نعيد في ما يلي نشر هذه المراجعة التي كتبها جوزيف سماحة لكتاب الصحافي البريطاني باتريك سيل عن الرئيس السوري حافظ الأسد. نشرت المراجعة في مجلة «زوايا» (العدد الأول، تموز ــ آب/يوليو ــ أغسطس ١٩٨٩، الصفحات ٢٦-٢٨). الجدير بلفت النظر في هذه المراجعة الخلاصة التي يتوصّل إليها سماحة عن أن عناصر القوة الخارجية للنظام السوري قابلة للانكشاف بفعل تطوّرات إقليميّة من دون أن يوفّر الوضع الداخلي للنظام الحصانة الكافية له. وهي خلاصة جديرة بالتأمّل العميق في مصير سياسات تطلّب القوة والاعتراف الخارجيّين، المسمّاة «ممانعة»، نظراً إلى ما انقلب إليه الوضع الحالي في سورية.
لا يكاد ينتهي المرء من قراءة كتاب باتريك سيل «الأسد، الصراع على الشرق الأوسط» حتى يصاب بالحيرة.
الكاتب صديق للرئيس الذي يكتب عنه. وهو يسخّر قلمه في عدد من الصحف والدوريات للدفاع عن سياسات النظام السوري. يفعل ذلك بطريقة تحفظ له حداً من المصداقية هي، بالضبط، المصداقية التي افتقدها الكاتب الفرنسي لوسيان بيترلان بعد كتابه البائس عن الرئيس السوري ومن جراء أسلوبه الفجّ في تبنّي الأطروحات التي تدعو إليها دمشق.
مصدر الحيرة هو أنّ القارئ العربيّ يجد نفسه أمام مضبطة اتّهام بحقّ النظام السوري وسياساته وتركيبته «ومنجزاته» وثغراته. إنّه «قدْح في معرض المدح».
التفسير المقترح لهذه الحيرة التي وقع فيها كثيرون ممن طالعوا الكتاب هو «انتماء» باتريك سيل نفسه. فالرجل واحد من كتّاب السيرة الغربيين المهتمّين بقضايا الشرق الأوسط وقد عرفنا نماذج عنهم في شخصي مايلز كوبلاند مثلاً أو ألين هارت.
ففي كتاب كوبلاند «لعبة الأمم» حديث صريح عن أن الاستخبارات المركزية الأميركية كانت على علم مسبق بثورة تموز/يوليو مع إيحاء إلى دور لها في قيامها. وفي كتاب هارت «عرفات، إرهابي أم صانع سلام؟» دفاع حارّ عن المقاومة الفلسطينية بصفتها تمثّل شعباً عانى الكثير من اضطهاد... إخوانه العرب!
يعتبر هذا الجيل من الكتاب نفسه وسيطاً بين العرب والرأي العام الغربي. وينتدب نفسه لمهمّة مؤدّاها أنّ الرأي العام لم يفهم تماماً مشكلات العرب ولا توجّهات زعمائهم الوطنيين، وأنّ دورهم (أي الكتّاب) هو تبديد سوء التفاهم عن طريق إثبات أنّ لا مشكلة فعلية بين العرب والمصالح الغربية وأنّه كان بالإمكان التوفيق بين الجانبين لولا ضيق صدر عدد من المسؤولين الغربيّين وارتكابهم «هفوة» الذهاب في التحالف مع إسرائيل إلى حدّ لا يستطيع العرب تحمّله.
القراءة الغربية، أي من وجهة نظر مصالح الغرب، لنتاج هؤلاء الكتّاب تؤدي إلى هذه النتيجة وتنجح أحياناً في إقناع قطاعات من الرأي العام بأنه في قلب أي زعيم عربي يرقد «سادات» صغير ينتظر لحظة التعبير عن نفسه. بالمقابل فإنّ القراءة العربية، أي من وجهة نظر المصالح العربية، تقود إلى استنتاج مخالف لا بل توصل مباشرة إلى الاتهام.
بعيداً عن أيّ مقارنة بين كلّ من جمال عبد الناصر وياسر عرفات من جهة وحافظ الأسد من الجهة الثانية، يبقى أنّ الالتباس المشار إليه هو الذي يجعل السؤال مطروحاً: هل أراد باتريك سيل الإضرار، بين العرب، بصورة الرئيس حافظ الأسد؟ أم أنّ الرئيس الأسد أراد عبر باتريك سيل، إيصال رسالة إلى الرأي العام والمسؤولين في الغرب تقول إنّه غير معادٍ لهم بالقدر الذي يتخيّلون وأنهم يتحمّلون جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الحالة التي وصلت إليها العلاقات بينهم؟
الميل هو إلى تبنّي الاحتمال الثاني، فباتريك سيل كتب ما كتبه بعد ساعات مطولة مع الرئيس الأسد. والذين تعاونوا معه وقدموا إليه المعلومات لم يفعلوا ذلك إلّا بناءً على توجيه رئاسي. وقد استمرّ يملك، بعد إصدار الكتاب، مداخله إلى مكاتب وغرف اجتماعات المسؤولين في دمشق ويكتب في الصحف استناداً إلى ما أبلغته إياه «مصادر سوريّة رفيعة المستوى».
لم يكلّف الكاتب نفسه، وهو الذي أمضى سنوات في إعداد مؤلفه، عناء الحوار مع معارض واحد. فهو يقول في الصفحة ٨٥ مثلاً «كان الحوراني عامل التغيير والقابلة التي ولدت على يديها سورية الجديد والتي قيّض للأسد أن يرأسها في ما بعد». وبما أنّنا نعرف جميعاً أنّ اكرم الحوراني لا يزال حياً يُرزق وهو يعيش في فرنسا، فإنّ من حقّنا التساؤل عن مدى الموضوعية في كتاب يتجنّب صاحبه اللقاء ولو لمرة واحدة مع «هذه القابلة»، ويقال الأمر نفسه عن كثيرين من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين والمصريين الذين رافقوا الرئيس الأسد واتفقوا أو اختلفوا معه والذين يملكون من دون شك روايتهم للأحداث. لقد تجاهل باتريك سيل كل هؤلاء من باب التوكيد أنّ كتابه هو، حصراً، رسالة موجّهة عبره إلى قارئي الإنكليزية وأنه غير مهتمّ لما يمكن أن يكون عليه موقف العرب وقرّاء العربية من الكتاب ومضمونه.
لو أراد أحد أن يحصي صفات المدح التي يسبغها باتريك سيل على الرئيس الأسد لوجد ذلك صعباً. فهو وطنيّ، وقوميّ، وديمقراطيّ، ومقاتل، واستراتيجي، من الطراز الأوّل، ومثقّف كبير، ووحدويّ، واشتراكيّ، ومحبّ لبلاده وشعبه، وحريص على الفلسطينيين واللبنانيين... ويأخذ المدح غالب الأحيان طابعاً مفتعلاً من نوع القول (ص ٢٨٩) «وكان الأسد يوقّع على الرسائل بخطّه وغالباً ما كان يكتب ملاحظات وتعليقات ذكيّة على الهامش تدل على حضور بديهته». ولا شكّ أنّ الرئيس الأسد بغنى فعلاً، عن هذا التقييم الذي يقدّمه سيل، لتذييله على المراسلات.
إنّ التدقيق في القراءة يقود إلى استنتاجٍ من نوع آخر. جمل المديح ترصّع الكتاب لكنّها لا تجد تعبيراً عن نفسها في سياقه. لا بل إنّ السياق يقود، غالب الأحيان، إلى استنتاجات معاكسة.
الإحباط المستمرّ
يعترف باتريك سيل بمسؤوليّة النظام السوري عن الدفع باتجاه حرب ٦٧ وتوريط جمال عبد الناصر، ويعترف أيضاً بـ«نصيب من المسؤوليّة» لوزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد ويبدي استغرابه من سلوك النظام الذي لم يحارب، ويشير، مع ذلك، إلى أنّه يوم ١٢ حزيران / يونيو ١٩٦٧ «لم يكن الأسد قادراً على النوم فوقع مغشياً عليه من التعب في وزارة الدفاع» (ص ٢٣٥)، ويستنتج أنّ هذه الصدمة أيقظتْ الأسد «أكثر من أيّ شيء آخر وحوّلته من انقلابيّ محدود الأفق إلى مخطّط ومفكّر استراتيجيّ في ميدان السياسة الدولية».
الدروس التي استقاها الأسد من هذه الحرب هي «ضرورة بناء قاعدة شخصية له في القوّات المسلّحة على غرار ما يفعله زعماء القبائل»، لذلك «راح يستقطب الولاء لنفسه عن طريق تقديم الخدمات والمنح...» (ص ٢٣٨) (طريقة غريبة بعض الشيء في الردّ على الحرب!)، وكان هذا يحصل معطوفاً على مواقف سياسيّة جديدة بات الأسد يدعو إليها في مواجهة المسؤولين الآخرين: السلبية حيال الفدائيين، إعادة النظر بالصراع الطبقي والانفتاح العربي.
هذه هي المعالم الأولى للبرنامج الذي شرع الرئيس الأسد في تطبيقه بعد انفراده بالسلطة في الحركة التصحيحية ١٦ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٧٠: المصالحة الوطنيّة، الانفتاح على الطبقة الوسطى، ضمانات للقطاع الخاص، الديمقراطية الحزبية، وإنعاش المنظّمات الشعبية والمجالس المحليّة...
لقد وصل الأسد إلى السلطة وهو يملك هذه النوايا الطيبة كلّها، ويريد العمل على تطبيقها. ولكن منذ ذلك الوقت لم يكفّ الآخرون عن خداعه وإغلاق الأبواب في وجهه. لقد خاض حرب أكتوبر مع أنور السادات، لكنّ هذا الأخير خدعه في خلالها وكان هنري كيسنجر على علم بالخديعة. ثمّ فوجئ بفكرة فصل القوّات في سيناء. ثمّ اتّفق مع السادات على خطّة مشتركة لمؤتمر جنيف فنقضها الرئيس المصري بناءً على نصيحة كيسنجر. ومع أنّ سيل يقول إنّ الأسد كان قد أصبح في عام ٦٧ مفكراً استراتيجياً في ميدان السياسة الدولية فإنه يغيّر رأيه تماماً عند الحديث عن علاقة الرئيس السوري بهنري كيسنجر، وهي علاقة لا بدّ من التوقّف عندها بعض الشيء.
١٣٠ ساعة مع هنري كيسنجر
يقول سيل في الصفحة ٣٧٢ إنّ الرئيس الأسد «كان يجهل الولايات المتحدة بل تنقصه المعلومات عن الغرب كلّه». ولا يعقل أن يكون هذا الكلام مدحاً لرئيس دولة يعجب به الكاتب وينسب إليه أنّه داخل منذ سنوات في اشتباك سياسي مع واشنطن. يضيف سيل في الصفحة التالية «لم تكن لديه فكرة واضحة عمّا يسعى إليه كيسنجر... رأى في تركيز كيسنجر المفاجئ على الشرق الأوسط بادرة أمل... كان الأسد مستعدّاً لإعطاء وزير الخارجية الأميركية ثقة لا يستهان بها»... كلّ هذه المقدّمات هي الأساس الذي يستند إليه ليؤكّد لقرّائه الغربيين أنّ باب الصداقة الأميركيّة ــ السوريّة كان مفتوحاً على مصراعيه وأنّ كيسنجر هو الذي أغلقه. ففي ١٩٧٤ كان الوزير الأميركيّ يريد حلّاً جزئياً في الجولان من أجل تطوير الاتفاق المصريّ ــ الإسرائيليّ (بعد فكّ الارتباط الأوّل) وفي المقابل كان الأسد لا يزال يثق بالولايات المتحدة الأميركيّة معتبراً أنها تبحث حقاً عن صداقة العرب «إنّ دفء صوت كيسنجر وحضور بديهيته وإخلاصه الظاهري قد كسبت الأسد واجتذبته، أمّا حقيقة كون كيسنجر يهودياً، أي من أبناء عمومه العرب نوعاً ما، فقد كانت من عناصر جاذبيّته» (ص ٣٨٦).
توطّدت العلاقة بين الرجلين إلى حدّ أنّهما أمضيا معاً في الفترة الممتدة من ٢٩ نيسان/ أبريل إلى ٢٩ أيار/مايو ١٩٧٤ حوالى ١٣٠ ساعة، وأنّ كيسنجر سجّل ٢٦ وصول ومغادرة إلى مطار دمشق، وأنّ الأسد كان «متشوّقاً لتعلم الكثير عن العالم ووجد كيسنجر معلّماً خصوصياً جاهزاً».
أعلن الأسد في تلك الأيام أنّه يوافق على قرارات الأمم المتحدة وهي لا تدعو إلى «تفكيك دولة إسرائيل» (مقابلة مع «نيوزويك»)، وأبدى الثقة بقدرات كيسنجر. لكنّ آمال التسوية انهارت عند الأسد مع التوقيع على اتفاقية فصل القوات الثانية في سيناء. إن انهيار آمال التسوية لم يؤثّر كما يبدو، على إمكانات كيسنجر وعلى طاقته الإقناعية لدى الرئيس السوري. فالوضع في لبنان يتطوّر بسرعة. وسيل يقول «إنّ الأسد قد ملأته بالفزع احتمالات وجود لبنان متشدّد ومغامر عند خاصرة سورية يستفزّ إسرائيل ويجعل الغرب يجفل من إطلاق العنان للمتصلّبين الفلسطينيين» (ص ٤٥٦)، كما أنّ الأسد «رجل نظام ولم يكن يريد الإطاحة بالمؤسسة المارونية» (ص ٤٥٦). ولهذا كانت خطّة كيسنجر تقضي بتخويف الأسد من تدخّل إسرائيلي من أجل دفعه هو إلى التدخل، ولا بدّ أنّه ــ أي كيسنجر ــ قد استطاب المفارقة الهائلة لموقف يضطر فيه الأسد إلى سحق الفلسطينيين بدلاً من حمايتهم وذلك لمنعهم من التسبّب في ما كان يخشاه أكثر من أيّ شيء ــ أي الغزو الإسرائيلي (ص ٤٥٢). وهكذا أمكن استدراج سورية إلى لبنان وأمكن إقناعها باحترام «الخطوط الحمر» الإسرائيلية، لا بل، يقول سيل، «إنّ اتفاقيّة الخط الأحمر كانت دعوة للسوريين كي يتدخّلوا وليست تحذيراً كي يبقوا خارجاً. وهكذا صار بإمكان سورية أن تتحرّك ضدّ الفلسطينيين في لبنان مع الفهم بأنّ إسرائيل لن تتدخّل».
إذا كانت الضجّة تقوم في بعض العواصم الغربية، من وقت لآخر، بسبب ما يسمّى «الممارسات السورية» في لبنان، فإنّ باتريك سيل أوصل الرسالة التي تحمل، كما الكتاب كلّه، الإشكاليّة التي أشرنا إليها آنفاً. لا يحقّ لأحد، في الغرب، أن يلوم الرئيس الأسد الذي نفّذ خطة كيسنجر. وبالمقابل فإنّ هذه السياسة نفسها، وكما يلاحظ سيل، قد أسيء فهمها ولم تكن لها شعبية بين الجماهير العربية. ويخلص الكاتب إلى القول إن «حسابات كيسنجر أثبتت صحّتها، وأدّى تحريكه للخيوط سراً وبتحفّظ ليجعل سورية، من بين جميع البلدان، تضرب الفلسطينيين وتحطّم آمال السوفيات». ولكلّ طرف من أطراف الصراع أن يستنتج، من هذه الخلاصة، ما يريد.
لا اعتراف ولا مكافأة
مسلسل الإحباط سيستمرّ في عهد جيمي كارتر. «إنّ الشيء الذي كان الأسد يتطلّع إليه هو الحصول من الإدارة الأميركيّة الجديدة على الاعتراف، بل وحتى على مكافأة سياسية. فإذا كان سيشترك في اللعبة فإنّ مصالحه يجب البحث فيها، وكانت المصلحة الأهّم من بينها حاجته إلى بسط نفوذه على جيرانه: لبنان والأردن والفلسطينيين». وإذا كان الأميركيون مستعدّين لنوع من الاعتراف فإنّهم بعيدون جداً عن تقديم مكافآت لأنّهم يريدون، هم ثمناً كبيراً مقابل هذا الحدّ الأدنى. ولعلّ العبارة المفتاحية التي تلخّص الكتاب كلّه، إذا جاز التعبير، هي تلك الموجودة ص ٥٠٠ ــ ٥٠١: «لقد عانى الأسد كثيراً من خيبات الأمل المتكرّرة على يد الولايات المتحدة».
ما إن جرى توقيع مذكّرة التفاهم الأميركية ــ الإسرائيلية حتى «نظر إليها الأسد بكآبة وقنوط، إذ أدرك أنّه لا يمكنه الاعتماد على واشنطن للمحافظة على السلام. كانت تلك لحظة إحباط كبيرة» (ص ٦٠٦). عندما أدرك، الأسد هذه الحقيقة وشعر بالكآبة والقنوط، كانت معاهدة كامب ديفيد تدخل عامها الثالث وكانت الحكومة الإسرائيلية قد ضمّت الجولان، وكانت الاستعدادات جارية، علناً، من أجل غزو لبنان!
«لم يكن الأسد يتوقّع أو يريد أن يقاتل في لبنان» (ص ٦١٤)، ومع ذلك حصل ما حصل ونجح المبعوث الأميركي في خداع الأسد غير مرّة (ما هو السر في الدفاع الحارّ الذي يقوم به باتريك سيل عن فيليب حبيب؟). وعندما يدافع الكاتب عن الرئيس يقول إنّه «كان مُحرجاً ومهيناً للأسد أن يرغَم على الجلوس جانباً بينما إسرائيل تهاجم عاصمة بلد عربيّ على مرمى حجر منه» (ص ٦٢٦)، وينسى أن يقول إنّ الرئيس الأسد هو المسؤول الأمنّي والسياسيّ عن هذه العاصمة. وقد استمرّ «شقاء الأسد من البيئة العربية» بعد غزو لبنان وبسببه (ص ٦٤٢)، لكنّ «أعمق شكوى مؤلمة للأسد كانت ضدّ الولايات المتحدة» (ص ٦٤٣) (برضه!!).
السياسة التي اتّبعها الرئيس الأسد، في عرف باتريك سيل، هي السياسة التي اضطر إلى اتباعها. إنّها الوجه الآخر للإحباط الذي شعر به كلّ مرّة وضع ثقته في الولايات المتحدة فأدارت له ظهرها.
لقد كان الأسد «مثل معظم السوريين، ينظر إلى الاتحاد السوفياتي بشيء من الريبة بسبب إلحاده العلنيّ ولأنّه سارع إلى الاعتراف بإسرائيل في ١٩٤٨». لكنّ علاقته مع السوفيات هي ثأره من علاقته المحبطة مع واشنطن: تتطوّر بعد «خديعة» فكّ الارتباط الثاني في الجولان وبعد خديعة غزو لبنان في ١٩٨٢.
السياسة «اليسارية» في الداخل ما هي إلّا الجواب على مؤامرة «الإخوان المسلمين» وهي المؤامرة التي اضطرت الرئيس الأسد إلى «انعطافة» وضعت حداً لسياسة الانفتاح التي يريدها سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي (ص ٥٤٥).
العلاقة مع الفلسطينيين ما هي إلّا محاولة مستمرّة لضبطهم باعتبارهم «أدوات مفيدة في الصراع غير المتكافئ والمليء بالإحباط وخيبة الأمل مع إسرائيل» (ص ٢٠٥)، وعندما يمتنع الفلسطينيون عن أنْ يكونوا كذلك لا يمتنع الرئيس الأسد عن مقاتلتهم بشراسة (ص ٦٦٧). أمّا عن موقف الأسد من «الإرهاب»، وهذه قضيّة حسّاسة جدّاً في الغرب، فإنّ باتريك سيل يُبرز عدم التطابق بين النظام السوري والمتطرّفين الشيعة، ويحتفل بإقفال مكاتب أبو نضال في دمشق ويتبنّى قصّة الاختراق الإسرائيلي للأجهزة الأمنية السورية عند الحديث عن «قضيّة الهنداوي»!
وحتى في موضوع التحالف مع إيران، فإنّ باتريك سيل يعتبر ذلك رداً من الرئيس الأسد على «الخديعة» الأميركيّة له المتمثّلة في كامب ديفيد. لا بل يزيد من عنده أنّ «الأسد باتخاذه آية الله صديقاً كان يبحث أيضاً عن مساعدة ضد أخطر جيرانه: العراق» (ص ٥٧٥). وهكذا لا تعود إسرائيل أخطر الجيران بل العراق، وحتى لا يصادف الكاتب البريطاني أيّ مسؤول غربيّ يأخذ على صديقه الرئيس الأسد العلاقة الخاصّة مع إيران، يدخل سيل في مطالعة طويلة حول «تسابق سورية وإسرائيل على كسب ودّ إيران» (ص ٥٩١)، والقصد من هذه المطالعة استخدام الرصيد الإسرائيلي في الغرب وتوظيفه من أجل الدفاع عن التحالف السوري مع إيران تحت حجّة «ما التهمة في ذلك إذا كانت إسرائيل، أيضاً، تقوم به؟». لكنّ ما يمكن اعتباره دفاعاً عن النظام السوري، في الغرب، يتحوّل إلى إدانة من وجهة نظر عربيّة. لذلك نجد أنّ سيل يقفز فوق ردّة الفعل السورية عند اكتشاف «إيران غيت» ويتجاهلها تماماً.
تغييب المشكلات الداخلية
سبق لباتريك سيل أن وضع كتاباً بعنوان «الصراع على سورية»، وهو إذ يعنون كتابه الأخير «الصراع على الشرق الأوسط» فالقصد واضح. يريد أن يقول إنّ الفترة التي أمضاها الرئيس الأسد في السلطة كانت فترة استقرار حوّلت دمشق من مسرح للعبة الصراع في الشرق الأوسط إلى واحد من الأطراف اللاعبة، أي طرف إقليميّ فعّال، وهذا، بمعنى ما، صحيح.
ما يتجاهله سيل هو التأثير الذي تركه غياب مصر منذ منتصف الخمسينيات، وغياب مصر والعراق منذ مطلع الثمانينيات، على تضخيم الدور السوري (إضافة إلى دخول سورية إلى لبنان ومحاولتها وضع اليد على الثورة الفلسطينية).
يقود هذا التجاهل إلى ارتكاب خطأ ربما يكون الأكبر في كتاب سيل الأخير، وهو خطأ مرتكب من باب الإسقاط والتجاهل: ليس طبيعياً أن نقرأ كتاباً من ٩٠٠ صفحة عن رئيس وبلد من دون أن نعرف فعلاً، ماذا صنع الرئيس في بلده. لم يتعامل سيل مع سورية بصفتها وطناً مثل سائر الأوطان ومع السوريين بصفتهم شعباً مثل سائر الشعوب. وإذا استثنينا صفحات قليلة تطرّق فيها الكاتب إلى أحوال سورية في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات والسياحة والإنتاج والتوزيع والضمانات الاجتماعية والتعليم (وهو تطرّق إليها في معرض الإشارة غالباً إلى الفساد)، نكون أمام كتاب لا يتحدّث في الواقع، عن سورية.
لا توفّر هذه الإشارات القليلة أيّ فكرة واضحة عمّا حصل في سورية في خلال العقدين الأخيرين ولا أيّ فكرة عن كيفية تطوّر المجتمع السوري بعيداً عن صراعات أطراف السلطة وعن صراعات السلطة مع القوى العربية الأخرى.
الجميع على علم بأنّ سورية في أزمة. والجميع على علم أنّ هذه الأزمة تطاول التموين والإنتاج، والتضخّم، وانهيار سعر العملة وازدهار السوق السوداء، وتدمير الريف، ونموّ القطاعات الطفيليّة، والاعتماد على الريع والمساعدات العربية والإيرانية، ونهب لبنان، وتعزيز العلاقات مع الأسواق العالميّة الرأسمالية، إلـخ. أي إنّ الأزمة تطاول مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سورية، ومع ذلك فإنّها بالكاد تستدعي أيّ اهتمام يُذكر من الكاتب.
هذا النقص مهمّ في حدّ ذاته، وهو مهمّ أكثر طالما أنّ الموضوع هو «الصراع على الشرق الأوسط»، وفي اعتقادنا أنّ طرفاً يعيش أزمة من هذا النوع وبهذا الحجم يستحيل عليه أن يكون طرفاً أصلاً في الصراع على الشرق الأوسط، وأنّ دوره في هذا الصراع، طالما هو على هذه الحالة، هو دور مؤقت ومرهون بشروط خارجية. ولعلّ ما نشهده اليوم، من تراجع في هذا الدور بفعل تطوّرات إقليمية، يؤكّد أن عناصر القوة الخارجية للنظام السوري غير ممسوكة من جانبه، وأنّه قابل للانكشاف في أيّ لحظة من دون أن يوفّر له وضعُه الداخلي الحصانةَ الكافية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.