العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

توفيق الموسيقى

النسخة الورقية

ندر أن اشتغل توفيق الباشا على شيء شكليّ. لم تعن له الشكليات شيئاً حين غاص في التحولات الاجتماعية عبر الفن والثقافة. لا علاقة لما أنجزه بالسياسة لأنه لم يرتضِ بيوم من الأيام دور التابع ولا المواكب. يُروى أنه ناضل في الحزب السوري القومي الاجتماعي. انتسب إليه لفترة قصيرة، ثم لم يلبث أن غادر أطُره ونُظمه لأنه آمن بأن قيام ديمقراطية أصيلة صعب جداً، إذا اقتصر الطلب على المطالبة السياسية بعيداً من الديمقراطية المجتمعية، لأن السياسة لا تفعل إلا ترسيخ العلاقات البطريركية في النسيج الاجتماعي، ما يفقدها فاعليتها ويُفقد النسيج الاجتماعي فاعليته. آمن بالتحوّلات الثقافية، لأنه آمن بأن الإيمان به سوف يؤسس ما يرغب بتأسيسه والآخرين. انتماؤه إلى الحزب انتماء تنويري، على استثمار طاقات الحياة ومرجعياتها الفاعلة. هكذا ابتعد عن العلاقات العمودية والفوقية إلى العلاقات الأفقية التشاركية في حالة من المساواة بين المبدع والمبدع. وهكذا ساهم مساهمة بعيدة عن أخلاق الطاعة بتأسيس مهرجانات بعلبك الدولية، الداعية إلى فتح السبل أمام اللبنانيين. إنه واحد من ثلة رغبت، مع رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون وزوجته السيدة زلفا مؤسسة المهرجان، بإطلاق الطاقات الحية لدى اللبنانيين، ما ابتعدت عنه اللجان اللاحقة لا من موقع تحرير الإدارات بل من موقع الانحياز غير المقصود على الأرجح من الإنتاج إلى الاستهلاك. لقاء الرعاية والحماية في مهرجانات بعلبك أفضى إلى قيام تجربة المسرح في لبنان مع منير  أبو دبس وفرقة «المسرح الحديث». 

نظرة الجماعة إلى ذاتها، حددت في مفاعيلها الأدوار والممارسات. لا مهرجانات إلا لغاية تكريس «الليالي اللبنانية» بدورات المهرجان العالمي. التقى توفيق الباشا هناك الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وعبد الغني شعبان وفيروز ونزار ميقاتي. الكثير من الأسماء والفعاليات. تشغيل نظام تيسير السلوك: ذاك هدف الجماعة والمهرجان. لم يلبث المهرجان أن تخلّى عن طابعه وهو ينتقل بإدارته من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع. لا بطل منقذاً في تلك المرحلة. الكل أبطال. اتهم الرجال بعضهم بانتزاع السمعة بهدف لصق فكرة تعمير البنية التحتية بأسماء دون الأسماء الأخرى. روى زكي ناصيف في واحدة من جلساتنا أن منصور  الرحباني اعتاد أن يفلفش عند كل ظهيرة أوراق الآخرين الموسيقية لاختزال نصوص هؤلاء في نصوص الأخوين رحباني الموسيقية. دوائر القرب والبعد كثيرة بين الفنانين اللبنانيين. هي وهلات التحول الثقافي البنيوي في مهرجانات بعلبك الدولية. 

السلطة هي المعيار عند الكثير من الفنانين والمبدعين اللبنانيين. عند توفيق الموسيقى هي كل الدلالات والتأثيرات من مفهوم الحرية. حرية الفرد ونأيه عن السلطة. لم يشتغل توفيق الباشا كبنية فوقية، اشتغل كما تشتغل المنارات الموجّهة. عنيف وشرس في المجال هذا لأنه ما رغب بأن تربح أنظمة الاستبداد جولة عليه ولا على الآخرين. عمل الرجل على إيقاف أنظمة الرضوخ والتجنب وآليات الاحتماء بالآخر. لعب دوره هذا في الإذاعة اللبنانية حين بان مقامه البارز في اللجنة المتخصصة باختيار الأصوات والأغنيات. كذلك عمل على مقارعة نظم القيم الموجهة للرؤية والفكر. بدا ذلك جلياً حين وجد في ما قالته السيدة أم كلثوم، أيامَ عزّها وجبروتها، عن البشرف والتحميلة ما يحدد خياراتها وممارساتها لا انتشار البشرف والتحميلة الموسيقيين بحركة تاريخية بدت قابلة للإجهاز عليهما بتحوير المصدر من مصدر إلى آخر. وجدتهما تركيين. صحح لها إذ حاججها على صفحات صحف تلك الأيام ومجلاتها مؤكداً أنهما من نتاج نماء الموسيقى العربية في فضاءات قيادة الثورة على المعادلات الجامعة القديمة بصالح المعادلات الجامعة الجديدة. لم يرفع جدار خوف أمامه وأمام الآخرين في القضايا الخاصة بصناعة المصير. تلك جملة ما أطلقها دهماء. تلك جملة وقفت باستمرار على معادلة الحياة والموت. لم يمزح وكان فائق الغنى والعمق أمام فكرة استرداد الحق بالكلام والفعل. كسر الصمت أولاً، ثم قاتل كل أشكال الموت الوجودي الطائرة في الفضاءات العربية. لم يهدر وجوده في جلسة أو مناسبة. لم يهدر وجود الآخرين حين لم يقبل بهم لا تلاميذ ولا مريدين. لم يهدر ما ربّاه عليه الآباء من قيم. لذا عبّر عن ذاته وذات الكثيرين حين رفض بعنف كل ما هدّد وجود الموسيقى العربية كموسيقى مؤلفات وكموسيقى مؤلفة. عنده هناك حق قول وتجمع وفعل بشرط ألّا يمنع حق القول القول الآخر، ألّا يطمس القول الحقيقة ولا الحقائق. لا حاكم ولا محكوم في ما أراده وابتغاه. غير أن معادلة الكلام على الموسيقى العربية هي ترويج كلام على موت سريري لها، باتهامها بأنها موسيقى ارتجال. موسيقى ارتجالات فقط لا غير. كلام لم يستسغه رجل المؤلفات الموسيقية البعيدة عن سلطات الاستبداد العثماني والأوروبي والأميركي سواء بسواء. 

عملت أنظمة الاستبداد هذه على تحويل الكيانات الوطنية إلى مجرد ملكيات خاصة. استعادة ملكية الحيّز العام من وظائف أبرز من اشتغل على الموشحات العربية وأبرز من قاد أوركسترا. لا استكانة ولا رضوخ لقدر مفروض. توفيق الباشا واحد من القواسم المشتركة بين الناس والجمهور والموسيقى العربية. لم يأنس إلى التخويف والإرهاب المزمنين من مؤسسات أجنبية، حرصت باستمرار على تصوير الموسيقى العربية كموسيقى استعصى التأليف عليها، وهي تدوين ارتجاليات وتنويطها لا أكثر. لا نظام حياة حيوياً في ذلك. حالة كمون تعطف على  حالات الكمون الأخرى. هذا رجل جهاز ميسّر للسلوك الرابط بين تفعيل طاقات الحياة وبين النماء والتوسّع والتمدّد والإقدام والمغامرة والمواجهة. لا نزوات عند توفيق الباشا إلّا على صعيد أغنية أو مؤلف موسيقي. رجل نشاط عصبي موصل لحالات الحماسة والنشوة والشعور بالتوسع والقدرة والإقدام ما دام لا يهمّه إيثار السلامة حتى في أكثر اللحظات عقلانية واعتدالاً. ثورة وتعبئة وحشد كمن طويلاً حتى تسنح له فرصة العمل على «الأوراتوريو» في مذهب التعبير عن الإحساس بالكيان الحي والحضور المؤكد لذاته. الأوراتوريو لا يلغي الآخر، بل ينشط حضوره بالقوى الذاتية الخاصة بالاثنين. كائنان حيّان يساهم كل واحد في إطلاق القوة الفردية لكل منهما ويعززهما. أبرز اللحظات ذات الزخم التاريخي في حياته لحظات لقائه بالسيدة كوك. سيدة أميركية أذهلتها القدرات الخلاقة للموسيقي اللبناني العربي، مما حولها إلى سيدة قدمت خبزها إلى خباز الموسيقى لبناء كيان غير مهدور يدور حول حياة النبي العربي محمد. أوراتوريو أمسى نموذجاً سارع الجميع إلى التعلم منه، لا بداعي الحرمان، بل بداعي الثراء، وبداعي إشعال النار ومراكمة جحيمها الكياني. 

 

الكيان المهدور

أبى توفيق الباشا أن يقتل دوراً ومكانة. استفاد من كل الأدوار والمكانات بدينامكية شاب جسّدها رجل لم يبنِ صلة بالاحتقان ولا بالردود السلبية على القهر والهدر والمهانة والحرمان. طارت «محمد» فوق الكثير من أساليب الحرب عليها. طارت فوق البلدان بحشودها الغنائية والموسيقية الراقصة. استرداد وجود لا علاقة له برضاعة التسلية ولا بابتداع التقنيات على حاجات المال الوفير. تجربة ضد التهميش والإقصاء لم تلبث أن وقعت بالتهميش والإقصاء، حين لم يجدها باحث نادر إلا خلف جدران التعتيم. لم يتوسلها أحدٌ، ولم يسمعها من أسلم زمام القيادة فرحاً مستبشراً باقتراب فجر جديد. لم يستفد من فاعلياتها بدفعها بعيداً عن تأزيل وجودها. تم قتلها بالتجهيل. هي كيان مهدور. لا غرابة بميدان اتسم أبطاله بصفات القتل وفرض الرضوخ. هذا مشهد يتكرر في الكثير من الأحيان لأنّ تقنيات الإعلام الاجتماعي تسود لبنان، وليس الإعلام النقدي المفصح والفاضح والمكرّس. بناء ذكاء اجتماعي في الأوراتوريو ذي النزعة المقاتلة للمتعة والتسلية وحدهما وحب الظهور. لا بروز ولا مباهاة في حياة المايسترو الباشا. توفيق الموسيقى. اختزل توقه قواعد الكبار في قواعده بدون أن يعطّل طاقات هؤلاء. ضد الطفيلية والطفيليين. ضد انعدام الجدية والمسؤولية. هكذا قرأ في المنجز العام الجديد. هكذا قرأ في تجربة الأغنية السياسية. هكذا قدّم الغذاء للتجارب الجديدة، في الميادين الجديدة. مشهد لم يلبث أن تكرر في الكثير من المناسبات. كل جدير يقرأ. أهدى إليّ المعرفة وسط الشريحة الجديدة، إذ لم يضعها في استراتيجيات الإلهاء وتسطيح الوعي. وصل أجزاء الأغنية الجديدة بأجزاء الأغنية الجديدة في فرنسا. أغنية ماتيو وفيرا وفيرو وجاك بريل وآخرين. تجربة اندفاع وعطاء وبذل وتضحية بابتكارات جديرة بنت حضورها على القدرات الصوتية لا على جمال الأصوات. لا اغتصاباً ولا سلب وجود. تدوير حضور على القدرات الصوتية لهؤلاء. لا جمال أصوات كما هي في الواقع والمخيال الثقافي حضور شرطي على نواة الكيان. لا أصوات جميلة لدى أحمد قعبور ومارسيل خليفة وخالد الهبر وأعضاء الكورس الشعبي وغير هؤلاء من العاملين في تجربة الأغنية السياسية. الأغنية ميدان، وإنتاج الحياة الثقافية على الحيز العام المصادر من قوى الاستبداد منذ أزمنة. تجريد حضور الصوت من المقومات خرق المحرم ليس انتحاراً. الانتحار باعتبار الأغنية السياسية هي الأغنية الجديدة في سماء الحرب الأهلية  المتجددة في لبنان. تفريغ الأغنية بالتمسك بالقناعة كان اعتبارها حلقة ثقافية، وحلقة فنية مستقلة. 

موسيقي، ومؤلف، وناقد، ومتابع، وقارئ ضد الخصاء الوجودي. لن يطرده أحدٌ من أي استحقاق. ابن المولد العظيم في خمسينيات القرن العشرين، ميّز بين التخريب والتحطيم والشغب والتنوير والتثوير. دفع بيدين عاريتين كل الدخلاء على الحيز، ودافع أمام كل موضع شك عن كل مطرود من استحقاق التواجد بالمجال العام في حيز المدينة. غدرت المدينة ابن المدينة. غدرت المدينة ابنها. غدرت بمن دعا إلى مقاربات جديدة تتصف بالانفتاح الفكري واليقظة الذهنية حين تركته وحيداً على وسادة باردة في أحد مستشفياتها، يؤدي سلسلة كبرى من التذكرات والابتهالات. هناك حلّقت روحه كفراشة، بعيداً عن الهواء العكر. هناك فارق جسده رأسه. مات الجسد. جسد ألفناه، في حين أضحى الرأس بيتاً على جرف على ماء بحر. 

لم يضع توفيق الباشا رحماته وأعماله وذكرياته في حقيبة حين أغلق عينيه على شباك محفور على جدار بلا شروخ. مات توفيق الباشا وهو يتأفف من الإضاءة السيئة البيضاء المعتمة. وجد على مقعد قطار فضائي يلوح لبلاد تكثر فيها الطوابير المكروهة.

كلّ الرسوم للفنّان أمين الباشا

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.