العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

أهاجر مثل طير مذبوح

النسخة الورقية

«يا للخسارة، صُدُق، ما زرتِ دمشق قبل الحرب؟» ثم تأوّه مسترسلاً في تأسّفه. صديقي نزار المجنون ببغداد، يدعونا نحن أصدقاءه بين فترة وأخرى لاستراق ليالي ضحك وسمر وشواء في هذه المدينة. كان قد بدأ الفجر لتوّه بالطلوع ونحن على سقف بيته المفتوح حيث نام أصدقاؤنا وبقينا نحشّ عشب الحديث من هنا وهناك. ذكّرتْه نخلة ومنظر يحدّها لبيت تدلّت شجرته وأزهارها، يلطم فخذه يفرك أصابع يده، تحمرّ عيناه كما كلّ مرة عندما ألاحظه يتكلّم بصدق ومن كلّ قلبه. يرتفع سرب من الحمام ومعه يشير بإصبعه، حتى تدور حول منظر محدّد: «دمشق مثل هذه» ويحتضنني حين غمرته أشواقه المتأجّجة بلحظات أعادته لشهور عسل من حياته هناك.
بعد كلّ خراب سوريا حتى وقت قريب من الأشهر الأولى في العام ٢٠١٦، صُوَر الحمام وهو يحطّ على نوافذ وشبابيك عتيقة، ممتلئة بالسكينة تفتح ريشاً من الأسئلة: هل هذه السكينة في دمشق؟ ما أجمل صور المدن وزِرّ الكاميرا يضغط لالتقاط المشهد!
من هم هؤﻻء السوريون الذين فرّوا؟ تساؤل تلاحقه بصمة العار. وقد يبدو مخيفاً للوهلة الأولى التطرّق إلى أسئلة باتت هي من مسلّمات الشتم والتخوين في بلادنا اليوم. لم أذهب إلى دمشق يوماً، رغم كثرة أسفاري خارج العراق. لكن يشاء الحظّ أن يعود عراقيون كُثُر من دمشق إلى بغداد: يا خسارة، لم تزوري دمشق. سوريا التي خُربت لن تعود وتلك الصورة الحالمة عن المقاهي والأزقّة، بقيت رسماً فوتوغرافياً يتكرّر من أفواه أصدقائي في جلساتهم حين يجتازهم حنين الأوطان من غربتهم عن شكل بغداد اليوم إلى ما صار عليه شكل دمشق لاحقاً.
يقول لي صديق: يا خسارة، فأضيف دمشق إلى قائمة الأماكن والبلدان التي أتطلّع إلى زيارتها. ففي القائمة لندن، البندقية، وروما مرة أخرى، عمان مرة ثالثة، إسطنبول مرة سابعة، جيلان أوغيلان الإيرانية، بغداد عام ١٩٦٥ ثم دمشق قبل ٢٠١١. هاتان المدينتان دون غيرهما من المدن تشاركتا لديّ في حيّز مكاني وزمانيّ لن يتحقّق، فتغيّر الزمن على بعض المدن يجعلها غيرها وكأنها لم تعد موجودة. فلو أسترد هذا وذاك لأسترد الزمان ذلك. ربما من أجل الأمل وحده، قد يعود الزمن لهاتين المدينتين لأعرف قيمة ما خسرتُ خطوة بخطوة.
 
بيت المطيرجية
«تصير الطير الطاير، أحسن من أن تصير الكبش المذبوح»، أو «الذي ﻻ يهشّ وﻻ ينشّ».
من أفواه شيوخ الرجال تخرج هذه الكلمات لدفع أبنائهم إلى الرحيل. الأمّهات يعرفنَ أنّ الأرض تمشي بهنّ ليبقى أوﻻدهنّ على الأرض، يعرفن جيّداً أنّ الطير والكبش مذبوحين ثمن حتميّ لجيل افتُتن بالحرّية ورفض الاستعباد. جيل لا يعرف أن يأكل ويوصوص، وﻻ يدفع المصيبة التي تترتّب على رفع صوته والمطالبة بحقوقه ﻻ مسايرة الأنظمة والمجتمعات الخانعة لها بقصبة، وقد استلهم العراقيون دفع المصيبة والبلاء بقصبة من أهوار الجنوب حيث يسير المشحوف (القارب الصغير) في ماء الهور بدفعه بقصبة. هذا الجيل الذي يفضّل أن يتعرّف إلى الشيطان الغريب كي ﻻ يظلّ تحت رحمة الملاك الظالم الذي يعرفه، جيل يقرأ الكتب ويثرثر بما ﻻ يعنيه، يريد أن يقول شيئاً ويقمعه. هذه حال الجميع بمن فيهم عدد كبير ممن يقرأ الآن. جيلٌ هو للأمهات سرب حمام مقتول أو قتيل، فهو لاختلافه واستبداد أنظمته السياسية والاجتماعية صار بين مقصلتين يكمل إحكام خناقهما المقدّس.
في بغداد، ﻻسيما أحياءها الشعبية، تبرز أعشاش الطيور داخل اقفاص كبيرة من أعلى سطوح المنازل. عشرات المطريجية (مربّي الطيور) يعيشون نهاراً كافياً في السطوح، خلاله يُجرون ما يلزم من تقسيم للوقت بين الطعام والعمل ويتولّون أحياناً حَمْل طبَق التنّور للأمّهات وهنّ يخبزن. فعلي غير ما عُرفوا به من النقد اللاذع لمربيّ الطيور، سوسة البلاء، وخشني الشهوة، التي يتصيدون بها نساء الحيّ. إلّا أنّ الطيور جعلتهم يعرفون حجم الريشة الواحدة وهشاشة روح الطير. يديرون وقت التبييض وتفريخ الطيور وينقلونها بعناية من قفص إلى آخر ثمّ يعلّمونها التحليق بعيداً لحين تقرّر الطيور أﻻّ تعود أو تذهب في رحلة لأيام، وقد تطول لأسابيع حتى العودة ثانية إلى الرجل الذي يرفرف لها بخرقة بيضاء.
جاري في الحي الشعبي ببغداد، كان يربّي الطيور ويحمل طبق التنور لأمّه، يحمل لها عُدّة التسوّق ويركض قبلها لفتح الباب. حليم يحبّ ابنة الجيران، ومثل كل القصص المعروفة عنهم، يكتب الشعر المحليّ العراقي والدرامي ليقطف قلبها. توفي والد حبيبته إثر انفجار، وتزوّج حليم حبيبته وعاشت العائلتان معاً هما وأخواتهما الأخريات، وصارت نساء الحيّ يحسدن هذه المرأة على رجل رومانسيّ مثل حليم يرفع طبق التنور لحبيبته الهانئة.
هذه القصة تتكرّر في مدن عربية أخرى. يلمس الجميع رقّة مربّي الطيور وحرية الحمام وهو يدفع أجنحته كل صباح نحو أشعّة الشمس، وكيف أنّه بلحظة أسى، يرفع العيون عن الخراب إلى سماء صافية، يخترقها بخيط رفيع من الدخان بعد كل انفجار. وأن يكون المرء والطير يحدقان عالياً ﻻ يشبه أبداً فكرة أن يكونا داميين بواحد من خيوط الدخان هذه.
صوت رفيف الأجنحة ارتبط بهذا الحلم للتحرر من القيود، بالذهاب بعيداً، وطالما تغنّى الشعراء والمطربون بذلك الطير الذي ﻻ يعوقه أحد وله الجغرافيا وطناً مثالياً أين شاء ووقتما شاء، فهو أقرب مثال ملموس في بيئة تكاد تظهر شحيحة في ما تقدّمه من أمثلة حقيقة عن الحرية والخيار الشخصي وحقوق الأفراد، لتجعل قبول الناس لفكرة الحريّة ومغادرة الأسوار والممنوعات إلى فضاء أكثر رحابة، فكرة محلّقة لمسها الشيخ والمرأة، الصبي والعامل.
خمسون حمامة مدمّاة وحرب واحدة مع بداية الحرب الأهليّة وبوادر ظهور المليشيات الشيعية في العراق في العام ٢٠٠٧، وخلال العمل مراسلة ميدانيّة لتلفزيون أميركي، كنت أقضي كلّ يوم ساعات من التصوير في «مدينة الصدر» ببغداد: مجلس عزاء تفخّخ، طابق علوي فيه صوف وربما الدماء دماء خروف، زجاج منتشر على الأرض وزوايا الجدران، مولّد كهرباء متفحّم، سلال من البيض وورقها الكارتون بقشور سوداء وتضلعات تناسب كثيراً مشهد عمارات المحيط حيث «علوة جميلة» سوق بيع الخضروات المعروفة في مدينة الصدر الشعبية ببغداد. أرى أشلاء حبّات البطيخ والناس ممزوجة، اللون الأحمر القاني هو ما يميّز بين الفاكهة وجسد البشر المتناثر، بعد أيام و ليالٍ من العنقوديات وصواريخ بعلم إيران، كشك فلافل ورأس، بعد مستشفيات ودماء وآباء يدخلون بدشداشاتهم الِبيض الممزّقة من الصدر وبدماء ستبقى ليحاكم بها الله حين سيموت، سريعاً، بعد ثلاثة أيام صارت هي كفنه، سؤاله عن ابنه، بأيّ سبب؟ وأنا يا الله بائع خردوات الحديد، كلّ حدادة أفسخ ركن دبابة، كاتيوشا، ناقلة «بي كي سيات»، هذا الرجل الذي توفي حزناً على ابنه بعد فترة وجيزة، قبلها حين كان ما ﻻ يزال حيّاً هناك في مستشفى الإمام علي داخل «مدينة الصدر» ــ «مدينة الثورة» سابقاً. مدّ الجيش الأميركي طوقاً أمنياً على جميع جهات المدينة وبقي لها أربع منافذ، جدران خرسانية ملساء، على ارتفاع ثلاثة أمتار.
كنت أسكن هناك، لكنّ عملي كان في المركز التجاري لبغداد. من الطوق إلى خارجه ومن خارجه إلى داخله، ماراثون يومي أسلّي نفسي بأنّه سيجعلني بصحّة جيّدة. الصحة التي يقول عنها باولو كويلو إنها ستكون وصمة عار إذا متنا تحت أسر تحقيقها، الصحّة التي أعتني بها جيّداً لتستقبلها رصاصة إيرانية صدئة أو «ليزر أميركي» وثقبٌ في الرأس، لأكون دليلاً للمشاة المتأخرين. إنّ الموعد اليومي لهذه الحرب قد بدأ وثمّة قتلة من جهتين يتربّصان بكم. ما أشقّ هذا التصور! يقاطعني سائق التاكسي ليطلب الأجرة فقد وصلت إلى مقرّ عملي، ويضاعف السعر بحجة أنّي بنت. ولو لم ينقذني لصرتُ عجينة على الأرض يهرب المشاة من حولها كي ﻻ يبدو أن لهم بها علاقة. بإمالة الرأس إلى الجهة الأخرى من جهة الجثة مثلما أفعل عشرات المرات كلّ يوم مع محاوﻻت رفع المايكروفون عالياً عسى أن تنقذني كلمة «برس _ صحافة» من هذه الرصاصة المحتملة، لأنجو وأضيف يوماً آخر من النجاة في سيرتي.
توقّع الناس أن تنتهي الهستيريا بعد أسابيع، توقّع أبي أنّني أكذب بشأن أنّ الأخبار تضخّم كل شيء، ولم يحدث شيء سوى ثلاثة اشتباكات، أسرّة مستشفيات إضافية ﻻ تتسع لبضعة جرحى، وحدث مأساوي لطفل يشتري الصمّون (الخبز العراقي). لم أكن خلالها أتوقّع، بل أضطرب وأفقد الإحساس بالحياة فقد انقطع هديل الحمام لأشهر، وصار عندي أكثر من خمسين ريشة كان يفترض أنها اثنتان وخمسون ريشة، لكنّ بلبلاً وحمامة كانا ملتصقين بعمود كهربائي.

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.