يستكمل خالد خليفة في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» ما بدأه من سرد لحكاية التراجيديا السورية، في رائعته «مديح الكراهية»، فكأنه يكتب فصلاً من فصول الحكاية السورية الأشد قتامة وسوداوية من تاريخ سورية الحديث، عندما تولى حزب البعث السلطة وما استتبع ذلك من تفكك للمجتمع وقمع للحريات وتشويه للثقافة وتفريغها من مضامينها التحررية والإنسانية و ترييف للمدينة وإنتهاج سياسة إفساد من لم يفسُد بعد.
الرواية تشريح للمجتمع السوري المحكوم بالإيديولوجية السلطوية المنافقة، بلغة جريئة، صادمة، شعرية، يفكك بها الروائي آليات الخوف والقمع، فيدخل إلى العوالم السرية للمجتمع ويكشف عن المسكوت عنه .باختصار، هي ملحمة تروي مأساة قتل الإنسانية.
المتن الحكائي-السردي يروي حكاية أسرة قتلت أحلامها وأصاب أفرادها الضياع والتحلل، تتوازى مع سيرة مدينة حلب التي انتهكها حزب البعث وصادر تاريخها وعراقتها وجمالها بعدما غزاها الريفيون القادمون من أقاصي الجبال ليعيثوا بالمدينة فساداً وترويعاً وترهيباً.
هذه الأسرة، المكونة من الأم التي هجرها زوجها وهي في ريعان الصبا، لتجد نفسها وحيدة ومنسية، تعيش مع أولادها سوسن ورشيد والراوي.
يستهل خالد خليفة روايته بموت الأم وينهيها بموت الابن رشيد، وهما مؤشران سرديان على فقدان الأمل والحياة .سوسن، هي الشخصية المحورية في الرواية وبؤرة السرد وصلة الوصل بين عالمين متناقضين، عالم الفساد بضباط المخابرات رجال الأعمال الجدد و عالم المعارضين . هي الفتاة الجموح، المتمردة المثيرة والمرآة الكاشفة التي تعكس جوانية الشخصيات بعلاقتها بهم وعلاقتهم بها. استفزها ضعفها، بعدما سكن فواز مقابل منزلهم وهو الشخصية الممثلة للقاعدة الاجتماعية الرثّة الملتفّة حول النظام، فأغلق كل المنافذ والنوافذ المطلة على حقول الخس والفضاءات الرحبة.
لم تجد سوسن سبيلاً لتحمي نفسها من سطوة هذا العالم الا بالانتساب إلى حزب البعث وفرقة المظليين. تنجح بإغواء منذر الضابط الذي وقع في غرامها، تتماهى بالمستبد وبالقوة لتهرب من خوفها. يقول الراوي على لسانها :لم تعد سوسن تحتمل سماع صوت إخوة فواز، ينشدون الأغاني الممجدة للحزب والقائد طوال الليل، لم تعد تحتمل رؤية مذيعي الأخبار في التلفزيون الرسمي يقرأون نشرة الاحوال الجوية وكأنهم يعلنون الحرب (ص ٤٢).
أما رشيد، الهش، الخانع، الذي اكتشف الانوثة باكراً، فينتهي به المطاف مقاتلاً مع جماعة أبو قتادة في العراق وعندما قبض عليه الأميركان، ادعى أنّه مسيحي ووشى برفاقه فتم الإفراج عنه.
الخال نزار، الشغوف بعالم الموسيقى، يسافر إلى بيروت ويجري استغلاله والعبث بمقطوعاته الموسيقية والمتاجرة باسمه ليُطرد من بعدها من العالم الماجن لبيروت الليل، هذا العالم الذي تربطه أوثق الصلات بسماسرة نظام البعث من المثقفين والمقاولين.
جان الذي ينتمي لأسرة عريقة من الطبقة الوسطى، هو الشخصية المضيئة في الرواية، يعود إلى مدينته حلب، وقد طُرِد من سلك التعليم لأنه لم يرضخ لإملاءات البعث، لنشهد في ما بعد تهتكه وخراب روحه وإنغماسة بعلاقات مع فتيات عالم الليل .جان، الذي يعيش مع والدته المريضة، التي اختارت عماها في اللحظة المناسبة كي لا ترى العار واختار زوجها عيسى عبد المسيح موته كي لا يرى العسكر يكممون الأفواه بقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية .يكتب جان لزوجته أن المدن تموت كما البشر وأنه لن يكون أحمق لينجب ولداً إلى شوارع هذه المدينة القذرة التي تحولت الى مكان للقتل.
نوعان من المثقفين
عبر السرد، يلحظ القارئ شخصيتين متضادتين للمثقفين :المثقفين الإيجابيين الذين رفضوا أن يكونوا شهود زور على خراب المدينة وتحولاتها، وإختاروا المنافي والهروب من المدينة التي سكنتهم في الغربة، من جهة، ومن جهة اخرى، مثقفي السلطة الذين تواطأوا مع نظام القتل كشخصية جابر في الرواية، الذي افاد من شعار التطوير والتحديث وبدأ بالاستثمار الثقافي والعقاري على حساب المثقفين الحقيقيين وفقراء المدينة.
لم تصمد الشخصيات في الرواية أمام سطوة الاستبداد وفائض القوة والانحطاط الفكري والأخلاقي وعسكرة المجتمع وترييفه، فإزدادت خراباً وإنحداراً بالتوازي مع خراب المدينة واغتصابها. ولم تكن ردة فعل الشخصيات هي الثورة على الوضع القائم .جعلها فائضُ القوة شخصياتٍ متحللة، تنحدر نحو القاع وتتصالح مع ثقافة العالم السفلي للمدينة .لم يتم إنتاج خيارات ايجابية ترتقي بالشخصيات وتجعلها تستعيد معنى لوجودها، بل ازدادت اغتراباً واستلاباً وغاصت في الوحل وتحولت إلى مسوخ ووجدت في الجسد آلية تعويض وتفريغ للرغبات المكبوتة.
هي شخصيات تذهب إلى قدرها صاغرة، مسيّرة لا مخيرة، تستحق الشفقة، لأنها ببساطة، ضحايا الخوف والقمع .سوسن التي تزوجت من ميشيل الشاذ، ومنذر الذي تحول الى شيخ وجد ضالته في خطابات حسن نصرالله الطائفية، ورشيد الذي قرر إنهاء حياته شنقاً بعد عودته من العراق - فكأن حزب البعث أكبر منتج للضحايا لا ينفكّ يزوّد الإسلاميين بقوافل من الشباب اليائس، التائه .
باختصار، إنه التكامل والتكافل بين الأضداد.
والراوي العارف بمصائر الشخصيات وجوّانيتها، يسرد دون أن يتدخل، ويترك للحاضر أن يضيء الماضي، يفسّره ويعلله، وينتقل بحرية من شخصية إلى أخرى وكل شخصية تلقي المزيد من الضوء على عوالم سرية وسردية .وسوف تفرض تعدديةُ الأصوات إيقاعها بالتخلي عن الترتيب الخطي للأحداث، دون أن يشعر القارئ بالضياع والتفكك، راصداً الأقوال والأحاسيس والافعال والحركات في الزمان والمكان.
صفوة القول أن الرواية تعلن موت مجتمع تحكمه ثنائية العسكر والإسلاميين .هذه الثنائية القاتلة التي تحكمت بمصائر شخصيات، بقيت أسيرة الانتقام من الذات ومن الآخر، من موقع الرفض والتمرد السلبي فكانت السكاكين أدوات للانتحار والقتل والخلاص الفردي.
والرواية أقرب ما تكون إلى بحث سوسيولوجي وحفر عميق في بنية مجتمع ينذر بحتمية وضرورة الثورة التي اندلعت بعد كتابة الرواية بزمن ليس ببعيد بعدما أضاء خالد خليفة وبذكاء سردي الأسباب الحقيقية الكامنة والضرورية للثورة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.