الرسائل التي كتبها الشاب عمران القطان بين شهري تموز/يوليو وكانون الأول/ديسمبر ٢٠١٢، وأبقاها في منزله، الذي غادره على حين غرة، ولم يعد إليه حتى الآن. صادفتها، مكتوبة بقلم حبر جاف داخل دفتر بغلاف كحلي، أغلب أوراقه بيضاء، فوق بسطة لبيع الأغراض المستعملة والجديدة في شارع إسكندرون، مركونة جانب أشياء أخرى كسبحات وقداحات... منحني إياها البائع ع «البيعة»، بعدما اشتريت منه مصباح كاز، وحزمة من الشموع، وشاحناً ضوئياً.
الرسالة الأولى
قررت تجديد ديكور محلي لبيع الألبسة النسائية الجاهزة في حي «الهلك»، بعد أن توفرت لي فرصة شراء ديكور كامل من محل للألبسة في حي «صلاح الدين»، علمت فيما بعد أن صاحبه قد انضم لـ«الجيش الحر». قررت نقل الديكور في مساء يوم الخميس بمساعدة صديقي المجازف، الذي أقنعني بضرورة نقل الديكور كاملاً، في «حملة واحدة» معللاً ذلك، بعدم استطاعتنا دخول حي «صلاح الدين» في يوم الجمعة، حيث تجري التحضيرات الكبيرة للتظاهرات، بحماية المسلحين.
لن أنسى طريق عودتنا، حيث كانت الطرقات مغلقة بالحجارة وحاويات القمامة، وتجمع عشرات الشبان في مجموعات في الطرقات وزوايا الشوارع، مطلقين الكلام العلني المعارض للسلطة، وهو ما لم أكن أسمعه في منطقة سكني في حي «الهلك» إلا بين الناس المتواثقين. الشعارات تملأ الجدران وعلم الاستقلال الذي اعتمد علماً للثورة يرفرف في كل مكان.
أنهينا تحميل الديكور ومضينا. في طريق العودة جمد الدم في عروقنا، ونحن نشاهد الحملة الأمنية والحافلات التي تحمل المسلحين وسيارات الدفع الرباعي. مما اضطرنا إلى تغيير الطريق، وسلوك طرق فرعية كنا نجهلها، لولا إرشاد صديقي للسائق.
فاقت مبيعاتي التوقعات، بعد تركيب الديكور الجديد، وتعبئة المحل بالبضائع الجديدة التي اشتريتها. أربكتني نقاشات الزبائن، المتسمة بالتوتر، وتترافق على الدوام بتبادل التهم والشتائم والتخوين، وخشيت دوماً الانزلاق إلى مشاركتهم هذه «النقاشات».
برغم ذلك الوضع شديد التوتر، الناس في انتظار وترقب، الأسواق التجارية في حالة عمل كثيف على غير العادة قبل شهر من رمضان ــ الذي صادفت بدايته في أواسط تموز\ يوليو ٢٠١٢ ــ يتحدث الناس عن خطة للجيش الحر بنقل المعركة إلى المدينة، والأغلبية لا تريد تصديق ذلك. برغم ذلك يتحضر الأهالي لأيام يعتبرونها سوداء، لأنهم سمعوا بممارسات الجيش والشبيحة في المناطق التي دخلها الجيش الحر في الريف الشمالي، وعجز عن حماية أهلها بعد اضطراره للانسحاب، وتركهم يواجهون مصيرهم.
مزاج الأهالي من غير المهاجرين الريفيين، يميل إلى عدم دعم أي تغيير، ويعتبره ضرباً من المجازفة، التي لا تحتمل عقابيلها، قد يعود ذلك إلى الترسبات السلبية، لتجربة الصراع المسلح ١٩٧٩-١٩٨٢ بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة، ونتائجها التي امتدت لبعد ذلك.
تتوسع التظاهرات في تشييع الشهداء في المناطق التي أغلب سكانها من أصول ريفية ــ صلاح الدين والصاخور ــ ووصل عددهم إلى عشرة آلاف. وبدت الاستجابة مقبولة لدعوات إضراب الكرامة ــ في المناطق الشعبية، كان للخوف دور في ذلك، ربما لأن المسلحين الملثمين الذين كلفوا بنقل فكرة الإضراب إلى أصحاب المحلات، نقلوها بصيغ فيها توعدات تهديدية وعقابية... ولم يستجب أصحاب المحلات لطلبات دوريات الأمن التي طالبتهم بضرورة فتحها، متذرعين بعجزهم عن حماية أنفسهم من المسلحين الملثمين.
الرسالة الثانية
سمعنا أصوات قذائف، لم نعتد سماعها فيما مضى، حددنا جهتها بخبرة السكن الطويل في الحي، ولم نتيقن مما حدث. تهامس الأهالي عن وصول مقاتلي «الجيش الحر» من الريف وخوضهم معارك قاسية مع القوى الأمنية، تطورت لتتحول مع قوات عسكرية مدعومة بالدبابات. رأيت في الصباح آثار جنازير الدبابات على الإسفلت، وسمعت من شباب الحي عن سيطرة «الجيش الحر» على حي «هنانو» بالكامل. رأيت الخوف في عيون الناس، وهم يخشون ردة الفعل على هذا التقدم العسكري. شاهدت أثناء نزولي إلى وسط البلد، دورية أمنية، تدير أمور سير السيارات والحافلات في تقاطع «دار المعلمين» بحي «بستان الباشا» وكأنها إعلان شكلي عن وجود السلطة. كانت وجوه رجال المخابرات، مرتبكة على غير عادتهم.
في مساء يوم الرابع من رمضان، سمعنا انفجارات قذائف الهاون لأول مرة، خفنا جميعاً، الكبار قبل الصغار، وأجهش الأطفال بالبكاء. باشر الأهالي باصطناع الاحتياطات الوقائية، كتصليح الأقفال وزيادة عددها، زيادة عدد الأبواب... أصبح الحي في فوضى عارمة، انتشرت عصابات السرقة، ولم نعد نشاهد «الصبايا» في الشوارع بعد أول المساء.
بعد أول قصف للهاون، الذي بدأ مساء، صرنا نشاهد حالات النزوح، وبتنا نتذكر صور الفلسطينيين التي كنا نراها في أفلام السينما، الذين نزحوا عن أرضهم وبيوتهم. بدأ الأهالي في الواحدة ليلاً بالهرب من المنطقة بسياراتهم، ومنهم من هرب بسيارة جار أو صديق، حتى لو كانت «سوزوكي» أو «بيك آب».
رجال يحملون أسطوانات الغاز، مخدات وفرشات للنوم وأواني طبخ، وحاجات أساسية أخرى تكفيهم للعيش المؤقت، ربما أياماً قليلة يقضونها في قراهم، ويعودون حالما تنتهي الأزمة. كانت معظم قرى الريفين ــ الشرقي والجنوبي ــ هادئة وبعض من قرى الريفين الشمالي والغربي، وبشكل خاص منطقة عفرين وقراها.
تناقشنا في أسرتنا بموضوع الرحيل، وقررنا التريث لامتلاك معظمنا محلات تجارية، لكننا جهزنا أغراضنا الضرورية، لنكون على استعداد للمغادرة في أقل من ساعة. علمنا من شباب حينا، أن حزب العمال الكردستاني، قد طلب من الأكراد الرحيل، ووفر لهم حافلات كبيرة، لنقلهم إلى عفرين وقراها. سافرت الشابة الكردية التي تساعدني في العمل، وبقيت وحدي، وهي مناسبة لأقول إن أعمالي وأعمال إخوتي قد توقفت بالكامل.
نقلت في المساء، كل أغراضي الهامة إلى بيتي في حي «الميدان» الذي يبعد عن بيت أهلي اثنتي عشرة دقيقة، سيراً على القدمين، لقناعتي بأنه في منطقة آمنة، ومحمية بتنوعها الديني والعرقي.
صحونا بعد يومين، على حواجز جديدة لـ»الجيش الحر» في منطقتي «الحيدرية ــ الإنذارات» ومن اللافت أن هذه الحواجز لم تتدخل بأي شيء، بعد ذلك بدأنا نرى أسماء الكتائب المشاركة في الاقتحامات العسكرية، مكتوبة على الجدران، منها كتائب «الفاروق» من حمص. وبعد يوم ظهر تمدد جديد، من دون أي اشتباك، نصب حاجز عسكري لـ«الجيش الحر» بين حيي «الهلك التحتاني» و«الهلك الفوقاني»، وبدأت التظاهرات تكبر، محمية من مسلحين ملثمين، وتوفرت لها تغطية على قناة «الجزيرة مباشر». وتوقف بعض المتظاهرين أمام منازل شبيحة وعملاء للمخابرات، معروفين في الحي، وصرخوا عليهم بأسمائهم، بعدها بأيام فر بعضهم إلى مناطق سيطرة السلطة، وسلم آخرون أسلحتهم لـ«الجيش الحر» وانضموا إليه.
لكن بدأت بالمقابل، مداهمة بيوت أناس لا علاقة لهم بالشبيحة، أو غير معروفين بدعمهم للنظام. اعتقل شاب على علاقة متينة بالعمل الثوري الميداني ودهمت بيوت شبان آخرين على علاقة بالثورة، وحرنا في اجتراح إجابات، أو تبرير هذه الأفعال.
استمرت رمايات القذائف على الأحياء التي أضحت تحت سيطرة «الجيش الحر»، عملنا على إسعاف المدنيين المصابين، واجهتنا مشكلة عدم وجود أي عيادة مفتوحة، لقد غادر جميع الأطباء الحي.
فاجأنا تحوّل أعداد كبيرة من الشبيحة إلى «الجيش الحر»، وحين طلبنا توضيحاً من قادة الكتائب، كان جوابهم «بارودة معنا، أحسن من بارودة علينا».
جرت في التظاهرات عمليات تهميش المتظاهرين من غير التوجه الإسلامي، ومنع رفع اليافطات التي تطالب بالإفراج عن المعتقلين، من ذوي التوجه الديمقراطي المدني، واستبدلت بيافطات ذات طابع ديني بتحريض طائفي، وانخفض عدد رايات الاستقلال التي اعتمدت كرايات للثورة، واستبدلت بالرايات السوداء. وأثار هذا الموضوع الجدال، وتطلب حله اجتماعاً في أحد المساجد، وهذه أول مرة نذهب إلى المسجد للقاء والحوار، حيث اعتدنا أن تكون اللقاءات والحوارات في بيوت النشطاء، أو أماكن عملهم.
لمسنا هناك خضوع عناصر «الجيش الحر» إلى رجل ذي ذقن طويلة، مجهول في الحي، ناداه الجميع: شيخي. أنهى الشيخ النقاش بحزم: هذه اليافطات، هي ما يجب أن يكون، وهي ردنا على أفعال النظام الطائفية، هذا ما يريده الشعب، فهو في غالبيته سني وإسلامي. وحين جادلناه بالفرق بين المسلم والإسلامي، كاد الجدال يأخذنا إلى معتقل، أعده «الجيش الحر» للشبيحة.
أصبحنا غرباء عن أصدقائنا، وباتوا يتحدثون معنا بغير الكلام الذي كنا نتبادله قبل أسابيع. أما صغار السن، فلم تنفعهم نصائحنا، وما عادوا يسمعون، إلا لمن يدفع بهم بكلام عاطفي، واصفاً إياهم بالأبطال ورجال الثورة. وأضحى من واجباتنا تعليمهم عدم كتابة كلمة الحرية على الأرض، بل على الجدران، وكتابة الشعارات دون أخطاء إملائية، قد تعبث بمعناها.
صرنا عدداً بلا عدة، ولم نعد ندعى لأي جلسة، كي لا نعكر صفوها واتساقها. واكتشفنا متأخرين، أننا قليلو العدد وغير منظمين، وأننا نعيش في جزيرة شبه معزولة وتزداد عزلة، ولا تعني هؤلاء جميعاً. اعتزل الكثيرون وانسحبوا، وأرخى ذقنه من أراد التكيف مع المزاج السائد.
الرسالة الثالثة
تمدد «الجيش الحر» وأقام حاجزاً جديداً قرب مشفى «زاهي أزرق» المعروف شعبياً بـ«مشفى الحميّات»، الأهالي مازالوا على نزوحهم، بسبب من ازدياد القصف واستمراره، وبعد أن بوشر باستخدام الطائرات العمودية والنفاثة، في قصف حيي «هنانو» و«الإنذارات»، سمعنا من أصدقائنا، بتوسع «الجيش الحر» في الجهة الجنوبية من المدينة، ووصل إلى أعماق حي «صلاح الدين». شاهدنا لأول مرة مصابين وشهداء في صفوف «الجيش الحر» خلال المعارك التي خاضها في حي «بستان الباشا» وتمكن من التقدم وصولاً إلى الطريق الرئيس، عند «دار عجزة الأرمن» والسيطرة عليها، وأقام حاجزاً في هذا الشارع ذي الأهمية الإستراتيجية، بعد أن قام الجيش منذ زمن بإغلاق الطريق «الدائري الشمالي» من أمام فرع المداهمة.
أصبح عملنا نهارياً فقط، ونزح المزيد من الأهالي، بقيت مع أسرتي في حالة ترقب وخوف، حتى سقطت قذيفة قرب بيتنا، وتطايرت شظاياها إلى الشرفة، وحين قمنا لتفقدها، سقطت قذيفة أخرى. نزلنا جميعاً إلى الطابق السفلي، وقررنا دون كلام كثير، النزوح في أول الصباح نحو القرية.
في الطريق إلى قريتنا، أوقفنا حاجز عسكري في قرية الزهراء، (الزهراء ونبل قريتان شيعيتان، في ريف حلب الشمالي) رفع عليه العلم السوري وعلم حزب الله، عصب مسلحوه جباههم بأنشوطات صفراء كتب عليها «حزب الله». فتشوا السيارة وتأكدوا من البطاقات الشخصية، طلبوا منا بعدها متابعة الطريق. لا أعرف كيف سيكون تعاملهم معنا، لو كنا من قرى «عندان ــ بيانون ــ ماير» التي كانت أول من بدأ النشاط الثوري في ريف حلب، واستمر به.
الرسالة الرابعة
تركت القرية بعد عدة أيام، وعدت مع أخي إلى الحي، لنتفقد بيتنا ومحلاتنا. بدأت أتقصد تطويل طريقي بين بيتي وعملي، لأراقب «شباب الجيش الحر»، أهم ما يميزهم الفقر، حيث الغني من امتلك حذاء، أو ثمن علبة مرتديلا، كان ثمنها ٣٥ ليرة وأصبح ثمنها اليوم ١٢٠ ليرة، يستمعون إلى الأغاني الثورية من موبايلاتهم الرخيصة، لا يحتكّون مع السكان، يجلسون في الشوارع أو أمام المدارس في مجموعات.. اضطررت ذات مرة للصراخ عليهم «تفرقوا يا شباب، قاعدين جنب بعض والطيارة فوقكم عم تضرب». كنا نسرع للمساعدة والإغاثة، حين نسمع صوت سقوط قذيفة هاون، وتعلمنا الانتظار لخمس دقائق قبل الركض نحو مكان سقوطها.
استيقظت على صوت القذيفة المدوّي، أشعرني بأنها ليست هاون، وتبيّن أنها صاروخ قصفت به الطائرة مدرستي الإعدادية، وفي المساء رأيتها عبر تقرير «قناة الجزيرة»، حيث وقفت المراسلة في ذات المكان الذي كنت أقف فيه كل صباح لتحية العلم مع الطلاب. لم تعد تسعني الدنيا، ولم يعد ينفعني البكاء، هرعت من منزل أهلي إلى الشارع لأبكي كما أشاء.
تقدم «الجيش الحر» في حي «بستان الباشا» منطقة «مسبح العروبة» بعد اشتباكات متعددة، وسلسلة من عمليات الكر والفر، غادر بعدها ما تبقى من سكان الحي، وأصبح الدمار أكبر من أن يوصف بكلمات، تدمرت مبان بطوابقها العالية. يواجه مقاتلو «الجيش الحر» إغارات الطائرات برشقات من بندقيات «الكلاشنكوف».
الرسالة الخامسة
خرجت ذات يوم من شهر أيلول/سبتمبر ٢٠١٢، من بيتي في حي «الميدان»، لألتحق بسهرة مع أصدقائي، ولم أعد إليه إطلاقاً بعد ذلك، بعد أن وصلت الاشتباكات إلى حارتي، وسقط فيها أحد الأصدقاء الذي لم أكن أعرف اسمه الحقيقي. قبلها سمح لي حاجز «الحرس الجمهوري» بالدخول إلى بيتي مرتين، نقلت في المرة الأولى بمساعدة صديقي بعض الحاجيات البسيطة. أما في المرة الثانية، فلم أتعرف على حارتي أبداً. كانت شبه مدمرة، السيارات محروقة، وآثار جنازير الدبابات فوق سطح حديدها، شظايا الزجاج على الأرض وفي كل الزوايا، الشرفات ملوية على الأرض، المغاليق المعدنية للمحلات مفتوحة، بفعل ضغط الانفجارات، الأبواب الخارجية للعمارات وأبواب المنازل، كلها متهاوية على الأرض ومحطمة.
دخلت المنزل مع صديقي، وجدت الحاسوب في مكانه، حمّلت على قرصه الصلب تعب عشر سنوات من الأرشفة الموسيقية، وكل ما يخصني من صور وفيديوهات. حملته مع كل ما استطعت حمله من الأسطوانات الأصلية، كل شيء في البيت مدمر، الطلقات فتتت حائط الصالة، وباب الشرفة...
في طريق عودتنا، انتبهنا إلى مكان يجمعون فيه جثث القتلى.
حاولت العودة للبيت مرة أخرى، لكني منعت بكلمات حاسمة من المسؤول عن الحاجز، وكان برفقتي جاري وزوجته، ورأينا جميعنا، كيف تتم عمليات إنزال أثاث المنازل وأغراضهم وينقل بسيارات الشرطة وسواها إلى أماكن لم نتبينها، وما يتبقى من أثاث خشبي يكسره العساكر ليتدفأوا عليه في الشتاء.
لم يعد عندي بيت، ما عملت بدأب على تأسيسه وفرشه خلال عشر سنوات، فقدته بأيام. أتذكر الآن كل التفاصيل الحميمة التي كانت ترافقني باختيار الملاعق والصحون والكاسات، لوحات الحفر على النحاس، الستائر المخملية، النراجيل بأحجامها المتفاوتة، صورتي مع مرسيل خليفة، ليتر النبيذ البلدي الذي حملته من بلدة دريكيش، واحتفظت به لليلة زفافي. ملمس الحوارات الصاخبة والرائقة التي احتضنتها جدرانه، وذاك الملمس الحنون في أواخر الليل، بعد ان تطفئ كؤوس النبيذ الخلايا الهائجة.
وأخيراً رسم وحدد المحاربون الحدود، بين مناطق وأحياء مدينة حلب، خلنا أنها مؤقتة، ولن يطول بها الزمن إلا أسابيع على الأكثر، بستان الباشا/الشيخ خضر/الصاخور. المتجهة جنوباً نحو صلاح الدين/كاستيللو/السجن المركزي/مشفى الكندي/الدويرينة/بستان القصر/كرم الجبل.
الرسالة السادسة
هي ليست هموماً صغيرة، لأنها أساس حياتنا في المدينة، وسبب جليّ لبقائنا في بيوتنا وفي متابعة أعمالنا التي ليس لنا سواها كمصدر للدخل وبالتالي للمعيشة.
جرى إخراج مقسم حي «الهلك» من الخدمة، وسرقت معظم كابلاته، من قبل إحدى الكتائب المقاتلة، وسرق قبل ذلك المازوت الموجود، الضروري لتشغيل المولدة الموجودة في المقسم ذاته.
تمت سرقت كل الكابلات الفرعية، دون أن ينتبه أي من سكان الحي، أما حين باشر أعضاء الكتيبة في سرقة الكابل الرئيس، وبدعم من العربة التي تنتصب عليها «الدوشكا»، من اعترض ووجه بتهديد مباشر من السارقين، وجرت بعدها عمليات تخريب المجموعات الفرعية ونهبها، رغم انعدام أي قيمة مالية لمثل هذا الفعل اللصوصي، إلا انه حصل.
انقطعت بعدها الكهرباء عن حي «بستان الباشا»، ترافق ذلك مع هجوم «الجيش الحر» على الحي، وتبين لنا، فيما بعد بالتواصل مع أصدقائنا وأقربائنا، أن الكهرباء قطعت عن كل أحياء المدينة.
بعد نزوح معظم أهالي الحي عن بيوتهم، قامت الكتائب المقاتلة بسرقة الكابلات الواصلة بين الأعمدة في الطرقات، وسرقة محتويات البوسطات التي تنظم تدفق الكهرباء إلى المنازل والورشات. لم تقدم أي كتيبة على إصلاح الكهرباء، كل مبادرات الإصلاح كانت رهينة قدرات من تبقى من الأهالي.
واستكملت المشكلة بالمياه، وتوضح ذلك لكل من تبقى في الحي، حين وصول الشاب المكلف بتشغيل المضخة، وهو من أعضاء مجلس الحي، وجد أمامه عناصر كتيبة «أبو محمود الحربلي» يقومون بقص كابلاتها بمقصات كبيرة، حملوها معهم، وربما سرقوها من أحد محلات تصليح السيارات المنتشرة في الحي. صاح وهو غير مصدق ما يرى «إش عم تعملو؟» فطردوه بتهديد السلاح، فما كان منه إلا الاستعانة بأهل الحي، بعد أن صعد إلى مئذنة الجامع ونادى «يا أهالي الهلك، الحقوا مضخة المي، المضخة عم تنسرق» تجمع الأهالي أمام الجامع ونزلوا باتجاه المضخة، دون أن يحملوا أي سلاح، حتى عصا خيزران، وكنت معهم، وحين المرور كنا نطالب الناس بأن ينضموا إلينا لنكون أكثر عدداً.
وصلنا إلى المضخة، ونحن أكثر من خمسمائة شاب، ترافق وصولنا مع وصول عناصر جديدة من كتيبة «أبو محمود الحربلي» بعتادهم الحربي الكامل بما في ذلك رشاشات الـ«بي كي سي». قاموا بتلقيم الأسلحة لإرهابنا، وطالبونا بمغادرة المنطقة فوراً. رفضنا طلبهم بالإجماع، ودار بيننا حوار غير ودي، حيث جرى اتهامهم بشكل مباشر بالعمل لسرقة المضخة، وشراكتهم مع أصحاب صهاريج المياه. برز من بينهم أحد العناصر الملتحين وصاح من فوره «أنا سرقت المضخة...خرّوها.. روّحو جيبو الهيئة الشرعية» وقال آخر «أنا بعرف العرصة اللي راح ع الجامع وجمع ها لكلاب» وتابع بشراسة «بكرا بدي رشو إذا شفتو هون».
صادرنا المقص الكبير، واحتجزناه كدليل على واقعة السرقة، حاولوا استعادته فرفضنا، وحين هددونا بالسلاح، أخرج أحد شبان مجلس الحي قنبلة يدوية، وهدد بتفجيرها بالجميع.
حاولوا تهدئة الأمور بوعود تكفلهم بحماية المضخة، لكن شباب مجلس الحي ذكروهم بمحاولات سرقة الكابل الرئيس، الذي يغذي المضخة.
أخيراً قال كبيرهم «نحنا هون الدولة، ونحنا منحمي المضخة». رددنا، أن الدولة وفرت المضخة، ولم تقم بسرقتها لحرماننا من المياه. انسحبنا بعدها بعد طلب من شباب مجلس الحي، وقررنا عقد تفاهم بين مجلس الحي وقائد الكتيبة، واتجهنا إلى الجامع منتظرين الانتهاء من الصلاة للبدء بمظاهرة.
أرسلوا من هددنا بأنهم سيطلقون الرصاص ضد كل من يتظاهر ضد «الجيش الحر» وسيقطعون رجليه. قررنا عدم التظاهر، والعودة إلى بيوتنا.
في آخر المساء ونحن نتابع الأخبار من التلفزيون الرسمي، بث خبراً مطولاً عن الوقائع التي حصلت معنا في الحي، مع إضافة الكثير من المبالغات عليها، وتساءلنا كيف وصلت هذه الأخبار إلى هناك ومن أوصلها بهذه السرعة.
مرت بعد هذه الوقائع أيام عصيبة على الحي، القذائف لا تتوقف وتزداد غزارتها، وتتعمق نتائجها بالتدمير والهجرات المتواصلة نحو الريف ومناطق سيطرة الجيش. أكمل ذلك مشاحنة حصلت أمام باب المسجد، بين عنصر من إحدى كتائب «الجيش الحر»، بعد سؤاله المصلين عن خادم الجامع ومسؤول إذاعته، وعندما حاولوا تبين السبب، أجاب: لضرورة تبليغ أهالي الحي بالمغادرة. رفض الناس الأمر بشدة، واحتدّ الكلام مع العسكري، فذهب وأحضر زملاء له مع سلاحهم.
ببساطة، رفض الناس القرار، وأعلنوا بوضوح عن رغبتهم البقاء في بيوتهم، وتمسكهم بها، لأنهم لا يملكون أي مكان ينزحون إليه، يحقق لهم الحد الأدنى من الكرامة الآدمية، ولو توفر لهم ذلك لغادروا قبل أن تطالبهم الكتائب بذلك.
شعر عناصر الكتيبة بالصعوبات التي تحول دون تنفيذ قرارهم. لكننا لم نتوقف عند حد المطالبة بإيقاف قرار المغادرة، بل تجاوزناه إلى «ضرورة إمدادنا بكل السبل التي تجعلنا متمسكين بالحياة والبقاء، من غذاء وماء ودواء بالمجان، وببدل راتب كتعويض عن افتقاد معظمنا للدخل، أو الدخول المتواضعة التي لا تتحقق إلا بالمعاناة والمجازفة بالحياة. وأخيراً، أكدنا لهم أننا من يدافع عنهم، ويحميهم، ويدفع ضريبة ذلك». لم يقتنعوا بكل هذا الكلام وغادروا مهددين.
أرسلنا وفداً إلى مقر قيادة «أمن الثورة» لشرح الحالة، فأرسلت معنا سيارة ومجموعة عسكرية، طلبت فور وصولها من عناصر الكتيبة، ضرورة بقاء الناس في الحي.
يعلم الناس أن وراء أمر المغادرة رغبة في نهب البيوت والمحلات والورشات، كما حصل في حي «بستان الباشا» حيث لم يبقوا وراءهم حتى الأبواب الخشبية وأسلاك الكهرباء الداخلية..
انتهت موضوعة قرار الإخلاء، وبقي من تبقى من الأهالي في بيوتهم، كما توزعت الكتيبة على مقراتها المستولى عليها، رغم مطالبة الأهالي بضرورة مغادرتها المكان، كنوع من الحل الوسط، لإبعاد العسكريين عن المدنيين، علها تساهم في اتّقاء الشرور المتواصلة، الناتجة من الاحتكاكات اليومية.
جرت بعد أيام عمليات تلغيم كل الأبنية التي تشغلها الكتيبة، ليس خوفاً من هجوم فجائي للجيش، بل من مخاوف أخرى مثل مداهمة الهيئة الشرعية هذه المقرات لاعتقال مطلوبين، أو، مداهمة كتيبة أخرى للسيطرة عليها، كأحد مظاهر صراع نفوذ بين الكتائب المقاتلة.
اعتقل صديق بعد عودته من تركيا، بسبب اعتراضه على تلغيم المبنى الذي يسكنه. هذا الاعتراض كان سبباً كافياً لاعتقاله، بتهمة جاهزة: شبّيح. ولم يطلق سراحه إلا بتدخل أحد القادة الكبار في «الجيش الحر»، بسبب معرفة شخصية أو صلة قرابة.
الرسالة السابعة
هو رجل من ريف إدلب، قائد إحدى الكتائب المرابطة على معبر «الشيخ رز» الذي يربط بين حيي «الهلك» و«الشيخ مقصود». شاهدته لمرة واحدة، حين طلب الأهالي من إذاعة جامع عمر بن الخطاب، للاجتماع. طلب الشيخ الحضور لمناقشة مشكلة المياه وسبل حلها، لأجل كسب أكبر عدد من الحضور.
بدأ كلامه بالتهديد والوعيد لجميع الأهالي، وتحدث عن مخبرين وعملاء للنظام، ينوون تنظيم مظاهرة ضد «الجيش الحر» ويتذرع هؤلاء العملاء بأن قذائف الهاون التي يطلقها «الجيش الحر» على «مناطق النظام» قد دفعت النظام للانتقام بإطلاق صاروخ أرض ــ أرض على الحي عصر ذلك اليوم. حيث دمر الصاروخ طابقين من إحدى العمارات الكبيرة، وتسبب بأضرار في كل النوافذ ومغاليق المحلات وأبواب العمارات..
تحدث الشيخ «عبد المجيد» بنبرة ضابط مخابرات، وكأنه متقن لصياغاتها وتعابيرها، شعرنا بأننا نحضر درساً في التوجيه السياسي، في أحد معسكرات الجيش، أثناء أداء الخدمة العسكرية الإلزامية. وأبلغنا أن المعركة التي تخاض الآن ضد السلطة، هي المعركة الشرعية الوحيدة، ولا يقبل لأحد تعكير صفائها، مهدداً ومتوعداً الأهالي بالاعتقال والأقبية، والاعتقال مجدداً في حال الإفراج بواسطة تدخل كتائب أخرى.
والغريب كان إبلاغنا تكليف أحد المشبوهين بعمالتهم للسلطة، والمعروف عن عمله كشبيح، بالمكتب الأمني بالحي وما يتبع إليه، وأبلغنا بعد ذلك عن تعيين قائد جديد للعناصر في المعبر «معبر الشيخ رز».. ولم يبق لنا إلا أن نردد «بالروح بالدم نفديك يا شيخ..» بعد إعلان هذين البلاغين، طلب من أتباعه إحضار أحد الموقوفين وذكره بالاسم، فغادرت مجموعة من المسلحين، لتعود ومعها شاب في العشرين.
كان هذا الشاب قد ذهب مع مجموعة شبان آخرين، إلى مقر الكتيبة، طالباً منهم عدم إطلاق القذائف، لأنها تصيب المدنيين المقيمين في الطرف الآخر من المدينة، وتتسبب بالرد العنيف من السلطة، يكون المدنيون هم ضحاياه هنا.
وقف الشاب مرتجفاً، خفيض الرأس. وحين طلب الشيخ منه الكلام، تحدث بما يشبه الهمس «ذهبت إلى مقر الكتيبة، لأحدثهم في نقطة واحدة فقط، هي ضرورة مرافقة من يريد زيارة بيت غير بيته، للتأكد من عدم حدوث سرقة، ولم آت على ذكر القذائف على الإطلاق».
رد الشيخ عبد المجيد على الفور «خذوه، عليك التبليغ عمن ذهبوا معك إلى مقر الكتيبة للتذمر من القذائف». وختم بإبلاغنا أنه «لم يعد مسموحاً، من الآن فصاعداً، إرسال النساء إلى الأفران، وسيتم اعتقال أي امرأة تتحدث ضد الجيش الحر».
تكرم بعدها الشيخ بالسماح لنا بالتحدث، فتحدث أحد الرجال، أحد أعضاء مجلس الحي، عن ضرورة عدم التعرض للمدنيين، وعدم حمل السلاح في المناطق المكتظة بالسكان كالأسواق، وختم بأن كتائب «الجيش الحر» في أحياء أخرى لا تقبل مثل هذه الأفعال، التي تخيف الناس وترهبهم. كان رد الشيخ عبد المجيد «نحن لا نأتمر إلا بأوامر شيوخنا وقادتنا».
وطالب شاب تركماني، بضرورة توفير الحاجات الأساسية للناس، مثل أسطوانات الغاز المنزلي. رد الشيخ «بأننا في معركة مع العدو، وأنت تتحدث بتفاهات».
سمعنا بعد ذلك بعدة أشهر، باعتقال الشيخ عبد المجيد، من قبل الهيئة الشرعية، لكن لم يطل اعتقاله، وخرج ليعمل مع مجموعات من الكتائب المقاتلة، إلى أن وجد مقتولاً في صباح أحد الأيام.
لم يتقبل الناس قط شبيحاً سابقاً يرتدي بزة «الجيش الحر» ويتحدث باسمه، وأصبحت مع الزمن صفة السارق، أول ما يتبادر لذهن المواطن عند ذكر «الجيش الحر». وعندي أمثلة كثيرة في الحي، منها مشاهدات الناس لأحد عناصر «الجيش الحر» وهو واقف على حاجز معمل «عوارض السكك الحديدية»، مع قوات الجيش والشبيحة، ينكل بأهالي الحي العابرين من هناك، وكان قبل ٢٤ ساعة يعمل في صفوف كتائب «الجيش الحر». إضافة إلى تقبلهم أعداداً غير قليلة من «الزعران»، قضوا معظم أوقاتهم في التعرض للفتيات ومضايقة طالبات المدارس. بهذه الممارسات وسواها، عجز الجيش الحر عن تقديم نفسه كبديل حقيقي للسلطة.
الأوراق التي أبقاها المحامي علي الرفاعي، قبل مغادرته مع أسرته إلى القاهرة أواخر شتاء ٢٠١٤
نحن في أماكن آمنة نسبياً، فلا يمكن مقارنة الهاونات وقذائف جهنم، بالبراميل وإغارات الطيران الحربي، وغدونا كما سوانا أسرى المآلات الحربية للصراع السياسي.
هاجر معظم أصحاب الرساميل الكبيرة من بداية الأزمة، مبقين على مجموعة من موظفيهم الموثوقين، ليتابعوا أعمالهم، قبل أن يغلقوها نهائياً، لتعثّر آليات العمل وفقدان الأمان، متسببين عن غير قصد بزيادة العاطلين من العمل. تبعهم أغلب من له علاقة قرابة أو عمل أو دراسة في بلد عربي أو أجنبي، مما سهل له ولعائلته أسباب الهجرة، وتبعهم كذلك الشبان، من المتخرجين الجدد في الكليات الجامعية، كمحاولة لإيجاد أفق جديد لحياتهم. وهناك من قرر الهجرة، نحو الأماكن الأكثر أماناً في المدن والقرى السورية، أو العودة إلى مسقط الرأس في القرية أو المنطقة التي كانوا قد هاجروا منها إلى المدينة. نزيف كبير في العقول والخبرات والرساميل، سيستغرق تجاوزه في المستقبل، وقتاً طويلاً، في حال توفرت له شروط سياسية واقتصادية مناسبة.
ينقطع التيار الكهربائي لأيام، وأحياناً لأسابيع، وحين يأتي بعد انقطاعه، يأتي لساعات، محكوماً بظروف وشروط متعددة، منها سيطرة الكتائب المقاتلة على المحطة الحرارية، ومنشآت توليد الكهرباء على نهر الفرات، فضلاً عن الأعطال الناتجة من القصف والإشتباكات، وسرقة الكابلات الكهربائية الرئيسية. استعاض الناس بالمولدات المختلفة الأحجام، عن تغذية شركة الكهرباء، وصار لزاماً على مركز بيع بالتجزئة (سوبر ماركت/ألبان/لحوم) أو ورشة صغيرة أو متوسطة، مخابر التحاليل الطبية عيادات التصوير الشعاعي اقتناء مولدة للحفاظ على استمرار أعمالها وإبقاء بضائعه ومواده دون تلف.
تواجه مقتني المولدة الكهربائية، مشكلة تأمين الوقود ــ بنزين/مازوت ــ والزيوت المعدنية، فضلاً عن الأعطال الدائمة، باعتبارها من منشأ صيني، أو مراكز تجميع تركية أو إماراتية. مما يجعلها عرضة للأعطال الذاتية، يضاف إليها ضعف خبرة الناس بالميكانيك.
وإن كان المستخدمون الاستثماريون، يضيفون أكلاف عمل مولداتهم وتصليحها إلى أسعار البضائع أو الأجور التي يأخذونها، فإن الاستخدام المنزلي للمولدات، يفرض توفير دخل شهري إضافي، يتراوح بين ٣٠٠٠ و ٦٠٠٠ ليرة حسب حجم المولدة، وأسعار البنزين في السوق السوداء.
بدأت تنتشر ظاهرة المولدات الضخمة، من مستثمرين، لأجل تغذية البيوت بخطوط كهربائية، لقاء مبلغ ٨٠٠ ليرة للأمبير الواحد في الأسبوع، بمعدل تشغيل ست ساعات يومياً، والأمبير يكفي للإنارة المنزلية المحدودة، وتشغيل تلفاز وأمور بسيطة أخرى.
تصل المياه من خلال المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في المدينة، بمعدل ثماني ساعات كل ثمان وأربعين ساعة، في حال عدم الانقطاع التام للتيار الكهربائي، وفي حال حصوله، تنقطع المياه لثلاثة أو أربعة أيام متتالية. مما زاد أعباء الشرب والنظافة، وأنتج مهنة بيع المياه عن طريق الصهاريج، واعتُمدت تعليمات حكومية من المحافظة، تستوجب حفر الآبار في المساجد والكنائس والمشافي والحدائق للإسعاف في أوقات الانقطاعات القصوى.
أضحى الاعتماد على الغاز المنزلي بشكل أساسي لأجل الطبخ والتدفئة، ووزعت شركة الغاز الأسطوانة، في هذا الشتاء بسعر ألف ومائة ليرة، عبر لجان الأحياء والمختار، وفق نظام قوائم الدور، تدور خلال ثلاثة أشهر على الأغلب، والأسطوانة لا تكفي في هذه المدة، مما يدفع إلى شرائها من السوق السوداء التي تتراوح قيمتها فيها بين ٢٥٠٠ و٦٠٠٠ ليرة حسب قوانين العرض والطلب، المرتبطة بتأمين طرق الإمداد.
عانى الناس في شتاء ٢٠١٢ من فقدان المازوت بشكل كلي، إلا ما هو معروض في السوق السوداء، والكثير منه غير نقي، مزجه البائعون بأنواع من الفيول والنفط الخام، وتراوح سعر الليتر الواحد بين ٣٥٠ و٤٠٠ ليرة، كذلك حول الكثير مدافئهم إلى الحطب.
قامت لجان الأحياء مع بداية الشتاء، بتوفير حصة ٢٥٠ ليتراً لكل أسرة بقيمة ٦٥ ليرة لليتر الواحد، بعد إثبات مكان الإقامة ودفتر العائلة، بمن فيهم النازحون من المناطق الشرقية الذين استأجروا بيوتاً في المناطق الغربية. ما لوحظ، هو عجز أعداد كبيرة من العائلات عن دفع القيمة المالية لهذه الحصة، وعملوا من فورهم لبيعها بالسوق السوداء، رغم حاجتهم الضرورية إليها. والمازوت لم ينقطع في السوق السوداء بضعف سعره الحكومي، وأنتجت هذه العمليات فئة جديدة، تنضم إلى فئات أخرى من أثرياء الحرب، ومعظمهم لا يكتفي برفع السعر، بل بغش المنتوج بمواد أخرى، تسببت في الكثير من الحرائق والموت.
أما ما يخص البنزين، فتبقى في حلب الغربية خمس محطات وقود، تبيع البنزين للمواطنين، في ظل ازدحام شديد للسيارات، وبإشراف وحدات عسكرية متنوعة، تغلب عليها الشرطة المدنية. ويأتي الكثير من المواطنين من دون سيارات، مع عبوات بلاستيكية، لتعبئة البنزين، لاستعماله في تشغيل المولدات الكهربائية المنزلية. يصل الازدحام لدرجة الانتظار لسبع أو ثماني ساعات، للحصول على الحصة من البنزين، بسعر مائة وخمس ليرات لليتر الواحد.
يحمل التجمع الكبير أمام محطات الوقود، نسبة عالية من المجازفة، لكونه عرضة لرمايات الهاونات، وقذائف جهنم (أسطوانات الغاز المحشوة بالمواد المتفجرة).
انتعشت بشكل كبير السوق السوداء، وأثرى تجارها من الإتجار بالمازوت والبنزين والغاز والخبز واللحوم ومنتجات الحليب والأدوية الطبية. أي من كل ما يشكل حاجة حيوية لاستمرار الناس في حيواتهم. وتتوفر معظم المواد التي يفتقدها الناس في هذه الأسواق، وبأضعاف مضاعفة من سعرها الحكومي. والجميع يعلم ضمنياً، كيف تصل هذه المواد للأسواق وتتوافر على الدوام. ويلاحَظ الإنفاق الاعتباطي للأثرياء الجدد، المتواجدين على الدوام في المطاعم والمقاهي، والتي كان بعضهم يحلم أن يكون نادلاً فيها.
تولّت عدة منظمات دولية تزويد المدينة بالمواد الإغاثية، عبر تسليمها لمنظمة الهلال الأحمر العربي السوري، التي تضعها في مستودعات لتوزعها عبر مجموعة من الجمعيات الأهلية، تقاسمت فيما بينها جغرافيا المدينة. تعمل هذه الجمعيات ــ الهيئات عبر متطوعيها، للكشف على واقع طالبي المعونات الإغاثية، وتنظيم جداول بعائلاتهم، لتوزع لهم حصصاً شهرية من المواد الغذائية ومواد التنظيف والفرش والأغطية.
توفر الحكومة عبر المحافظة، الطحين المدعوم والمازوت والخميرة بالسعر الرسمي لأغلب المخابز، التي صارت تبيع الربطة المؤلفة من ثمانية أرغفة بسعر خمس عشرة ليرة، وتعاني هذه الأفران من الزحام الشديد، الذي يبدأ بوقوف الناس من أواخر الليل، أمام كوة الفرن المغلق، وتكلف مجموعات عسكرية بتنظيم الدور وضبطه، ويلاحظ وجود عائلات فقيرة امتهنت الاصطفاف بالدور بكامل أفرادها، ليبيعوه في ما بعد بأضعاف سعره، تعويضاً لافتقاد أربابها العمل. ويستغرق الوصول إلى دور الخبز عدة ساعات.
لم تعد ترد أغلب المواد الغذائية من أرياف حلب، التي تضررت محاصيلها الزراعية، وصعبت مهمة تصريف ما ينتج منها بسبب سوء أحوال الطرقات العامة، وشدة الاشتباكات.
توقفت معظم منشآت تربية الدواجن والأبقار، وأضحى إنتاج الحليب ومشتقاته، يعتمد على الحليب المجفف المستورد، وتصل هذه المواد عن الطريق العسكري العابر لبلدة «خناصر»، ولوحظ تضاعف أسعارها أربع او خمس مرات، عن أسعارها الحقيقية، وباتت تتوافر بشكل مقبول وبأسعار أقلّ من أسعار الشتاء الماضي ٢٠١٣، بعد تأمين طريق الإمداد المحمي من الجيش.
دخلت، لأسباب مختلفة، صناعة الملابس بأنواعها الداخلية والخارجية، في اختناقات حادة، أتت على معظم معاملها وورشاتها الكبيرة والمتوسطة، وبقيت الورشات الصغيرة، التي تمتلك فرصاً أكبر للمناورة. وبات الاعتماد على الملابس المستوردة شبه كلي، وترتبط أسعارها بالدولار، وأجور النقل ومكوس الجمارك، أو أجور المهربين. بدأت تنتشر، في مختلف أحياء المدينة، محلات بيع الألبسة المستعملة، والتي تلقى إقبالاً كبيراً، مع تساهل مديرية الجمارك ومديرية الصحة اللتين كانتا تمنعانها قانونياً.
يمكن اعتبار رواتب موظفي الدولة ومتقاعديها، الأكثر ثباتاً من عموم المداخيل. بينما تهاوى دخل جميع العاملين في القطاع الخاص على مختلف مستوياتهم (تجارــ صناعيون ــ حرفيون ــ أصحاب مهن علمية ــ عمال).
اعتمدت هذه الفئات على مدخراتها النقدية، التي أكلها الارتفاع الشديد في سعر صرف الدولار، الذي وصل إلى أرقام غير مسبوقة وغير متوقعة (٣١٠ ليرات سورية للدولار وعاد ليستقر نسبياً على ١٥٠ ليرة)، ومدخراتها العينية،من بيع الذهب والمجوهرات والمقتنيات الموروثة، كالسجاد والأواني الخزفية...مما يؤشر على مقدمات إنهيار هذه الفئة إلى الحضيض، مقابل صعود أثرياء الحرب، وتجار الأزمات، بخلفيات بعضهم الجنائية.
عادت جميع الدوائر الرسمية للنهوض بأعمالها، بعد تأمين مقرات جديدة ــ إضطرارية ــ وضمن أبنية غير مؤهلة بشكل تام، تعاني أغلبها من انقطاع الكهرباء والازدحام الشديد للمواطنين، ولجوء أغلبهم إلى مسيّري المعاملات المتعاملين مع الموظفين، الذين يتقاضون مبالغ مضاعفة لتسييرها.
تم نقل النازحين المقيمين في المدارس الحكومية إلى أحياء كانت قيد الإنشاء بمنطقة الحمدانية، وبقي قسم كبير من النازحين في المدينة الجامعية، وعاد بعضهم إلى قراهم. لوحظت حالة الارتياح العام لدى سكان الأحياء التي كانوا يتواجدون فيها، بعدما شكلوا عبئاً كبيراً عليها، ناتجة من اختلاف العادات والشطط السلوكي، وإزعاجات الحياة اليومية، مما تسبب في تغير المزاج العام الذي كان في حالة تضامن معهم في البداية ليتراجع مع مرور الوقت نحو حالات تشنج وعدائية.
بعد التغيب الجماعي لطلاب المدارس الحكومية عن مدارسهم، في العام الدراسي الماضي ٢٠١٢-٢٠١٣، التي خصصت كأماكن لإيواء النازحين من المناطق الشرقية والجنوبية، مما تسبب بمنع الدراسة فيها، باستثناء من توافرت لديه الإمكانات المالية لنقل أولاده إلى ما تبقى مفتوحاً من المدارس الخاصة.
تجاوز الطلاب في الصفوف الانتقالية، بعد خضوعهم لفحوص صورية معايير إستكمال انتقالهم للصف الدراسي الأعلى، وبعدما تم إخلاء المدارس الحكومية من النازحين، عاد الطلاب إلى مدارسهم لهذا العام ٢٠١٣-٢٠١٤، وبدأت معاناة أخرى، أبرزها عدم توفر الكتب المدرسية من مصادرها الحكومية، وقام تجار القرطاسية ببيع الكتب المدرسية بأسعار باهظة، نسبة لأسعار الكتب المدعومة حكومياً. أما المدارس الخاصة، فقد أمضت العامين الدراسيين الماضي والحالي بشكل طبيعي، ولم يلحظ ارتفاع في أقساطها، أسوة بالارتفاع العام للأسعار.
استمرت عملية التدريس في جامعة حلب، بغياب الاضطرابات الطلابية، مع انخفاض أعداد الطلاب لأقل من النصف، بسبب ارتفاع إيجار البيوت للطلاب القادمين من المحافظات الأخرى، وغياب السكن الجامعي الذي يشغله النازحون، والصعوبات البالغة في التنقل بين المدن والقرى مع تضاعف أجوره بما يقارب العشرين ضعفاً، وافتقاده الأمان. لوحظ كذلك التساهل النسبي في الامتحانات مع الطلاب.
ومع المعاناة الكبرى لدى المشافي في تأمين المازوت، لتشغيل المولدات الكهربائية، مع ندرته وارتفاع سعره، وغياب معظم شركات صيانة الآلات الطبية والنقص الشديد في قطع التبديل، بقي مشفيا الرازي والجامعة الحكوميان يعملان بطاقتهما القصوى. أما بالنسبة إلى المشافي الخاصة، فقد حافظ مشفى «القديس لويس» المعروف شعبياً باسم «فريشو»، على سويته العالية، واستمر المشفى الطبي العربي بالعمل، وأهم مزاياهما عدم انقطاع الكهرباء فيهما إطلاقاً، رغم الكلفة الهائلة لتشغيل المولدات. واستمرت عدة مشافي خاصة بالتوليد والجراحة النسائية بالعمل، ضمن شروط تقنين الكهرباء إلى حدود تمكين استمرار العمل.
وتأتي المعاناة الثانية للمشافي، بسبب هجرة أعداد كبيرة من الأطباء الثقات، الحاصلين على شهادات دولية عالية، وبرزت فئة جديدة من الأطباء، الذين لم يغادروا المدينة، وانتشرت شهرتهم حديثاً، ولوحظ عدم رفع هؤلاء لأجورهم، نسبة للارتفاعات الكبيرة في الأسعار، وحرص بعضهم على معالجة الفقراء مجاناً. أما بالنسبة إلى معامل الأدوية، فقد أغلق معظمها، بعد تعرضه للنهب أو فرض الأتاوات المنهكة، وعجز أصحابها عن توفير الأمان لعمالها وموظفيها.
يلاحظ ثبات معمل «أوبري» في العمل وعدم رحيل أصحابه، وتشهد الصيدليات افتقاد أعداد كبيرة من أدوية القلب والشرايين وبعض الأمراض المزمنة، وانخفاض فاعلية جرعات الدواء، وبات النقص يعوّض من مصادر غير محلية، مصرية على وجه الخصوص.
تعاني الأحياء من الاكتظاظ السكاني، بعد نزوح أعداد كبيرة للسكن فيها، وبرغم سفر وهجرة أعداد غير قليلة من سكانها، فأغلب البيوت مشغولة بعدة عائلات، يضاف إليها إشغالات المكاتب والأقبية والعيادات الطبية التي غادرها أصحابها. الطلب شديد على الإيجار مع ندرة لبيوت المعروضة، كذلك الإقبال على شراء البيوت والعقارات، رغم تضاعف سعرها عدة مرات، مع ندرة عروض البيع.
طرأ على الأخلاقيات العامة، تغيرات كبيرة وواضحة، وهو أمر متوقع في حالات الحروب والنزوح والفقر. أضحت عروض الدعارة مشهداً مألوفاً في الأماكن العامة، فضلاً عن الحضور العلني للمثليين في الأماكن ذاتها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.