغتالت بالصواريخ الشيخ المقعد أحمد ياسين وهو في طريقه إلى الجامع للصّلاة على كرسيّه المتحرك، فالراجح أنّها كانت توجّه الطّوّافة التي تولّت تلك المهمّة. لكنّنا نعلم في المقابل أنّ عمليّة «عمود الدفاع» ضدّ غزّة في العام ٢٠١٢ بدأت بتولّي طائرة بدون طيّار من طراز «هيرمس ٤٥٠» توجيه صاروخ مضادّ للدروع على أحمد الجعبري، قائد الجناح العسكريّ لتنظيم حماس. عموماً، تستحوذ العمليّات بواسطة الطائرات بدون طيّار على ٦٥٪ من إجماليّ العمليّات الحربيّة الجويّة للجيش الإسرائيلي.
وثمّة أخبار تفيد بأنّ الطيران الإسرائيلي استخدم طائرات بدون طيّار لتوجيه عدّة ضربات ضدّ أهداف بشريّة في سيناء «بمباركة الطغمة العسكريّة» في مصر حسبما يتباهى عسكريّون اسرائيليّون٧.
ذروة النّفاق في استخدام الجيش الإسرائيلي للطائرة بدون طيّار هو الادّعاء بأنّها تسمح بتنفيذ «عمليّات حربيّة بدقّة جراحيّة». كيف لا و«درون» بالإنكليزيّة هو ذَكَر النحل تأكيداً على دقّة اللسعة القاتلة. هذه هي نتائج «الدقّة الجراحيّة» لعمليّة «الرصاص المصهور» على غزّة: ٣٥٣ طفلاً قتيلاً و٨٦٠ جريحاً، ١١٦ منهم ضحايا ضربات طائرات بدون طيّار٨. علماً بأن ٥١٩ هو مجموع عدد الأطفال الذين قتلوا من مجموع ضحايا الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة البالغ عددهم ٢١٩٢.
مقاومة الأرض
في مواجهة القتل الذي يزخّ من السماء، لجأ الفلسطينيّون إلى الأرض.
للفلسطينيين علاقة حميميّة بالأرض. تعلّموا بالتجربة، أنّه عندما يسيطر الذين سلبوا الأرض على السماء، تجب مقاومتهم من الأرض، وعندما تتعذّر المقاومة من فوق الأرض، تجب مقاومتهم من تحت الأرض. يحفرون الأنفاق في بطن الأرض.
افتتح مقاومو غزّة حرب الأنفاق. قبلهم بادرت المقاومة الإسلاميّة في لبنان إلى استخدام موسّع لتكتيك الأنفاق في استلهام للتّجربة الفيتناميّة. وليس سرّاً أنّ منطقة الشريط الحدوديّ بين لبنان وفلسطين المحتلّة مخترَقة بأعداد كبيرة من الأنفاق يتوغّل بعضها تحت المستوطنات الإسرائيليّة. بعد حرب غزّة، بدأ جنرالات إسرائيل ومحلّلوها الحربيّون يطرحون السؤال: ما الذي سوف يجري إذا أخذ الفلسطينيّون وسائر العرب يحفرون الأنفاق تحت إسرائيل على طول الحدود مع الدولة العبريّة؟ يحارون جواباً. في الانتظار: إنّ باطن الأرض هو الخاصرة الهشّة للذين يسلبون الأرض.
أنين الطيّارين
في واحدة من لمعاته الاستباقيّة، كتب محمد الماغوط: «أشعر بزَهْو الجلاد/بأنين الطيّار الذي يضرب وطنَه بالقنابل» (محمد الماغوط، مصافحة في أيار).
قائد سابق لسلاح الجوّ الإسرائيليّ عندما سئل عن شعوره عندما يقصف مدنيّين، بينهم أطفال فلسطيّنيون وعرب، قال «أشعر برجفة خفيفة في جناح الطائرة».
ما شعور الطيارين العرب وهم يضربون وطنهم وأهلهم بالقنابل؟
كم عدد الطّيارين ومساعدي الطيارين والملّاحين الجوّيين العرب – من السعوديّة والإمارات والعراق وقطر واليمن ومصر وسورية وليبيا وغيرها وغيرها – الذين صدر عنهم أنين أو ما يشبه الأنين، وهم يضربون أبناء وبنات وطنهم بالقنابل والصواريخ والبراميل المتفجّرة؟
البراميل المتفجّرة
الطوّافة السوريّة التي ترمي البراميل المتفجّرة لها طيّار. لها طيّار ومعاون طيّار. ولا يستطيع هذا أو ذاك أن يدّعي أنّه لم يشعر إلّا برجفة في جناح الطائرة حين تسقط قنابله أو حين ينفصل صاروخ عن جناح. ولا الادّعاء بأنّه يعاين الهدف على شاشة إلكترونيّة بحيث لا يتطلّب الأمر منه إلّا أن يكبس على زرّ لقصفه. فلا عين ترى ولا قلب يوجع.
هنا يتمّ كلّ شيء بالعَين المجرّدة. تستطيع الطوّافة التحليق على علوّ معقول لعدم توافر دفاعات أرضيّة معادية تهدّد سلامتها. وعند الوصول فوق الهدف، يتولّى معاون الطيّار زحلقة برميل المتفجّرات إلى حافّة الطوّافة وركله بقدمه ليسقط على الهدف الذي غالباً ما يكون حيّاً سكنيّاً.
لا علاقة بين البرميل المتفجّر والطائرة بدون طيّار من حيث دقّة التصويب. تكمن العلاقة بينهما في الهدف: المدنيين.
البرميل المتفجّر اختراع محلّيّ. ومخترعه إنْ هو إلّا اللواء جميل الحسن، قائد الاستخبارات الجوّية، الفرع الأكثر قسوة من فروع الاستخبارات السورّية. يبدو أنّ أدوات القتل، من مثل الطائرة القاتلة بدون طيّار والبرميل المتفجّر، لا تخرج إلّا من مخيّلة الأمنيّين. وميزة الاختراع أنّ كلفة البرميل الواحد لا تقارَن بكلفة قذيفة مدفع أو صاروخ أرض-أرض أو جوّ-أرض: ١٥٠ دولاراً للبرميل، مقابل نصف مليون دولار للصاروخ المجنّح. بل إنّ مخترع البرميل المتفجّر يتباهى بأنّ الطاقة التدميريّة لبرميله تفوق طاقة الصاروخ المجنّح. وهذه مواصفاته:
- الحاوية: برميل نفط أو حاوية شبيهة
- الطول:٠،٩-١،٢ متر، العرض ٦،. متر
- الزعانف: يجري تلحيمها على جوانب البرميل لتساهم في توجيه البرميل
- بحيث يرتطم عموديّاً حيث صاعق الصدم
- محتويات البرميل: خردة معدنيّة ممزوجة بمتفجّرات من نوع «ت.ن.ت.»
- السعة: يمكن أن تصل سعة البرميل إلى أكثر من ٩٠٠ كيلوغرام من مادة «ت.ن.ت.»
- صاعق الصدم: عندما يُدفع نحو الأعلى يستخدم حبلَ التفجير لإشعال الـ«ت.ن.ت.».
البرميل المتفجّر سلاح من الأسلحة المضادّة لحروب الغوار (العصابات). يعمل بناءً على القاعدة المعروفة: إفراغ الماء لقتل السمكة. وظيفته العسكريّة تحييد المناطق التي لا يستطيع الجيش النظاميّ احتلالها أو السيطرة عليها، إمّا للكلفة الباهظة لاقتحام أماكن مبنيّة وإمّا لعدم توافر قوّات اقتحام مضمونة أو عدد كاف من قوّات التثبّت. ليس من مهامّ البرميل إصابة قوّات المعارضة المسلّحة حيث يستطيع هو أو غيره أن يصلها، إنّما تكمن وظيفته الأساسيّة في ترويع السكّان وتدمير الأبنية فوق رؤوسهم، ودفعهم إلى الهجرة، أو إلى الضغط على المسلّحين للمغادرة، أو لعقد اتفاقات وقف إطلاق نار أو هدن مع القوّات النظاميّة. وغالباً ما تكون المنطقة المعرّضة للقصف مطوّقة بواسطة القوّات النظاميّة أو المليشيات الداعمة لها، ما يزيد من فاعليّة الضغط عليها بواسطة القصف الجوّي البرميلي.
منذ العام ٢٠١٣ أدانت الأمم المتّحدة استخدامه دون أن تتّخذ أيّ إجراء عقابيّ جرّاء الاستمرار في استخدامه. حسب الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، قذفت مروحيّات النظام السوري ٩٩٦ برميلاً في أيار/مايو ٢٠١٦ أدّت إلى مقتل ٥٧ مدنيّاً بينهم ١٨ طفلاً و١٠ نساء٩.
وبناءً على المصدر ذاته، تعرّض ألف موقع في حلب للقصف بواسطة البراميل المتفجّرة في أيار/مايو ٢٠١٥ ما أدّى إلى ٢٥٦٧ ضحية بين قتيل وجريح من المدنيّين، بينهم ٢٥٪ من الأطفال، وفي الشهر ذاته تعرّضت مدينة درعا إلى ٤٥٠ قصفاً بالبراميل أوقع ٦٠٩ ضحايا ثلثهم من الأطفال١٠.
البرميل المتفجّر سلاح حِرَفي يصنع محلياً قليل الكلفة عميق الأثر، لكنّه يستثير أحياناً ردّ فعل انتقاميّاً من الطرف المقابل الذي يلجأ إلى ابتكارات حِرَفيّة هو أيضاً بتحويل عبوات الغاز المنزلي إلى قذائف ترمى على مواقع القوّات النظاميّة والأحياء السكنيّة التي تسيطرعليها. كلا السلاحين أعمى أو ضعيف التصويب، يقتل مدنيّين ولا يميّز بين مدنيّ ومسلّح.
ونحن من طرفنا حريّ بنا ألّا نميّز، أو نفاضل، بين ضحيّة وضحيّة بناءً على نوع السلاح الذي ضحّى بها، أو الفريق الذي انتمت إليه. التمييز الوحيد بين البرميل المتفجّر وعبوات الغاز المنزليّ تطلق من «مدافع جهنّم» هو في الطاقة التدميريّة وعدد الضحايا فقط. كلّ الضحايا بشر وكثرتهم مدنيّون. وبينهم نسب عالية من الأطفال. ولا يحقّ لأحد التمييز بين مدنيّ قتيل ومدنيّ قتيل، وبين طفل ضحيّة وطفل ضحيّة. التمييز بين قتيل وقتيل والمفاضلة بين طفل قتيل وطفل قتيل، بذاته فعل قتل، بل يمكن أن يصل أحياناً إلى حجم جريمة حرب.
والناس مستمرّون في مقاومة البراميل المتفجّرة ولا تخلو مقاومتهم من الشِعر: «لو أصبح القمر برميلًا لن نعود عن ثورتنا»، يقول هذا القَسَم لأهالي الزبداني، مهما يكن المعنى الذي يلبسونه للثورة!
عودة إلى تجهيز بيينال البندقيّة. الحفريات في السماء ما لبثت أن انتهت بحفريات في الأرض. ذلك فعل مقاومة أيضاً، مارس فيه المهندس خالد ملص وفريق «سجلّ» المهمّة الأولى للمعمار والعمارة: حفر الأرض بحثاً عن الماء. جمعوا مبلغاً من المال لتمويل حفر بئر للماء في إحدى قرى محافظة درعا بالتعاون مع مجلسها المحلّي. ردّ أهالي درعا على براميل القتل السماوي الزاخّة عليهم، بتفجير المياه من الأرض ليجعلوا «من الماء كل شيء حيّ»!
- ١. فصل من كتاب يصدر قريبا عن دار رياض الريس للكتب والنشر بعنوان «دم الاخوَين. العنف في الحروب الاهلية»
- ٢. Geoff Simons, Iraq from Sumer to Post Saddam, 2004, p 21.
- ٣. استخدم سلاح الجوّ البريطانيّ الشرطة الجويّة مثلاً لقمع قبيلة آل السيار وانتفاضة بن عبدات في الأربعينيّات لعلاقة تلك القبيلة بدول المحور، في منطقة الغُرفة، ومن بين أبناء تلك القبيلة الذين تعاونوا مع دول المحور يونس البحري، المذيع الشهير في إذاعة برلين باللغة العربيّة من خلال برنامج «حيّ العرب!».
- ٤. راجع مقالة شارلز غلاس في مدوّنته: Charles Glass, “Nagmachons:, Charles Glass.net, April 6, 2016. وكتاب آندرو كوبُرنأ أدقّ وأغنى بحث في ولادة وتطور وعمليات حرب الاغتيالات بواسطة الطائرات بدون طيّار. Andrew Cockburn, Kill Chain: The Rise of High-Tech Assassins, London, Verso, 2015.
- ٥. 5راجع تقرير مبعوثة هيومان رايتس واتش الى اليمن، ليتّا تايلر، ا٢ شباط/فبراير٢٠١٤. ومقالها Letta Tayler, “The Truth about the U.S. Drone Program”, Policy Review, March 24, 2014.
- ٦. كوبُرن، المصدر ذاته، ص ١٣٩.
- ٧. Jason Ditz, in Anti War, July 11, 2016
- ٨. Mary Dobbins and Chris Cole, Israel and the Drone Wars. Examining Israel’s production, use and proliferation of UAVs, Drone Wars UK, Oxford, 2010.
- ٩. http://www.creativememory.org/?p=129518
- ١٠. https://aininfographic.com/project/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%85%...
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.