العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

من يوميات سكان «المربّع الآمن»

النسخة الورقية

وصلت للتو إلى منزلي الكائن في قلب دمشق، فتحت الباب فاجتاحني شعور بالانفراج نسيت معه كل الارهاق والتعب. كنت اشبه بالعائد من الموت. بدأت بخلع ملابسي في الممر، ثم غرفة الجلوس، وصولا إلى غرفة النوم. عندما شرعت بفك حمالة الصدر التي التصقت بجسدي، نظرت إلى المرآة، كانت قد تركت أثرا محّمراً على أكتافي وأخماجاً خفيفة عند الابط من الخلف. تعجبت من قدرتي على تحملها ساعات طويلة. توجهت الى الحمام لأزيل آثار الانتظار المضني على الحواجز التي عبرتها في شوارع دمشق اليوم.

الساعة تشير الى السابعة مساء. خرجت في الساعة السابعة صباحا، اثنتا عشرة ساعة اغتصبَ منها الانتظار عند الحواجز خمس ساعات على الأقل. هذه المعاناة، ألم تعتادي عليها؟! سألت نفسي هازئة من تفاهة معاناة كانت طفيفة، غير الجديرة بالذكر، تماماً مثل آثار حمالة الصدر على جسدي التي أزعجتني بألم لا يستحق الذكر، بالمقارنة مع مأساتنا السورية. من المعيب الشكوى، ولو في مونولوج ذاتي من تبدّد اعمارنا على وقع الانتظار والتوتر المتواصل والخوف من كل شيء، وعلى كل شيء.

أنا من سكان المربعات الآمنة في قلب دمشق المزروع بغابات من رجال الأمن والعسكر المدججين بالسلاح. أنعم مع سكان منطقتي برغد التحرك والتسوّق وسط محمية عسكرية، لذا لا نملك حق الحديث عن المعاناة! الكارثة الوطنية تصادر الهمّ الشخصي، وتقذفه خارج تصنيف الوجع.

تعريف السوري السعيد

في سورية إن لم يفقد المرء كل ما يملك، وعدداً من افراد عائلته بين القصف والمعتقلات، لا تصنّف حالته في خانة الفجيعة، وفق معايير الحرب المفتوحة. السوري «السعيد» هو من فقد منزله وتمكن من دفع ايجار مأوى، والأكثر سعادة من حصل على لقمة عيشه دون اذلال، ولم يعد في عداد المحاصرين الذين يموتون جوعا على بعد كيلومترات قليلة من قلب العاصمة! وهو سعيد ومحظوظ ايضا، لأنه ليس بمتناول البراميل المتفجرة، وحمم المدفعيات وراجمات الصواريخ، وتكتمل سعادته اذا حالفته عناية إلهية ونجا من تغييب قسري، أو من الموت تحت التعذيب.

عدا عن هذا، لا ألم ولا معاناة، إذ أن الشقاء اليومي المحفوف بالمخاطر ليس سوى تنويع مترف على الفجيعة الكبرى، بالإمكان التعايش مع الخوف، بالصبر والتمرن اليومي على التبلّد، والسيطرة على ردود الفعل اللاإرادي، وتحييد تعابير الوجه ليبدو كتمثال شمع في غرفة جليد، حتى لو كانت حرارة الاحداث تصهرنا بنيرانها. هذا التمرين مفيد ومجرّب لاجتياز الحواجز وتحمّل تصرفات الجنود سواء الغاضبة أو المرحة والعابثة. بل ان تبلد الاحساس ضرورة لتحمل ما تفصح عنه مدوّنات العسكر على جدران المدينة، من جمل تتناسل من مقولتهم الأكثر انتشارا «الأسد أو نحرق البلد». وربما تمكن أيضا من مداراة شعور بالرعب من منظر حافلة بيضاء مركونة في الحي، وقد كتب عليها رجال الأسد بخط اليد «وحوش أمن الدولة. وحدة مكافحة الإرهاب. ٢٩٥. الاسد وسنحرق البلد» والى جانبها قلب اصابه سهم كيوبيد «حب الأسد أو لا أحد» بالطبع.

ولأجل هذا الحب القاتل كلما رأيت هكذا مشهد أحاول منع قلبي من الخفقان بسرعة الضوء، لأبدد الذعر من حملة اعتقالات بدأها للتو وحوش أمن الدولة في البناء الذي أسكنه. فمن يستطيع التكهن بالأقدار؟ ربما كنت محظوظة واقتصر الأمر على تفتيش المنزل وقلب عاليه سافله، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذا لم يكن هدف الحملة البحث عن مشتبه بهم وإنما طرد النازحين من البيوت المستأجرة في قلب العاصمة، فكل نازح مشتبه فيه حتى يثبت العكس، فهؤلاء لا يستحقون التمتع بنعمة الأمن والأمان في المربعات الخضراء.

قال لي جاري الشبّيح

قبل الاستسلام للرعب، عليّ البحث عن وسائل لإقناع رجال الأمن بأنني مواطنة صالحة مؤمنة بأن «سورية هي الأسد والأسد هو سورية» اقنومان متساويان في الجوهر. فإذا تمكنت من اقناعهم، يمكنني البقاء في قلب دمشق المسوّر بالعسكر، لأتحول الى كائن يهزّ رأسه ايجابا وإعجابا لكل وبكل ما يفعله ويقوله الوحوش، حتى لو كان أمراً بالإعدام!

قبل أيام، قال لي جاري الشبيح إن اغتصاب نساء «الارهابيين» وسط الشارع العام حلال، لأنهم كلاب ضارية! كان عليّ أن اهز رأسي أي نعم، الا أن انتمائي لبلدة لم يبق فيها حجر على حجر، عَبَث العسكر بأخص اشياء عائلتي وشردوا اخوتي، وجدت نفسي افتي بأن «جهادنا الأكبر في الحرب ألا نتوحش».

مضيت وانا على يقين بأنه لن يرحمني من وشايته، سيبلغ عني أقرب فرع أمن، لأني لم ابصم له بالعشرة، ولم أزايد على وحشيته، وأحلل تقطيع اجساد نساء الثوار ورميها للكلاب والقطط.

يلاحقني قلق قاتل، كلما سمعت وقع خطوات ثقيلة على الدرج، أو طرق بابي عابرُ سبيل، أو شحاذ انقطع رزقه في الشارع، فراح يطلبه من المنازل، او عصابة وجدت في أجواء الحرب بابا للاسترزاق، او جار عجوز يطلب المساعدة للعثور على غرض لا يعرف كيف سقط منه. هؤلاء وغيرهم يطرقون الأبواب، ويرفعون القلق الى الدرجة القصوى، من احتمال ان يداهمنا منتعلو البساطير «حماة الديار». في لحظة مباغتة تُعقَد اللسان وتستباح فيها الخصوصية. دقائق كأنها دهور لا تحسب من عمر الزمن، تنشط فيها الذاكرة عما اذا تم اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة استعداد لهذه اللحظة، وتبدأ مساءلة الذات: هل كانت آخر قناة رأيتها أمس التلفزيون الرسمي؟ ربما شغلوه واكتشفوا اني كنت اتابع احدى القنوات المغرضة. هل مسحت سجل التصفح في اللاب توب والموبايل وسجلات الدردشة التافهة وغير التافهة؟ ربما فتشوها. ماذا اقول اذا وجدوا بين اصدقائي أحد المغضوب عليهم؟ فعلوها كثيرا واعتقلوا اشخاصا اعرفهم، كان لهم أصدقاء ثوار، ونالوا من الضرب والرفس ما أنساهم حليب امهاتهم. لا لشيء فقط كي يبرروا سرقتهم لموبايل او لاب توب اعجبهم!! إذلال كفيل بجعلي أموت قلقا. شعور ينتاب كل من يعلن موقفا رافضا للقتل.

فقط في سورية من يرفض القتل يقتل، او يعتقل. قمة العبث.

لن اغادر

ما سلف ليس سوى تداعي لحظي لأفكار يهذي بها سكان المربعات الخضراء من ثلاث سنوات تقريبا، وأهذي أنا أيضا بها بلا كلل أو ملل. اصبحتْ جزءاً من تفكيري، القي جسدي على الكنبة لأشرب القهوة وارتاح من عناء يوم طويل بانتظار زيارة جارتي العصبية. والتي افتتحت الحديث معي بالسؤال: هل ستأخذين اللوحات والكتب معك عندما تغادرين؟

استفزتني ثقتها، وكأن مغادرتي أمر مفروغ منه. أجبت بنبرة تأنيب واستنكار: كم مرة قلت لك طالما قادرة على التحمّل سأبقى هنا، لن أغادر! الأدق لا ادري، قد تأتي لحظة أغادر فجأة بالملابس التي عليّ فقط، تماما كما غادر أهلي قبل عامين من مدينتنا الصغيرة المشتعلة.

- «وهل ستبقين الى تلك اللحظة؟».

- «ليس لدي خيار آخر. البقاء هنا وسيلتي الأخيرة للدفاع عن وجودي وانسانيتي، لدي حق بحفنة من تراب وطني يدفن فيها جسدي. بل أن يزرع هنا. حقوقي كلها انتهكت ولم يتبق لي سوى حق الموت هنا، لن اغادر الى بلاد ليست لي ولا لأحد من اجدادي فضل في بنائها. قيمتي الحقيقية هنا».

بادرتني بنظرة مستخفة وانفجرت تصرخ في وجهي: «عن اي قيمة تتحدثين؟ أهم شخص في هذا البلد ثمنه رصاصة، بإمكان اي مجنون مسلّح، أن ينتزع روحك من دون سبب، وبإمكان متخلف متوحش ان يفرم جسدك، دون أن يرف للعالم جفن، القيمة العليا في هذه البلاد للسلاح والنار. خمسون الف صورة لأحد عشر ألف معتقل قضوا تحت التعذيب لم تهز ضمير العالم، أكثر من مائتي الف قتيل، ملايين المشردين، أهلك من ضمنهم ولم يتحرك احد في العالم لوقف المجزرة، الكل يريدها أن تستمر، هذه الأرض بركان يقذف حممه ويحرقنا من ثلاث سنوات، وطننا ارض براكين لا يسكنها أحياء».

واصلت صراخها واستنكارها وواصلت الاستماع دون أن اغير قناعتي رغم اقراراي بصحة كل ما قالته. المفارقة كانت عندما سألتها بعدما هدأت: هل أفهم منك انك ستغادرين. فردت بلهجة قاطعة :لا! لا أعرف، لا اتخيل نفسي خارج دمشق!

في حياكة الامل

اضحكتني اجابتها وتخيلت أني أنا التي ادافع بشراسة واصرار عن بقائي هنا قد أغادر صباح اليوم التالي! لا منطق يحكم افكار وتصرفات سكان المربعات الخضراء اليابسة. حالة من الشيزوفرينا أصابت الجميع، لم يعد أحد يعرف ما يريد، في لحظة يتوقف فيها الزمن وتنعدم الآمال بغد افضل، الغد الذي أصبح من يوم لآخر يزداد سوءاً. من ثلاث سنوات النقاشات ذاتها تتكرر وكل يتخندق وراء متاريسه، لا يريد التقارب مع الآخر الذي يشبهه حد التطابق، وان اختلفت الألوان. ولكن علينا أن ننظر ابعد من الغد ونعيد حياكة الأمل، والتأكيد للذات أن ما جرى في سورية ثورة حقيقية، لا بد منها، ولا مهرب، انه منطق التاريخ، وما نعيشه ليس سوى مخاض عسير قد يطول كثيرا لولادة الوطن الحلم، الثورة لم تنهزم، وان تلاشت في خضم الفوضى. انتصرت في اليوم الأول الذي كتب فيه اطفال درعا على الجدران، فليسقط النظام. كانوا ضمير المعذبين والمضطهدين، وكل ما اتى لاحقا من دماء ليس سوى تفاصيل، لن يذكر التاريخ سوى عناوينها العريضة.

هدير قذيفة تنطلق من مدفع على كتف جبل قاسيون تعبر من فوق راسي لتسقط جنوب دمشق، تقطع تسلسل افكاري واصحو مجددا على واقع أني الآن هنا داخل المربع الأخضر. وهناك على أطرافه، مواطنو بلدي ينزحون مثخنين بجراجهم، او يموتون تحت الانقاض، اتذكر مقولة شعبية: «من يأكل العصي ليس كمن يعدّها». ثلاث سنوات ونحن نعد التفجيرات والقذائف والبراميل والشهداء حتى صرنا كموظفي الامم المتحدة عاجزين عن العد، ولم تعد تعنينا القذائف التي تنطلق من سفح قاسيون لتصب حممها على بيوت اهلنا، ولم يعد بالشيء الذي يذكر سقوط قذائف هاون، او صواريخ محلية الصنع داخل المربعات الخضراء. لا يهمنا أن قتلتنا، أم لم تقتلنا، فلا أحد يموت ناقص عمر، الاعمار بيد الله وحده. نقولها بكل اطمئنان، دون ان نشغل بالنا، بينما نتأهب ونستنفر كل الطاقة التخيلية، في حال سمعنا صوت رصاصة واحدة تمزق سكينة المساء، فهذا امر غير عادي، فقد تكون اشتباكات او ملاحقة لمشتبه فيه، جميعها احتمالات تنذر بتفجر الاوضاع في المربع الأخضر. فتتداعى مع الاحتمالات صور من ذاكرتي الطرية للاشتباكات في بلدتي، والتنقل زحفا بين غرف المنزل هربا من منظار قناص لا يخيب، وتدخل القدر لحظة مرور رصاصة بجانب الرأس، والحصار وافتقاد الكهرباء والماء والغذاء ودمار المنازل والمدارس، وكل تاريخ الموت. لا ينقذني من تلك التداعيات سوى التنبه الى أني الآن هنا في المربع الأمني الآمن. حيث لا يطلق الرصاص الا للتعبير عن ارتفاع معنويات أرباب الحواجز بعد «نصر إلهي»، او تصريح «قائد عظيم».

أوجاع حمّالة الصدر

كل الأفكار تخطر في ثوان، اتنبه بعدها إلى الدماء تصعد ساخنة الى رأسي، فتصدّعه. أحاول العودة لممارسة أعمالي اليومية، اتواصل مع صديق طفولة اهنئه بسلامة وصوله مع عائلته الى مكان نزوحهم الرابع، فيأخذنا الحديث الى ذكرى حدائق منزل عائلته الواسع الذي دمر بالكامل، وقبل أن ينهمر الدمع سخيا، يخبرني بانه يعيش مع عشرين شخصا من عائلته في بيت طيني مؤلف من غرفتين وآيل للسقوط. أسعى لتغيير الحديث الكئيب وأسأله عن اطفاله وبالأخص المصاب بإعاقة دماغية، فيضحك بأن طفله ذو السبع سنوات يعيش أفضل ايامه لأننا جميعا اصبحنا مثله، اشاركه الضحك قبل أن نعود لنغرق مجددا بالبكاء.

ينتهي يومي بهذه النكتة السوداء. أتحسس موضع الألم الذي سببته حمالة الصدر لكتفي وظهري، وافكر كيف سأرتديها مجددا في اليوم التالي، احسب عدد الحواجز، والوقت اللازم لأقطعها ذهابا وايابا لأحصل على لقمة عيشي في المربع الآمن جداً المزروع بالقلق والمدفعيات.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.