كانت الجامعة الأميركية في بيروت في الستينيات من القرن المنصرم تعجّ بالنشاطات السياسية والفكرية. وكانت من المعاقل الأساسية للحركة القومية، سواء حزب البعث أو حركة القوميين العرب، أو اللبنانية البحتة كحزب الكتائب وحزب النجادة أو ما كنا نرى فيه حزباً فاشياً إقليمياً معادياً للعروبة ممثلاً في حزب القوميين الاجتماعيين السوريين، الذين يؤمنون بوحدة الهلال الخصيب (وهي منطقة بلاد الشام والعراق ونجمة هذا الهلال قبرص!!). في تلك الفترة كان التحالف بين القوميين السوريين والكتائب على أشده في مواجهة التيار العروبي (الناصري والبعثي والقوميين العرب).
كان الطلبة العرب من مختلف أقطارهم مركز اهتمام القيادات السياسية الطلابية في تلك الفترة، فمن خلال الجامعات العربية أمكن استقطاب الكثير من الشخصيات العربية التي عادت الى بلدانها لتؤسس فروعاً لحزب البعث او حركة القوميين العرب.
شكل النشاط الاجتماعي الثقافي مدخلاً لكسب الطلبة العرب، فمن خلال «النادي الثقافي» العربي كان القوميون العرب يستقطبون الطلبة، بالمحاضرات الاسبوعية التي يقيمونها أو الرحلات الى مناطق لبنان الجميلة، ومن خلال «نادي العروة الوثقى» كان البعثيون يستقطبون الآخرين. بالتالي كان التنافس ثم الصراع بين الحزب والحركة على أشده، خصوصاً أننا كنا نعيش مرحلة الوحدة السورية المصرية والإشكالية التي برزت بين عبد الناصر وحزب البعث، ثم التوتر والصراع، ثم وقوف جناح صلاح البيطار الى جانب الانفصال مما أوجد أرضية قوية للصراع بين القوميين والبعثيين في الوسط الجامعي. ثم جاءت الانشقاقات التي برزت داخل حزب البعث على أساس الموقف من الانفصال او التحولات الفكرية التي شهدها الحزب في مطلع الستينيات وبروز حزب العمال الثوري الذي مثّل أول توجّه ماركسي وسط صفوف البعث، وجد في التحولات الاشتراكية في دولة الوحدة تحدياً كبيراً له. كل ذلك بالإضافة الى التحدّي المستمر الذي مثلته الأحزاب الشيوعية العربية (السوري اللبناني والعراقي والفلسطيني وغيرهم في تلك الفترة)، لكل الاحزاب القومية.
بيروت الدراسة ونشوء الوعي السياسي
في العام الدراسي ١٩٦٠/١٩٦١ التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت بعدما استكملت الثانوية العامة، حين كنت في السابعة عشرة من العمر. وخلال ذلك العام صدرت الأعداد الأولى من مجلة «الحرية الاسبوعية» الناطقة بلسان حركة القوميين العرب، والتي كانت الهدية الاسبوعية التي يوزعها القوميون (وغالبيتهم من الفلسطينيين واللبنانيين) للطلبة العرب الذين يريدون كسبهم. وفي تلك الفترة قبلت الارتباط بحركة القوميين العرب من خلال الصديق الفلسطيني جورج دلل الذي كان ورفيقه عصام عرنكي مسؤولين عن إقامة الصلات مع طلبة الخليج والجزيرة ودعوتهم الى النادي الثقافي العربي، وإشراكهم في النشاطات التي يقوم بها النادي، وتشخيص ما يمكن لهؤلاء الطلبة أن يقوموا به، وهل يستحقون أن يكونوا أنصاراً للنادي أو للحركة أو يمكن دعوتهم إلى الارتباط الحزبي ضمن الحلقات التمهيدية التي تضم أعضاء مرشّحين من مختلف البلدان العربية، ومن الجنسين. فقد كانت الحركة القومية تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة وقد ضمّت العديد من الحلقات والخلايا الحزبية في الجامعة الاميركية العديد من الرجال والنساء على حد سواء. وكان الاهتمام الأساسي منصبّاً على قضية فلسطين وعلى الوحدة وعلى القضية الأساسية في الصراع ضد الاستعمار، فقد كانت القضايا القطرية فرعية، ثانوية، يُنظر إليها من زاوية ارتباطها بالمسألة القومية، وكيف تخدم الفروع المركز. واكتشفت أن بعض الطلبة العرب قد ارتبط بالتنظيمات السياسية وهم على مقاعد الثانوية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الكثير من طلبة الثانوية في البحرين (وبرزت بينهم قيادات في حزب البعث وجبهة التحرير الوطني البحرينية) كانوا نشطين للغاية وهم لم يكملوا الدراسة الثانوية، ويقودون التظاهرات عام ١٩٥٩ تأييداً للتيار القومي في العراق وتنديداً بمجازر الموصل. كما أذكر أنني شاركت في تلك التظاهرة التي قادها البعثيون من المدرسة الثانوية، وكانت أعمار غالبيتنا دون الثامنة عشرة!
ويمكن تذكير السادة أصحاب قانون الجمعيات السياسية أن هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات كان لديها فرع طلابي من أنشط الفروع والذي كان له فضل تسيير تظاهرات التضامن الواسعة التي شهدتها البحرين بعد العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، حيث خرجت التظاهرات من المدرسة الثانوية، وعرّجنا على المدرسة الغربية (تسمى حالياً مدرسة أبو بكر الصديق) ثم الى المدرسة الشرقية (راس رمان) فالجسر فأماكن تجمعات البريطانيين في شمال المحرق.
العمل السياسي في البحرين
بعد أكثر من أربعة عقود، وبعدما صدر قانون الجمعيات السياسية في البحرين الذي حدد السن القانونية للسماح للأعضاء الجدد بـ ٢١ سنة، وجدت مفارقة كبيرة للغاية بين قبول حكومة البحرين أن ترسل طلبة لم يكملوا بعد المرحلة الثانوية للدراسة في الثانوية العامة التابعة للجامعة الأميركية في بيروت، واثقة من قدرتهم على أن يسبحوا في خضمّ الحياة الصاخبة في لبنان، دون رقيب أو حسيب، فيما لم يكن لحكومة البحرين سفارة أو قنصلية أو مكتب لمتابعة الطلبة، وكان الأمر بمجموعه مرتبطاً بالجامعة أو الكلية الثانوية العامة. إذا كانت حكومة البحرين تثق بقدرة طلبتها في تلك الفترة على أن يسبحوا في ذلك المحيط اللبناني العميق، بحرّية تامة، ودون خوف من المخابرات التي لم نتعرف إليها في تلك الفترة، وهي تعرف تماماً الوسط السياسي والاجتماعي في بيروت، ويعرف الكثير ممن تخرجوا من بيروت بدءاً من المرحوم أحمد العمران إلى الشيخ محمد بن مبارك الخليفة (وزير الخارجية) وسواه من متخرجي الجامعة الاميركية الأجواء السياسية التي كانت تعيشها الجامعة الاميركية وغيرها من الجامعات العربية في مرحلة المد الناصري أو البعثي أو الشيوعي، ومع ذلك فإنها كانت واثقة من طلبتها، وتعرف أنهم سيكونون قادة للبلاد في مستقبل الأيام (وهذا ما برهن عليه كافة طلبتنا في كل المراحل ومن كل الجامعات العربية والاجنبية، رغم انتماءاتهم السياسية، فقد كانت البحرين بالنسبة لهم بؤبؤ العين، وكان انتماؤهم السياسي لخدمة بلدهم بالدرجة الاساسية، وكانت معارضتهم لحكومتهم أو حكومة الحماية البريطانية نابعة من إيمانهم بحق شعبهم في الحرية والاستقلال والديمقراطية، وبكونها جزءاً من الوطن العربي الكبير، وأن شعبها جزء من هذه الأمّة المناضلة من أجل وحدة وتحرير الأجزاء المستعمرة منها، وخاصة فلسطين).
كيف يمكننا أن نفسر التراجعات في سياسة الحكومة حيال ثقتها بالطالب، أو الشباب البحريني سواء من هو داخل الوطن أو خارجه، حيث كانت الثقة أعلى في مرحلة الحماية البريطانية، ثم تراجعت تدريجياً بعد الاستقلال لنصل الى فترة المنع وحجز الجوازات وتحديد سنوات التجديد بسنة للطالب بحيث يجبر على العودة الى البحرين لتجديد جواز سفره ويحقَق معه أو يعتقل أو يُمنع من العودة كما جرى في نهاية السبعينيات بعد تطبيق قانون أمن الدولة. بعد الانفراج السياسي صدّق النواب المحترمون والشورويون كذلك، على قانون يحدد سن الحادية والعشرين ليحق للمواطن أن ينتسب للجمعيات السياسية، في الوقت الذي سمح فيه قانون الانتخابات للمجلس التأسيسي عام ١٩٧٢ أن تكون سن مباشرة الحقوق السياسية (أي المشاركة في الانتخابات) هي العشرين! ولم يحدد بيان الاعتراف بهيئة الاتحاد الوطني أي سن لمنتسبيها، فقد كان الموضوع برمّته من مسؤوليات الحركة السياسية!
مفارقة مضحكة، فإما أن يكون واضعو القانون لا يعرفون التاريخ السياسي لهذا الشعب، أو أنهم شاخوا وعقليتهم باتت عاجزة عن مواكبة التطورات المذهلة في العالم، حيث الطفل يتابع مسلسلات ويعرف الكثير من أوضاع العالم وصراعاته من خلال الفضائيات أكثر مما كنا نعرف أيام كنا في مرحلة الدراسة الثانوية! أو أنّ واضعي القانون لم يقرأوا اللوائح السابقة للتجربة النيابية التي مرت بها البحرين أو أنهم غير واثقين من ضرورة الإصلاح السياسي وضرورة مشاركة أوسع الفئات الشعبية، في الوقت الذي كان فيه جلالة الملك (في اللقاءات التي تمت معه عام ٢٠٠٢) يفتخر بأن البحرين لديها أوسع قاعدة انتخابية في منطقة الخليج برمّتها (قبل أن تسمح الكويت للمرأة بممارسة حقوقها السياسية، فقد كان من يحق لهم المشاركة في التصويت لانتخابات المجلس الوطني عام ١٩٧٣ قرابة ٣٠٥٢٤ مواطناً، بينما وصل الرقم في الانتخابات الاخيرة ـ مع المجنسين!! ـ قرابة ربع مليون).
لم يكن في خلد أحد من الطلبة أن يستشير الحكومة في الارتباط بالحركة السياسية في بيروت، فقد كنا نعرف أنّ هذه الحركات مضادة للبريطانيين والفرنسيين والصهاينة، ومضادة للأنظمة الرجعية، وتسعى إلى تغييرها لأن التغيير هو الخطوة الضرورية الاولى لتمكين البلدان العربية من التوحد مع بعضها البعض وهو شرط أساسي كانت الحركة القومية تبشر به ليتمكن العرب من الانتصار على إسرائيل واسترداد فلسطين.
المواطن البحريني لا يتراجع في وعيه ومشاركته للحركة السياسية، ويمكن أن نعرف ذلك في هذا الحراك الكبير للجمعيات الشبابية والبرلمان الشبابي، ومساهماتهم في الجمعيات السياسية في الوقت الحاضر، أما من يتراجع فهو السلطة. هي تخلق المزيد من الفجوات بينها وبين المواطن، وخصوصاً جيل الشباب الذي يفتش العديد من نشطائه عن مستقبل يساهمون في صياغته من خلال مشاركتهم الأحزاب السياسية الفاعلة في البلاد، فيصطدمون بهذا القانون البائس!
الانخراط في الحركة القومية
كانت مسألة إعادة صياغة المنهج الفكري والسياسي والسلوك اليومي لدى العضو الجديد هي القضية الأساسية في مرحلة الحلقات الحزبية في الحركات والأحزاب السياسية. كل حلقة تضم قرابة خمسة أعضاء ولا يتعدى عددهم سبعة. وكان للحلقة مسؤول حزبي معلن يدير الاجتماعات، ويوزع المسؤوليات بين الأعضاء، وكان هناك مساعد للمسؤول (غير معلن) من ذات المرتبة الأعلى (الخليّة أو الرابطة) ليجري تدريبه وتعويده على قيادة الحلقات الحزبية، وليساعد المسؤول الحزبي في الوقت ذاته (وقد يكون لتقديم التقارير عنه أيضاً، حيث باتت نهجاً متبعاً لدى بعض الاحزاب وخاصة الحاكمة لمعرفة سلوك العنصر المسؤول)! وكان هناك برنامج فكري وجدول أعمال واضح لكل اجتماع من اجتماعات الحلقة الحزبية أو الخلية أو الرابطة. وقد كان من الضروري بعد أن يستكمل عضو الحلقة ستة أشهر أن يمر في دورة اختبار لمعرفة مدى استيعابه للفكر القومي ولمدى قناعته بالحركة ومدى التزامه. فإن نجح في الدورة، أصبح عضواً في خلية حزبية يطّلع على التقارير الداخلية للحركة، وإن رسب، عاد مرة أخرى إلى حلقة أخرى يجرّب حظه، وإن لم يبرهن قدرة على التطور ليكون كادراً حزبياً، فقد يكون نصيراً للحركة في الوسط الطلابي أو الاجتماعي الفاعل فيه.
كان البرنامج الفكري يركّز على المسألة القومية ووحدة الأمة العربية، لخلق عناصر لديها ولاء قومي لا قطري، معتمداً في ذلك على كتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق وقيادات الحركة من طراز الحكم دروزة ومحسن إبراهيم وهاني الهندي بالإضافة الى القضية الفلسطينية (مع الابتعاد عن مفكري البعث). فقد كان الخوف من تأثير الحركة القومية الاخرى شديداً بين الطرفين، خصوصاً أن البعثيين قد امتازوا بقدراتهم النظرية وشخصياتهم القيادية المرموقة، التي كان لها باع طويل في الصراع على السلطة في سورية بالدرجة الأساسية، وكان مطعم فيصل المقابل للمدخل الرئيسي للجامعة الاميركية مكان التجمع الاساسي لقادة الحزب، ولاسيما في السنوات الاخيرة للوحدة بعد تفاقم الخلافات بين عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي وانسحاب وزراء الحزب من حكومة الوحدة.
وضمن برنامج التثقيف وبناء العضو، كانت هناك التعاميم السياسية حول الأوضاع التي تعيشها المنطقة، وكان كل عضو في الحلقة مطالباً، بعد فترة تقرب من الشهر، أن يكتب موضوعاً سياسياً، وأن يلخّص كتاباً ويقدمه للأعضاء للمناقشة. وكانت هناك جدية لدي البعض، وأذكر أن أحد الأعضاء قد لخص كتاباً وكانت صفحات التلخيص أكثر من الكتاب نفسه، وبعد أكثر من ساعتين من قراءة التلخيص، اضطر المسؤول الى توقيفه لشرح كيفية التلخيص والتركيز على الأفكار الأساسية التي يضمها الكتاب واستعراضها لتكون مادة للمناقشة!
كان التركيز الفكري السياسي حول الوحدة العربية، وكانت التجربة الألمانية والإيطالية مثار الاهتمام الكبير، وبالتالي كانت دراسة التجربتين ضرورية لإقناع العضو بأنّ رسالتنا التوحيدية ليست مستحيلة وأن هناك تجارب يمكن الاستفادة منها.
وكانت الحركة تركز على الانضباط وعلى الطاعة العمياء للتعليمات الصادرة عن القيادة (نفّذْ ثم ناقش)، ولا شك في أن ذلك كان بتأثير الحركات القومية المتعصبة من النازية الى الفاشية أو يمكن القول بأنها تعبير عن إيمان القائمين بالحركة بضرورة خلق تنظيم مركزي قتالي فدائي يمكنه القيام بالعمليات الفدائية التي قد توكل إليه.
بدأ الشرخ الفكري لدى الحركة بالتوجهات الاشتراكية الناصرية عندما صدرت مراسيم التأميم الواسعة عام ١٩٦٠، ويبدو أنها مسّت الكثير من العناصر القومية في سورية التي كانت ترى ضرورة تأجيل الصراع الاجتماعي الى ما بعد تحقيق الأهداف السياسية وبالتحديد المعركة مع إسرائيل.
وحيث كانت الجامعة الاميركية ساحة صراع بين كافة التيارات الفكرية والسياسية، فقد تسللت الأفكار الاشتراكية الى صفوف حركة أرادت تحصين نفسها ليس فقط من أفكار الشيوعيين وإنما من أفكار البعث الاشتراكية النابعة من التيارات الاشتراكية الفرنسية والبريطانية بالدرجة الأساسية التي تأثر بها المرحومان، مؤسسا الحزب: ميشيل عفلق وصلاح البيطار (سان سيمون وبرنارد شو).
وقد بدأت مجلة «الحرية» تطرح التساؤلات الكبيرة بعد الانفصال (سبتمبر / أيلول ١٩٦١)، وكانت مقالات محسن ابراهيم في الديمقراطية والتنظيم الثوري، بالإضافة الى مقالات محمد كشلي تثير المزيد من العواصف وسط قيادات وقواعد أعضاء الحركة في الجامعة الاميركية، إضافة الى النقاشات الصاخبة التي تدور وسط طلبة حزب البعث والانشقاقات اليسارية. ثم جاء الانقلاب العسكري في العراق (فبراير/ شباط ١٩٦٣) ليطيح حكم عبد الكريم قاسم، وليرتكب الحرس القومي مجازر ضد الشيوعيين. ثم جاء انقلاب مارس/ آذار ١٩٦٣ في سورية ليعيد إلى بساط البحث مسألة الوحدة بين الأقطار العربية الثلاثة، والدخول في حوارات ثلاثية كانت نتائجها ميثاق الوحدة في ابريل/ نيسان. لكن هذا الميثاق لم ير النور، فقد اشتعلت الخلافات الناصرية البعثية لتطيح التحالف الهش في سورية، لتدخل هذه مرحلة من الصراعات الحادة بين اليمين واليسار في حزب البعث نفسه. حين فشلت حركة القوميين العرب في أن تكون لها قدرة على تحقيق أي نجاح يذكر في الساحة السورية العراقية، تفتح آفاقاً أكبر ضد الاستعمار البريطاني في عدن، بتأسيس الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، ليتوجه طلبة الجزيرة بالدرجة الاساسية لذلك المحور الذي سيؤثر على مجرى الصراع ضد الاستعمار البريطاني في مجمل الوضع الخليجي.
بدأت الكتابات الماركسية تأخذ طريقها الى الخلايا والرابطة (القيادة الحزبية لتنظيم الحركة في الجامعة الاميركية) وسط صراع تزايد عام ١٩٦٣ حيث انعقد المؤتمر الاستثنائي لحركة القوميين العرب لتقرير مسألة الالتزام الأيديولوجي. وكنا نتابع ذلك الصراع من خلال ارتباطنا مع الجناح اليساري (وليد قزيحه، محمد كشلي، محسن ابراهيم، نايف حواتمه) ليتوصل الجميع الى حل وسط، مفاده تعليق المؤتمر وتأجيل كل الخلافات الفكرية، التي قد تعصف بالحركة وتمزقها. وبالتالي بقي اليسار واليمين مع بعضه البعض، مع تزايد سيطرة اليسار على المزيد من المواقع. وكنا معنيين بذلك في الجامعة، حيث انحازت العناصر الاساسية في قيادة الجامعة، وشكلنا رابطة من عدد من الفلسطينيين واليمنيين والبحرينيين ممن حسموا خياراتهم الايديولوجية مع الماركسية اللينينية وضد يمين الحركة، وضد المواقف السياسية للحركة الشيوعية في المسألة القومية وفلسطين مفتشين عما يمكن أن يسند موقفنا في الأدبيات الماركسية واللينينية معتبرين أن هناك تسللاً للعناصر اليهودية في قيادة الاممية الشيوعية المعنية بالمنطقة العربية. ثم تطور الصراع مع الاحزاب الشيوعية بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وبروز المواقف الصينية التي شدّت الكثير من التيارات اليسارية التي انشقّت عن الحركات القومية ورافضة للانخراط في الأحزاب الشيوعية على أساس الموقف من الكيان الصهيوني والموقف من الوحدة العربية.
قد تشكل التحولات الفكرية أعقد وأصعب التحولات لدى الإنسان، لكنّ حدّة الصراع السياسي في تلك الفترة والبريق الهائل للتجربة الاشتراكية، سواء الصينية أو الروسية أو الكوبية أو غيرها من الثورات التي قادتها الأحزاب الشيوعية، إضافة الى الإخفاقات المتزايدة للحركة الناصرية والقومية عموماً، والانفتاح الفكري على الماركسية، حيث كانت الكتب الأساسية (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، والاشتراكية العلمية والاشتراكية الخيالية والبيان الشيوعي والصراعات الطبقية في فرنسا وانتي دوهرنج وكتابات لينين، وخصوصاً «ما العمل» الذي تمت ترجمته إلى: ويش نسوّي!) وخطتا الاشتراكية الديمقراطية وموضوعات نيسان، إضافة الى مؤلفات ماو تسي تونغ التي بدأت تغزو تجمعات الطلبة من خلال دار ابن سينا في المنطقة الشرقية من بيروت، وكان العطش الفكري شديداً للغاية بحيث يصعب نزول كتاب يستحق الذكر في السوق لا تتناوله الحلقات الفكرية في الجامعة الاميركية في تلك الفترة. وأذكر أنني اعتكفت عدة ايام بعد استكمال الامتحانات لقراءة الكتب التي لم تتسنّ لي قراءتها في فترة الاختبارات!
كان الانشغال شبه الكلي والانغماس في النشاط السياسي والفكري له ثمنه، فقد كان من الضروري بالنسبة إلى كلية الهندسة الحصول على ٧٠% في كافة المواد ليتمكن الطالب من الاستمرار في الدراسة، وإلا فإن عليه إعادة الفصل، وكانت تلك هي الضريبة التي تم دفعها عام ١٩٦٣، لأجد نفسي مضطراً لترك الدراسة لأكثر من فصل للعودة الى الكلية بعد ذلك.
العمل في قطر واتحاد طلبة البحرين
خلال العام ١٩٦٢، قرر الوالد مغادرة البحرين والعودة الى قطر، فقد وجد في سوق الظهران وعمل «الشريطية» تعباً يفوق قدراته ولا يلبّي احتياجات البيت الكبير، وفضّل تصفية كل ماله في مدينة الحد وبيع بيته الذي ورثه عن والده منذ ١٩٣٥، والإقامة في الريان القديم في قطر!
عندما فُرضت عليّ ثمانية أشهر عطلة إجبارية من الجامعة، وكنا رزقنا بالبنت الاولى أمل عام ١٩٦٢، كانت فرصة للعمل في قطر في شركة شل. وفي مطلع ذلك العام كانت قطر قد شهدت أحداثاً كبيرة في ابريل/ نيسان ١٩٦٣، عندما سار الاخوة اليمنيون العاملون في شركة شل في تظاهرات تطالب الرئيس اليمني عبد الله السلال بالانضمام الى الحوارات الثلاثية (المصرية السورية العراقية) وبالتالي الدخول في دولة الوحدة. حينها تصدى لهم أحد أفراد الأسرة الحاكمة وأطلق النار عليهم فقتل وجرح بعضهم، مما فجر الصراع برمّته ضد الأسرة الحاكمة. تشكلت بعدها هيئة الاتحاد الوطني التي قادها المرحوم عبد الله المسند وحمد العطية وهتمي الهتمي وسلطان الهتمي وآخرون ممن ساروا على نهج هيئة الاتحاد الوطني في البحرين وشكلوا قيادة من مائة شخصية أعلنوها وحددوا مطالبهم بوضوح، مركزين على ضرورة تسديد الشيوخ ديونهم للتجار، وضرورة النقابات للعمال إضافة الى مطالب أخرى. لكن سرعان ما تمكن المعتمد البريطاني كوكرين من إقناع الشيخ بأن هناك مؤامرة ناصرية لقلب نظام الحكم، وبالتالي لا بد من اعتقال زعماء الحركة وسجنهم ونفي بعضهم مما شتت الحركة. وبالتالي كان الرماد ساخناً، خصوصاً أن اللجان العمالية العلنية والمعترف بها في قطر قد عرفت طريقها منذ أواخر الخمسينيات في شركتي شل ونفط قطر، وكان هناك نشطاء في الشركة من بينهم المرحوم عبدالله ابراهيم فخرو الذي جمعتنا معه أجمل أيام العمل السري في تلك الفترة.
كان من الطبيعي لطالب الجامعة الأميركية العامل في شركة شل (رغم أنه لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر!!) أن يكون في قيادة الحركة في قطر، مع إخوة فلسطينيين (جورج دلل وأبو أحمد يونس، وطبيب آخر لا أذكر اسمه في الوقت الحاضر) وكان من الطبيعي أن يكون التركيز علينا (عبد الله فخرو وأنا) لضم المزيد من الإخوة القطريين، إضافة الى الاهتمام بالتثقيف والاهتمام باللجان العمالية. وقد تمكنت الحركة من ضم شخصيات مرموقة لها في تلك الفترة (المرحوم عيسى الخليفي، وفي بيروت حيث التحق معنا المرحوم هتمي الهتمي والأخ سلطان الهتمي) وعدد من العاملين في الشركات والدوائر الحكومية، لكن الفترة القصيرة لم تسنح للتعرف أكثر على مجالات العمل في قطر، فقد كان من الضروري العودة للدراسة في الفصل الثاني من العام ١٩٦٤.
تم حسم خيار الالتزام الفكري، وبقي الالتزام التنظيمي معلقاً. كانت الحركة تعيش مرحلة حرجة، ففرعها الفلسطيني يرى في الجانب النظري مضيعة للوقت وتشتيتاً للطاقات القومية، وكانت تناصره قيادات في مختلف المناطق، في الوقت الذي كان المناصرون للتيار الماركسي يتزايدون. لكن انتفاضة آذار/ مارس ١٩٦٥ قد فجّرت المزيد من الصراعات بيننا واكتشفنا عدم اهتمام قيادة الحركة بما يجري في البحرين. وكان من الضروري ترتيب أوضاع كافة الطلبة من الجزيرة والخليج واليمن، وتشكيل قيادة موحدة ساهم فيها المرحوم سلطان أحمد عمر وعبد الله الأشطل ومحمد قاسم الثور من اليمن، إضافة إلى أحمد حميدان وعبد الرحمن النعيمي من البحرين والمرحوم عبد العزيز الدغيثر وغيرهم من المملكة السعودية. ولم يكن أمام قيادة الحركة سوى الاستعانة بعبد الرحمن كمال عضو الأمانة العامة في الحركة لإقناعنا بإيجاد حلقة وصل بيننا وبين المركز، بدلاً من الانشقاق وتشكيل منظمة جديدة.
في تلك الفترة كنت رئيس رابطة طلبة البحرين في بيروت، وحيث انشغل الجميع بانتفاضة آذار/ مارس ١٩٦٥، فقد كان الدور الإعلامي والسياسي من جانبنا، إذ شكلنا وفداً (عبد النبي العكري وعبد الرحمن النعيمي) للقاء الزعيم الوطني كمال جنبلاط الذي زرناه في بيته في المختارة لنشرح له وضع البحرين ونطالبه بتشكيل لجنة لمناصرة شعب البحرين. لم يتردد جنبلاط وكلف المرحوم شكيب جابر بذلك. وكان التعاطف كبيراً مع شعب مناضل قدم الكثير من التضحيات من أجل التخلص من الاستعمار البريطاني والمشاركة الشعبية في صنع القرار، والحق في تشكيل نقابات عمالية.
استثمرنا مجمل الأوضاع لنطرح في الوقت ذاته مسألة تأسيس اتحاد لطلبة البحرين، والتقينا في الكويت ممثلين عن روابط بيروت والقاهرة وبغداد والكويت لنضع اللبنات الاولى لعمل تمكّنَ مَنْ لحقنا من تشكيله في الخامس والعشرين من فبراير/شباط ١٩٧٢ بإقامة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.