يُتوَّج البريطاني كِنْ لوش، للمرّة الثانية في حياته السينمائية، على «عرش» المهرجان السينمائي الأول في العالم، «كان»، بانتزاعه «السعفة الذهبية» عن جديده «أنا، دانيال بليك»، في الدورة الـ69 (11 ــ 22 أيار/مايو 2016). «سعفة» ثانية في 10 أعوام فقط، إذْ ينالها للمرّة الأولى في العام 2006، عن «الريح التي تهزّ الشعير»، هو الذي يوصف بأنه «أكثر السينمائيين مُشاركةً في المهرجان هذا»، إذْ يتمّ اختيار 18 فيلماً له ضمن «الخيار الرسمي»، منها 13 فيلماً في «المسابقة الرسمية»، من دون تناسي مشاركاته في مسابقات أخرى في «كان» أيضاً، كـ«نصف شهر المخرجين» (3 أفلام: «حياة عائلية» في العام 1972، و«بلاك جاك» بعده بـ 5 أعوام، و«ريف ـ راف» في العام 1991)، و«أسبوع النقّاد» (فيلمٌ واحدٌ هو KES، 1969)، و«نظرة ما» (فيلمٌ واحدٌ أيضاً هو «حارس الطرائد»، 1980).
مفارقات الجوائز
المفارقة، هنا، كامنةٌ في اختلاف بسيط بين المضمونين الدراميين للفيلمين الفائزين بـ«السعفة الذهبية» (ينال كِنْ لوش «جائزة لجنة التحكيم» في «كان» أيضاً، 3 مرّات). فالأول (الريح التي تهزّ الشعير) يغوص في أحد فصول الصراع التاريخي بين الإيرلنديين وبريطانيا، فيما يُعرف بـ«حرب الاستقلال الإيرلندي» (1919 ــ 1921)، من دون أن يتغاضى عن «الحرب الأهلية» المندلعة داخل «الصفّ الإيرلنديّ» (1922 ــ 1923)، متّخذاً ــ في هذا كلّه ــ جانب الحقّ الإنساني للإيرلنديين في نضالهم من أجل استقلالٍ وعدالةٍ وحرية، وملتقطاً جوانب عديدة من انزلاقهم في متاهة الصراعات الداخلية، التي تغرق في الدم والخراب. علماً أن العنوان الإنكليزي للفيلم يُحيل إلى قصيدة للشاعر والطبيب الإيرلندي روبرت دْواير جويس (1830 ــ 1883)، يتناول فيها «الثورة الإيرلندية»، المندلعة في العام 1798.
أمّا الثاني (أنا، دانيال بليك) جرحاً اقتصادياً ــ اجتماعياً، تُسبِّبه سلطة الرأسمال في نظام ليبراليّ لن يتهاون، أبداً، مع الطبقات الفقيرة والكادحة، إذْ يرى في الرأسمالية المتوحشة حصانة له، وديمومة. وهذا كلّه من خلال مناقشة السياسة الصحية لسلطة المملكة المتحدّة، عبر حكاية النجّار دانيال بليك (دايف جونس)، الذي يُصاب بأزمة قلبية تدفعه إلى طلب المساعدة من المركز الصحي الرسمي، حيث يغرق في مصائب ومتاهات وبيروقراطية معقّدة، إلى درجة أن سيرته هذه تُصبح «رحلة انزلاق إلى الجحيم الأرضيّ».
أي أن النضال السياسيّ، المستلّ من قناعات ثقافيّة وفكريّة وإنسانية لكِن لوش يعثر على «آذانٍ صاغيةٍ» إليه في مهرجان سينمائيّ، يحتلّ المرتبة الأولى في المشهد الدولي، تماماً كالمعالجة الدرامية لأحد أوجه الصراع الطبقي، بجوانبه الاجتماعية والاقتصادية والحياتية، إذْ إن لوش مهمومٌ بمسألتي البطالة وشروط الحياة اليومية للعمّال في المملكة المتحدّة. كأن «السعفة الذهبية» الثانية تؤكّد حرص عاملين في الشأن السينمائي على تكريم زميل لهم، لم يتردّد يوماً في مواجهة طغيان المال والسياسة القامعة والاحتلال والتأثيرات السلبية المتنوّعة الأشكال للرأسمالية، كما يفعل آخرون يسبقونهم في تكريمه، بفضل فيلم سياسي نضاليّ، يميل إلى الشأن الإنساني في مقاربته أنماط الصراع القائم ضد السلطات البريطانية.
لكنّ الفوز الثاني هذا لن يكون سبباً وحيداً لاستعادة التجربة السينمائية للبريطاني كِنْ لوش (مواليد 17 حزيران/يونيو 1936)، المفتوحة على السياسيّ والاجتماعي ــ الاقتصادي والنضالي الإنسانيّ في سيرتيه الحياتية والمهنية، علماً أن مساره الفني المهني يبدأ مطلع ستينيات القرن الـ20، بتحقيقه أول عمل فني له لحساب التلفزيون، بعنوان Z Cars (1962)، هو الذي يُعرف لاحقاً بكونه مخرجاً تلفزيونياً وسينمائياً في آن واحد. فالاشتغالات السينمائية تحديداً، تمتلك خصوصية فنية، تجمع شكلاً بسيطاً (غالباً) بمضمون حيوي يُساجل ويواجه ويُفكِّك، مُقدِّماً نتاجاً إبداعياً يستمدّ حكاياته من وقائع الحال الراهن، أو من الذاكرة التاريخية، ويستلّ مواجهاته من ثقافة يسارية متينة الصُنعة، تحصّن خياراته في تحدّي رأسماليةٍ قاسيةٍ، تتجلّى إحدى صُوره (التحدّي) في جديده السينمائيّ الأخير هذا.
والخيارات السجالية تلك، التي يجعلها كِنْ لوش مساراً حياتياً يُوازن بين السينمائيّ والثقافي واليوميّ والفكريّ والعمليّ، تمتدّ من التوغّل في شؤون الفرد البريطانيّ ــ الإيرلنديّ ومآزقه الحياتية، من دون تناسي نضالات الثاني في مواجهة تسلّط الأول عليه، وتصل إلى بقاع العالم، مولية الهمّ الفلسطيني أولوية تتساوى وأولوية اهتماماته الثقافية والنضالية الأخرى. ذلك أن مواجهة الطغيان، بحسب التاريخ المُعاش للوش، لا يتجزّأ، إنْ يكن اقتصادياً أو سياسياً أو إنسانياً. وهذا، إذْ يُصبح أساسياً في مفهومه العام إزاء الناس والعالم والأفكار والمآزق والتفاصيل المتنوّعة، يجد في معظم أفلامه السينمائية متنفّساً لقولٍ يتماهى مع التزاماته الفكرية، بل ينطلق منها ــ غالباً ــ في فضح آليات أنظمة الطغيان، وأساليبها القامعة.
التزامات أخلاقيّة واشتغالات ميدانيّة
في الدورة الأخيرة لـ«كان»، لم يتردّد كِنْ لوش، مثلاً، عن حضور 15 دقيقة فقط من فيلمٍ يحمل عنواناً سجاليّاً، ويتناول موضوعاً حيوياً، ويعمل فلسطينيٌّ على تحقيقه، على الرغم من عقبات كثيرة، تبدأ بصعوبة الحصول على إنتاجٍ سليمٍ. ففي السوق السينمائية المُقامة بالتعاون بين مهرجانَي دبي و«كان»، يعرض نصري حجّاج مقتطفات من «ميونيخ: قصة فلسطينية»، المنبثق من لقاء طويل مع فدائيين اثنين سابقين لا يزالان على قيد الحياة، يُشاركان في العملية الفدائية في القرية الأولمبية الألمانية ميونيخ، في دورة العام 1972 للألعاب الأولمبية، التي يذهب ضحيتها 11 لاعباً إسرائيلياً والمجموعة الفلسطينية باستثناء 3 من أصل 9، في 5 أيلول/سبتمبر 1972. الوثائقي الفلسطيني الجديد هذا يروي الحكاية من وجهة نظر من تبقّى حيّاً من عناصر المجموعة الفدائية. لكنّ يهوداً متشدّدين في المدينة الفرنسية «كان» يحاولون إلغاء العرض، ويضغطون على إدارة المهرجان، من دون جدوى. المقتطفات تُعرض، وكِنْ لوش يحضر، ويُعبِّر عن ارتياحه للمقتطفات التي يُشاهدها، وينقل حجاج عنه قوله إنه سيسعى إلى تأمين إنتاجٍ، أو تمويلٍ على الأقل، لإكمال المشروع.
فهل تنضوي مشاهدة لوش للمقتطفات تلك في سياق اهتمامه بفلسطين ومناصرة قضاياها وناسها، أم أنّ التزامه الأخلاقي إزاء ما يراه «قضايا عادلة» دافعٌ إلى اقتناص كلّ فرصة ممكنة لترجمةٍ عمليةٍ لالتزامه هذا، أم أنّ «الهيجان» اليهوديّ المتشدّد عاملٌ إضافيّ؟
لن يُفيد أيّ جواب، إذْ إن الأهمّ كامنٌ في الاجتهاد الدائم لكِنْ لوش إزاء قضايا يعتبرها أساسية في المفهوم الأخلاقيّ لمواجهة الطغيان. والمواجهة، إذْ تُزاوج النظريّ بالعمليّ في اشتغال السينمائيّ، لن تتغاضى عن كون إسرائيل دولة عنصرية، ما يدفعه إلى العمل الدؤوب في مجال مقاطعتها أكاديمياً وفنياً وثقافياً واقتصادياً. لذا، يُمكن القول إن إصراره على مشاهدة ربع ساعة من فيلم غير مُنجز ــ يُفترض به أن يكشف الحكاية الفلسطينية غير المروية، وأن يفضح جُرماً ألمانياً ــ إسرائيلياً غير واضح المعالم في مقتل اللاعبين الإسرائيليين الـ 11 والفدائيين الـ 7 ــ يأتي في صلب مساره النضاليّ، وفي جوهر التزاماته، الهادفة إلى تبيان معالم الجريمة العنصرية الإسرائيلية، والتواطؤ الغربيّ مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، والحقّ الفلسطيني في حياة حرّة وعادلة وسليمة.
في الفترة نفسها، وبعد ساعاتٍ قليلة على فوزه بـ«السعفة الذهبية» الثانية في «كان»، ينتقل كِنْ لوش إلى باريس، بصفته «عرّاب» احتفالٍ سينمائي يُقام في العاصمة الفرنسية للمرّة الثانية، بعنوان «مهرجان سينما فلسطين». الدورة الثانية هذه تُقام بين 23 أيار/مايو و5 حزيران/يونيو 2016، وتضمّ عدداً من الأفلام الفلسطينية حديثة الإنتاج وقديمه، كبعض عناوين إيليا سليمان وميشال خليفي وهاني أبو أسعد وعزّة الحسن، إلى جانب أفلام لكلٍّ من آن ــ ماري جاسر وسليم أبو جبل وباسل خليل ومي المصري وغيرهم. في حفلة الافتتاح، المُقامة في «معهد العالم العربي»، يتحدّث لوش عن ارتياحه للمشاركة في «مهرجان مهمّ كهذا»، حيث يستطيع المرء «أن يُشاهد أفلاماً فلسطينية، وأن يستمع إلى أصوات فلسطينية أيضاً». يقول إن «إسكات الصوت الفلسطيني في بلدي ليس حادثاً عابراً»، في إشارة منه إلى قرارٍ «سلطوي» ما يتناغم مع إسرائيل، ويتوقّف عند مشاركته مع عددٍ كبيرٍ من الناشطين في حراك متنوّع الأشكال والأساليب، من أجل فلسطين، مُعتبراً أن تحدّيات كثيرة تواجههم، لكنّهم لا يملكون خياراً آخر غير «المقاطعة»، أي مقاطعة إسرائيل: «إننا نفعل ما نستطيع أن نفعله».
لن يكتفي كِنْ لوش بهذا. ففي الفيلم الترويجي الخاصّ بالدورة الثانية لـ«مهرجان سينما فلسطين»، يُقدِّم مخرج «أرض وحرية» (1995) و«اسمي جو» (1998) و«البحث عن إيريك» (2009) و«قاعة جيمي» (2014) وغيرها، شهادة تعكس جوهر قناعته بالتزامه الأخلاقي إزاء فلسطين والفلسطينيين: «أحياناً، يصعب علينا أن نتذكّر وجود قصص أخرى أيضاً. قصص عائلية، وأخرى تتناول العلاقات بين الأشخاص. قصص حبّ وقطع علاقات. قصص أطفال. وهذا كلّه بمتخيّل كبير ورائع». يُضيف: «أرى أن المهرجان هذا فرصةٌ لمشاهدة الفعل الإنسانيّ الذي يجعل الفلسطينيين شعباً كبقية الشعوب»، متوقّفاً عند تأكّده أنّ الناس سيشاهدون «ليس فقط قصص الظلم والجور والاضطهاد، بل أيضاً قصص الحياة اليومية، وحيويّتها وفكاهتها».
الهمّ الفلسطيني وإسرائيل
موقفه الفلسطيني ومواجهته إسرائيل تدفعانه إلى الانتساب العمليّ لحملة «مقاطعة، سحب استثمارات وفرض عقوبات» عليها، المعروفة بحروفها الأجنبية BDS، وهي «حملة دولية تدعو إلى فرض ضغوط متنوّعة، اقتصادية وأكاديمية وثقافية وسياسية على إسرائيل، بهدف تحقيق 3 مسائل: إنهاء احتلال الأراضي العربية وبناء المستعمرات عليها، والمساواة الكاملة للفلسطينيين العرب في إسرائيل، واحترام حقّ العودة للّاجئين الفلسطينيين». انتسابه إليها يحصل في العام 2006، علماً أنه عضو في «محكمة راسل من أجل فلسطين»، التي تبدأ أعمالها في 4 آذار/نيسان 2009. إنها «محكمة رأي» تنشأ من أجل تعبئة الرأي العام «كي تتّخذ الأمم المتحدة والدول الأعضاء (في مجلس الأمن الدولي) التدابير اللازمة لإنهاء تفلّت إسرائيل من العقاب، ولتحقيق تسوية عادلة ودائمة» للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
هذا كلّه مترجمٌ في مواقف مختلفة، تنصبّ كلّها في الاتجاه نفسه. ففي مطلع العام 2015، يوقّع كِنْ لوش على بيان (يجمع نحو 600 توقيع لعاملين بريطانيين في مجال الفنون والثقافة)، يُنشر في الموقع الإلكتروني للصحيفة البريطانية «غارديان» (وتنقله، لاحقاً، صحفٌ ومواقع إلكترونية غربية مختلفة)، يؤكّد رفض الموقّعين عليه «تلبية أي دعوة مهنية من إسرائيل»، وإحجامهم عن قبول «تمويل منظّمات مرتبطة بحكومتها». بيانٌ كهذا يُشكّل امتداداً لموقف مماثل، يتّخذه أكاديميون بريطانيون وغربيون، قبل أعوام عدّة، يؤدّي إلى اهتزاز الكيان الإسرائيلي، الساعي إلى مواجهة المقاطعة ــ المؤذية له ــ بمحاولات دؤوبة لـ«تلميع» صورة «ديمقراطية» لإسرائيل في العالم. علماً أن حملة المقاطعة هذه تُسبِّب، بين حينٍ وآخر، أضراراً ثقافية وأكاديمية مختلفة لإسرائيل، ما يدفعها إلى تكثيف جهودها لمواجهة التأثيرات السلبية عليها، بشتّى الوسائل.
البيان المذكور ليس أول خطوة لكِنْ لوش في المواجهة الثقافية لدولة الاحتلال الإسرائيلي. ففي صيف العام 2014، يُعلن السينمائي ــ الذي تصفه المجلة الأسبوعية الفرنسية Les InRockuptibles بأنه «داعمٌ للقضية الفلسطينية منذ زمن بعيد»، وتقول الصحيفة اليومية الفرنسية أيضاً «لومانيتيه» إن توقيعه على بيانٍ «يواجه الإيديولوجية الليبرالية ويدافع عن دور الثقافة»، يُعتبر «صادماً» ــ «مقاطعة مطلقة للنشاطات الثقافية كلّها، المدعومة من الحكومة الإسرائيلية». بمعنى آخر، يلتزم لوش، كالموقّعين جميعهم، نصّ البيان هذا (رفض تلبية الدعوات المهنية المُقدَّمة من إسرائيل، وعدم الموافقة على تمويل منظّمات مرتبطة بها)، «إلى أن تحترم (إسرائيل) القوانين الدولية، والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان». يشير هؤلاء في بيانهم إلى أنه، منذ حرب غزّة صيف العام 2014، «لم يسترح الفلسطينيون من الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على أرضهم، وعلى سبل عيشهم، وعلى وجودهم السياسي». يستشهد البيان بتعليقٍ للمنظمة الإسرائيلية غير الحكومية B’Tselem، مفاده أنّ العام 2014 يُعتَبَر أحد أكثر الأعوام «وحشيةً وقتلاً في تاريخ الاحتلال»، وينتهي بالقول إن «الكارثة الفلسطينية مستمرّة».
في العام 2014 أيضاً، يصدر كتابٌ باللغة الفرنسية، بعنوان «التصدّي لنصّ أصحاب السلطات»، يتضمّن حواراً طويلاً يُجريه الكاتب والناشط الفرنسي المقيم في بريطانيا فرانك بارات مع كِنْ لوش، بالتعاون مع فلورانت بارات (منشورات Indigene). فرانك بارات منضوٍ، هو أيضاً، في صفوف «محكمة راسل من أجل فلسطين»، وكتابه هذا تكثيفٌ لمواقف السينمائيّ البريطاني، في السينما وهوليوود والاشتراكية والصراع الطبقي في بريطانيا. فيه، أيضاً، ما يوصف بأنه «لحظات تأمّل بأحوال فلسطين وسينماها».
إنه، بالتالي، فصولٌ من سيرته، واحتكاكه المباشر مع سلطات نافذة في المجالات الحياتية والمهنية اليومية المتنوّعة. فالمخرج الملتزم قضايا الناس في بريطانيا وإيرلندا والعالم، ينتبه إلى أن فيلماً يُراد له أن يكون «سياسياً»، بمعنى أن يكون قادراً على التحوّل إلى «أداة ووسيلة سياسيتين»، عليه (الفيلم) «أن يتمتّع باتّساق بين حساسيته ومحتواه». هذا منسحبٌ على معنى الفيلم النضالي إنسانياً، وليس سياسياً بالمعنى المباشر لمفردة «سياسي». هذا موجودٌ أصلاً في بعض أفلامه الـ«نضالية»، إذا صحّ التعبير، إذْ يتناول مواضيع الصراع الإيرلندي من أجل الاستقلال والحرية والعدالة، من منظار إنساني، لا يتحرّر من جوانبه السياسية والثقافية والحياتية، بقدر ما يتوجّه إلى الجوانب هذه، عبر صناعة فيلمية واضحة المعالم، ولا يتغاضى عن «أخطاء» النضال الإيرلنديّ، مثلاً، فيلتقط محتواه، ويطرحه لنقاش عبر لغة السينما، أو على الأقلّ يكتفي بالتقاطه وتبيان ملامحه، كمحاولة للردّ عليه، ضمنيّاً، بفضحه وتعريته وكشفه أمام المُشاهدين. وأيضاً، بعض أفلامه التي ينصبّ اهتمامها على نضالات شعوب أخرى (إسبانيا، نيكاراغوا مثلاً) من أجل قضاياها المحقِّة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
المحليّ والدوليّ بمفهوم إنسانيّ يساريّ
من داخل أسوار المملكة المتحدّة، إلى رحاب العالم كلّه، يتجوّل السينمائيّ البريطانيّ في أنحاء القضايا الفردية، ليُطلّ على الجماعة وعيشها وحكاياتها، وليكشف معالمها ومساراتها وسلوكها. أمثلةٌ قليلةٌ تؤكّد توجّهه السينمائيّ هذا. ففي العام 1995 مثلاً، يُحقِّق «أرض وحرية» (الجائزة الفرنسية «سيزار» لأفضل فيلم أجنبي، في دورة العام 1996). ذلك أن اهتمامه بـ«الهمّ النضالي الإنساني العام» يدفعه إلى أعماق الحرب الإسبانية (1936)، مرافقاً امرأة شابّة تبحث في ذاكرة جدّها الراحل، المناضل السابق ضد الديكتاتورية. في العام التالي، يُنجز «أغنية كارلا» (1996): من غلاسغو الإسكتلندية، في العام 1987، يعاين المخرج الأحوال المأسوية في نيكاراغوا، من خلال قصّة حبّ تجمع قلبي سائق باص وامرأة من نيكاراغوا، بعد إنقاذه إياها من الانتحار، فإذا بها تفتح ذاكرتها أمامه (وربما أمام مرآة ذاتها ووعيها)، وتعيد سرد أهوال الخراب في بلدها، كأنها تغتسل من وجعٍ أو خطيئة، أو كأنها تروي ــ بالإنابة عن لوش نفسه ــ شيئاً من أحوال أناس يخوضون معارك البقاء والانتصار للذات والحقّ.
ضمن إطار تنبّهه إلى حكايات العالم، يُحقِّق لوش، في العام ألفين، «خبز وورود»: تجربة الهجرة إلى أميركا، والتلاقي الإنساني بين شعوب وثقافات، وصراعات الفرد ضد وحشية الأنظمة المتحكّمة به. وهذا، إذ يُبنى على حساسية التنقيب في أعماق البيئة الجديدة تلك، يذهب إلى تجريد المشهد من أقنعته، لتبيان ما في داخله من تفاصيل وحالات. أما العراق، والحرب الأميركية ــ البريطانية عليه وفيه (ابتداءً من العام 2003)، يجذبه إلى مقاربة إنسانية يُمكن إضافتها إلى سلسلة الأفلام السينمائية الغربية، التي تتّخذ من الانهيار متنوّع الأشكال لجنود ــ أفراد في أتون الجريمة والتوتر والخراب الروحي، موادّ درامية لمعالجات سينمائية مختلفة. ففي «طريق أيريش» (2010)، لن يتردّد لوش عن مسايرة نمط سينمائي، يرتكز على حكاية جنود عائدين إلى بلادهم، بعد تأدية الخدمة في العراق (أو في فيتنام وكوريا سابقاً)، كي يُقدِّم رؤيته إلى الحرب وسحقها الفرد، خصوصاً إذا كانت الحرب مخادعة وغير واضحة المعالم والمسارات. الغرق في جحيم العراق، وتداعيات التمزّق والخراب الروحي والمتاهات الفردية، عبر قصّة صديقين يُقتل أحدهما في بغداد، فيبدأ الثاني رحلة البحث عن حقيقة موته، بعيداً عن «الرواية الرسمية». والرحلة هذه لن تكون، بحسب مفهوم لوش، أقلّ من تعرية نظام أمني ــ عسكريّ ــ سياسي غربي فاسد وكاذب وقاتل.
في البُعد السياسيّ لنضاله اليساريّ الإنسانيّ أيضاً، يُشارك كِنْ لوش في فيلم جماعي يُنجز في العام 2002، ويتمحور حول الاعتداء الإرهابي على برجي «المركز العالمي للتجارة» ومبنى «بنتاغون» في الولايات المتحدّة الأميركية، في 11 أيلول/سبتمبر 2001. يحمل الفيلم الجماعي عنواناً بسيطاً: «11 دقيقة و9 ثوانٍ ولقطة ـ 11 أيلول»، في إشارة واضحة إلى مسألتين أساسيتين: أولاً، تاريخ الهجوم (11/ 09/ 01)، ومدّة كلّ فيلم قصير (11 فيلماً). شريط لوش لن يكون الأهمّ جمالياً وبصرياً، كذاك الذي يصنعه الأميركي شون بن (1960) مثلاً، إذْ يكشف تفكيراً يسارياً واضح المعالم في نقده المرير لبشاعة السطوة الرأسمالية على الفقراء في بلده (تتفتّح الوردة على نافذة المنزل المتواضع لأرمل يناجي حبيبته الغائبة، أثناء سقوط البرجين، في دلالة واضحة إلى أن سقوط الرأسمالية يؤدّي إلى حياة الفقراء). لوش مختلف. يذهب إلى تشيلي، ويستعيد مجريات أحداث 11 أيلول أيضاً، لكن في العام 1973، المتمثّلة بانقلابٍ دمويّ للطاغية أوغستو بينوشي (1915 ــ 2006) على الحكم الديمقراطي للرئيس سلفادور الليندي (1908 ــ 1973)، بدعم مباشر من «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية»، بهدف تذكير السلطات الأميركية بأفعالها الجُرمية، ماضياً وحاضراً.
اليساريّ الملعون والمقاتل الشرس
يُعرَف كِنْ لوش بكونه «مُقاتلاً شرساً» ضد أشكال الظلم الاجتماعي كلّها. صفته هذه تجعله لا يُهادِن مارغريت ثاتشر (1925 ــ 2013) مثلاً، التي تبوّأت منصب رئاسة مجلس الوزراء في المملكة المتحدّة بين 4 أيار/مايو 1979 و28 تشرين الثاني/نوفمبر 1990. لن يتردّد أبداً في انتقاد لاذع لدور السياسات الليبرالية جداً، التي تنفّذها أثناء حكمها، قارئاً سياساتها تلك بتشاؤمٍ كبير، بسبب التأثير «الكارثيّ» على الأسر متواضعة الدخل. وهذا، إذ يخوضه بقناعة كبيرة بمبادئه الإنسانية، ينعكس سلباً عليه، أحياناً كثيرة، خصوصاً أثناء بحثه عن تمويل أو إنتاجٍ لمشاريعه السينمائية.
يقول لوش عنها إنها أول رئيس لمجلس الوزراء يُصبح «الأكثر إثارة للانقسام في الجسم السياسي البريطانيّ»، والأكثر «تدميراً» في «الأزمنة الحديثة». وهذه إحالة، مقصودة أو غير مقصودة، إلى عنوان أحد أجمل أفلام تشارلي تشابلن (1889 ــ 1977)، الذي يُنجزه في العام 1936، منتقداً فيه تحوّل التقنيات إلى آلة تحطيم للكائن البشريّ الفرد، لمصلحة نظام رأسماليّ متوحّش. بالنسبة إلى لوش، فإن الـ«ميراث» الذي تُخلِّفه ثاتشر كامنٌ في «بطالة أفراد كثيرين، وإقفال مصانع عديدة، وتدمير مجتمعات»: «إنها مقاتلة، لكن عدوّها هو الطبقة العاملة البريطانية». يُضيف أن انتصاراتها مستمدّة من سياسيين فاسدين في «حزب العمّال»، ومن نقابيين فاسدين أيضاً، معتبراً أن المآزق الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية والحياتية والسياسية، التي «نعيشها اليوم (في مرحلة وفاتها)، ناتجةٌ من سياساتها». في المقابل، يُذكّر أنها تصف نلسون مانديلا (1918 ــ 2013) بـ«الإرهابيّ»، وتحتسي الشاي مع بينوشي، «الجلاّد والقاتل».
كلامٌ كهذا يتفوّه به السينمائيّ في رحيلها، معتبراً أن أفضل طريقة لـ«تكريمها» تكمن في «خصخصة جنازتها». يُضيف: «فلنطلق لعبة المنافسة، ولنحصل على أدنى سعر. هذا ما كانت ستفعله». كلامٌ قاسٍ، لكنه لن يكون أقلّ قسوة من الممارسات الثاتشرية المتنوّعة، التي تستمرّ سنين عديدة بعد خروجها من منصبها. كلامٌ تهكميٌّ أيضاً، يليق بمن يُطلقه، كمناضل عمليّ ميدانيّ ويساريّ، لن يتردّد لحظةً عن توجيه نقدٍ لليسار، في ظروفٍ أخرى. ففي حوارٍ منشورٍ في الصحيفة اليومية الفرنسية «لومانتييه» (14 حزيران/يونيو 2014)، يقول كِنْ لوش إن انتصار اليمين «مُقلِقٌ للغاية»، لكنه يُفسَّر بـ«غياب حزب يساريّ قوي». صحيحٌ أنه يتفاءل بما يُحدثه فوز الحزبين اليساريّين «سيريزا» في اليونان و«بودينوس» في إسبانيا، لكن «تفاؤلاً» كهذا يُريده كشفاً لواقع الحال اليساريّ «السيئ»، إذْ يقول: «هذا يُظهر أنه عندما يتوصّل اليسار إلى خلق حركة شعبية، يكون لديه حظوظ واقعية للنجاح. أعتقد أن اليمين يحصل على نجاحاته بـ«فضل» يأس الناس، لكن اليسار سينجح، عندما يتوصّل إلى إعادة ضخّ الأمل في الجماهير. هذا هو الفرق الكبير».
يساريّته ظاهرةٌ في آلية معالجاته الدرامية لأحوال أناس وحالات بيئات اجتماعية مختلفة، تلتقي كلّها في انتمائها إلى طبقة الفقراء والكادحين. الأمثلة عديدة، لكن بعضها كفيلٌ بتبيان شيء من كيفية ترجمته لقناعاته في اشتغالات سينمائية، وفي آلية التقاطه نبض الشارع، وهذا منذ اللحظات الأولى لولادة نتاجه السينمائي، إذ يُحقِّق، في العام 1967، أول فيلم سينمائي له بعنوان «البقرة الفقيرة»، يتابع فيه التفاصيل الدقيقة والهامشية واليومية لحياة امرأة شقراء في إحدى ضواحي لندن، مشتّتة بين زوج وابن وعشيق ورجال، يمرّون عابرين بالقرب منها، أو عبرها أحياناً. فيلمٌ يبحث في مآزق المدن المحيطة بالعاصمة البريطانية، وفي الأسئلة الإنسانية والأخلاقية للحياة، ولمتاهاتها وانشغالاتها. شيءٌ يُشبه المقاربة هذه، موجودٌ في KES أيضاً: في بقعة جغرافية واقعة في الشمال الشرقي لإنكلترا، تُروى حكاية عائلة وبيئة من خلال عينَي مراهق، وأحاسيسه وانفعالاته.
بالإضافة إليهما، هناك أيضاً الوثائقي «الشعلة الوامضة» (1996)، الذي يروي حكاية الصراع بين الرأسمالية والعمّال، من خلال عملية طرد 500 عامل في الموانئ. يتّخذ تقنية التوثيق السينمائيّ أداة قول، كي يتماهى بالواقع القاسي لمصائر هؤلاء، ولسِيَرهم الحياتية قبل الطرد وبعده. بعد 5 أعوام، يُنجز «الملاّحون» (2001): أحوال عمّال السكك الحديدية، في مزيجٍ، غير واضح بشكل مباشر، بين بنيته الروائية ووقائع حكاياته، التي تظهر كأنها «توثيقٌ» لمآزق المعاناة المختلفة للعمّال، خصوصاً أن كاتب السيناريو الخاصّ بالفيلم هذا يُدعى روب داوبر (1956 ــ 2001)، عاملٌ سابقٌ في السكك الحديدية، يتوفّى أثناء توليف الفيلم، إثر إصابته بمرض سرطانيّ، يتسبّب به انفجار «الحرير الصخريّ»، عندما كان يعمل على أحد خطوط السكك الحديدية.
إلى ذلك، يُمكن التوقّف عند «مجرّد قبلة» (2003، «سيزار» أفضل فيلم في الاتحاد الأوروبي، في العام 2005). انعكاس شيء من الصدام بين طبقات اجتماعية متناقضة، لكن عبر قصّة حب بين شخصين، يحول دون إتمامها انتماؤهما إلى وضعين اجتماعيين مختلفتين. تجري أحداث الفيلم في غلاسكو، ثالث أكبر مدن المملكة المتحدة، والمدينة الأكبر والأكثر كثافة سكانية في اسكتلندا، التي ستكون حيّزاً جغرافياً لفيلمين آخرين هما: «اسمي جو» (1998) و«حصّة الملاك» (2012): الأول يغوص في تداعيات العيش في بيئة فقيرة، يعمّها فسادٌ وسطوة مافيات وتمزّقات تطاول عائلات وأفراداً، يخضعون جميعهم لنزاعات مافيوية. وهذا عبر سرد قصّة لقاء بين رجل وامرأة، يواجهان تحدّيات شتّى على مستوى الحب بينهما، كما على مستوى البيئة الاجتماعية التي يقيمان فيها. والثاني قراءة لمسار التحدّي الذي يمارسه عددٌ من الأصدقاء، لمواجهة وضعٍ اجتماعي مزرٍ يعيشونه.
فيهما، كما في أفلام أخرى له أيضاً، يظهر كِنْ لوش «حكّاءً» رفيع المستوى، في تنقيبه داخل أروقة العوالم السفلية لبيئات اجتماعية غارقة في لوعة الخراب المادي والنفسي. وهذا يظهر، في بعض جوانبه على الأقلّ، في «عالم حرّ» (2007)، إذْ تنطلق الحبكة من واقع عيشٍ مرير لامرأة متوسّطة الحال، تجد نفسها في تجربة تحتّم عليها التنبّه إلى قسوة عالم المهاجرين الفقراء إلى بلدها، وقسوة بلدها في التواصل معهم.
أفلام عديدة تؤكّد جوانب من التزاماته المتنوّعة. الأمثلة أعلاه تكشف شيئاً من هذا، وتعكس ارتباطاً وثيقاً لديه بين النظريّ والعمليّ، في مواجهته الشرسة أنظمة الطغيان، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.