العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

من الشارع الى الانتخابات البلدية

النسخة الورقية

«بنت الشارع شو إلها علاقة بالانتخابات؟!»، بهذه الجملة التعجبية والاستفهامية معاً عبّر صديق عن استغرابه من قراري خوض الانتخابات البلدية في بيروت في أيار/ مايو ٢٠١٦ مع حملة «بيروت مدينتي». أما استغرابه فمردّه إلى أنه اعتبر أن هنالك تناقضاً بين توجّه تلك المرأة التي يعرفها من خلال نشاطها السياسي والتنظيمي، أي توجّهها الاشتراكي الثوري، وبين قرارها المشاركة في الانتخابات. أوافق صديقي على أنّ الانتخابات في لبنان، في ظلّ القوانين الانتخابيّة السائدة، سواء البلدية أو البرلمانية، ما هي إلّا وسيلة لتعيد السلطة التجديد لنفسها ولتطيل أمد تحكّمها لسنوات جديدة مقبلة. كما أنّي أوافقه على أنّ هنالك وهماً عامّاً سائداً بأنّ الانتخابات هي الطريق الوحيدة للتغيير، لذا، نرى مثلاً أحزاباً شيوعية تخلّت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وفي لبنان منذ مطلع التسعينيات، عن بناء حركات اجتماعيّة وعمّالية وطلّابيّة من أسفل، وما فتئت تتزلّف تحالفات انتخابية مع قوى السلطة طمعاً بمقعد من هنا أو هناك تحت شعار «التغيير من الداخل». ومردّ ذلك إلى أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة أصبحت واحدة من أكبر أيقونات السياسة في ظلّ الليبرالية الجديدة وتُعقد عليها الكثير من الآمال والأوهام أيضاً!
 غير أنّ قراري خوض الانتخابات البلدية جاء لاعتبارين أساسيين. أولاً، أنّه منذ العام ٢٠١١ حصلت اندفاعة كبيرة في الشارع لنضالات من خارج الاستقطابات الطائفيّة والحزبيّة المهيمنة تنادي بالتغيير على مستوى شكل الحكم باتجاه تجاوز النظام الطائفي المأزوم وتنادي بتغييرات اجتماعية واقتصادية عبّرت عنها تحركاتٌ نقابيّة وعمّالية مختلفة، لا تزال تفتقر إلى بديل سياسيّ يحمل رؤية متكاملة مبنيّة على منظور التغيير من أسفل.  كان هنالك ضرورة، خصوصاً بعد خفوت حراك صيف ٢٠١٥ الذي بدأ مع أزمة النفايات، وحالة اليأس التي رافقت العديد من الذين واللواتي شاركوا بها، الاستمرار في محاولة تطويق السلطة وأحزابها المهيمنة، وعدم السماح لها بأن تكون اللاعب الوحيد الأوحد، سواء في الشارع أو في الانتخابات.
كما أنّ المطلوب هو انخراطنا في تلك العمليّة السياسيّة التقليديّة، ليس لتكريسها حصراً، إنما لاستغلالها أيضاً كوسيلة تتيح أولاً خلق شبكة علاقات أوسع مع الناس التي لا تقع عادة في دوائر «الناشطين» الضيّقة، وكمنبر للتحريض على خلق مساحات أوسع لتشكّل بدائل ديمقراطية من أسفل.
وهنا يقع الاعتبار الثاني لقراري. فتجربة حراك صيف ٢٠١٥ أكسبتني وعياً بأهمية العمل البلدي بالتحديد. فقد تساءلنا حينها: ما هو دور البلديات في حلّ أزمة تكدّس النفايات؟ وطالبنا بأن تحرّر أموالها بهدف اعتماد حلول بيئية ومستدامة بعيداً عن المركزيّة التي من خلالها تدار صفقات الخصخصة والمحاصصة. وأيضاً اكتسبنا معرفة جديدة بأنّه من الأسهل نظرياً ممارسة الرقابة والضغط على مجلس بلدي، من مماررستها على مجلس وزراء أو نواب.
ومن خلال تجربة خوض الانتخابات البلديّة، تعلّمت أنّ هناك مساحة سياسيّة لم نطرقها بعد، للاشتباك مع قاعدة أوسع من الناس حول مشاكلهم اليومية. وتبيّن لي أنّ هذه المساحة بالتحديد مهمّة جداً لبداية تكوّن بدائل على المستوى المحليّ بعد مصادرة المليشيات الحاكمة أغلب مساحات النضالات المشتركة الطلابيّة والنقابيّة والعمّاليّة والمهنيّة وغيرها. وهذه المساحة تبدأ تحديداً من مشكلة مجرور الحيّ، وإنارة الشارع، ومشكلة الأرصفة وغيرها، وصولاً إلى طرح السؤال الأوسع الذي يعني جميع القاطنين هنا والآن، على اختلافاتهم الجنسية والوطنية والطبقية والجندرية: أي مدينة تلك التي نريد؟
عبر التدخّل على المستوى المحلّي، هنالك إمكانية لإعادة تعريف السياسة وتحميلها مضامين جديدة، بما هي صراع حول شكل المجتمع الذي نريد، وعلاقاتنا التي ننسجها فيما بيننا في الحيّز العام الذي نتشاركه، من أجل مدينة أكثر ديمقراطيّة بعلاقتها مع ساكنيها وأكثر ترحيباً بهم على تنوّعاتهم. لصديقي هذا أقول إنّ لا تناقض بين نضال الشارع وخوض الانتخابات، فهما أحياناً مساران يستكملان بعضهما البعض ما دام هدفنا معاً هو بناء بديل سياسيّ ديمقراطي ينطلق من هموم الناس ويدافع عن حقّنا جميعاً بحياة أفضل.
 
«أصغر مرشحة»
«بصفتك أصغر مرشّحة على اللائحة، أتظنّين بأنّك تستطيعين تمثيل مصالح أهل بيروت؟»، لا يزال هذا السؤال عالقاً في ذهني منذ أن سُئلته في أحد البرامج التلفزيونية. حاولت إخفاء انزعاجي وأجبت من دون انفعال بأنّ صراعنا ليس جيلياً حصراً، بل هو صراع حول رؤيتنا للمدينة. لكن بعيداً عمّا يحملة السؤال من فكرة الوصاية الأبويّة، تراني أسأل: ما علاقة السنّ بالمصالح التي نمثّلها أصلاً؟ هل مَن في السلطة من الأكبر سنّاً هم بالضرورة حريصون على مصالح الناس أكثر؟ أغلب الساكنين في هذا البلد سيجيبون بالنفي. وهل بالضرورة «الشباب» منهم أكثر تمثيلاً لمصالح الناس العامّة؟ أغلب الساكنين في هذا البلد سيجيبون أيضاً بالنفي. رغم ذلك، يبقى الخطاب حول «الشباب» كثير الانتشار في المؤتمرات حول «دور الشباب في...»، وفي الخطابات السياسيّة حول «تعزيز دور الشباب» وغيرها.
الخطاب حول الشباب، كما هو الخطاب حول «التكنوقراط» عابر للطبقات، وللجندر والأصول الوطنيّة. خطاب جاذب للآلاف ممّن يأملون حصول تغيير، إذ يعدُهم بجديد مختلف عن القديم، وهو خطاب مناسب أيضاً للسلطة لأنّه يكرّس التراتبيّة الأبويّة في المجتمع كما يعمل على إخفاء مظاهر التمايز الاجتماعي وعدم المساواة.
خلال التغطية الإعلاميّة للثورات العربية مثلاً، لاسيّما في كل من تونس ومصر، تم إخفاء التركيبة الطبقية للاحتجاجات تحت عباءة مركّب متجانس ومتخيّل جديد سمي «الشباب» كما تحاجج رباب المهدي. التركيز على هذا المصطلح يسمح بتجاهل ما كانت عليه هذه الثورات من انتفاضات على عهود من سياسات الليبرالية الجديدة. هذه السياسات التي أعلنت بالفعل الحرب على الشباب. فهذا الجيل، خصوصاً من  الطبقة العاملة، عليه التأقلم مع عالم تضمحلّ فيه فرص العمل، وترتفع فيه تكلفة التعليم، وتتقلّص فيه شبكات الدعم الاجتماعي. وحين ينتفض على هذا الواقع يتمّ شنّ حرب عليه بأنه شباب أخرق وطائش. خوف السلطة إذاً من الشباب، تحديداً ذلك الذي يختنق تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والباحث عن بدائل سياسيّة والمنتفض على بؤس واقعه، يتلازم مع محاولاتها المستمرة لاستيعابه. لذا نراها مرّة تنعته بالطيش والرعونة خوفاً، ومرّة أخرى تدعوه للعودة إلى صلاح الأخلاق، فيما تعمل هي كالمحدد الأوحد لها.
لذا، لا أنفي كليّاً وجود المسألة الجيليّة، بل أحاجج بأنّها ليست المحدّد الأوحد الذي ترتكز عليه خياراتنا السياسيّة. فأنا لا أرى أنّ الصراع هو بين جيلي وجيل والديّ. فكلا الجيلين لديهما هواجسه انطلاقاً من تجربته وظروف نشأته. ولنا مع هذا الجيل ما يجمعنا من مخاوف أكثر ممّا يفرّقنا. فوالدي مثلاً، يملك مصلحة تجارية صغيرة، وناضل على مدار سنيه الأربعين الماضية في أكثر الظروف قسوة من أجل أن يوفر لولديه حياة كريمة من أكل وتعليم وطبابة، فيما حرمته الدولة من حقّه بالسكن وبضمان صحّيّ واجتماعي ومعاش تقاعدي. وأنا بنت جيلي أرى مستقبلي في حاضر أبي هذا. ويشكّل قلق الحاضر وهاجس المستقبل دافعاً كبيراً لي وللآلاف من أبناء وبنات جيلي في لبنان والعالم للنضال ضد سياسة القلق المعمّمة هذه ومن أجل العدالة الاجتماعية. 
«الشباب» ليس مركّباً واحداً متجانساً قائماً بنفسه، بل تتقاطع معه مركّبات وهويّات أساسية أخرى، منها الانتماءات الطبقيّة والجندرية وغيرها. ومن رفع حملة «بيروت مدينتي» على أكتافه هم مئات من أولئك، من طلاب جامعات يعانون تحت ضغط أكلاف التعليم العالية أو خريجين جدد عاطلين من العمل أو وافدين حديثاً على سوق تبلغ نسبة البطالة فيه ما يزيد عن 24% من بينهم 34% من الشباب.

 
أمام العائلة الممتدّة
تعلّمت الكثير من هذه التجربة، دفعتني إلى التفكير في قضايا لم أتنبّه لها سابقاً. تعلمت مثلاً، أنّ العائلات تحتلّ مركزاً هامّاً في مسار العمليّة الانتخابيّة البلدية تحديداً. ترتكز عليها الأحزاب حتى المهيمنة منها، وتعمل على استمالتها لاكتساب أصواتها. أمّا القوى التي تطرح نفسها كبديل فلا تستطيع أن توجّه إلى العائلات ضربةً واحدة وبعضها لا يرى إشكاليّة بالعمل من داخل بنية النظام القائم، حتى بُناه العائلية. تعلّمت بالتجربة أنّ هذه الأخيرة، أكثر منها الطائفية، تشكل النواة التي يعيد النظام إنتاج نفسه وشبكة علاقاته من خلالها.
من موقعي كشخص لم يستثمر كثيراً من الوقت والجهد خلال الـ28 سنة الماضية في تمتين علاقاته مع العائلة الممتدّة، وضعتني الانتخابات أمام سؤال العائلة. فمن موقعي كشخص تمكّن من التحرّر إلى حدّ كبير من سيطرة العائلة التي عادة ما تمارس على النساء، لاعتباراتٍ ذاتيّة، طبقيّة، سياسيّة، وجغرافيّة، وكنسويّة تدرك البنية البطركيّة للعائلة والامتيازات التي تمنحها للرجال، لم أجد اللجوء إلى العائلة الموسّعة في خضم الحملة الانتخابيّة قراراً سهلاً.
يترافق استحضار صلة القرابة بالنسبة إلى النساء، وإن كان للدعم، مع استحضارِ، إراديّ أو غير إراديّ للقيَم وتراتبيّة العلاقات البطركيّة، كما تحاجج سعاد جوزيف. وبالتالي، كان سؤال العائلة بالنسبة إلي سياسيّاً ومبدئياً.  فاستحضار العائلة هو استحضار  لسلطة أبوية في الحيّزين العام والخاص من حياة النساء الاجتماعيّة. وعلى قدر ما تمثّل العائلة مصدراً للدعم والحب لأعضائها، تكون مصدراً للممارسات التسلطيّة على خيارات النساء السياسيّة والاجتماعيّة والجنسيّة وغيرها. لهذه الأسباب، تردّدت أمام اللجوء إلى العائلة في محاولةٍ لكسب أصواتها دعماً للائحة «بيروت مدينتي».
إلّا أنّني اكتشفت بالتجربة أنّ موقعي الفرديّ والنسويّ هذا، بالإضافة إلى الحالة والأصداء القويّة التي خلقتها الحملة، أتاحت لي المجال للتعامل مع أفراد العائلة سياسيّاً. وفي يومٍ من الأيام الانتخابيّة، استجمعت قوّتي ووقفت لأول مرة في أحد اجتماعات العائلة التي بادر إلى تنظيمها أحد أفراد الأسرة، وتحدّثْت من دون رقابةٍ مسبقةٍ عن ضرورة الخروج من ثنائيّة 8 و14 آذار، وضرورة دعم المبادرات الخارجة عن الاستقطابات الطائفيّة، والعمل على تكوين بدائل سياسية. وكان مفاجئاً بالنسبة إليّ حجم الحبّ والدعم الذي أحاط بي كفرد. تكرّرت هذه الوقفة في اجتماعاتٍ أخرى وأكثر اتساعاً. ونشطت المبادرات والاتصالات داخل العائلة وتكثّفت لدعم ترشّحي، على الرغم من كوني امرأةً شابّة. وأتى بعضٌ من الدعم لأنني «قبيسية» و«بنت العم» والبعض الآخر عن قناعة بضرورة دعم مبادرات اعتراضية على السلطة وبديلة منها. ودخل أبجديّتي مصطلحٌ جديد يدعى «المفاتيح». هؤلاء هم رجال العائلة من ذوي الحيثية والنفوذ داخلها، والذين من خلالهم يُفتح للمرشحين مثلاً باب التواصل مع أعضاء الأسرة الباقين.
في تلك اللحظة تحديداً، اكتشفت أنّه لا يمكن مقاربة العائلة ككتلة واحدة، ولا كثابت، بل هي متأقلم، والديناميّات داخلها تتأثر أيضاً بالديناميّات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة خارجها. وأنّ تفتّح خيارات سياسيّة خارج العائلة من شأنه أن يفتح النقاش حول الخيارات السياسيّة داخلها.
على الرغم من ذلك، تشكّل العائلات الممتدّة الوحدة الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي والاجتماعي في لبنان. فغالباً ما يحسّن «مفاتيح» العائلات موقعَهم تجاه الزعامات السياسية من خلال ضبط أفراد العائلات، نساء ورجالاً، سياسياً وإلزامهم بالتصويت مثلاً باتجاهٍ معيّن ككتلة واحدة لمصلحة هذا الزعيم أو ذاك. فيما تعمل هذه الزعامات على استمالة كبار رجال العائلات لتفتح من خلالهم قنوات التوزيع الغنائمي من الدولة إلى شبكتهم الزبائنية. وهذا بالتالي أحد أوجه تحكّم السلطة السياسيّة بالمجتمع عن طريق السلطة العائلية. لذا لا بدّ من طرح الإصلاح الانتخابي خصوصاً لجهة حقّ الانتخاب القائم على مكان السكن كوسيلة من أجل زعزعة الأسس التي يقوم عليها تحالف السلطات هذا ومن أجل تحرير الأفراد، نساءً ورجالاً، بخياراتهم السياسية من السلطة الأبوية للزعيم ولمفتاحه.
 
خصم السلطة غير النمطي
شكلت «بيروت مدينتي» خصما غير نمطيّ للسلطة، ممّا أدّى إلى إرباكها بداية من حيث آليات التعاطي مع الحالة التي خلقتها، قبل أن تعمد أجزاء منها إلى محاولة لا تزال حتى الساعة يائسة لاستيعابها (مثل محاولة وزير العدل اللبناني أشرف ريفي حين وجّه تحية لـ«بيروت مدينتي» وصرّح بأنها أسست لانتصاره الانتخابي في طرابلس). فـ «بيروت مدينتي» لم تقارع الأحزاب المهيمنة في المضمار المحبّب لهذه الأخيرة والذي تتفوّق فيه، أيْ من خلال المغالاة في ادّعاء تمثيل طائفي مثلاً. بل طرحت الحملة خطاباً مختلفاً عنوانه المصلحة المشتركة العامة، وهي المساحة التي تشكّل إدانة كبرى لهذه القوى. ولا شك في أنّ الحملة أعطت دفعاً وثقة للناس بالتعبير عن غضبها تجاه الحكام وعن حاجتها لبدائل سياسية. هكذا خرجنا، على ما يقول أحد الأصدقاء، أفراداً ولوائح وناخبين من بيروت، مروراً بالضاحية، وبالعديد من قرى الشمال والجنوب والجبل ورفعنا في وجه هذه القوى أصبعنا الأوسط باسمين ومَلآنين بالأمل والإصرار على الانطلاق «ببدايات» جديدة تبني على ما تحقّق.

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.