لن يكتب سليمان تقي الدين مقالته لهذا العدد من «بدايات». غادرنا الرفيق والصديق يوم ٢٢ نيسان ٢٠١٥ على اثر مرض صاعق. تنعي «بدايات» الى قرائها سليمان المناضل والكاتب، وهو احد مؤسسيها الى جانب زهير رحال وغسان عيسى وفواز طرابلسي. وتعاهد المجلة قراءها بأن تستحضر دوما كتابات هذا الانسان الحر صاحب الذهن النقدي المبدع والمبادرة الدائمة، كما تعاهد الراحل العزيز أن تظل حاضرة بالفكر والعمل في كل فصول التغيير من اجل الحرية والمساواة.
ولد سليمان تقي الدين في بعقلين العام ١٩٥٢. واسهم باكرا في الحقل العام مناضلا في صفوف منظمة العمل الشيوعي في لبنان والحركة الوطنية اللبنانية. عمل في المحاماة وفي الصحافة اللبنانية والعربية وشغل منصب امين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين وله مؤلفات عديدة منها: التطور التاريخي للمشكلة اللبنانية. مقدمات الحرب الاهلية (١٩٧٧)، العرب والمسألة السياسية (١٩٨٤) المسألة الطائفية في لبنان. الجذور والتطور التاريخي (١٩٨٥) تحولات المجتمع والسياسة. افكار عن عالم جديد (١٩٩٢) القضاء في لبنان (١٩٩٦) القضاء اللبناني. بناء السلطة وتطوير المؤسسات (١٩٩٧) المقدمة في اصول المحاكمات الجزائية (٢٠٠٢) سيرة الاديب سعيد تقي الدين (٢٠٠٤) إشكاليات الديمقراطية في العالم العربي (٢٠٠٤) المشروع اللبناني الصعب (٢٠٠٩) العرب في مخاض التغيير (٢٠١٢) واليسار اللبناني وتجربة الحرب. منظمة العمل الشيوعي، اللحمة والتفكك (٢٠١٣).
ننشر هنا الكلمة التي القاها فواز طرابلسي في توديع الراحل يوم الجمعة في ٢٤ نيسان ٢٠١٥ بإسم رفاق سليمان واصدقائه.
فاتتني فرصة أن أسهم في تكريمك وجاهياً، وها أنا مدعوّ إلى أن أكرّمك باسم رفاقك وأنت في طريق الغياب.
منذ ٤٥ سنة. لفتنا الطالبُ الثانوي بحدّة الذكاء والمبادهة وبهندام الِكبار: سترة وربطة عنق، ونحن، شباب وصبايا منظمة العمل الشيوعي في لبنان، في أوج الاستهتار بالتراتب والتقاليد والهندام. والأغرب أن أناقة سليمان تقي الدين لم تكن تنمّ إلّا عن خفَر واحترام للنفس وذوق وتطلّب للجمال والأناقة في الكسم والقول. وسوف نكتشف أنها أناقة تتلبّس جسداً هو من مادة الأحلام ومعدن الإرادة الجامحة.
منذ ذلك الحين، ما غادرتَ ميداناً.
حاضر في معارك المزارعين، في «لجنة المناطق»، عندك في بعقلين حيث علّمتنا شرب المتّي
حاضر في «اللجان العمالية» تنظّم الإضرابات في معامل الجبل، حاضر في معارك «لجان العمل الطلابية»، والتظاهرات الطيّارة على مدى سنين، حاضر في نشاطات دعم المقاومة الفلسطينية، حاضر لتحمّل المسؤولية عند انتخابك، وأنت الأصغر سنّاً، في الهيئات القيادية لمنظة العمل الشيوعي.
حاضر بما أنت الكاتب في مجلة «الحرية» وفي «بيروت المساء».
حاضر متعدد الحضور والأفعال، لمّا لاحت إمكانية المغامرة الكبرى، مغامرة الانتقال من لبنان الطائفي إلى لبنان الديمقراطي العلماني. وبعدما هرستْها الدبابات وأغرقتها دماء التحارب الأهلي ودماره، ما غادرت ميداناً.
متعدّد الحضور في كل مبادرة حوار وفعل ونضال من أجل تجاوز النظام الطائفي ومن أجل إعادة تكوين وطن يليق بأهله وأحلام شبابه.
وما غادرت ميداناً في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وتنظيم الأشكال المختلفة من المقاومة الوطنية والإسلامية.
ولما غادرتَ العملَ الحزبي، وتفرّقَ الرفاق، ظلّت النجمةُ الحمراء بوصَلَتِكَ. تهتدي بها للتفكير في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. فدعوتَ في كتابك «تحولات المجتمع والسياسة: أفكار من أجل عالم جديد» إلى النضال من أجل ثلاثي الوحدة العربية والديمقراطية والحضور العربي الوازن في العالم الجديد.
راجعتَ تجربتك ناقداً، لتقول إمكانات استخدام فكر اليسار وتراثه الثري بطرائق ووسائل أخرى في عصر آخر وفي وجه تحديات أخرى. وقرنتَ القول بالفعل مبادراً دائماً من أجل تفعيل اليساراللبناني وإعادة بنائه.
حملتْ إليك الثورات العربية المزيد من زخم وإرادة ووعد. أسسنا معاً مجلة «بدايات» الثقافية الفكرية مساهمةً متواضعة لمواكبة الانفجارات والتفكّر بها، وكنت أنت من اختار العنوان لتؤكد أن الفكر والنضال هما دوماً وأبداً تجديدٌ لبدايات.
لستُ أدري أين كنت تجد الوقت لتكون كل هذا الشخص وليكون لك هذا الحضور المتعدد وتلك الأدوار. لعلك فعلت مثلنا نحن أبناء جيلنا: سرقت الوقت على حساب الأهل والعائلة والراحة والصحة.
مؤرخاً، مؤتمَناً على الذاكرة الجمعية لشعبك، تنبش وثائق وأخباراً وروايات الماضي لتنكش فيها الجمر وسط الرماد، لتروي التحولَ والإمكانَ والوعد.
محامياً، كنتَ مؤلفاً متضلّعاً من القانون والتشريع، مرافِعاً أبداً عن الحريات وحقوق الناس السياسية والاجتماعية.
كاتباً، تِدهِش، في مقالاتك وحضورك الإعلامي، بالنبرة الهادئة، والتحليل المكين. في زمن الصحافة الشتّامة، كنت محاوراً دمثاً، لعميق احترامك للعقل ــ عقل القارئ ــ وللحجة والبرهان. ليس لأنك تكتم الغيظ، أنت هكذا: واثق من نفسك. نبيل، لا تهادن وانت المحاوِر، ولا تجامِل وأنت المساجِل. لكنك صلبٌ بلا هوادة في وجه الاستبداد والتزمّت والتكفير والظلم.
وفوق هذا وقبله وبعده، أنت من كسب لقمةَ العيش بعرق الجبين، فلم تتنازل عن كرامة أمام أي سلطان، ولا عن الحرية واستقلال الرأي لأي كان.
وبعد.
بعد بكّير يا سليمان.
لم تنجِز آخر مشروعِك الكتابي. لم تكتب مقالتك للعدد ١١ من «بدايات». لم ننظّم الندوة عن الثورات العربية التي اقترحتها علينا وأنت على سرير الألم. لم نحتفل معاً بالأول من أيار. لم تتذمّر من المرض إلا لأنه يعوقك عن المطالعة والكتابة. لم تصعد إلى بعقلين القلعة ولو ليوميَن من الراحة مع العائلة. لم تكفّ عن سؤالك اليومي: شو الأخبار؟ لم توقف المبادرة والحركة رغم الأنابيب المغروزة في شرايين الجواد الأزرق الجموح.
لم تترك سؤالاً لم تطرحه علينا ونحن نعُودك.
لم تكفّ عن النضال في حياتك ولم تكفّ عن النضال في موتك (والكلام لشريكة حياتك إكرام).
وأنت الشاعر، باقٍ في ذاكرة شعبك والعاملين من أجل «أن نُصابَ بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين».
ونحن رفاقك وأصدقاءك ومحبّيك الكثر، المجتمعين هنا لوداعك من جهات الوطن الأربع، نبكيك مع إكرام ونسيب ورنده وميساء وجنى، وشقيقاتِك وسائر أسرتك. أنت باقٍ في قلوبنا، يا سليمان، بحب، ولك منا هذا الوعد:
لن نتخلّى عن الحلم. لن نُعدَم إرادة. لن نيأس من أمل.
النسخة الورقية:
العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.