مهدى إلى نجاة حشيشو التي لجأت إلى القضاء لمقاضاة خاطفي زوجها محيي الدين. قضت أكثر من عقدين في المحاكم، بُرّئ المتّهمون، ولم تعرف مصيره بعد، لكن نجاة لا تزال متمسكة بحقها ولو من أميركا.
إلى نايفة نجار التي لم تحتمل غياب وحيدها علي فقررّتْ ملاقاته. انتحرتْ بعد مرور تسعة أشهر على خطفه.
أوديت سالم التي قضت صدماً بسيارة أثناء توجّهها إلى الاعتصام بحثاً عن وحيدَيها ريشار وماري كريستين.
إلى كل مَن غادرتنا قبل معرفة مصير مفقودها، إلى كل مَن أقعدها المرض أو الشيخوخة، إلى كل مَن لا تزال مثابرة على المشاركة في المعركة من أجل حق المعرفة، إلى أولادنا وأولاد جيلهم. لكي تصل القضية إلى خواتيمها.
بعد انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، عدتُ إلى بيروت بصحبة ولديّ زياد وغسان بعدما كنا قد انفصلنا قسرياً ومن دون سابق تخطيط عن عدنان، زوجي، بفعل دخول العامل الإسرائيلي مباشرة، باجتياح جيشه للبنان، على وضع لم يكن مستقراً أساساً في البلاد بفعل الاقتتال الداخلي المسلّط فوق رؤوسنا منذ نيسان العام 1975.
فرحة اللقاء لا توصف بالرغم من طغيان رائحة البارود وهول الدمار. لكن التئام شمل العائلة لم يَدمْ. فرَطَ بعد أقلّ من شهر وأخذَ معه كل الفرح، عندما دقّتْ يدُ الإجرام جرسَ بيتنا الواقع في «رأس النبع» - منطقة كانت تلاصق خط التماس الأساسي الذي شطر العاصمة آنذاك إلى بيروتين: شرقية وغربية - وخطفتْ عدنان في وضح النهار بذريعة «التحقيق لمدة خمس دقائق بحادث سيارة ثم يعود». بالطبع الحادثُ لم يحدث، وعدنان لم يعد منذ تاريخه (24 أيلول 1982).
لن أتطرّق إلى ما أصابني جراء هذه الكارثة سوى أنها خلخلتْ توازني على كل المستويات. لا أبالغ إذا قلت إن ما جعلني أتماسك وأقف على رجليّ هو حبّي لعدنان ولطفلين لم يتجاوز أكبرهما السادسة من عمره.
في غيْرِك مثلِك
بدأتُ البحث عن عدنان. لم أتوقّع أن تتحوّل هذه العملية إلى مسار شاق، طويل مفتوح إلى ما لا نهاية. لم أتوقّع، بعد انقضاء حوالي الشهر من الركض بحثاً عن زوجي، أن أجدَ نفسي أفتش عن المئات بل عن الآلاف الذين خُطفوا مثله!
قمتُ بجملة مراجعات ووساطات بمفردي، وأحياناً عبر وسطاء من ذوي النفوذ أو«الأيدي الطايلة» وقتذاك. بعضها بلغ مستويات عالية، أذكر منها الرئيس الياس سركيس في بداية نهاية ولايته في القصر الجمهوري، رئيس الحكومة شفيق الوزان، مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، القائد الفلسطيني أبو عمار، السفارتين الفرنسية والروسية. لم يسفر ذلك عن العثور على عدنان، ولا عن إقرار أي جهة رسمية أو حزبية أو ميليشيوية بمسؤوليتها عن خطفه وإخفائه. ما تلقّيته كان، إضافة إلى تشكيلة من العواطف الجامدة الملّونة بكلمات تحسر وشفقة على حظّي البائس وأنا في عزّ الصبا، عبارةً واحدة تكرّرتْ على مسامعي ممّن تسنى لي مقابلتهم من المسؤولين «هناك غيركِ مَن جاؤوا يشكون حالات مماثلة لحالتكِ». إلّا أن مسؤولاً واحداً لم يُفدْني باسم مخطوف واحد، بالتأكيد ليس ضناً بذلك بل لأنه لم يهتم بحفظ أو تسجيل أي اسم ممن راجعه أهاليهم بشأنهم. يبدو أن الناس، بنظر هؤلاء المسؤولين، ليسوا أكثر من أرقام في ذلك الزمن الرديء، بل في كل الأزمنة كما خبرتُ ذلك لاحقاً وبالملموس.
فكّرت، فقررّت أن أجد بنفسي امرأة أو اثنتين من اللواتي بُلين مثلي بفقدان شخص عزيز. الخطّة التي رسمتها في رأسي كانت أن أعاودَ تكرارَ كل ما قمتُ وأقوم به من مراجعات واحتجاجات ومناشدات وتنظيم عرائض، لأجل إطلاق سراح عدنان، وتحويله إلى المطالبة بإطلاق سراح مَن فقدتْ هاتان السيدتان المُستهدفتان. كنتُ مقتنعة أني إذا نجحتُ بذلك، فسنكوّن معاً حلقةً أقوى، سيتضاعفُ ضغطَنا على المسؤولين، فيُجبرون على التعامل بجدية أكثر مع موضوع بات يطال مجموعةً لا شخصاً واحداً.
مشهدٌ مذهلٌ ومخيف
توجّهتُ إلى إحدى الإذاعات المحلية، «صوت لبنان العربي»، وما أكثرها آنذاك. طلبتُ توجيه نداء إلى َمن لديه شخصٌ مخطوف للحضور الى لقاء تعارفي للأهالي. حددّتُ المكان والزمان، أمام جامع «عبد الناصر» في كورنيش المزرعة، وذلك بما يتناسب مع مكان ودوام عملي المهني في ثانوية «فخر الدين الرسمية» في منطقة «برج أبي حيدر». أمنيتي المُضمرة هي أن تكون السيدة أو السيدتان اللتان ستلبيان النداء أكثر طولاً مني وأكبر حجماً، أن يكون «عليهما القيمة والقدر» لإضفاء بعض جدّية ووقار ظناً مني أن قامتي الصغيرة لم تكن توفرهما.
ما إن دقّ جرس استراحة الساعة العاشرة، كان نهاية دوامي ذلك النهار، حتى سارعتُ إلى ضبضبة أوراقي، تأبطتُ محفظتي وهرولتُ نزولاً باتجاه كورنيش المزرعة والحماسة تملأني لملاقاة السيدتين المرجوّتين.
كان المشهد مذهلاً، مخيفاً. السيدتان المتوقع حضورهما ولْأقل ثلاث سيدات أو أربع سيدات، صرن مئات يصاحبهن عدد من الأولاد والأطفال. امتلأت ساحة اللقاء. المكان يعجّ بزوار لا يعرفون بعضهم. تُرى، هل لبّت أولئك النسوة النداء وأتيْنَ رغبةً بالتعارف؟ بالتأكيد لا، فالزمن ليس بزمن اجتماعيات وترفيه، ولا الشارع يسمح بذلك. لقد جئن للتعريف عما حلّ بهن من مِحن.
بدأ التعارف تلقائياً ومن دون مقدمات عبر شروع كل واحدة برواية مصيبتها. واحدة أخذ المسلحون زوجها من السرير بالبيجاما، لم يمهلوه لتبديلها، أخرى اعتقل ابنها البكر بعدما صادروا منه ربطة خبز وُفّق، بعد جهد، بشرائها لإخوة جائعين، ثالثة فقدتْ ثلاثة من أبنائها وزوجها.
وجدتُني، لبرهة، متجمّدة الحواس والإحساس أمام هذا المشهد السوريالي. كنت مأخوذة وأسأل نفسي «هل يعقل أن يقع كل هذا الظلم، ودفعةً واحدةً على كل هؤلاء الناس؟» أفكار متناقضة في رأسي تتجاذبني.
لكن ضجيج النسوة وآهاتهن أعاداني إلى وعيي، وتسارعت في رأسي التساؤلات: طيّب ماذا بعد؟ يجب أن نعمل شيئاً، أكيد، بسّ شو؟ لازم أعرف، لازم اخترع، أو لستُ أنا من استدعاهن للمجيء؟ صحيح أن العدد فاق تصورّي وخطّتي المرسومة، لكن ذلك يجب أن يشكّل دافعاً أقوى للتحرك لا رادعاً!
ساعدني صوتي العالي على مخاطبة الجمع (الأرجح أني ورثته عن أمي أو امتلكته لاحقاً بحكم مهنتي في التعليم الرسمي وربما للعاملَين معاً). رجوتُ النسوة الكفّ عن البكاء والنحيب، اقترحتُ عليهن أن نشّد هممنا ونتوجه لمقابلة رئيس الحكومة. أذكر أن خياري ذاك يعود إلى عامل الجغرافيا، إذ إن السرايا الحكومية كانت تقع يومذاك في المنطقة الغربية لبيروت مقابل حديقة الصنائع، بمعنى أن الوصول إليها لا يحمل مخاطر لاجتياز معابر الخطف والموت الفاصلة بين البيروتين، فالبلدتين (صار تقسيم المناطق الى شرقية وغربية على مستوى لبنان لاحقاً وليس على مستوى العاصمة فقط).
امرأة تسند امرأة
انطلقت المسيرة إذاَ من أمام جامع عبد الناصر في كورنيش المزرعة، وجهتها السرايا الحكومية المهجّرة، حينذاك، إلى منطقة الصنائع في المبنى الذي تشغله وزارة الداخلية اليوم، غايتها مقابلة رئيس مجلس الوزراء، شفيق الوزان، لمطالبته بالعمل الفوري سعياً للإفراج عن الذين خطفوا وفقدوا.
الصخب يملأ المكان. وجوه غاضبة، نظرات تعكس حجم الظلم الذي وقع، حناجر تكيل الشتائم بحق كل خاطف، لم توفر أي مسؤول سكت وما زال بالعاً لسانه عن جرائم الخطف، بل بقي متمسكاً بكرسيه، لا يحرّك، حتى إصبعاً، لأجل إعادة هؤلاء إلى عائلاتهم أو على الأقلّ لوقف مسلسل هذه الممارسات اللاإنسانية بحقّ الأبرياء العُزّل. بعض النسوة لم تطاوعهن الكلمات ففاض الدمع مدراراً يواكب سيل الشتائم والنواح...
خلال المسيرة، تابعت النسوة سرد وقائع اختطاف الابن أو الزوج أو الأخ، أو اثنين أو أكثر من أفراد البيت الواحد في بعض الحالات، دون أن يسقط منها أي تفصيل، وكأن ما حصل يحدث أمامها الآن فتجهش بالبكاء. تحاول الأخرى التي تجاورها تهدئتها ومساعدتها، فتأخذ دورها في الكلام، تدلي بمأساتها وهكذا دواليك. امرأة تسند امرأة، رواية تصطّف وراء رواية.. وجريمة تنطح جريمة.
أعتقد أنه لو كان بمقدور الأرض أن تنطقَ بما تختزنه من حكايات أولئك النسوة لملأت مجلّدات. مجلدات حيّة قد تضفي عليها صور الجلادين مزيداً من الغنى والصدقية. وبما أن معظم هؤلاء المجرمين ما زالوا أحياء يرزقون، يتنقّلون بيننا بحرية وأمان، ومنهم مَن يتبوأ أعلى المراكز في مؤسسات الدولة السياسية والإدارية فإنه متاح تأمين صور لهم في زمني الحرب والسلم. في زي الميليشيا وفي الزي الرسمي. فهم القادة في الحرب وهم القادة في السلم.هم دائماً وأبداً زعماء. إنهم قادة «مخضرمون»، أو قادة «دوبل فاس». بكل الأحوال هم سيدخلون صفحات التاريخ السوداء، بل يجب ذلك.
عندما وصلت المسيرة إلى نقطة التقاطع الثانية على كورنيش المزرعة انحرفت يميناً فصعوداً إلى كورنيش «تلة الخياط» باتجاه السرايا الحكومية.
معركة غير متوقعة
ما إن اقتربنا من مبنى تلفزيون لبنان (كان يُعرف بالقناة 7) حتى فوجئنا بمجموعة من عناصر الجيش النظامي تتقدّم صوبنا بشكل هجومي. كان الجنود بكامل الجهوزية والعدّة. كأنهم في وضعية قتالية تتأهب لمواجهة عدو حقيقي وقويّ، سرعان ما تبيّنا أن هذا العدو هو نحن.
أمرونا بلهجة حاسمة لا تخلو من التعالي، بالتفرّق الفوري والعودة إلى بيوتنا. لم ننصع للأمر، لم يتوقف البكاء ولا السباب، أصررنا على متابعة السير. هجموا علينا واختلطوا بجموع النساء ينهرونهن، يضربونهن بأعقاب البنادق وبدأ الكر والفر.
المعركة حامية بين الطرفين لكن بميزان قوى غير متكافئ. استشرستْ النسوة جسدياً وبرشقات من الشتائم من كل العيارات. مواجهتهن كانت مدهشة، بلحظة تبدّلت أحوالهن وهيئاتهن، بدَوْنَ بقوة استثنائية عكس ما كنّ عليه من ضعف وحزن وانكسار في بداية التجمّع. لم أجد تفسيراً لهذا التحوّل النوعي المفاجئ غير ذلك الشعور الذي أحسسته وعشته اثر اختطاف حبيبي، فأي خسارة أخرى قد تقع لن تكون أفدح وأقسى من خسارة شخص عزيز.. فمِمّ ومِمَن أخشى ويخشين بعد الآن؟
لا أنسى ذلك المشهد وقد بدا المهاجمون كأنهم فوجئوا بردة فعلنا القوية، تماماً كما فوجئنا نحن بتصرفاتهم العنيفة، بأدائهم العدائي اتجاهنا، المستخفّ بآلامنا.. كانوا كمَن لم يتوقّع أن يتجرأَ أحدٌ على مخالفة أمر عسكري في زمن عسكري بامتياز.. فكيف إذا كان هذا الـ«أحد» جمهرة من النساء والأطفال! يبدو أن هذا ما زاد من درجة استفزازهم، فكأني بهم وقد انتفضتْ ذكوريتهم، مضافاً إليها مخالفة أمر المهمة المنوطة بهم بمنع وقمع كل تجمع في الشارع وكل ما يفرضه قانون الطوارئ المفروض على البلاد.
الأرجح أنه كان يتردد في حلق كل واحد منهم «لا يكفي أنهن نساء، بل نساء شارع خارجات على القانون!
هزأت النسوة بكلام الجنود وتصرفاتهم، بحالة الطوارئ وبقانونها. كأني بهن يستنكرن متسائلات «أي قانون هذا يتشدّقون به لا يقدر على حماية أولادنا من الخطف؟ بأي قانون، بأي منطق يمنعوننا من المطالبة بإعادتهم إلينا سالمين.!!؟ هل من حالة طارئة أشدّ من حالتنا؟
يا ليت ذلك القانون تجرّأ على إقطاعيات السلاح والمسلحين، صادر أسلحتهم، اعتقلهم، وحرّر مَن نبحثَ عنهم من سراديب هؤلاء المجرمين النتنة مثلهم!
فجأة التفتّ، تبيّنت عدد الكاميرات التي سرعان ما ملأت الميدان، حينها كان كل شيء جديداً بالنسبة إلي، فلم أدر كيف عرف أصحابها بما يدور، بأي سرعة حضروا ومن أين أتوا! ربما الجواب صار معروفاً اليوم، فقد اعتُبر ما قمنا به، بكل عفويته وصدقيته، حدثاً مميزاً. حدثٌ كسر روتين شريط الأحداث اليومية بالرغم من غزارتها آنذاك، ولو لم تكن قد درجت بعد موضة «الخبر العاجل».
«الجِيب» هو الهدف
صمود النساء في المعركة، تماديهن ونجاحهن في نشر غسيل المجرمين والمسؤولين على حد سواء، قد يكون حدا بهؤلاء الى استبدال القمع باللجوء إلى التفاوض مع الأهالي في محاولة التفافية لضبضبة الموضوع وتحاشي انفلاشه أكثر، لخنقه في المهد.
تراجع الجنود إلى الوراء عندما حضر الضابط. سأل النسوة، وقد طوّقنه من كل الجهات، عن الشخص المسؤول الذي يمكنه التكلم باسمهن. اتجهتْ العيونُ والأصابعُ بحثاً عني. أساساً كنت قد بدأت التقدّم من الصفوف الخلفية مجرّد أن لمحته يتوجّه صوبنا. بدأ كلامه بالاعتذار عما جرى ومبرراً حصوله في ذات الوقت. عرّفت عن نفسي، بناء على طلبه، وبدأت أجيب عن أسئلته: سبب وجودي هنا، اسم زوجي، مهنته، عمره، تاريخ خطفه ومَن أتهم. اعترضتُ على الاستمرار بطرح هذه الأسئلة من دون معنى باعتبار أن القضية لا تنحصر بزوجي بل بذوي كل السيدات الموجودات في الساحة.. تابع يسأل عن علاقتي بهؤلاء النسوة، أين وكيف تعرّفت إليهن، هل حقيقة لديهم أشخاص مخطوفون، أعدادهم، أماكن وتواريخ الخطف، إلخ. أيضاً اعترضت على التمادي بالأسئلة وتنبّهت من أن يكون هناك شيء يُحضّر ضدنا من وراء هذه الإطالة وإضاعة الوقت، خصوصاً عندما انتقل إلى مجموعة أخرى من الأسئلة من نوع إلى أي حزب أو تنظيم أنتمي، من طلب منا التظاهر، إلخ. كان يصغي إلى كل كلمة أقولها محاولاً إيقاعي بأي تناقض أو تعارض في سياق الاجابة عن أسئلته المضجرة التي لا تنتهي. أكثر من مرة طلب مني إسكات الأهالي كلما ارتفعت أصوات تشي بنفاد الصبر أو علت صرخات غضب أو آهات تحسر وألم. وهذا ما أعطاني المبرر لطلب إنهاء التحقيق، وترْكنا وشأننا نكمل الطريق. لكنه ابتسم متذاكياً محاولاً أن يلعب دور الحليف وحامي الحمى قائلاً: «لقد اقتنعتُ بقضيتِكن، معكن كل الحق، يمكنكن الآن العودة إلى البيوت باطمئنان. الرسالة وصلتْ وسأنقل الموضوع إلى الرئيس وكل ما تُردن طلبه منه، أساساً هو من انتدبني لأنوب عنه، ألا تثقين بي يا مدام؟».
طرحتُ السؤال عالياً على الأهالي إذا كنّ يقبلن بعرض الضابط، فجاءت الـ»لا» بصوت واحد، مدوّية.. هن مَن سيقابل الرئيس ولن ينوبَ أحدٌ عنهن.. عندما أيقن الضابط فشل مخططه بثنينا عن الهدف، عرض المقايضة التالية: أختارُ ثلاث نساء أو أربع على الأكثر لمقابلة الرئيس شرط أن تتفرّق التظاهرة فوراً وتمضي كل امرأة في طريقها، وطلب منا الصعود إلى الجيب العسكري المتوقف جانباً لاصطحابنا إلى السرايا.
تزاحمت الأقدامُ وتلاصقتُ الأجساد مهرولةً لبلوغ الجيب وركوبه. صار الجيب هو الهدف. المنافسة شديدة بين النساء، المقياس الحاسم للفوز هو السرعة. النتيجة المباشرة كانت أن ضاقتْ الآلية العسكرية بمَن تمكّنّ من تسلقها قبل غيرهن وحجزِ ولو شبراً جوّاتها. جلسنا بعضنا فوق بعض، عددُنا فاق المُقرّر، كل واحدة تكمّشتْ بالجزء الذي استطاعت ملامسته من الجيب وذلك تدعيماً لموقعها داخله. بالرغم من تهديد الضابط بإنزالنا كلنا وإضاعة هذه الفرصة من أيدينا. لم تقبل أي من النسوة التنازل عن فرصتها الذاتية، فرصة العمر بالنسبة إلى كل واحدة منهن. أظن أن كلاً من سيدات الجيب كانت تعتقد، أنه بعد مقابلة الرئيس وشرح قصتها أمامه، لن تعود إلا وهي متأبطة ذراع ابنها أو زوجها أو سواها. بعد الخبرة، دائماً ما يحضر الشخص المفقود افتراضياً لدى مَن يفتقده.
«لشو أنت رئيس»؟
استقبلنا الرئيس الوزّان بودّ مصحوب بعلامات تأثّر مرسومة على الوجه. حاول الظهور بمظهر مَن لا شأن له ولا علم بالمعركة التي خاضها العسكر ضدنا على بعد أمتار من حصنه.. لا أدري إذا كان وجودي في عداد الوفد، قد أراحه ومهّد لمبادرته بالكلام عن مدى إلمامه بالموضوع وتألّمه. بدا ذلك عبر توجيهه الكلام إليّ موظّفاً لقائي السابق به والرسالة التي أرسلتها له بشأن اختطاف زوجي. استأذنته مقاطعة بأن المسألة لم تعد تنحصر بـ«عدنان» وحده، وأن لكل سيدة من الموجودات «عدنانها»، وأننا لسنا سوى عيّنة من المئات من الأمهات والزوجات اللواتي منعهن الجيش، منذ قليل، من المجيء معنا للقائه. تثبيتاً لما كنت أقول طلبتُ من كل سيدة أن تعرّف الرئيس بقضيتها. هكذا أُحرج الرئيس واضطر إلى الإصغاء لثماني أو تسع حالات لأشخاص خطفوا من داخل بيوتهم، أو من على حواجز المسلحين، أو خرجوا إلى أعمالهم ولم يعودوا.
عاودت علامات التأثر ارتسامها على ملامح الرئيس وذلك على وقع المآسي التي سُردت، والدموع التي ذُرفت. نطق بكمّ من العواطف لدرجة أوشكنا معها على تطييب خاطره والتخفيف عنه، جاهر بأحقّية مطلبنا واعداً ببذل كل جهوده لمساعدتنا وفكّ أسر أحبائنا.
عندما سألته عما سيقوم به ترجمة لذلك، انقلب الموقف وتلبّد الجو. بدأ يتحدث عن عجزه، عن ضعف الدولة بكافة أجهزتها، عن انعدام هيبتها، عن تراجع نفوذها أمام سلطة ونفوذ الميليشيات وقوى الأمر الواقع المهيمنة على البلاد مستعيناً بمثل شعبي «العين بصيرة واليد قصيرة يا بنتي». فما كان من سيدة بيننا إلا أن قاطعته ناهرة بأعلى صوتها «ولييييي! لـشو إنت رئيس؟ استقيل، ليش ما بتستقيل إذا كنت مَنّك قادر تعمل شي تتساعدنا؟». فوجئ الرئيس بهذا الاستجواب غير المتوقّع، احمرّ وجهه، وقف، ودعّنا من دون غشاء العواطف الذي استقبلنا به، تمسّك بالوعد لكن مخففاً بعدما نطقت يداه!
«مجنونات دار الفتوى»
انتهى اللقاء مع الرئيس. بدأ لقاؤنا مع بعضنا في باحة السرايا قبل مغادرتها. تعارفنا بالأسماء، استعدنا بعض ما دار في الحوار مع الرئيس، ما صادفنا على مدار ساعات ذلك النهار الشاق والطويل. ببساطة استنتجنا أن ما جرى كان مهماً، ليس فقط على مستوى مقابلة رئيس الحكومة ووضع القضية على طاولة «مسؤولياته»، بل أن القمع الذي تعرّضنا له على أيدي عناصر الجيش والتعدّي على كراماتنا قد يساهم في إعلاء صوتنا، وربما في تسليط الضوء على ما هو أكبر من المأساة الشخصية لكل واحدة منا، على مآسٍ إذا ما توحّدت تصبح قضية.
لذا قررّنا التلاقي مجدداً في الغد، ثم ما بعده ثم كل يوم حتى تحقيق عودة الأحبة. وكرّت سبحة اللقاءات والتحركات. درجنا على الانطلاق في معظم التحركات من «دار الفتوى». وقد لقّبنا أحد الصحافيين، لم أعد أتذكّر اسمه، بـ«مجنونات دار الفتوى» نسبة إلى «مجنونات ساحة مايو» في الأرجنتين.
لم نترك مسؤولاً إلّا قابلناه، وأحياناً بالقوة، أذكر على سبيل المثال يوم نجحتْ قدمي في منع السيد نبيه برّي من إغلاق باب بيته في وجهنا، وذلك عبر اسراعي في زركها داخله مما حال دون تحقيق هدفه، مما اضطره إلى الاعتذار واستقبالنا.
لم نترك باباً، ظننا أنه قد يساعدنا، إلا طرقناه، حتى أننا قابلنا قادة الميليشيات، وآباء بعضهم أحياناً. أذكر لقاءاتنا مع بيار الجميل الأب، كميل شمعون، وليد جنبلاط، نبيه برّي، إيلي حبيقة وغيرهم، مراهنين على بقايا ذرة إنسانية لديهم من أجل الإفراج عن أبنائنا أو عن معلومة تطمئننا إلى مصير شخص واحد منهم على الأقل.
صارت التظاهرات سلوكاً اعتيادياً يومياً. لم يعد يخيفنا رصاص القناصين، لم تعد تردعنا القذائف العشوائية ولا السيارات المفخّخة، لم ننصع للتهديدات ولم نضعف أمام الاغراءات. كل يوم كنا نتعلم دروساً إضافية مما يصادفنا على أرض الواقع بدءاً من المخاطر الأمنية وصولاً إلى الوعود الكاذبة التي كان يكيلها لنا المسؤولون. عرفنا أن الدرب ليس سهلاً وليس آمناً. أن الدموع لا تحرّر مخطوفاً ولا تعثر على مفقود، وأنه حتى لو تداعينا إلى حفل بكاء جماعي، وسالت دموعنا أنهراً لا بد من الفعل لا الانفعال. تعلّمنا أن وحدتنا هي قوتنا، فنظمنا صفوفنا للمطالبة بعودة أحبائنا جميعاً دون تمييز بين مخطوف وآخر وبغض النظر عن هويات الجهات المسؤولة عن اختطافهم.
البصمة الوراثية (DNA) لنملة مجتهدة منذ 32 سنة
بتاريخ ١٧ تشرين الثاني ٢٠١٤، تبلغ لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان عامها الـ٣٢. اثنتان وثلاثون سنة، ولجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، تشكّل الإطار شبه الوحيد الذي يجمع أشخاصاً من كل الطوائف، من كل المذاهب، من كل المناطق، من كل الفئات الاجتماعية، من كل الانتماءات الفكرية، العقائدية والسياسية، في بلد كان في حالة حرب وكان الانقسام ينخر كل مؤسساته وأجهزته وناسه، وما زال. في زمن كان الاختلاف فيه على أشدّه حتى داخل البيت الواحد. وقتها كانت شريعة الغاب هي السائدة، كان كل مختلف عدواً، وكل عدو ينبغي التخلص منه، تنبغي إبادته.
اثنتان وثلاثون سنة، واللجنة حملت خلالها قضيتها على أكتافها النحيلة، برَت نعالها في شوارع بيروت، نادراً ما مدّ لها أحد يد العون أو التضامن أو التكاتف. صمدت كل هذا الوقت دون تمويل وموازنة لا من الداخل ولا من الخارج الحكومي أو غير الحكومي. كيف؟ يُسأل اليوم. بحرقة جرحها وبقوة تصميمها. وهذه بعض من نتائجها المؤقتة.
لقد حافظت اللجنة على استقلاليتها واستقلالية القضية التي تحمل، على نقاوتها بمنأى عن كافة التجاذبات السياسية، الدينية والمالية. وقفت اللجنة سداً منيعاً أمام محاولات التوظيف أو الاستغلال. أجبرت دولة «راجع يتعمّر لبنان» على الاعتراف بالقضية وأحقيتها، وبحق الأهالي بمعرفة مصائر ذويهم من خلال حملة «من حقنا أن نعرف». وحصل ذلك خلال حكومة الرئيس سليم الحص عام ٢٠٠٠ من خلال تشكيل لجنة رسمية للاستقصاء عن جميع المخطوفين والمفقودين وتحديد مصيرهم. وبموجب التقرير الصادر عن تلك اللجنة الرسمية، أقرت الدولة، وللمرة الأولى، بوجود جرائم حرب، وبوجود مقابر جماعية في طول البلاد وعرضها.
وفي الرابع من آذار ٢٠١٤، حكم مجلس شورى الدولة بحق الأهالي في تسلّم نسخة عن كامل ملف التحقيقات التي أجرتها اللجنة الرسمية الآنف ذكرها دون «أي انتقاص أو تقييد أو استثناء». ثم بتاريخ ١١ حزيران ٢٠١٤ ردّ المجلس المذكور طلب إعادة المحاكمة ووقف تنفيذ الحكم، مؤكداً على حق أهالي المفقودين بمعرفة مصائر ذويهم، مشيراً إلى أن المماطلة بالتنفيذ تكون بمثابة استمرار في تعذيب هؤلاء الأهالي (يمكن الاطلاع على قراري مجلس شورى الدولة على الصفحة الالكترونية للمفكرة القانونية http://www.legal-agenda.com/studies.php?folder=studies&lang=ar). بذلك، ارتبطت أعلى سلطة قضائية إدارية بقضية المفقودين «إيجاباً». وهذا دعم مشكور ونحن بأمسّ الحاجة إليه قبل الوصول القريب إلى لجان المجلس النيابي للمشروع الذي تقدّمنا به مع لجنة «دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين - سوليد» بعنوان «مشروع قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسرا»، عندئذ يبدأ التحدي الكبير ونأمله الأخير.
قد يكون هناك من يعتبر أن ما تم تحقيقه «هزيل» أو «مقبول أو حتى «مهم»، لكنه لا يتوازن مع حجم معاناة الأهالي، ولا مع الجهد الذي بذُل، ولا مع السنوات التي انقضت. كلام مشروع، لا بل صحيح في حال أغفلنا من حسابنا – إنسوا نحالة ظهرنا! - سماكة الجدار الذي نُصب في مواجهة الأمهات والزوجات منذ بداية تحركهنّ وما زال، جدار محصّن بترسانة المصالح المطوّبة باسم الزعامات السياسية والطائفية والمذهبية التي يتقاسمونها على حساب مصلحة العباد والبلاد.. جدار مدعّم بخمود مجتمع، بمن فيه طليعيوه، يعنّ بدلاً من أن يغيّر، ويعلّق بدلاً من أن يعمل. كلام صحيح إذاً في حال تناسينا أننا في بلد اسمه لبنان. ولكن أعدكم أننا سنتابع المشوار مهما طال، وسنخرق هذا الجدار وهذه المصالح وهذا الخمود وهذا اللبنان!
لا يسعني سوق كل هذا الكلام من دون استذكار وجوه كل رفيقات هذا الدرب الطويل الذي فرض علينا سلوكه على مدار سنين من عمرنا دون خيار منا. رفيقات لولاهن، لولا مثابرتهن، صبرهن، عنادهن، وتمسكهن بحقهن، لما قامت القضية، ولما تقدّمت بخطى نملة مجتهدة.
وللحديث تتمة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.