العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

الطبقات الاجتماعية في لبنان ٢/٢

الطبقات والطوائف: تقاطع وفعل متبادل

٤. العلاقة بين الطائفي والطبقي

في العام ١٩٧٤، كتب كلود دوبار مساهمة بالفرنسية بعنوان «البنية الطائفية والطبقات الاجتماعية في لبنان» (دوبار: ١٩٧٤، ٣٠١-٣٢٨) عرض فيها نتائج الأبحاث التي أجراها منذ سنوات مع زميله سليم نصر والتي صدرت العام ١٩٧٦ بعنوان «الطبقات الاجتماعية في لبنان» (نصر ودوبار: ١٩٨٢).
يتعرّض دوبار في المقالة الى الإشكالية النظرية عن العلاقة بين الطوائف والطبقات. وإذ يستبعد كل تحليل يختزل ميكانيكياً كل الظواهر الاجتماعية الى الصراع بين الطبقات، يقول بوجوب الاعتراف بالوجود المتزامن في البنية الاجتماعية اللبنانية لبُنيتين، بنية سياسية - طوائفية، يعرّفها على أنها «مجموع المواقع والعلاقات الرمزية التي توحّد الجماعات الاثنية الدينية المختلفة (خصوصاً المسيحيين والمسلمين) وبُنية طبقية تتكوّن من المواقع والعلاقات الاجتماعية الناجمة عن نظام اقتصادي معيّن.
بناءً عليه، يدعو الكاتب الى قطيعة مزدوجة: قطيعة مع المثالية الثقافوية التي تنكر كل فاعلية للقاعدة الاجتماعية، وقطيعة مع المادية الميكانيكية التي تنكر كل استقلال لـ«العلاقات الاجتماعية التقليدية» (دوبار: ١٩٧٤، ٣١٢) هكذا يعيّن دوبار منهجه (المشترك مع نصر) على أنه البحث عن الكيفية التي تمكّن هذه البنية من العلاقات الاقتصادية، في تحديدها الممارسات الاجتماعية للأفراد، من أن تعدّل من بنية العلاقات الرمزية التي تنتظم أولاً وفق منطق طائفي لا يمكن اختزاله الى علاقات اقتصادية فعلية» (دوبار: ١٩٧٤، ٣١٣).
لقد أبانت العيّنة التي درسها نصر ودوبار مدى التقاطع بين التمييز (والامتياز) الطائفي والتمييز (والامتياز) الاجتماعي الطبقي. فقد شكّل المسيحيون، والموارنة خصوصاً، أكثرية في الطبقات العليا والمتوسطة، فيما شكّل المسلمون، وخصوصاً الشيعة، الأكثرية في الطبقات الشعبية المدينية منها والريفية. وشددت الدراسة على التفاوت في فرص التعليم بما هي أبرز مظاهر التمييز الطوائفي - الاجتماعي حيث إن ٦٠٪ من المسلمين في العيّنة لم يتمّوا المرحلة الابتدائية، فيما النسبة لا تتعدى الـ ٢٨٪ عند المسيحيين. وعكساً، في حين أتمّ ٣٤٪ من المسيحيين المرحلة الثانوية فإن ١٥٪ فقط من المسلمين كان قد أتمها. (دوبار: ١٩٧٤، ٣١٩-٣٢٤). على أن هذه الفروقات في الامتياز التعليمي - الاجتماعي لا تقتصر على التفاوت بين المسيحيين والمسلمين بما هما جماعتان طائفيتان، ذلك أن التفاوت الإسلامي - المسيحي في فرص التعليم قائم ضمن الطبقات الوسطى بين مسلمين ومسيحيين أيضاً.
بعد الشغل على مقياسين آخرين يقسمان الطبقات على أساس طائفي - المواقف المتباينة من العروبة ومن النظرة الى المسألتين الطائفية والطبقية - يخلص دوبار الى «أن الانقطاع الظاهر بين الحيّز السياسي والحيّز الاقتصادي في تشغيل المجتمع اللبناني ناتج من تمفصل مزدوج: تمفصل الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية على الانتماءات الطوائفية من جهة، وتمفصل العلاقات الطوائفية على المؤسسات السياسية من جهة أخرى. إن البنية الطوائفية تشكل إذاً مستوى وسيطاً بين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والوقائع السياسية، مستوى قد يفيد بما هو حاجز أمام الترجمة السياسية للمطالب الاقتصادية قدر ما هو حافز مضخّم لها (...) وهكذا فإن الذين يراكمون الاستغلال الاقتصادي مع الحرمان الطوائفي، يتمكنون من إدراك الجذور السياسية للاستغلال والحرمان، فـ«يتعزز [الشعور بـ] الحرمان الاقتصادي مع مطالب «المشاركة الطوائفية»». (دوبار: ١٩٧٤، ٣٢٧-٣٢٨).
غير أن هذا الانفصام في حياة اللبنانيين الاجتماعية على أساس «ازدواجي» لا يسمح للوعي الاجتماعي المتذرر بأن يخلي المجال أمام وعي سياسي مستقل. وهذا ما يفسّر «تماسك الطبقات القائدة في ما يتعدى الحيّز الطوائفي وتذرّر الطبقات الشعبية في ما دون الحيّز السياسي - الطوائفي». ويخلص دوبار الى خلاصة غامضة تقول «إن مكان الطوائفية في الوعي الاجتماعي يمثّل إذاً وأخيراً مؤشراً جيّداً لأشكال التضامن الطبقية» (دوبار: ١٩٧٤، ٣٢٨)

بُنيتان

الميزة الكبرى لمساهمة دوبار - نصر أنها تعترف بوجود بُنيتين في المجتمع اللبناني: بنية طبقية وبنية طائفية، مع أنها مضطربة في تعيينها العلاقة بين السياسي والاقتصادي وبين الطائفي والطبقي. فدوبار لا يزال يحيل الطوائف الى حيّز السياسة والرمز والوعي. والطبقات الى الحيز الاقتصادي. وهذا هو ترجيع للفكرة الطاغية عند اليسار والحركة الوطنية في السبعينيات التي أحالت الطائفية الى عالم الايديولوجية (بما هي «وعي زائف») أو حَصَرتها في «البناء الفوقي شبه الإقطاعي» مع التأكيد على أن «التناقض الرئيسي»، المفجّر للحرب الأهلية، هو ذاك بين التطور الاقتصادي للبنية التحتية وتخلّف البنية الفوقية (الإقطاعية، الطائفية، الخ.).

يروي دوبار - نصر هذه الثنائية على طريقتهما حين يشددان على أن «الانقطاع الظاهر بين الحيز السياسي والحيز الاقتصادي في تشغيل المجتمع اللبناني ناتج من تمفصل مزدوج: «تمفصل الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية على الانتماءات الطوائفية، من جهة، وتمفصل العلاقات الطوائفية على المؤسسات السياسية من جهة أخرى». حقيقة الأمر أن هذا التمفصل المزدوج لا يزال يقف على قدم واحدة لأنه يغفل تمفصل العلاقات الطبقية على السلطة والمؤسسات السياسية والدولة.

فلنتدرّج في استكشاف علاقات التمفصل المزدوجة هذه.

الطائفية والدين

لا يمكن فصل الطوائف عن الدين بحجة أنها مؤسسات سياسية أو من قبيل تبرئة الديانات من أقوال أبناء الطوائف وأفعالهم، على اعتبارها نقيضاً لـ«روح» الـديان التي يُفترَض أنها منفتحة، سمحة، قائمة على الحب ونابذة للعنف. ليس لأن هذا التمييز ليس قائماً، بل لسبب آخر هو أن المبدأ التعريفي والتمييزي لمذهب أو طائفة، هو تعريف الجماعة المعنية بالمبدأ الأول الذي يبرر وجودها المستقل والمتمايز ليس فقط عن سائر الديانات والمذاهب بل عن سائر الجماعات (الإثنيات، القبائل، الأسر، الجندر، الخ.) وهو انتماؤها الى ديانة مشتركة أو الى مذهب مشترك في تلك الديانة. في أقل تقدير، يمكن القول إن الطائفة «جماعة ذات تخوم دينية»، حسب تعبير مكسيم رودنسون الحاذق. وهي تخوم محروسة بالتحريمات الانثروبولوجية التي تمنع الانتقال من ديانة الى اخرى ومن مذهب الى آخر ومن الزيجات المختلطة.

كيانات مركّبة

وثمة مقولة أخرى تعيّن الطوائف بما هي كيانات «مركّبة» constructed أو «متخيّلة»، استلهاماً لكتاب بنديكت أندرسن عن القومية بعنوان «الجماعات المتخيلة» (اندرسن، ١٩٩١) وأحياناً كثيرة لا يتعدّى الاستلهام حدود عنوان الكتاب. لنشدّد على أن ما عناه اندرسن بالجماعة «المتخيلة»، ليس انتماءها الى عالم ذهني أو خيالي، بل حقيقة أنه يستحيل على أفرادها أن يعرفوا بعضهم بعضاً واحداً واحداً مع أنهم يعتقدون أنهم يتشاركون في حياة جماعية مشتركة. والتمييز عند اندرسن هو بين جماعة عضوية، نموذجها القرية، وجماعة متخيّلة. ثم إن اندرسن يرى أن «التخّيل» الكامن في نشوء القوميات وتكوّنها رابط مادي جداً ينسبه الى «رأسمالية الطِباعة»، أي مرحلة معينة من تطور الرأسمالية سمحت بالانتشار السريع للكلمة المطبوعة قياساً الى المخطوطة أو الشفهية سابقاً.

الطوائف كائنات مجتمعية حقيقية، وإن يكن بالإمكان تطبيق مقولة «التخيّل» عليها مثلما هي عند اندرسون. المؤكد أنها ليست جواهر فوق التاريخ ولا هي تملك استمرارية تاريخية. إنها تتركب وتنفك، تتوحد وتنقسم، تتعاظم أهميتها في الحياة المجتمعية أو تتضاءل، حسب عوامل لا يلقى معظمها تفسيره داخل الطائفة بل خارجها.

من جهة أخرى، لا إمكانية لعملية الـ«تركيب» لمذهب أو طائفة أن تتم، إذا لم يكن أفراد الجماعة المقصودة يفترضون أن لحمة التركيب هي المعتقد الديني أو التشيّع المذهبي. لذا فتشبيه الطوائف بالقبائل قياساً الى العصب الذي يشدّ الجماعتين (صليبي: ١٩٨٨) لا يتعدّى التشبيه. صحيح أن البنيتين القبلية والطائفية تلتقيان على أن الانتماء اليهما ليس طوعياً بل هو بالولادة. وصحيح أن الطوائف يمكنها أن تستعير العصب القبلي - على سبيل الاستعارة - لتشدّ عصبها وتحقق لحمتها. لكن مبدأ وحدة الجماعة الطائفية يختلف عن مبدأ وحدة الجماعة الأخرى. فعصب القبيلة هو رابطة الدم والنسب المشترك، وربما الحِمى المشترك، فيما عصب الجماعة المذهبية أو الطائفية لا يمكن أن يكون إلا الهوية الدينية أو المذهبية التي ينتمي اليها المرء بالولادة. علماً أننا نتذكر أن التركيب لا يكون هنا دون قيادة أو رئاسة أو غلبة، على ما يذكّرنا ابن خلدون.

رواسب تخلّف؟

بناءً عليه، لا معنى لاعتبار الطوائف رواسب تخلّف في بنية حديثة أو رواسب قبل رأسمالية (قبلية، عشائرية، إقطاعية، الخ) في بنية رأسمالية، مع ما يستتبعه ذلك من تصوّر أنّ تطور الرأسمالية ذاتها كفيل بكنسها عن قعر المجتمع وسطحه. إن الطوائف، في المجتمع الرأسمالي الذي نتحدث عنه، مراتب مجتمعية قائمة بذاتها. صحيح أنها في الأصل عناصر وأجزاء من بنى وعلاقات إنتاج قبل رأسمالية، إلا أنها انخرطت في الرأسمالية، وترسملت وتعولمت، وباتت تؤدي فيها أدواراً محددة لا علاقة واضحة لها بالقياس الى وظائفها السابقة. وإن إعادة الطوائف والطوائفية الى تاريخها اللاهوتي لن يجدي نفعاً هو أيضاً في فهم الكثير عنها من حيث فاعليتها وأدوارها السياسية والاجتماعية والتعبوية في لبنان الحديث.

نقاش مع مهدي عامل

ينفي مهدي عامل الصفة (الحدود) الدينية/المذهبية عن الطائفية. تشير الطوائف عنده الى السياسة وحسب، وتعرَّف بوظيفتها السياسية. والحيّز الطائفي إن هو إلا علاقة سياسية لا وجود لها إلا في الدولة وخلال الدولة (عامل: ١٩٨٦، ٣٠). والغريب في الأمر أن مهدي كان يؤكد على هذه المقولة في فترة تفككت فيها الدولة واستولت الزعامات الطائفية كل منها على «أرضها» و«شعبها». ولا يكتفي مهدي بإتمام القطيعة بين الديني، من جهة، والطائفي، من جهة أخرى، وإنما يصرم أي صلة بين السياسي والاقتصادي وبين الدولة والمجتمع.

الى هذا، يؤكد عامل أن المسألة الطائفية مسألة سياسية وليست مسألة اقتصادية. (عامل: ١٩٨٦، ١٥٢). فلا وجود للطوائف في الصعيد الاقتصادي حيث البشر يعرّفون بانتماءاتهم الطبقية وحدها. فلا أهمية للتركيب الطائفي للبرجوازية والطبقة العاملة حتى لو كان أفراد هذه وتلك ينتمون بنسبة ٨٠ في المئة الى طائفة واحدة. ومع ذلك، فالعلاقة الوحيدة الممكنة بين السياسي والاقتصادي، وبين الطوائف والطبقات، في نظر مهدي، هي «علاقة تمفصل بين مستويين منفصلين» (أنظر: مهدي عامل، الطريق، العدد ٦، كانون الثاني/يناير ١٩٧٨، المجلد ٣٧، ص ٦٣-٦٤). لا يفصّل مهدي في معنى عملية التمفصل تلك، وما إذا كان انفصال المستويين يشتمل على التأثير المتبادل بينهما أو لا.

لكنّ ما يفصّل فيه مهدي عامل هو الطابع الوظيفي للحيّز الطائفي في خدمة الحيّز الطبقي، حيث الطائفي هو «الشكل التاريخي المميَّز للنظام السياسي الذي به تمارس البرجوازية سيطرتها الطبقية» فتمنع الطبقة العاملة من أن تتكوّن بما هي «جماهير»، أي بما هي «قوة سياسية مستقلة». ذلك أن الطائفة، في عين مهدي، ليست «كياناً» ولا «جوهراً» ولا هي «شيء» وإنما هي «علاقة سياسية». (عامل، ١٩٨٦، ص ٢٥٥-٢٥٧). إن هذا التعريف ليس هو مشكلة بذاته. المشكلة هي أنه يحتاج الى تفسير لأنه يثير سؤالين لا جواب لمهدي عنهما: ما الذي يسمح للبرجوازية بأن تمارس دور الاستتباع؟ وما الذي يلزم الجماهير العمالية بهذه العلاقة ويمنعها من أن تتحرر وتتكوّن في قوة سياسية مستقلّة؟ ليس لدينا عند مهدي غير تفسير السياسة، بعد الجهد، بالسياسة. ولسنا نستطيع حتى الحديث عن الطائفية بما هي ايديولوجيا في عملية الاستتباع هذه لأن مهدي اختزلها بما هي علاقة سياسية، في خدمة السيطرة الطبقية.

دولة برجوازية أم طائفية؟

بناءً على هذا النظرة الى الطائفية، يعلمنا مهدي عامل أن «التناقض المأزقي» الذي تعاني منه البرجوازية سببه الظاهرة الطائفية. فمع أن هذه الأخيرة هي الشرط الأساس لوجود دولتها - دولة البرجوازية اللبنانية - فإنها تشكّل العقبة الأساس أمام بناء تلك الدولة بما هي دولة برجوازية. ولكي لا تتحول هذه المقولة الى لغز عصيّ على الحل، لا بد من التذكير بأن مهدي عامل يميّز بين شكلين اثنين للدولة البرجوازية، شكل طائفي وشكل لاطائفي. وهذا الأخير إن هو إلا «شكل» الدولة البرجوازية كما تطورت في أوروبا، أي الدولة العلمانية، وهو الشكل المدعو الى أن يلعب دور النموذج بالنسبة إلى الدولة اللبنانية. بعبارة أخرى، تدور المسألة كلها مدار نجاح أو عدم نجاح الدولة البرجوازية اللبنانية في أن تتخلّص من «شكلها» الطائفي لتتلبّس شكلاً آخر، هو الشكل اللاطائفي - بما هي دولة علمانية، فتحقق بذلك برجوازيتها.

الغريب في الأمر أن دعوة البرجوازية الى أن تخلع لبوسها الطائفي توازي دعوتها الى الانتحار ما دام مهدي عامل نفسه قد عيّن الطائفية بما هي علاقة سياسية في خدمة البرجوازية وظيفتها ربط الطبقة العاملة بالبرجوازية بعلاقة تبعية.

فلنكمل.

إن أي دولة تستطيع في التجربة التاريخية والعملية أن تكون برجوازية من دون أن تكون بالضرورة علمانية. والدولة، أي دولة، تستطيع أن تكون علمانية من دون أن تكون بالضرورة برجوازية. مثلاً: الدولة في الاتحاد السوفياتي السابق كانت علمانية، بل ملحدة، من دون أن تحكمها طبقة برجوازية مالكة لوسائل الإنتاج وقابلة لتوارثها.

والسؤال الآن وقد غادرنا مهدي قبل أن يكتمل العصر النيوليبرالي: هل من تعارض حقاً، والى الحد «المأزقي»، بين النيوليبرالية والطائفية؟ لا يرى جورج قرم تناقضاً مأزقياً أبداً بل ينفي التعارض، وله أسباب وجيهة في ذلك: النيوليبرالية تعادي دولة الرعاية، الساعية الى تكافؤ الفرص بين المواطنين على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وايديولوجيا العولمة النيوليبرالية تتعايش جيداً مع الايديولوجيات الانتمائية التي تعطي الأولوية للهويات وتشدد على «الحق في الاختلاف» وتحِلّ هذا الحق محل الحق الجمهوري في المساواة. (قرم: ٢٠٠٣).

حقيقة الأمر أن رؤية مهدي عامل لأزمة الدولة البرجوازية اللبنانية تعبير أكثر تطلباً من الناحية النظرية لمقولة درجت عند اليسار اللبناني عن التناقض بين البنية التحتية الرأسمالية والبناء الفوقي شبه - الإقطاعي والطائفي، كما أسلفنا. وهي نظرة غلبت على مشروع الإصلاح الديمقراطي الذي أعلنته الحركة الوطنية اللبنانية في صيف ١٩٧٥. وقد دفع مهدي هذا التناقض الى حد المأزق. وما لم يجر تصوّره في الحالتين هو إمكان التعايش بين البرجوازية ونظامها الطائفي. وبمعنى آخر إنه يتعيّن التفتيش عن مكامن التناقض في النظام الطوائفي والبرجوازي في مواقع أخرى.

مهما يكن، فإن مقولة التناقض في الدولة اللبنانية بين طابعها البرجوازي وطابعها الطائفي فرضت على مهدي عامل تمزقاً مستمراً بين ضرورات الاتساق النظري والرغبة في التغيير الثوري. فحيناً تجده يحثّ البرجوازية على بناء دولتها البرجوازية اللاطائفية/العلمانية وفق النموذج البرجوازي الغربي، وحيناً آخر تجده يتوقع سقوط البرجوازية مع سقوط نظامها السياسي الطائفي الذي سوف تطيحه «الأزمة المأزقية» التي تفجّرت بسببها الحرب الأهلية عام ١٩٧٥.

في الحصيلة، نحن أمام طبقتين تبدوان عند مهدي عامل شاردتين عن موقعهما وسلوكهما الطبقي المفترَض: برجوازية ذاهلة عن مهمتها التاريخية في بناء دولة غير طائفية، أي برجوازية؛ وطبقات عاملة حبيسة علاقة استتباع سياسية طائفية، عاجزة عن وعي ضرورة التحرر منها والتكوّن في طبقة مستقلة.

وإننا نتحاشى هنا استخدام مفردة «مصلحة» تحديداً لأن كل محاجة مهدي تحصل على مستوى الوعي وتستبعد المصالح المادية للطبقتين المعنيتين. فيبدو الجواب على هذا الذهول المزدوج لدى الطبقتين الرئيستين في المجتمع (في عرف مهدي) هو: التوعية والمزيد من التوعية والتوعية دوماً.

فكيف يمكن لدور التوعية أن يفعل فعله بلا أي قاعدة مادية يتأسس عليها؟ وكيف للوعي/الأفكار أن تتجذّر في الناس بلا أرض تتمدّد فيها الجذور؟ ثم ماذا لو أن المسألة برمّتها ليست مسألة وعي؟

لقد استخدمنا مفردة «الذهول» لأن افتراض مهدي هو أن هذه الجماعة وتلك ليست تدري ما هي فاعلة ولا هي واعية عواقب فعلتها، على طريقة القول المنسوب الى السيد المسيح: «ابتِ، أبتِ، اغفر لهم فهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟» فماذا لو أننا استعرنا السؤال المؤرِق الذي أثاره سلافوي جيجك: ماذا لو كانوا يعرفون ماذا يفعلون؟ ويستهترون بالنتائج ما دامت نتائج آنية، أو مؤمَلة؟ وطرحنا السؤال الذي يستتبعه ذلك: ماذا إذا كانت المسألة مسألة فعل لا وعي؟ (Zizek: 2012).

يمكن أن نكتفي بطرح مثل هذه الأسئلة المزعجة لنقول إننا نحاول تقديم نظرة أخرى الى موضوع العلاقة بين الطائفة والطبقة تأخذ بالاعتبار الاتجاهات الآتية:

أولاً، أن البنية الطائفية تخترق كل مناحي الحياة المجتمعية وتتدخل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة قدر تدخلها في السياسة والرمز والايديولوجيا.

ثانياً، أن الطوائف لا تختزل المجال السياسي. فهذا المجال هو أيضاً وخصوصاً مجال السلطة الطبقية.

ثالثاً، أن الطوائف والطبقات في المجتمع اللبناني جماعتان تتنازعان على الاستحواذ على الفائض الاجتماعي وتخوضان نزاعاتهما على صعيدي المجتمع والسلطة معاً. ومع ذلك فالعلاقة بين الطبقة والطائفة ليست علاقة تطابق بقدر ما هي علاقة توزيع عمل وتقاطع وفعل متبادل.

في تفاوت الأصول والتطور المتفاوت

نشأت المسألة الطائفية اللبنانية تاريخياً من التفاوت في ارتباط الجماعتين الدرزية والمارونية (أو المسيحية عموماً) بمواقع سياسية واقتصادية - اجتماعية مختلفة بل متناقضة في بنية النظام المقاطعجي في جبل لبنان في مراحله الأخيرة. كان الخاصة من حكام جبل لبنان ينتمون الى الأسر المقاطعجية الدرزية (خلا أسرتين أو ثلاث من الموارنة) والعامة - على اختلاف مهنهم ومستوى معيشتهم من تجار ومرابين وحرفيين وفلاحين وعمال - كانوا من المسيحيين في أكثريتهم. وقد تغذى التفاوت بين هاتين المرتبتين المميزتين للتشكيلة الاجتماعية العثمانية، من ارتباط فئات من الجماعة المسيحية المبكر بالاختراق الرأسمالي للساحل وجبل لبنان من خلال اقتصاد الحرير، ومن أسبقية في تحصيل العلم من خلال المدارس الدينية الأهلية (التي تقرر إنشاؤها في مجمع اللويزة ١٧٣٦) ومدارس الإرساليات الأجنبية. أفضتْ حرب ١٨٦٠ الأهلية، وقبلها عامية كسروان، الى نتيجة متفارقة: انتصرت خلالها الجماعة الدرزية عسكرياً لكنها سارت الى الانحدار مع تفكك النظام المقاطعجي الذي ترأسه زعماؤها. وانهزم المسيحيون عسكرياً، لكنهم نجحوا في أن يحوزوا لوناً من الحكم الذاتي في جبل لبنان، حيث يشكلون أكثريته السكانية. وتكرّست هذه النتيجة في قيام متصرفية جبل لبنان (١٨٦١-١٩١٥) يحكمها مجلس إدارة منتخب على درجتين تتوزع مقاعده الاثني عشر على الطوائف الستّ الرئيسة بأكثرية مسيحية.

وما لبث التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المتفاوت للطوائف أن عبّر عن نفسه بجملة من الامتيازات المارونية - المسيحية والحرمانات لسائر الطوائف:

- الأفضليات في الموقع من السلطة السياسية والعسكرية. من خلال السلطات شبه المطلقة لرئيس الجمهورية وإشرافه المباشر على قائد الجيش ومديري قوى الأمن الداخلي والاستخبارات والمالية وحاكم مصرف لبنان ووزير الدفاع.

- الأسبقية الاقتصادية للمسيحيين عموماً في القطاع الأكثر إدراراً للربح في الاقتصاد - الخدمات والتجارة والمال - وفي امتلاك المؤسسات المالية والتجارية والصناعية والسياحية.

- الأسبقية الثقافية التي تغذّت من مئتي سنة من الانفتاح على أوروبا. والأسبقية التعليمية التي أفادت من الدور المبكر للإرساليات الأجنبية في التعليم والإهمال المبكر للتعليم الرسمي.

- التفاوت في النمو بين المركز والأطراف ومعدّلات نمو المناطق وفي حصتها من التنمية والموارد وخدمات الدولة والعِلم والصحة، إضافة الى التفاوت في توزيع الثروة.

الطوائف والطبقات جزء من منظومة سيطرة واستغلال

الاعتراف بوجود بنيتين طائفية وطبقية في المجتمع اللبناني لا معنى له إلا اذا تكامل مع الاعتراف بأن النظام الطائفي هو جزء من منظومة السيطرة في المجتمع اللبناني. وهذا ما يقصّر عنه دوبار ونصر. ذلك أن علاقة أبناء الجماعة الطائفية بالطائفة ومؤسساتها وزعامتها ليست مجرد علاقة طوعية، بل تنطوي على مقدار من القسر والإلزام المؤسساتي والقانوني. فالنظام اللبناني يعرّف الحقوق السياسة والاجتماعية والتعليمية للفرد بما هي حقوق يكتسبها بصفته عضواً في جماعة مذهبية - طائفة لا هوية له عملياً سواها. وهي حقوق توازي حصصَ مذهبه أو طائفته من تلك الحقوق. وهي حقوق قد تؤمّن له مبدئياً ونظرياً مثل تلك الحصص إلا أنها تحرمه بما يتعدّاها مما قد يكتسبه بناءً على كفاءاته وخبرته ومهاراته ومؤهلاته العلمية. ويجب التأكيد على أنه في فترة بعد الحرب، تعزز التحكّم والضبط اللذان تمارسهما زعامة الجماعة المذهبية أو الطائفية على أعضائها بدل أن تضعف. ويعود ذلك بالدرجة الأولى الى إطباق وحدانيات أو ثنائيات قيادية على الطوائف الست الرئيسة في البلد رفعت من درجة الضبط والتحكم للقيادة المذهبية والطائفية على الأفراد والمزيد من حرية التصرّف التي تتخدها هذه القيادات في تمثيل الجماعات والنطق باسمها وإلزامها بسياسات ومواجهات بما فيها المواجهات العنفية.

هذا من جهة القسر. ومن جهة أخرى، يرتفع في الآن ذاته منسوب الطواعية الذي تحققه التعبئة الايديولوجية والدينية والمذهبية للقيادات والمؤسسات المذهبية والطائفية لأفرادها. لذا وجب إيلاء الولاء الطائفي/المذهبي ما يستحقه من أدوار في تنظيم الطواعية لدى أبناء المذهب والطائفة، قدر أهميته في تنظيم القسر والسيطرة عليهم.

والموضوعة الرئيسة هنا هي الانطلاق من أن السياسة هي ميدان الصراع للاستحواذ على الفائض الاجتماعي تخوضة الجماعات (الاثنية، المناطقية، الطائفية، القبلية، الخ) والطبقات الاجتماعية في آن معاً. وهو صراع يدور في الدولة كما في المجتمع. وهذا هو معنى الاعتراف بأن البنية المجتمعية اللبنانية تتضمن بنية طبقية وبنية طائفية.

دور الطوائف في البنية الطبقية

تشتغل الطوائف في الفجوات والثغر التي لا تدخلها الطبقات. نعني أن ميدانها الأثير هو العمالة والتوظيف، وقسمة العمل، والفوارق بين المدينة والريف، وبين المركز والأطراف، وبين العمل الذهني والعمل اليدوي، كما أنها تتحكم بديناميات الارتقاء الوظيفي والاجتماعي، إلخ. والجامع بين فعل الطوائف في هذه كلها هو معاندتها قواعد السوق حيث تضمن للبعض حصصاً في سوق العمل تمنع الاستئثار أو تحمي مواقعه حسب مكان كل طائفة في الهرمية الاجتماعية. وفي كل الأحوال، تتبدى الفروقات الطوائفية هنا بما هي امتيازات وحرمانات تعليمية ومناطقية ووظائفية واجتماعية صغيرة ضمن الفروقات الطبقية الكبيرة.

تتدخل الطوائف في سوق العمل من خلال القيود والتعديلات على قوانين السوق التي تفرضها الحصص الطوائفية في التشغيل وفي الارتقاء في وظائف الدولة والقطاع العام. وقد انتقلت المحاصصة الطائفية/المذهبية من الوظيفة الحكومية ببطء ولكن بثقة حتى باتت تقليداً شائعاً في القطاع الخاص. يتبدى ذلك في الأولوية أو الأفضلية في التشغيل التي يمنحها رب عمل أو مؤسسة اقتصادية لأبناء المِلّة، أو في منح هؤلاء مراكز القرار والتحكّم في المؤسسة المعنية. وينتج من ذلك التمييز في التشغيل وفي مستوى الأجور والرواتب والرتب وفرص الارتقاء وامتلاك سلطة القرار وغيرها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن توزيع المواقع والمسؤوليات على أساس طائفي أو مذهبي داخل المؤسسة قد يكون لأغراض فرض توازنات قوى بين العاملين من أبناء المذاهب والطوائف المختلفة لمصلحة ضبط قوة العمل عن طريق توظيف الوكلاء من مذهب معيّن أو من انتماء سياسي معيّن. فخلال الحرب الأهلية، كانت مؤسسات عديدة تتكل على الميليشيات بما هي وكلاء تشغيل وعناصر ضبط للعمال في أماكن العمل.

وللطوائف دورها في الترقي الاجتماعي. تتدخل هنا عوامل عديدة، منها التوزيع المتفاوت لتحصيل رأس المال الثقافي بين تعليم خاص/ وتعليم رسمي في كل المراحل؛ ونسب التسرّب المتفاوتة في مراحل التعليم؛ وتفاوت فرص التعلّم في الخارج (والفوارق بين بلدان الدراسة والتخصص في الخارج: رومانيا «الاشتراكية» في مقابل الولايات المتحدة الأميركية مثلاً) وسواها.

وفي كل الأحوال، يدير النظام الطائفي لعبة النزاعات على الريوع في الدولة ومن خلالها مثلما يدير الصراعات على توزيع خدمات الدولة وتعهداتها وعقودها، وتعيين حصة المناطق المختلفة من الموازنة العامة. وهو صراع يشمل أيضاً توازع تعهدات الدولة وعقودها واقتسام الريوع المختلفة بين الكتل والتحالفات الطائفية المعنية. ونسمّيها لعبة لأن النزاعات لن تلبث أن تنتهي في تسويات وشراكات ترضي الأطراف المتنازعة بحسب موازين القوى بينها.

ولعل أكبر مبارزة تتعلق بالنزاع الشهير على الاستحواذ على الفائض بين رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، في ولايته الثانية، الذي دار مدار خصخصة الهاتف الخلوي. فالأول يصرّ على ملكية الدولة للخلوي والثاني على خصخصته. الأول: الاستحواذ من خلال الدولة/ الثاني الاستحواذ من خلال السوق. وقد فاز الرئيس لحود في هذه المبارزة.

في زمن أقرب، لا يزال السجال على أشده بين التيار الوطني الحر وحركة أمل - وهما حلفاء في تكتل ٨ آذار - على تثبيت مياومي شركة الكهرباء حيث يرفض الوزير، جبران باسيل، التثبيت على اعتبار أن أكثرية المياومين هم من الشيعة المحشورين حشراً في شركة الكهرباء بفضل النفوذ السياسي للرئيس نبيه بري، علماً أنه يمكن الاستغناء عن الكثير منهم إذا كان المطلوب خفض خسائر الشركة. ولعل المثال الأبرز للتسابق على اقتسام الريوع وتوزعها من خلال الكتل المذهبية الطوائفية هو ما يجري في الآونة الأخيرة من منافسة وتسابق داخل تحالف ٨ آذار ذاته بين حركة أمل والتيار الوطني الحر على طريقة تقسيم المربّعات البحرية لتلزيم التنقيب عن النفط والغاز على الساحل اللبناني، وعلى شروط التلزيم وأولوياته، ما يخفي أيضاً تبايناً في المصالح والشركات التي يمثلها كل طرف من فريق ٨ آذار ذاته.

بهدا المعنى، فالطوائف والمذاهب تلعب في العلاقات الاقتصادية - الاجتماعية دور قنوات لتعديل البنية الطبقية من خلال عمليتين: دور الطوائف في السلطة السياسية بما هي ميدان إنتاج مصالح اقتصادية جديدة أو الدفاع عن مصالح موجودة أو تنميتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، الحراك الاجتماعي التصاعدي الناجم عن خدمات الجماعات الطائفية والمذهبية من خارج مؤسسات الدولة: التعليم، الاستشفاء، الإحسان، الخدمات الاجتماعية والصحية، توزيع المال السياسي، الخ.

السياسة هي حيّز الطبقات قدر ما هي حيز الطوائف. بل هي حيّز الطبقات بامتياز. أي أن إعادة إنتاج التمييز والاستغلال الطبقيين، وإعادة انتاج البنية الطبقية للمجتمع اللبناني برمّتها، تعتمدان بالدرجة الأولى على الانتماء الاجتماعي للممسكين بالسلطة السياسية واندماجهم وتماهيهم المتزايد بعد الحرب بالطبقة المسيطرة اقتصادياً وتوجيههم السياسات والقرارات في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي.

بعبارة أخرى، تشكل الدولة المجال الذي فيه يعاد إنتاج المحاصصات الطوائفية - المذهبية بالاتكال على العصب الطائفي والمذهبي، بما تتضمنه من تسويات، مثلما يُعاد فيه إنتاج البنية الطبقية، بما يتضمّن ذلك من تعديلات أيضاً عليها، بالاعتماد على وزن الطبقات ذاتها وعلى الطبيعة السياسية للسلطة.

دور الحراك الطبقي في توازنات الطوائف وزعامتها

لا يكتفي الخطاب الطوائفي بتفسير كل حدث وكل ظاهرة بالعامل الطوائفي وحده، بل يفسّر أيضاً ما يجري داخل الطوائف وما بين الطوائف بالعامل الطوائفي أو بالطائفية. ولما كان السائد أن الطوائف هي نِصاب السياسة، يفسّر الخطابُ الطوائفي السياسية بالسياسة، وهو بذلك كمن يفسّر الماء، بعد الجهد، بالماء. أما مدرسة أخرى في التفسير فتفسّر التحولات في العلاقات والتحالفات بين الطوائف والمذاهب، والتحولات داخل كل واحدة منها، بالعودة فقط الى التبعيات والتحالفات الخارجية، الإقليمية منها والدولية، التي تلجأ اليها الطوائف لتستقوي بها على خصومها. الاستعانة بالعامل الخارجي في الصراعات المحلية حقيقي وفاعل لكنه ليس يختزل التفسير ولا هو يطغى على سائر العوامل.

يستحيل علينا أن نفهم التوازنات والتحولات بل الانقلابات في علاقات القوة بين الطوائف والمذاهب بالعودة الى الطوائف والمذاهب وحدها، من دون إدخال فعل المسارات الاجتماعية الداخلية في هذه التوازنات والتحولات. والأحرى أن التحولات الديمغرافية والحراكات الاجتماعية والطبقية هي صاحبة الأثر الأبرز في تحوّل موقع الطوائف داخل النصاب السياسي والدولة، والتغيّر، بل الانقلاب، في موازين القوى بينها والتعديلات التي تطرأ على التوازنات داخلها.

حالة من نشأة لبنان الحديث. أنتج التطور الاجتماعي المتفاوت للطوائف مطلع القرن العشرين فريقين سياسيين متفارقين من حيث الانتماء الاجتماعي، انبنى عليهما «لبنان الكبير»: سياسيين صادرين عن الحداثة الرأسمالية في بيروت وجبل لبنان، هما نتاج اقتصاد الحرير وتشكل نواة الإدارة الحكومية (من خلال مجلس إدارة المتصرفية جبل لبنان، ١٨٦١-١٩١٥) في مقابل أسر درزية تعتاش على الريوع والزراعة، ووجهاء ريفيين في الأطراف (الأسر الوجيهة في عكار، الكورة، البقاع، الجنوب). الأولون مسيحيون والثانون مسلمون. علماً أن هذا الفريق السياسي الجديد لم يكتفِ بمنافسة الزعامات ذات القواعد الزراعية في الأرياف، بل امتلك الموقع الاقتصادي لمنافسة الزعامات السنّية والمسيحية (الأرثوذكسية) في بيروت. مثال على الحالة الأخيرة حلول المحامي اميل إده، الماروني الجبلي، محلّ جورج ثابت، المالك العقاري الأرثوذكسي البيروتي الثري، في تمثيل الارستقراطية المدينية (آل سرسق، بسترس، الخ).

حالة معاصرة. يمكن النظر بشيء من التمعّن في العوامل الديمغرافية والاجتماعية التي أدت الى التنامي السريع لوزن الجماعة الشيعية في السلطة والمجتمع اللبنانيين ابتداءً من السبعينيات من القرن الماضي والقفزة النوعية التي حدثت في علاقات القوى المتبادلة بين هذه الجماعة وسائر الجماعات والقوى خلال الحرب وبُعيدها. ولا يمكن إدراك هذه التحولات من دون العودة الى هذه العوامل:

١ التمدين المتسارع للجماعة الشيعية حيث انتقلت في أقل من ربع قرن من جماعة مكونة من ٧٠ بالمئة من الريفيين الى جماعة مكونة من ٧٠٪ من المدينيين؛

٢ الرسملة المتسارعة للزراعة الجنوبية والبقاعية وانهيار نظام الشراكة والمرابعة وتراجع زراعة التبغ خلال فترة الحرب الاهلية وتنامي المضاربة العقارية بالدرجة الأولى من أموال الاغتراب؛

٣ الهجرة الشيعية الكثيفة في موجاتها الثلاث الكبرى بعد محطات ١٩٤٨ و١٩٧٥ و١٩٨٢ الى المغتربات الأسترالية والأميركية والأفريقية والعربية وعودة أعداد كبيرة من المهاجرين والمغتربين للسكن أو الاستثمار في لبنان والضغوط التي مارسها رجال الأعمال الاغترابيون، خصوصاً من أجل الانخراط في النظام اللبناني، السياسي والاقتصادي؛

٤ بروز انتلجنسيا شيعية نمت بسرعة من خلال التعليم الثانوي والجامعة اللبنانية تدقّ أبواب سوق العمل الخاص والرسمي، وتشكل كتلة ضاغطة على وظائف القطاع العام خصوصاً (راجع نصر: ١٩٨٥).

تضافرت هذه التطورات على نخر أركان الزعامات التقليدية للجماعة الشيعية، آل الأسعد في الجنوب، وآل حمادة في البقاع، وآل الخليل في صور، وتجاوزت أيضاً الزعامات المتوسطة التي دعمتها الأجهزة الشهابية في الخمسينيات والستينيات، أمثال آل العبدالله وبزّي. وعبّر هذا الحراك الاجتماعي عن نفسه، وتجسدت تطلعات الفئات الاجتماعية الجديدة (المغتربون والانتلجنسيا خصوصاً )، في قيادة السيد موسى الصدر، عالِم الدين المدعوم من شاه إيران، الذي سعى، بدعم من الأجهزة الشهابية وبعدها من حركة «فتح»، الى تأسيس فريق شيعي سياسي ثالث بين الزعامات التقليدية الآنفة الذكر وقوى المعارضة القومية واليسارية التي استحوذت على قطاع واسع من جماهير الشيعة ومن شبابها خصوصاً. وإنه لمعبّر جداً أن يخلف السيد موسى الصدر على رأس حركة أمل ابنُ تاجر من تجار الاغتراب الأميركي أمضى هو نفسه فترة من حياته في الاغتراب وله فيها مصالح. ولئن تقاسم الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله تركة السيد موسى الصدر، ونجحا في فرض تنظيميهما ممثّلين سياسيَين شبه حصريين للجماعة الشيعية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، غير أنه لم تكفِهما مرجعيةُ المال الاغترابي، ولا الدعم الإيراني المتعدد الأوجه، ولا الوزن العددي للجماعة الشيعية، ولا محورية جنوب لبنان في المعركة مع إسرائيل في تثبيت هذا التحوّل. اقتضى الأمر اللجوء الى العنف المسلّح لفرض الشيعة على الحياة السياسية اللبنانية وتعديل موازين القوى الطوائفية والمذهبية لكي تتكرّس مواقع وموازين قوى جديدة لمصلحة حركة أمل وحزب الله في اتفاق الطائف (١٩٨٩) وتطبيقاته وتعديلاته اللاحقة. وليس في الأمر أية غرابة، فما من جماعة مهمشة أو صاعدة نجحت في أن تفرض نفسها على الحياة السياسية في البلاد إلا بتوسّط الحروب الأهلية: الجماعة المارونية خلال «حوادث» فترة ١٨٤٠-١٨٦١، والجماعة السنّية خلال «حوادث» ١٩٥٨، والجماعة الشيعية خلال الحرب الأهلية، ١٩٧٥-١٩٩٠.

حالة أخرى. دور رأس المال في ترسيخ الزعامة الطائفية داخل الطائفة. استطاع وليد جنبلاط أن يجدد زعامته على الطائفة الدرزية بأن يتحول خلال الحرب، الى رجل أعمال رأسمالي (متعدد التوظيفات والمشاريع)، مقارنة بحياة أبيه المتقشفة واتكاله على موارد أراضيه بالدرجة الأولى. وتأكيداً على المبدأ ذاته، لم يكن بمستطاع النائب طلال أرسلان أن يحتفظ بنفوذ له في الطائفة، في وجه زعامة وليد جنبلاط المترسملة، إلا بأن يترسمل هو نفسه ويتكل على نحو متزايد على قريبه (شقيق زوجته) مروان خير الدين، الوزير وصاحب «بنك الموارد».

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤
الطبقات والطوائف: تقاطع وفعل متبادل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.