العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

بيروت الستينيات

بعيون مناضل بحريني

نخصص قسم «ذاكرة» في هذا العدد لمذكرات مناضلين وطنيين وتقدميين بحرينيين. عبد الرحمن النعيمي (سعيد سيف) (١٩٤٤-٢٠١١) وهو واحد من أبرز مناضلي وقادة الحركة الوطنية والديمقراطية في البحرين والخليج. تلقّى علومه في البحرين وبيروت. انضم باكراً الى الجناح اليساري في حركة القوميين العرب وأسهم في إطلاق ثورة ظفار بسلطنة عمان، وفي جهازها «قيادة الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي». أسهم في تأسيس وقيادة «الجبهة الشعبية في البحرين» العام ١٩٧٤ التي ما لبثت ان تحولت العام ٢٠٠١ الى «جمعية العمل الوطني الديمقراطي-وعد» التي ترأسها عبد الرحمن لفترة. و«وعد» هي الجمعية التي تشارك في الانتفاضة البحرينية وتواصل النضال من أجل بحرين ديمقراطي لكافة أبنائه، وقد خلف عبد الرحمن على رئاستها المناضل إبراهيم شريف المعتقل حالياً لدوره في الانتفاضة.
عبد النبي العكري (حسين موسى) شريك عبد الرحمن في النضال على امتداد الأدوار والمسؤوليات المذكورة أعلاه. ومثله درس في بيروت قبل أن ينتقل لتحمّل مسؤولياته في القطاع الخارجي لثورة ظفار وتالياً في «الجبهة الشعبية في البحرين» و«جمعية وعد». ولا يزال عبد النبي يمارس دوره في الحياة العامة في البحرين بما هو عضو في «جمعية وعد» وبصفته رئيس «الجمعية البحرينية للشفافية».

تفتحت عيناي على الدنيا في منتصف الأربعينيات في البيت الكبير لجدي منصور. أبي هو أكبر الأبناء، وكان طبيعياً حينها أن يسكن الابن مع أبيه ويؤسس بيتاً لنفسه، ولذلك فقد كان البيت يضم أيضاً أعمامي وعائلاتهم.
جدي الحاج منصور محمد العكري، رجل دين وعلم، وهو مقرئ حسيني، وقد أخذ والدي ذلك عنه وكان مقرئاً حسينياً أيضاً. الفرق أن جدي لم يتخذها مهنة، في حين أن أبي اتخذها مهنة بعدما صُرف من الخدمة في بابكو، حتى صار مدرس دين في مدرسة جد حفص الابتدائية. كان لجدي تأثير كبير علي. هو رجل قوي الشخصية مهاب ومحترم من عائلة العكري الكبيرة، وبيته مفتوح ومجلسه الأسبوعي للقراءة الحسينية عامر. وهو أيضاً شاعر لأهل البيت وله دواوين غير مطبوعة. كذلك هو رجل عملي يتملك شراكة مع أفراد العائلة في النخل وصيد السمك في سترة. وقد عمد لاحقاً إلى بناء عمارة صغيرة في منطقة حوطة إبل وتأجيرها.

هو رجل محافظ ولكنه منفتح، فقد أرسل أبناءه إلى المدارس الحكومية وهو الذي أخذني مع عمي إلى مدرسة الخميس. والدي من ناحيته متديّن لكن متنور، فلم يرسل أبناءه فقط بل بناته إلى المدارس الحديثة، وشجعنا على مواصلة دراستنا الجامعية.
كان والدي وطنياً بالسليقة، فقد كان متحمساً لهيئة الاتحاد وكان يصطحبني معه إلى اجتماعات الهيئة في المنامة أو السنابس أو البلاد القديم. وأذكر أنه كان يجلب للبيت بيانات الهيئة وصحف تلك الفترة (الوطن، والقافلة والخميلة...) ويكدّسها في صندوق خشبي. والمؤسف أنه بعد الهجمة على الهيئة في نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٥٦ عمد إلى التخلص منها، وفقدنا أرشيفاً مهمّاً.
والدتي المرحومة مكية علي مطر، امرأة رقيقة وحنونة وشفافة جداً. كنت وإخوتي نجد فيها الحضن الدافئ وسط قسوة الحياة وشظفها. حفظت والدتي القرآن في بيت المعلمة التقليدية، وكانت تستطيع القراءة والكتابة البسيطة. ربتنا أنا وإخوتي وأخواتي وسهرت معنا الليالي أثناء مراجعتنا لدروسنا. كانت آخر من ينام من البيت وأول من يصحو لإفطارنا وتجهيزنا للمدرسة. ربتنا على الكبرياء والقناعة. مررنا بظروف عسيرة بعد أن ترك والدي البيت الكبير إثر خلاف مع جدي، وانتقلنا إلى موقع بيتنا الحالي وسكنّا في برستج لسنوات قبل أن يتم بناء بيتنا من الحجارة.
أكثر لحظة مؤلمة في حياتي هي عندما وصلني خبر وفاة أمي وكنت في بيروت، وذلك في العام ١٩٧٧. اختليت إلى نفسي وبكيتها بحرقة. بعد خروجي من البحرين في أواخر ١٩٧٠ جرفنا الحنين إلى بعض وجاءت إلى بغداد حيث كان يدرس أخي رضا وأختاي نعيمة ومحفوظة. كانت بالطبع تعرف سبب اضطراري للبقاء في الخارج، لكنها كانت عاتبة علي لعدم ملاقاتها. وتساءلت في إحدى المرات لماذا لا يعطيني من أعمل معهم إجازات، فرددت بدعابة أنّ «9 يونيو» لا تعطي إجازات، في إشارة إلى صحيفة «9 يونيو» الناطقة باسم الجبهة الشعبية.
الفترة المبكرة في حياتي خلال الخمسينيات كانت خصبة جدّاً، ورغم صغر سني إلا أنني أتذكرها كطيف جميل. أذكر مرة أثناء وقوفنا في طابور الصباح بالمدرسة الابتدائية بالخميس حين أعلن أحد المدرّسين خبر قيام الثورة المصرية لعام ١٩٥٢. الكل تابع بحماسة تطورات الثورة المصرية والأحلام التي أشاعتها في الوطن العربي للخلاص من الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية.

مرحلة الدراسة الابتدائية
كان للشهادة الابتدائية أهمية في ذلك الوقت، فقد كانت الامتحانات النهائية موحّدة على مستوى البحرين، وكانت أسماء الناجحين تذاع في الإذاعة. وعلى ما أعتقد فقد كان المتخرجون من المرحلة الابتدائية حينها أي عام ١٩٥٧ بحدود خمسمائة، غالبيتهم تلتحق بالثانوية العامة، بمختلف تخصصاتها، والثانوية الصناعية. والبعض يلتحق بمدرسة التدريب في بابكو والبعض الآخر يدخل في سوق العمل مبكراً نظراً لحالة الفقر والحاجة للكثير من العائلات. بالنسبة إلى بابكو فقد كانت ترسل مندوبيها إلى صفوف الرابع ابتدائي لتنتقي منهم مرشحين ليلتحقوا بمدرسة التدريب، ويتم اختبارهم في امتحان عام في بابكو، ومن ينجح يلتحق بمدرسة التدريب. وقد كان الالتحاق بباكو حينها له أهمية كونها من أفضل الشركات وللفرص المتاحة فيها للتعلم والترقي.
وقد شهدت تلك المرحلة أحداثاً عديدة مهمة، نذكر منها الصدامات المؤسفة بين الشيعة والسنة والتي بدأت في موقع مصنع التكرير التابع لشركة بابكو في سترة، وتلتها عدة حوادث مؤسفة. ومن أهم ما يعلق بالذاكرة الهجوم الذي تعرض له موكب عزاء عاشوراء في المنامة وتلاه هيجان كبير، وأذكر أنني وعمي عيسى وبعض أقاربي، كنا موجودين بحكم الاحتشاد التقليدي، وحدث الهروب الفوضوي، حيث ركضنا من المنامة عبر النعيم ثم على امتداد الساحل حتى وصلنا إلى قريتنا الديه.
كانت الأحداث المتلاحقة تنقل شفوياً على ألسنة الناس وتضخّم بالطبع، وقد أثارت حينها أجواء من الهلع والريبة والخوف بين الطائفتين، لكن ما هو راسخ في ذاكرتي الأحداث المتعلقة بهيئة الاتحاد الوطني، إذ إنه رغم صغر سني، فقد كان والدي يصحبني إلى اجتماعات الهيئة وإلى مهرجاناتها وخصوصاً في المنامة. كما أن بيانات الهيئة توزع على مختلف القرى والمدن، وبحكم كوني تلميذاً حينها فكنت أقرأ عادة هذه البيانات لجمهور المستمعين خصوصاً بوجود أعداد الأميين في القرية أو لندرة المنشورات.
من أهم الأحداث التي انعكست على مختلف أرجاء البحرين، الإضراب العام الذي دعت إليه الهيئة واستمر لمدة أسبوعين حسب ما أعتقد. لقد شلّت الحياة تماماً فتوقّفنا عن الذهاب إلى المدارس، وتوقف العمال عن الذهاب للمصانع وخصوصاً عمال بابكو، كما قلّت الحركة كثيراً بين قريتي الديه والمنامة العاصمة. أثر ذلك تأثيراً كبيراً على ما يتوفر لدى الناس من مال ليصرفوا على أنفسهم وما لديهم من أغذية، خصوصاً أنه كان في القرية حينها عدد محدود من الدكاكين. تكاتف الناس قدر الإمكان ودعموا بعضهم إلى حين، ثم بدأ الإضراب يتفكك تدريجياً.
كما أن من الأحداث المهمة العدوان الثلاثي على مصر وتبعاته المباشرة على البحرين، تابعت مثل غيري تطورات العدوان الثلاثي على مصر من إذاعة «صوت العرب». وبما أن العائلة متدينة جداً فلم يكن لدينا راديو، بل كنا نتابع الأحداث من راديو الجيران حيث يجتمع الرجال والأطفال لمتابعة أحمد سعيد وهو يذيع تعليقاته الملتهبة، ومحمد عروق وهو يذيع الأخبار الحماسية.
صاحب العدوان الثلاثي على مصر، التظاهرات التي دعت إليها هيئة الاتحاد الوطني، ومن الواضح الآن أن المخابرات دست عناصرها، وقامت بأعمال حرق لبعض المنشآت مثل صحيفة «غالف ميرور» (gulf mirror) وجري ماكنزي ومخزن الشركة الشرقية في البرهامة وكذلك بعض بيوت الإنكليز.
وقد عمد الانجليز بقيادة بلجريف والسلطة المحلية كما هو معلوم إلى انتهاز الفرصة لتصفية الهيئة والتي كانوا يتحينون لها الفرص، فقاموا باعتقال قادة هيئة الاتحاد الوطني وتقديمهم لمحاكمة ميدانية، ثم نُفي ثلاثة منهم إلى جزيرة سانت هيلانه: وهم عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز الشملان، وعبد علي العليوات، فيما نفي السيد علي كمال الدين إلى العراق. وسجن اثنان وهما إبراهيم فخرو، وإبراهيم موسى في جزيرة جدة بعد الحكم عليهما بالسجن لمدة ١٥ عاماً.
تداخل الحدثان، أي العدوان الثلاثي على مصر والهجمة على هيئة الاتحاد الوطني، في وجدان الناس حيث العدوّ في الحالتين واحد وهو الاستعمار البريطاني. لذلك كان الغضب عارماً، ومرت البلاد مرة أخرى في إضراب شامل، وعمّ الفرح لانتصارات مصر على العدوان ممزوجاً بالأسى لإنهيار هيئة الاتحاد الوطني. وبعد نشوة الفرح لمقاومة مصر وموقف الهيئة في قيادة الاحتجاجات كان ثمة حالة إحباط شديد، خصوصاً أن الناس تُركت بدون قيادة.
ما أذكره أن الكثيرين عمدوا إلى إحراق ما لديهم من بيانات الهيئة، وكذلك الصحف التي صدرت حينها مثل القافلة والخميلة والوطن، وبذلك ضاع الكثير من التراث الوطني.
المرحلة الثانوية
كانت المدرسة الثانوية ساحةً للتنظيمات السياسية السرية. ورغم أنني لم أنتم لأي منها، إلا أن مناشير هذه التنظيمات توزع وتقرأ، ومن أهم التيارات حينها جبهة التحرير الوطني، ومن قياداتها ناصر السيد وأخوه علي السيد، وحركة القوميين العرب - التيار الناصري ومن قياداتها حمد الزامل، ومحمد جابر الأنصاري، والبعث.
حينها لم يكن طلاب الثانوية من البحرينيين فقط بل كان من ضمنهم طلبة من العائلات السعودية مثل محمد الزامل وغازي القصيبي، وعمانية مثل حمزة العصفور، وكذلك الأمر بالنسبة للمنتمين إلى التنظيمات أو التيارات السياسية.
من أهم الأحداث التي لا تزال عالقة بذاكرتي التظاهرة الكبيرة التي خرجت من الثانوية العامة، عام ١٩٥٩ احتجاجاً على الإعدامات التي طالت التيار القومي الناصري في العراق على أثر المحاولة الفاشلة للتمرد من قبل الطبقجلي ورفعت الحاج سري، ضد حكم قاسم المدعوم من قبل الحزب الشيوعي العراقي والتي رافقتها أعمال إعدام وسحل بشعة. هي أتت على خلفية الصدام بين نظام الزعيم عبد الكريم قاسم وحلفائه الشيوعيين من ناحية، والتيار القومي الذي يقوده عبد السلام عارف، وبالتالي الصدام بين العراق من ناحية ودولة الوحدة لمصر وسورية بقيادة عبد الناصر حول انضمام العراق إلى دولة الوحدة كما طرح عبد السلام عارف والقوميون، في حين عارض الطرح الزعيم عبد الكريم قاسم والشيوعيون. وبالتالي تجلى الصراع كصراع في الشارع العربي والبحرين منها بين الشيوعيين من ناحية والقوميين/الناصريين من ناحية أخرى.
خرجت تظاهرة صاخبة تندد بالشيوعيين ومجازرهم، واتجهت نحو القلعة، وانضم إليها في الطريق طلبة مدرسة الصناعة ومعهد المعلمين والمدرسة الابتدائية الغربية. ولم تتعرض الشرطة للتظاهرة وانتهت بسلام، لكن جرى اعتقال قادتها ومنهم الحجاج، عبد الرحمن الزامل وحمد الزامل، وتعنيفهم من قبل الشيخ دعيج الخليفة، وأطلق سراحهم بعد ١٥ يوماً بكفالة أهاليهم.
كان الالتحاق بالمدرسة الثانوية يعتبر نقلة كبيرة في حياة الطالب حينها. كانت حياة الطالب في المدرسة الابتدائية محدودة الأفق. فطلبة المدرسة الابتدائية هم من قرى متقاربة، أو أحياء في مدينة، وإذا أخذنا بالاعتبار صعوبة المواصلات، فإن عالم طالب الابتدائية كان مقتصراً على المدرسة وقريته أو القرى المجاورة أو الأحياء المجاورة.
بالنسبة إليّ فقد كان الالتحاق بالثانوية نقلة كبيرة فعلاً. من المفيد ذكره، أنه يجري نقل الطلاب على خط البديع من مختلف القرى في باص خشبي مستأجر من قبل المدرسة الثانوية. وكان عليّ المشي صباحاً من قريتي الديه إلى الشارع العام الذي يمر بجد حفص، وهذا يتطلب الصحو مبكراً إذ إنه إذا فات الباص، فليس من وسيلة أخرى للوصول إلى الثانوية.
وحتى على افتراض أنك وصلت متأخراً، فإن خيزرانة المدير أحمد حسن عبد اللطيف، وهو رئيس بعثة المدرسين المصريين، بانتظارك ولا تفيد معه أية أعذار، وكون الثانوية العامة هي الثانوية الوحيدة في البلاد فقد كان يلتحق بها الطلبة من مختلف مناطق البحرين من الحد شمالاً حتى الرفاع جنوباً ومن سترة شرقاً إلى كرزكان غرباً، بمختلف طبقاتهم وفئاتهم. قضيت في الثانوية أربع سنوات من العام ١٩٥٧ حتى ١٩٦١ وكانت تلك فترة المد القومي وكذلك مرحلة الأحداث الجسيمة.

هيئة التدريس
كانت هيئة التدريس في المدرسة الثانوية من المدرسين المصريين من ضمن البعثة التعليمية المصرية، والتي كانت مصر عبد الناصر حينها تتكفل برواتب أفرادها حسب ما أعتقد، فيما تتكفل حكومة البحرين بسكنهم، كما أن المنهاج الدراسي كان حينها مصرياً أيضاً.
ومما أذكره من هيئة التدريس مدير المدرسة الصارم أحمد حسن عبد اللطيف، ومدرّس اللغة الإنكليزية مختار، ومدرّس اللغة العربية مصطفى محجوب. وإلى جانب المدرسين المصريين فقد كان هناك مدرسون بحرينيون مثل مدرس اللغة الإنكليزية عبد الملك الحمر (رحمه الله) والفلسطيني ياسين الشريف (رحمه الله) أول ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في قطر والبحرين لسنوات طويلة، والهندي باريرا مدرس اللغة الانجليزية، وسوريون، والشيخ محمد آل الشيخ. مما لفت انتباهي أن وجهة نظر عدد من المدرسين المصريين تجاه التحولات التي قادها عبد الناصر، خصوصاً التوجه القومي والذي توج بإقامة الوحدة مع سورية في ٨ فبراير /شباط ١٩٥٨، كانت سلبية. ويعود ذلك إلى أن عدداً منهم كان منتمياً إلى الإخوان المسلمين، وبالمقابل فقد لاحظت أن المدرسين العرب الآخرين من سوريين وعراقيين ولبنانيين، متحمسون لعبد الناصر.

بيروت والحلم الجميل (١٩٦١-١٩٦٧)
تخرجت من الثانوية العامة في يونيو ١٩٦١ وكنت الرابع مكرراً في المسار العلمي، وكان من بين دفعتي الذين حصلوا على بعثة إلى الدراسة الجامعية في بيروت الدكتور أحمد عبد الله (طبيب عيون معروف)، وعبد الرحمن جمشير، ويوسف الصايغ، وعلي الأنجاوي، وسلمان الموت. أذكر أنه حينها لم يكن هناك تمييز في الابتعاث أو المنح، ومن أجل تأكيد ابتعاثنا جرى استدعاؤنا إلى دائرة التربية والتعليم قرب الثانوية العامة في القضيبية، حيث أدخلنا على مجلس التعليم برئاسة الشيخ محمد بن سلمان الخليفة وعضوية أحمد العمران، المدير العام للتربية والتعليم، وهو من متخرجي الجامعة الاميركية في بيروت. وجهت الى كل منا أسئلة اعتيادية، وأعطينا بعض المال لتجهيز أنفسنا، وتذاكر السفر. لقد كان ذلك أول سفر لي وحدي، وأول مرة أركب فيها طائرة. لقد كان سفري صعباً جداً على المرحومة أمي، وقد سهرنا معاً طوال ليلة سفري.
بيروت في الستينيات كانت باريس الشرق. حضارة وعمراناً وانفتاحاً، وحيوية والجامعة الاميركية في القلب منها، من أكثر مناطقها حيوية وتقدماً. وبما أننا لم نتمّ التوجيهية، وجب علينا إكمال سنتي دراسة في الكلية العامة المجاورة للجامعة الأميركية. لقد كانت نقلة كبيرة لنا نحن البحرينيين بالانتقال من البحرية القرية إلى عاصمة النور.
وكان علينا أن نواجه تحديات كبيرة، منها اختلاف المجتمع واختلاف المنهاج الدراسي والاعتماد على أنفسنا حيث لم يكن للبحرين حينها تمثيل سياسي في لبنان، أو حتى مكتب يرعى شؤوننا.
رابطة طلبة البحرين هي النافذة الأولى التي أطللت منها على المجتمع والسياسية والعالم. لقد سبقنا إلى بيروت دفعات قبلنا وهم أكبر منا، ومنهم حمد إبل، ومحمد خليفات وعلي مطر وسلمان مطر وعبد الرحمن النعيمي، وشويطر، وصلبيخ، ونعيمة فخرو، وصفية دويغر، وسلوى كانو، وبلقيس فخرو، ومحمد يتيم، وسلمان الموت. رابطة طلبة البحرين تعكس التركيبة المتنوعة لشعب البحرين من المذهبين ومن مختلف الطبقات والمناطق والقرى، ولكن الأهم هو أنها كانت تعكس ما يجري تحت السطح من حراك سياسي، وتنظيمات سياسية وهي: حركة القوميين العرب، وجبهة التحرير الوطني البحريني وحزب البعث العربي الاشتراكي. على امتداد سنتين من دراستي في الكلية الثانوية العامة، لم أنتم إلى أي من التنظيمات الثلاثة وظللت حائراً بين البعث وحركة القوميين العرب، لكنني في النهاية قررت الالتحاق بحركة القوميين العرب. وقد يكون السبب الأساسي ارتباطها بعبد الناصر وموقفها الحازم ضد الانفصال، خلافاً للبعث.
كانت مرحلة الستينيات حتى هزيمة حزيران ١٩٧٦ والتي عايشتها في بيروت قبل التخرج مباشرة، مرحلة خصبة وواعدة. كانت الآمال كبيرة تغذّيها انتصارات الحركة القومية والحركات الوطنية. ومن أبرز ذلك معارك عبد الناصر، سواء في مصر أو في الوطن العربي، ضد الولايات المتحدة والقوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، وإسرائيل بالطبع. ولقد أتيحت لي الفرصة طوال دراستي لستّ سنوات أن أزور مصر عدة مرات خصوصاً في الإجازات، وأطّلع بنفسي على ما كان يتحقق في مصر من إنجازات.
تحقيق الوحدة بين مصر وسورية كان قمة هذه الإنجازات وتحويلاً للحلم إلى حقيقة. ولقد بنيت، مثل غيري من أبناء جيلي، آمالاً كبيرة على هذه الوحدة باعتبارها قاطرة العرب نحو الوحدة الشاملة وتحرير فلسطين من الاغتصاب الصهيوني وانطلاق النهضة العربية. وبسبب قرب دمشق منا فقد كنت مع مجموعة من الطلبة نتردد على دمشق ونلتقي بإخوتنا طلبة البحرين في دمشق في مقرهم الحيوي في المزرعة. كما كنا نذهب إلى مكتب المناضل عبد العزيز الشملان القيادي في هيئة الاتحاد الوطني المنفي في دمشق، وكنا نحضر أيضاً مجلسه في بيته بشارع بغداد. وممّا أذكره في مجلسه تلك المجادلات المثيرة بين الكاتب علي التاجر والسياسي إسحق الشيخ (الأمين العام حينها لجبهة التحرر الوطني في السعودية) والمقيم بيننا حالياً. يمثل علي التاجر الفكر العروبي القومي المؤمن، ويمثّل إسحق الشيخ الفكر الشيوعي العلماني الأممي. كما أن مجلس عبد العزيز الشملان جامع للعرب من مختلف اتجاهاتهم من المقيمين في دمشق أو زوارها.
لقد لمست في دمشق الحماسة الشديدة في أوساط من نلتقيهم من سوريين وعرب للوحدة وللزعيم جمال عبد الناصر. وعلى خلاف حيوية السوريين السياسيين وحماستهم، فقد وجدت المصريين غير متحمسين كثيراً للوحدة، لكنهم مسلّمون بما يقوله ويريده الريس ويرددون ما يطرحه دون نقاش.
كانت الجامعة الأميركية تعجّ بمختلف جنسيات العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. إلى جانب الطلبة اللبنانيين، كان كثير من المهاجرين اللبنانيين الأغنياء يحرصون على إرسال أبنائهم وبناتهم إلى بيروت، كما أن عدداً من الدول العربية وإيران كانوا يرسلون بعثات دراسية إلى الجامعة إلى جانب أبناء الأغنياء من مختلف البلدان.
وفي ظل النظام الديمقراطي اللبناني وأجواء التحرر التي تعيشها الجامعة الاميركية كمؤسسة تعليمية، فإن مختلف الثقافات والاتجاهات والسلوكيات تعبّر عن نفسها، لذا فإن طالباً مثلي أتى من مجتمع محافظ يجد نفسه وسط أمواج عاتية. ما يهمنا هنا تلك التيارات السياسية التي كانت تنشط في الجامعة، وأهمها حركة القوميين العرب والبعث والشيوعيون، وهذه منتشرة في أوساط الطلبة العرب واللبنانيين، وبالطبع تتوزع التيارات الثلاثة على العرب عموماً في جميع أقطارهم. وهناك التيارات السياسية اللبنانية المحلية مثل الكتائب والاحرار في أوساط المسيحيين، والشوعيون والاشتراكيون في أوساط النخبة، والنجادة في أوساط أبناء الشام الكبرى.
كان موقع الجذب لحركة القوميين العرب «النادي الثقافي العربي» في شارع جان دارك بالحمراء قرب الجامعة الأميركية، ولسان حالهم صحيفة «الحرية» الاسبوعية، والتي كانت توزع على أعضاء الحركة وأنصارها أسبوعياً، وتشكل دليلهم تجاه جميع أحداث الساعة. أمّا موقع الجذب للبعث فكان «نادي العروة الوثقى» في منطقة كاركاس، ولكن لم يكن لديهم صحيفة علنية، في حين أن صحيفة الشيوعيين هي «الأخبار». وإلى جانب ذلك فقد كانت هناك صحف لبنانية متعاطفة مع الحركة مثل صحيفة «الشعب» التي كان يرأس تحريرها أحمد دوغان، وصحيفة «المحرر» والتي كان يكتب فيها غسان كنفاني.
بسبب كارثة الانفصال في سبتمبر/ أيلول ١٩٦٣ تعمّق الشرخ بين التيارين القوميين الرئيسيين، أي الحركة والبعث، بسبب تأييد البعث للانفصال وهجومه الشرس على عبد الناصر مقابل معارضة الحركة للانقلاب على الوحدة. كما أدى الانفصال إلى خلاف حاد بين الحركة والتيار الشيوعي الذي أيد ضمناً الانفصال وشهّر بعبد الناصر وتجربته.
بالنسبة إلينا كطلبة بحرينيين، فقد انعكس هذا الخلاف في مجادلات مريرة داخل الرابطة وتكتلات أثناء انتخابات الرابطة، فأحيانا يفوز البعث وأحياناً تفوز الحركة. بالنسبة لي فرغم انتمائي للحركة، إلا أنني انتخبت سكرتيراً للرابطة في عام ١٩٦٤ بأصوات الطرفين. ورغم ذلك فقد كانت الأجواء داخل الرابطة في الأيام العادية ودّية، وشكّل مقر الرابطة موقعاً ليس فقط لنشاطات الأعضاء، بل موقعاً لنشاطات مشتركة مع الطلبة اليمنيين والسعوديين والكويتيين.
بتأثير من نفوذ حركة القوميين العرب، شُكّل اتحاد الطلبة العرب من قبل روابط فلسطين والكويت واليمن والبحرين. أذكر أنه كانت للرابطة مجلة حائط شهرية كما كنا نستضيف شخصيات أكاديمية من الجامعتين الاميركية والعربية، وكذلك بعض الشخصيات البحرينية والعربية العابرة مثل يوسف الشيراوي وعلي حميدان.
يمكن القول إن رابطة طلبة البحرين في بيروت لعبت دوراً مهماً في التمهيد لقيام الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في ١٩٧١ من خلال التحضيرات والاتصالات والزيارات المشتركة إلى الروابط الطلابية في بغداد ودمشق والقاهرة.
وكنت قد انضممت إلى حركة القوميين العرب خلال السنة الأولى من دراستي الجامعية على يد رفيق الدرب عبد الرحمن النعيمي الذي فاتحني بالموضوع بعدما لمس مني مواقف إيجابية من خلال الرابطة. هو كان مسؤولاً عن خليتي التي ضمّت، حسب ما أعتقد، طلبة سعوديين وفلسطينيين ويمنيين. خلال مرحلة ما بعد انفصال الوحدة، نشأ توجه يساري داخل حركة القوميين العرب إثر فشل الوحدة وقصور الفكر الناصري والتنظيم الواحد (الاتحاد القومي) الذي عجز عن حماية الوحدة، وعن إعطائها مضموناً اجتماعياً يجعل الجماهير على استعداد للدفاع عنها. كما أن أدبيات التيارات والأفكار اليسارية، وخصوصاً الماركسية المنطلقة من كوبا وفيتنام والصين، بدأت تترجم في بيروت من قبل دار الطليعة خصوصاً، وتنتشر كما النار في الهشيم. وقد شكّلت «الحرية» منبراً للتبشير بأفكار اليسار الجديد ومن كتابها نايف حواتمة، ومحسن إبراهيم، ومحمد كشلي، كما شكلت كتب تشي غيفارا وفرانز فانون، وهوشي منه وماو تسي تونغ إلى جانب كتب ماركس وأنغلز ولينين وزونا لوكسمبرج وإسحق دوتشير الغذاء الفكري لنا في حلقات التثقيف.
وحتى لا يعتقد القارئ أنّ جلّ عملنا ترف فكري وتثقيف وقراءة، فقد كانت الأحداث العربية العاصفة، تجرفننا أيضاً ونتحمس لها ونخرج إلى الشارع.

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
بعيون مناضل بحريني

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.