العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

الفخ المشتهى

يوميات دمشقية ٢٠١٤

النسخة الورقية

من سبل مواجهة السيل الجارف، العارم بالانفعالات، المتاحة لك كفرد، عقلنة الأشياء، اجترارها والتنظير لها في داخلك كي تستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة العقلية والنفسية والجسدية. أن تخاطب نفسك قائلاً «الحياة الإنسانية، تعريفاً، ليست عادلة، ملايين البشر اختبروا قبلنا «محكّات» تاريخية كهذه وبقي منهم ناجون وشهود. لسنا أفضل من الهنود الحمر أو من الأرمن أو من الفلسطينيين أو من الكمبوديين أو أو... سيكون هنالك مخرج. دوام الحال من المحال». ولكن صدقني بعد كل جهود العقل تلك، ومهما كان موقفك، أكنت راصداً محصناً بتسييسك وانخراطك الفعلي بالأحداث، أم إنساناً عادياً مستنفداً وراء لقمة عيشه وأمان عائلته فإنك ستعود إلى قنوط عميق، في الصميم، لأن هذا أكبر من احتمال الفرد الواحد، بكل نزاهة وصدق.

شبح الزمن الهلامي

لم يبق الكثير من الأصدقاء في دمشق، وذهبت لتناول القهوة مع أحدهم. أصبحت مغادرة المنزل والتنقل ومجالسة الأصدقاء طقساً احتفالياً لا نستطيع التمتع به دائماً. في أسرارٍ عن مهنتنا كمدرّسيَن، قال لي: «نحن نشبه إلى حد ما مخرج الأفلام الإباحية المتقدم بالعمر ذاك، الذي اعترف في مقابلة صحافية بأنه مازال يخرج أفلاماً رغم تقدم عمره لمتعة مشاهدة الشباب في وضعيات ايروسية لم يعد هو قادراً عليها. نحن، المدرّسين، نشبهه في تسمرنا المراقب للأجيال المتعاقبة شباباً فشباباً أكثر، نتقدم في العمر دون حراك، في مكاننا نفسه، تجعل طزاجة الشباب المارة أمام أعيننا سنة بعد سنة المشهدَ متحركاً من حولنا ونحن ثابتون». لكلامه وقع وغصة أشدّ في هذه الظروف بالذات. نحن سمعان العامودي إذاً، ولكن دون جزاء روحي، والوقت لم يكن يوماً إلا غريماً غدّاراً في هذه الأرض. الوقت هو الأبد الذي سبق آذار\ مارس ٢٠١١ والذي مرّ كرفّة عينٍ، عمرنا رفّة عين.

الوقت هو برهة الخوف والقلق من الاعتقال التي تتطاول دهراً. الدهر المحصور ببرهة، نتوسل فيها قناصاً ألّا ينهينا ونناجي فيها قذيفة أن تغير مسارها عن أولادنا أو أن تنهينا دون عطب وتسويف يثقل على أحبتنا ويعقّد حياتهم. والوقت هو شبح الرجاء الهلامي نتوسله للصبر: الشهر المقبل، الاستحقاق المقبل، وقت الانتخابات الأميركية، في خريف العودة للعمل في أوروبا، بعد الانتخابات الإيرانية، قبل الانتخابات التركية، بعد المفاوضات النووية. حتى نصحو في لحظة ونكتشف مفجوعين أن شبح الرجاء خدعنا مرة أخرى وأن نتفة أخرى من أعمارنا دُهست تحت أقدام الزمن. وقد يكون الوقت المهدور عند الحواجز، حواجز المدينة التي تتشوه، هو الصورة الشفيفة المباشرة دون رمزية لعمرنا المدهوس. تلك المسافة في اللامكان واللازمان الممتدة ما يكفي لتذكّرنا بأن حياتنا ذرّات رماد تتطاير من أجسادنا. الانتظار عند الحاجز هو تعلم تجريبي لعلم الاحتمالات، احتمال الاشتباك، احتمال أن تفجر الشمس الحارقة قريحة الجندي ليقتلنا ثم يقتل نفسه، لو كنتُ مكانه لخطرت لي الفكرة كل ثلاثين ثانية. الحاجز هو نقطة التماس الرقيقة التي لا تتسع لحياة الجندي، إلى أين يتجه بين وجهتي الموت؟

والوقت هو وقت الثورة الذي أخذنا من أنفسنا، من عائلاتنا لنكون بكل أرواحنا فيها ونصحو لنرى أولادنا وقد كبروا ثلاث سنوات ونيفاً دون أن نلتقط لهم صورة واحدة أو نثبت مراحل نموهم في أذهاننا كمقاومة للاستلاب وكملء نفسي يعيش الحاضر بكل كثافته. نصحو لنرى أن أولادنا اعتادوا أصوات الطيران الحربي دون خوف ظاهر بعد أن كانوا يرتعدون منه قبل سنتين، واعتادوا صوت القصف كخلفية صوتية يومية دون ارتكاسة تُذكر، فنُصدم لهول غدر الزمن المتواطئ الصامت. لا شيء أنبأ بقوة، لم يصرخ أحد ليخبرنا، لم يتوقف الزمن ليخطرنا! لا شيء أبداً، كل شيء في هذه القيامة استمر بالدبيب بتؤدة نحو أرواحنا وأرواح أولادنا، لم نكن محصّنين من شيء.

والوقت هو المفاوضات النفسية الممتدة إلى ما لانهاية حول «هل نبقى؟ هل نغادر؟». المغادرة هي إعلان الهزيمة الأخير تجاه ما انحزنا إليه وما التزمنا به، الثورة، هي خيانة لمن عوّل علينا وعلى بقائنا، البقاء الذي نضفي عليه شاعرية وغنائية إضافية بتسميته «صموداً» وهو ليس إلا البقاء في المكان المعتاد وعجزنا عن تغييره والتأقلم مع غيره قسراً. كيف نترك جيل المسنين وحده، أي قسوة وأي خيانة؟ وماذا عن «متلازمة الناجي» التي يتحدث عنها المهجّرون والمنفيون طوعاً وقسراً؟ المتلازمة التي كتبت عنها فادية قبل سنتين وكيف أنها تشلّها تماماً وتعطب كل الأفعال، هل سنحتمل؟ هل نبقى؟ بما يعنيه هذا الفعل من الاستعداد لدفع ثمن الخيار الباهظ؟ ثمن لا ندفعه وحدنا، بل نفرضه على جيل جديد، لا حول له ولا قوة ولم يختر أن يعيش الحرب. من أصعب الهوامات التي ترعبنا في خيار البقاء، بعد الموت، هي أن نعيش الاندثار والتلاشي والفوات، ترعبنا أمثولة «أهل الكهف»، يرعبنا تعبير «No man’s land»، تشلنا فكرة الوحدة ورحيل الجميع قبلنا، ربما هذا ما يدفعنا إلى لوم الذين غادروا، لو بقوا لقوينا. ولكن الخيال الأقسى في احتمال البقاء هو فقد الأولاد.

والوقت هو المسار الذي تغيرنا فيه من ثائرين مفعمين برغبة الفعل والتغيير ولافظين لترسيمة العبودية إلى متعبين، والتعب، بعد معاينة وتجربة، هو الشرط الأول لعودة العبودية، ربما بأشكال أخرى.

امرأة ثمانينية تمشي أمامي، في زواريب الشعلان، بأقدام سكّرية محمّرة متعبة، تدير رأسها مع نسائم نيسان الدمشقية لتتأمل المشهد، المدينة، وكأنها تراها للمرة الأولى أو الأخيرة. فدمشق لا تنتهي غوايتها، شمسها، نسائمها، مطرها. المدينة ليست صاخبة، فارغة تقريباً. أنا هي وهي أنا، أفسّر وأعقلن، لا «أبطّل» تلك العادة السيئة، التنظير، ظناً مني أنها تقاوم الجنون، والجنون مقارنة بها عقل ورزانة وحصانة: «ليست سوى الوظيفة النفسية التعاطفية التي تجعلك تتمثلينها». لا! أنا هي وهي أنا. المدينة المتروكة والبقاء شاهداً يجعل من «بروفايل» العجوز على تخوم عمره أجمل الحالات، تباطؤ الإيقاع فيه غواية مقاومة تسارع الدمار، تضيق الفضاءات المشتهاة، يكفي متر بمتر للعيش النباتي ومراقبة المدينة من بعيد واختصار للحياة الاجتماعية الموّسعة، بعض الطعام وبعض الكتب وبعض الأحبة، أشياء تكفي وبعض اللامبالاة الحزينة الشفافة تجاه المآسي ومشاهد التسول الجديدة على المدينة، ليس اكتئاباً تماماً، هو نوع من الميلانكوليا الشاعرية. ويصبح للموت غوايته، قوة جاذبة مع اختلاجات في الأضلع نحو القذيفة الآتية، مثل الحب الأول والقبلة الأولى حين توجع الأضلع... واستحضار مستمر لمشاهد دفن الأحبة، نوع من «الروداج» النفسي، يشبه تمارين ما قبل الولادة التي لم تفدني بشيء حين جاءت ساعة الحقيقة.

ويصبح إدمان الحرب عميقاً. يشبه تلك الرغبة الطفلية بمشاهدة نهايات المسلسلات، الحلقة الأخيرة ضرورية وإلا فسنشعر بالفوات، يداخل كل ذلك نوع من التعفف عن كل شيء خارج هذا العالم المصغّر. استعذبنا البقاء في دمشق للشهادة على التلاشي، وكأن للتلاشي والاندثار متعةً خاصة رغم رعبنا منه، لا علاقة لها بالمازوشية، هي متعة الكشف والتجلي. ماذا ستعلمنا الأمكنة الأخرى بعد؟ المدن الكبرى الصاخبة والمكتبات الكبرى والديناميات الأخرى؟ نحن هنا عرفنا كل شيء. ثم هناك متعة البطء واللاتنافس، الناس «المهمون» خرجوا ويمكنك أن تنظر في عيون من بقوا معك لتكتشفهم من جديد دون اعتمالات المدن الطبيعية. هو الفخ المشتهى.

خدمة ما بعد الموت

غريب كيف يتعامل المرء مع كثافة الموت وحضوره! لم يعد الهمّ هو الحزن والفراق بقدر ما أصبح همّاً إجرائياً صرفاً.

تروي ريم أنها بعد رحلتها الشاقة المريرة في ممرات قسم الإسعاف في مستشفى المجتهد باتجاه البرادات كي تتعرف على جثة أخيها الذي تلقى رصاصة مجهولة، سُعدت لأن جثمان أخيها كان مكتملاً وليس أشلاءً كحال الجميع في تلك القاعة، وسعدت كيف تيسرت مراسم تشييعه ودفنه سريعاً في اليوم التالي.

حين توفي أبو عبد الرحمن، لم تشأ أم عبد الرحمن أن يُدفن زوجها في مقبرة بعيدة تعرّض أولادها لخطر الحواجز، هم الخارجون من دوما والمولودون في جبل الزاوية، أي أنهم من أصحاب الهويات الخطرة وقد تعرّضوا فعلاً للاعتقال عدة مرات بسبب الهويات لا بسبب نشاطهم المناهض للنظام. داخل المدينة وبعيداً عن تتالي الحواجز لم يجدوا قبراً لأبي عبد الرحمن. مقبرة «باب الصغير» مكتظّة، حتى أن الشواهد التي تحمل «هنا يرقد الضيف الفلاني» تبدو أكثر من الشواهد العادية، ومقبرة الدحداح في وسط دمشق اكتظت وأسعارها خيالية، لا يقدر عليها إلا أغنياء دمشق «داخل السور». تدبّر الشباب، أولاد أبي عبد الرحمن، المفاوضات حتى استطاعوا شراء قبر بسبعمائة ألف ليرة سورية وبمساعدة أصدقائهم.

عائلة أبي عبد الرحمن أوفر حظاً من كثير من العائلات، أوفر حظاً من الفلسطينيين الذين أجبروا على الخروج من مخيم اليرموك وحُرموا بالتالي من مقبرته ولا يحق لهم الدفن في المقابر الدمشقية لأنها تحتاج إلى «الطابو» فاضطروا إلى استئجار أراضٍ للدفن شرط أن ينقل الجثمان بعد مدة إلى مقبرة اليرموك أو الدفن في حدائق المنازل.

ميتات طبيعية، عادية، تحدث في دمشق، إلا أن الموت يأبى أن يكون الراحة الأخيرة، وأحياناً يأبى هذا الموت إلا أن يكلّل كل شيء بتراجيديا تُحفر في ذاكرتنا إلى الأبد. هكذا كان موت أبي أسامة، هو الذي لم يغادر دوما في حياته، غادرها في عيد الأضحى من عام ٢٠١٢ بسبب قصف الطيران الشرس. غادرها في عمر الرابعة والثمانين وأقام مع عائلته في إحدى ضواحي دمشق الجنوبية. لم يحتمل فراق مدينته في الغوطة الشرقية ولم يحتمل فراق السوق في دوما، الذي قضى فيه سبعين عاماً ونيفاً تاجراً وحلوانياً، لم يحتمل الفراق وتوفي بعد عام تقريباً، وكان قد أوصى عائلته بأن يُدفن في دوما. إلا أن الحصار كان قد أخذ يضيق حينئذ. بعد مشقّة تمكنت عائلته من تلبية رغبته بمعجزة: غسلوه وكفّنوه وأودعوه سيارة أجرة دون مصاحبته، وحده. لم يقبل السائق بأن يسجّى المتوفى في مركبته، خوفاً من الحواجز، فقد يرغب أحد العناصر بالتأكد من الميت وهويته ومن شهادة الوفاة في الوقت نفسه، حسب نزواته ومزاجه، فركب أبو أسامه السيارة بكفنه سانداً رأسه إلى زجاجها، وبعد المعبر إلى دوما، تسلّم جثمانه الهلال الأحمر التابع لدوما مع باقي عائلته المحاصرة في الداخل ودُفن كما تمنى عند قدمي والده في مدفن العائلة. ما زلت أردد بعد أشهر من رحيل أبو أسامة أنه كان ملحمة «الجسر» الذي يصل، ميتاً، أطراف العائلة المشتتة في طريقه من دمشق إلى دوما.

يوميات، أمزجة ومقاومات صغيرة

الكل من حولي غير راض عن عمره الذي تزامن مع بداية الثورة، لو كنت أكبر! لو كنت أصغر! ولكل واحد طريقته في التعامل مع شرطه الجديد. من الأشياء المرهقة في زمن الحرب تباين ردود أفعال الأشخاص الذين يتشاركون الحياة والمسؤوليات، منهم من يفرد أشرعته للريح في استسلام وعطالة قد تكون منجّية، من يدري؟ ومنهم من يتبعثر في مهمات ومحاولات فعل وتأثير مرهقة، غالباً دون طائل يُذكر وبالتالي تحرق صاحبها. إذا كنا نتحدث عن أزواج فهل يمكن لأي زواج أن يواجه محكّاً أصعب مما نعيشه؟ البعض يغالي في رغبته بالتواصل والبعض يفرط في انطوائه وانعزاله.

كانون. صقيع. أستدعي كل الصور والخيالات والأفلام والذاكرة المتوارثة عن الموت برداً. عن الراهب الروسي الذي كان أبي يروي قصته، المسافر من غابات روسيا إلى أديرة المشرق الأرثوذكسية ليموت في صباح ثلجي ممدداً بسكينة وفي يده إنجيله فوق ندف الثلج. هل يتألم المحتضر برداً؟ أتذكر فيلماً يظهر أن البرد يجعل النعاس يدبّ في أوصال البردان وأطرافه فيموت بعد أن ينام. أتخفف لحين من الشعور بالذنب تجاه آلاف من السوريين المشردين دون مأوى وأكمل نهاراً آخر.

طبيب آخر غادر. يبدو أنه لم يبق في دمشق إلا عليا. هل عليا مهووسة بموسوعة غينيس للأرقام القياسية؟ تريد أن تسجل اسمها كآلة فاحصة خارقة لآلاف الأطفال خلال ثلاث سنوات؟ اليوم ذكّرتني قائلة بأنها طبيب رواية «الطاعون» لألبير كامو الذي أراد في النهاية أن يمرض. هاجس عليا الطاعوني اليوم هو الجرب، الجرب المنتشر بسبب كثرة الاعتقالات والتهجير والنزوح وتعايش الأعداد الكبيرة في مساحات ضيّقة. تعود لبيتها كل يوم تغتسل (إن توفرت الكهرباء) وتحاول كل يوم شحذ همتها والاستيقاظ صباحاً لمقاومة الجرب وأمراض القرون الوسطى التي تجتاح البلد. عليا التي تكره جملة «it’s too late» في الأفلام الأميركية، تسابق الريح كي لا تتأخر على أحد. ومع ذلك فشعور العجز لا يفارقها. في الخلفية البيضاء لعملها الجبّار أطفال يُذبحون في النبك،ومدنيون يعتقلون وحواجز حليقي الرؤوس، النازيون الجدد المنتشرون في مدينتي السمر بلحى كثة وجماجم حليقة.

عيد الفطر ثم عيد الأضحى ثم الربيع، المواسم تتعاقب والنساء مصرّات على وضع نقاط علّام موسمية تشير إلى بقايا حياة طبيعية دون كلل أو ملل، وبعناد ينكر نكراناً مطلقاً تدنّي القدرة الشرائية بشكل كارثي. جولة في أسواق الأطعمة قبيل العيد تجعلك تدرك أن ميشيل دي سيرتو كتب كتابه «المقاومة في الحياة اليومية» في أسواق دمشق. تطلب السيدة من بائع البهارات والقلوبات وزناً من الصنوبر لا تدركه الموازين المستخدمة، يحتاج إلى ميزان مخبري. تقول له «أريد بـ٥٠ ليرة صنوبراً لكبة العيد». حقاً ما أهمية كل ذلك بالنسبة لها أمام كل هذا الموت؟

دمار هائل عند مدخل برزة وفي طريقنا جنوباً إلى القابون عبر حي تشرين، استطعنا الدخول بعد الهدنة، طوال الطريق سؤالان ظلا ينخران رأسي: «كيف يمكن لكائنات بشرية أن تعيش في عشوائيات مثل حي تشرين؟» و«كيف عاد الناس رغم كل حجم الدمار هذا؟»، في وسط كل ذلك يحاول محمد أن يعلّم أطفال برزة والقابون ويحاول أن يفرض معاير جودة لتعليمه... وسط الدمار والعشوائيات الرمادية.

المواطِنة «لغة»

عجيب أمر اللغة، هي الوحيدة التي لا تموت. مهما قُمعت، تظل تظهر بألف لبوس ولبوس، تبقى قادرة على سلك كل المسارب، تعلن الهويات والانتماءات والمواقف مهما تستّر صاحبها، لكن الأغرب أنها في أحيان كثيرة، تسبق الجماعات في إعلان بعض الإجماعات غير المدركة بشكلٍ واعٍ، هناك حس عام مشترك يتظاهر أولاً في اللغة. من منّا لا يذكر شيفرة انطلاق المظاهرات في الجوامع في بداية الثورة، التي كان يتحدث عنها الشباب؟ قبل ثلاث سنوات، قبل قرن؟ «فرعون» كانت الكلمة الشيفرة وكان الشباب يتهيأون بالتالي لخروج المظاهرة.

كنّا نعرف إن كان مخاطبنا موضع ثقة أم لا، رمادي التوجه أم لا،من نوع العبارات: «الله يفرّج»، «الأحداث»/ «الأوضاع» أو «الثورة». وكيف تراوحت التوصيفات الأكثر رواجاً في الشارع عند الناس العاديين من «ثورة» لـ«أزمة» و«أحداث» بحسب الزمن الذي مرّ وتغيير موازين القوى.

وكيف يمكن لصوت/حرف في اللغة أن يكتنز كل تلك الدلالات والشحنات؟ أصوات الإمالة الحمصية المتناوبة حيث «الايه» الشامية تُقلب واواً و«الياء» تُقلب «ايه» أو «واواً»، أصبح لتلك الصائتات بعدٌ آخر، بطاقة هوية جديدة تيسّر أمر حاملها أو تقتله، حسب المتلقّي. والأصوات دقيقة، تذهب بعيداً في تلاوينها لتمايز المدينة والريف والساحل والشمال والجنوب. كثيرون ذكروا أن بعض عناصر الحواجز كانوا يتحصّنون بلهجة الساحل لتقوية تمثلهم للسلطة رغم انتمائهم لمناطق بعيدة جداً عن الساحل. وكنّا نتندر بحكايات حاجز «البندورة» التي حدثت خلال الحرب الأهلية اللبنانية! لم نكن نعي أن لا هزل في بطش الأصوات والحروف.

عند الهجوم العسكري على منطقة من المناطق، كان يمكن تمييز موقف الراوي للحدث من تعبير بسيط. إن قال: «جوبر عم تاكل قتل» فهو أقرب إلى الثورة، وإن قال «عم يطهروا جوبر» فهو مؤيد، إذ التطهير من التأييد. وغريب إجماع البيئات الأكثر هشاشة وتأثراً بالدمار العمراني على أن الموضوع (موضوع الثورة ومكافحتها) لا يتعدى مخططاً عمرانياً يريد إتاحة الاستثمار العقاري لشركات إيرانية وروسية وصينية مما يتطلب، كمقدمة، نسف كل عشوائيات المدن ومساكنها الشعبية، أي ما نسبته أربعون في المئة من مجمل عمران دمشق وريفها على سبيل المثال. مع أن مرويات الناس عن العمران ليست محض أساطير ولكن يبقى الغريب هو مصدر معلوماتهم. وكأن اللغة صاغت بشكل غير واع ما عجزوا في وعيهم عن فهمه وتقبله، أن تنسف حياتهم بهذه البربرية. دفاع نفس جمعي لعقلنة الأشياء تظهره السرديات. وفي استباقها لوعي الناس وتأقلمهم مع طفرات الأحداث وتغيرها السريع قد تبلغ اللغة أدراكاً من التواطؤ لا يمكن تحمله كأن تُخط لافتة ضمن الحملة «الانتخابية» الأخيرة باسم أهل الشام تقول «رح نكمل معك»!

أحياناً أتساءل ولكن هل لغة النظام مقموعة كذلك، تكبح مضامين أقسى مما تظهر؟ تتظاهر بوحشية تبدو أقرب إلى العفوية وعدم الإدراك، مع مرور الوقت تبيّن لنا الأيام أنها عميقة ومدركة وتبحث عن شرعنتها بإلحاح التكرار وفجاجة السلطة. هذا ما تقوله عبارات الحواجز والعبارات المتروكة على العمارات المدّمرة: «صغيرة يا كبير»، «حاربوك ونسيوا مين أبوك»، «الأسد أو لا أحد»، «الأسد أو نحرق البلد»، «اخترتم حرية التعبير واخترنا حرية التدمير»، «لا ترحمونا لأننا لن نرحم أحد»، «نحن لا نهاجم ولكننا نصبح وحوشاً ضارية إن هوجمنا»، «يريدون رحيلك ولا نرضى بديلك». ظهرت على قناة سما من فترة عبارة «دوما سرطان سوريا ويجب استئصال هذا الورم».

وقد يبلغ تساكن اللغتين، لغة النظام المشرعنة ولغة الإجماع الشعبية البدئية حداً بليغاً وطريفاً. في خريف ٢٠١٣، كان هناك لافتتان متقابلتان عند حاجز منطقة البحصة، بالقرب من سوق القرماني القديم، عند الحاجز كانت هناك لافتة تحض الشباب على عدم التهرب من الخدمة الإلزامية: «جيشك شرفك»، وفي الجهة المقابلة، كان هناك إعلان ضخم جداً عن معهد للدراسات السياحية يختتم إعلانه بعبارة «تأجيل الجيش مضمون» في إشارة إلى أن التسجيل في المعهد يتيح فرصة تأجيل الالتحاق بالجيش سنة دراسية كاملة. وليس بعيداً عن هاتين اللافتتين، كان هناك إعلان عن دورات لغة ألمانية بعنوان «دورات لم شمل ألماني» أي أن مضمون دورة اللغة يركز على اللغة الضرورية للمتقدم بطلب لم شمل مع أقربائه في ألمانيا.

والشرعنة والمأسسة في لغة النظام تتجلى هزلاً في إصدار وزارة الأوقاف كتاب «فقه الأزمة»، وفي لافتات حملة «سوا» الأخيرة، أن نجعل لـ«الأزمة» «فقهاً» هو تأطير وتحديد «على البارد» كما نقول في الدارجة، محاكاة لنظرة استرجاعية تشرعن الإحساس بالنصر. بغض النظر عن أن النصر واهم عملياً.

في لوحات إعلانية أكثر شاعرية انتشرت في دمشق، نرى بدوي الجبل يناجي دمشق، واقتباسات للشهيد رمضان البوطي يحثّ فيها على عدم الانزلاق نحو الفتنة، والالتزام بحيض الوطن.

على مستوى إنساني أبسط، تتكشف لعبة السلطة الطائفية في الأغنيات الشعبية التي نسمعها في الأوساط القريبة من النظام في سيارات الأجرة التي يمتلكها رجال أمن، من لطميات شيعية إلى حفلات خاصة مسجّلة تطول مقدمات الترحيب فيها لتشمل كل الإشارات إلى الطائفة العلوية.

إحدى الأغنيات تبدأ بترحيب بالضيوف الحاضرين من نوع: «علوي بإذن الله»، «حيّوا شباب الزهرا»، «حيّوا المرقب العلوي»، «حيوا سيدنا سيد المقاومة حسن نصر الله وجيل محسن، وبشارنا بشار العرب»، «ايوه ايوه يا كرّار يا كرار يا حيدرة».

حواجز وهويّات وحدود

مذاهب وطوائف وملل وعشائر ومناطق وقوميات وفوق ذلك «شتات» و«داخل» و«داخل الداخل»، «محرر» و«نظامي». أتساءل أحياناً ونحن نكرر تجربة الفلسطينيين إلى حد ما، كيف تحمّلوا؟ «متشائلو» (اميل حبيبي) دمشق العاصمة، دمشق المربع الأمني مازالوا في مناطق النظام يعملون دون توقف على تحديد ماهيتهم و«زنوجتهم» دون جدوى. من هم؟ هم الضامن البشري لمربع النظام ورافعه الديمغرافي والاقتصادي؟ هم أعداء الغوطة الشرقية؟ يتساءلون ألف مرة في اليوم عن مكانهم الصحيح، ينتقلون إلى الداخل المحرر حيث نجح النظام بتحويله إلى مكان صعب العيش وأحياناً شبه مستحيل، أم يمكثون حيث ولدوا وتربوا أم يهاجرون لبناء ذاكرة جديدة؟ في النهاية يبقون حبيسين في زنوجتهم ضمن هوامش تحددها الدشم الإسمنتية والحواجز وقذائف الهاون وديسبيلات القصف.

أصبحنا نقرأ ما يكتب أصدقاؤنا في مخيّم اليرموك مثل عشّاق وجلين لا نجرؤ على التفاعل. التفاعل أصبح ضرباً من النفاق، فنحن في كبسولة فضائية منفصلة عنهم نرى بعضنا من خلال الزجاج الكتيم، فقط. هناك كبسولة للمحاصرين الجائعين في تجربتهم الداروينية الفريدة، وكبسولة للواقعين تحت قوات النظام مثلنا، وكبسولة للمحررين والمحتلين من داعش. وجملاً حياتية متوازية كهذه، كلها معاناة ولا تستطيع التقاطع.

إذا تناسينا التساؤلات الوجودية، تذكّرنا الحواجز في كل لحظة أننا لا نشبه بعضنا، هناك خانات تعرض صاحبها للاعتقال فوراً وتعسفياً، وهناك خانات قاتلة، وهناك خانات يسهل قتلها تحت التعذيب وخانات أرحم. هناك أناس جائعون وهناك أناس يقيمون أعراساً في فنادق وهناك أم أحمد التي فقدت ابنها تحت التعذيب وابنتها وحفيدين وصهراً في قذيفة هاون ومازالت تقول «الحمد لله، استفقاده الله رحمة»، هل يمكننا أن نلتقي كلنا في مكان ما؟ غير الموت العميم العادل؟

لم أكن أفهم خالي تماماً حين كان يقول «نحن جيل الهزيمة»، خالي الذي ترك امتحانات البكالوريا في ١٩٦٧ ليتدرب على السلاح ويدخل تل أبيب محرراً، حسب روايته. لم أكن أفهم عاطفياً ماذا يقصد لأن الأمر لا يعنيني ولا يعني جيلي، تعبير «جيل الهزيمة» كان جزءاً من عدّة، حاولنا تملّكها لاحقاً لدخول عالم الكبار المثقفين وكانت تترافق غالباً مع قراءة سريعة في «حفلة سمر من أجل ٥ حزيران» لسعد الله ونّوس. وفقط! هذا كل شيء.

اليوم أصبح لي «هزيمتي»، ولكنها مختلفة. فيها الكثير من السكينة والهدوء، نعم. هزيمة أن أشهد على كل هذا الموت ومن بين أنواعه الموت تحت التعذيب. الموت تحت التعذيب وأنا عاجزة تماماً. حزن مهول ولكن السكينة عميقة جداً لأن هزيمتنا ملموسة ومعاشة وحقيقية، هي سكينة «هكذا هي أمور الكون فتتدبروا»، راحة من تمثل تجربة كونية في الإنسان لا يهم بعدها إذا غادر أو أرجأ رحيله متقاسماً الموت مع من بقي. بعد هذا الضرب من الهزائم الحقيقية سيكون هناك بدايات جديدة. متأكدة.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤
يوميات دمشقية ٢٠١٤

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.