«إنّها أسوأ كارثة حصلت منذ انتهاء الحرب الباردة، كما أن حضارتها في حالة انهيار». هذا ما أعلنه المفوض السامي لشؤون اللاجئين السيد أنطونيو غوتيريز في حزيران/ يونيو من العام ٢٠١٣. هكذا وصف الوضع في سورية. لم يكن ما قاله غوتيريز من قبيل التضخيم للحصول على معونة دولية أفضل، فإذا استعرضنا الوقائع التالية نجد أنه أكثر من محق. مليونان ونصف مليون لاجئ مسجلون لدى مفوضية اللاجئين خارج الحدود السورية، ملايين مجهولة العدد مشردة داخلياً، عشرة ملايين انسان بدأوا يصلون إلى حافة الفقر المدقع وهم بحاجة ماسّة الى كل شيء، بمعنى ان نصف سكان سورية تماما هم في المعاناة القصوى. طبعاً هذا عدا عدد القتلى الذي بلغ اكثر من١٦٠٠٠٠ من جميع اطراف النزاع. اما عدد المفقودين فغير معروف، وكثر يموتون بسبب الأمراض المزمنة لعدم توفر العلاج، او بسبب تدمير البنية الصحية التحتية.
غالباً ما يجري التعامل مع الصراع العسكري داخل سورية والمفاوضات السياسية بين الحكومة والثوار وحلفاء كل منهما من جهة، وأزمة اللاجئين من جهة أخرى، كقضايا منفصلة، وذلك لمجرد كون الثانية (أي قضية اللاجئين) النتيجة المأساوية للأزمة داخل البلاد. لكن في الحقيقة فإنّ قضية اللاجئين ليست منفصلة عن السياسة. كما أنّ رحلة اللاجئين وتجربة التشرّد والحلول طويلة الأمد لأزمة اللاجئين، من المرجّح أن تُعيد رسم الخريطة السياسية لسورية وللمنطقة كلها. ويجعل عددٌ من العوامل أزمة اللاجئين السوريين المتنامية شاقةً على نحو خاص.
تعقيدات أزمة اللجوء
أولاً، يشكل النزوح جزءاُ من صراع أهلي شرس، خلّف دماراً هائلاً. بالتالي، تصبح العودة السريعة إلى الوطن غير واقعية، تماماً كما الانتظار حتى «انتهاء النزاع» لمناقشة مشاكل اللاجئين على المدى الطويل. إذ إنّ حشود اللاجئين والنازحين داخلياً تتطلّب مساعدة إنسانية واسعة النطاق وآنية لتلبية الحاجات الأساسية.
ثانياً، ثمة أعداد ضخمة من اللاجئين في خمسة بلدان على الأقل، أي مصر والأردن ولبنان والعراق وتركيا، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة بذل جهد واسع النطاق، ومنسّق دولياً، بغية التوصّل إلى حلول دائمة. إذ إنّ أيّاً من هذه البلدان المضيفة ليس متلهّفاً لمنح السوريين إقامة دائمة، والعديد منها تعهّد تكراراً بألا يفعل ذلك. وتختلف أحوال اللاجئين باختلاف الدول المضيفة أو حتى باختلاف المناطق داخل الدولة المضيفة الواحدة. على سبيل المثال، يتمتع اللاجئون السوريون في مخيم الزعتري في الاردن بإقامة وطبابة وتعليم مجاني، على عكس اللاجئين المتواجدين خارج المخيمات، وتحديداً في عمان وأربد. إلا أنّ ذلك يأتي على حساب أمور أخرى، فقسوة المناخ والتضييق الأمني على اللاجئين تجعل الزعتري سجناً اكثر منه مخيماً للاجئين، والواقع أنّ أغلبية اللاجئين السوريين المتواجدين في المدن الأردنية قد رحلوا من الزعتري لعدم قدرتهم على تحمل عناء المعيشة بداخله.
ثالثاً، تحدث عملية النزوح بموازاة اضطرابات إقليمية، حيث بعض بلدان المقصد، إما يُعَدّ أيضاً من المشاركين الفاعلين في الأزمة السورية، وإما يخوض نزاعاً أهلياً خاصاً به، الأمر الذي يجعل وضع اللاجئين السوريين حرجاً. وأفضل دليل على ذلك هو التغيير الجذري الذي طرأ على معاملة اللاجئين السوريين في مصر بعد الانقلاب الذي أطاح محمد مرسي ورافقته حملة هستيرية عنصرية ضد الفلسطينيين والسوريين.
رابعاً، لا تنفصل حالة اللاجئين عن مسائل السياسة، بما في ذلك التطييف المتنامي للنزاع السوري ونظرة المنطقة إلى هذه الحرب. والواقع أن هروب اللاجئين تحديداً هو أحد العوامل الرئيسة المؤدّية إلى توسّع النزاع خارج الحدود، إذ إنّ النازحين هم مؤشّرات إنسانية على قدرة النزاع السوري على إعادة رسم خريطة المنطقة، خصوصاً إذا لم تضمن عملية إعادة الإعمار عودتهم الى ديارهم.
خامساً، يجد اللاجئون السوريون أنفسهم عند نقطة تقاطع أنواع مختلفة من الهجرة القسرية، تشمل الترحيل بسبب الحرب، والتوترات الإثنية أو الدينية، إضافة إلى تدهور الحياة الاقتصادية والبيئية، إذ إنّ السوريين في البلدان المجاورة هم إما لاجئون أو مهاجرون شرعيون أو عمّال زوّار، وإما مهاجرون غير شرعيين. أخيراً، ثمة لاجئون يتواجدون في مخيمات رسمية أو غير رسمية، على طول الحدود وفي المناطق المدنية الكبيرة، ولاجئون ينتشرون بين السكان المحليين، وذلك حتى في بلدان مثل تركيا حيث كانت الاستعدادات لاستقبالهم أكبر. والحال أنه تصعب حتى مهمة إحصاء أعداد النازحين.
الحالة اللبنانية
هذه العوامل كلها يتردّد صداها في لبنان. على الرغم من انتشار اللاجئين في خمسة بلدان، تحمّل لبنان العبء الأكبر من النزوح الجماعي باستقباله أكثر من مليون لاجئ مسجّل أو ينتظر التسجيل. تزعم الحكومة اللبنانية أن عدد السوريين في لبنان بلغ المليون قبل تصاعد حدّة القتال. ويشير تقرير للبنك الدولي إلى أن الأثر الاقتصادي للأزمة السورية على لبنان كارثي، إذ إن الاقتصاد اللبناني يعاني خسائر تراكمية تُقدَّر بـ٧.٥ مليارات دولار على اقل التقديرات. كما أن تدفّق السوريين يرفع معدّل البطالة ويدفع الحكومة إلى اقتراض المزيد من الأموال لتلبية الخدمات العامة.
إضافة إلى ذلك، يرزح اللاجئون تحت وطأة المعاناة والتوترات اليومية. والعديد من المنظمات السورية غير الحكومية الجديدة التي أُنشِئَت لتأمين الخدمات، يديرها لاجئون سوريون من الطبقة الوسطى، ومن الحاصلين على تعليم أفضل نسبياً، منهكون تماماً هم أيضاً. ويعرب معظم اللاجئين عن رغبتهم في العودة أو إعادة التوطين لأنهم ما عادوا يحتملون البقاء في لبنان في ظلّ هذه الظروف الصعبة.. إذ إنّ تكاليف الحياة في لبنان تُعَدّ مرتفعةً للغاية مقارنةً بمثيلاتها في سورية، واللاجئون جميعهم يستنفدون مدّخراتهم. أما الأسوأ حالاً منهم فمحصورون في مساحات صغيرة غير آمنة وغير صحية، وهم يشكون الاستغلال المتمثّل بالأسعار المرتفعة للإيجار والغذاء والدواء. هذه المظالم هي نفسها المظالم التي يعانيها السوريون في الأردن، كما العراقيون المهجرون الذين لايزالون يعانون في مختلف البلدان العربية في ظلّ أمل ضئيل في إيجاد حلٍّ دائم لهم.
فضلاً عن ذلك، وصلت مع النازحين حديثاً أعدادٌ كبيرةٌ من الفلسطينيين الذين كانوا يقطنون المخيمات والبلدات في سورية منذ العام ١٩٤٨. هؤلاء يُحظَّر عليهم قانوناً، بصفتهم فلسطينيين، اتخاذ الوظائف الرسمية في أكثر من ٧٠ مهنة. وتجدر الإشارة إلى أن لبنان يضمّ حوالى ٤٢٥ ألف لاجئ فلسطيني، ورفضُ توطين هؤلاء هو مطلب لا تنفكّ تكرّره الأحزاب السياسية من اليمين واليسار. وثمة توجّه (أو على الأقل تصوّرٌ) لدى منظمات الإغاثة غير الحكومية بتحويل أموالها من اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في البلاد إلى اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين الوافدين حديثاً. في هذا الإطار، أجرت المؤسسة الأميركية لإغاثة اللاجئين في الشرق الأدنى (أنيرا) تقييماً لاحتياجات الفلسطينيين السوريين، ووجدت أن ١٠ في المئة منهم فقط يعملون في لبنان. تقول مديرة «أنيرا» في لبنان سمر اليسير إن هذه المعاناة كلّها تزيد من التوترات ضمن الجاليات الفلسطينية الحالية، وتشرح قائلةً إن استقبال لاجئ يعني مشاطرة الموارد مع شخص جديد أو أسرة جديدة، الأمر الذي يؤدّي إلى استنزاف موارد المضيف الضرورية. و«في حالة الفلسطينيين، أصبحت منظمة الأونروا مرهقةً إذ فتحت مدارسها لاستقبال اللاجئين الجدد. وبما أن هذه الجالية التي تعيش في لبنان هي الأفقر في المنطقة بأسرها، تحتاج هي أيضاً إلى الغذاء أو المال اللذين يجري توزيعهما»، تضيف. وتقول اليسير إنّ إيواء اللاجئين تبقى المشكلة الأكبر، إذ إن الإيجارات المرتفعة تستهلك معظم دخلهم.
وهكذا، على الفلسطينيين أن يتعاملوا مع هذه الصعوبات المحدّدة إضافةً إلى الأزمة متعدّدة الأبعاد التي يعانيها اللاجئون جميعاً. ومن الشكاوى المتواصلة شكوى تتعلّق بالتعليم. لوضع الصورة في إطار أوضح، يُقدَّر عدد الأطفال السوريين في لبنان عام ٢٠١٣، الذين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة والسابعة عشرة، بـ٣٠٠ ألف طفل. وفي الوقت نفسه، يبلغ مجموع الأطفال اللبنانيين المسجّلين في المدارس الرسمية في أنحاء لبنان كلها ٣٠٠ ألف طفل أيضاً. ومع أن الحكومة اللبنانية طلبت من المدارس الرسمية قبول الأطفال السوريين، لا يتلقّى تعليماً فعلياً سوى ٣٠ ألفاً من هؤلاء الأطفال. يُذكَر أن بعض السوريين يعودون إلى ديارهم متَحدِّين الحرب فقط ليتمكّنوا من تسجيل أنفسهم أو أطفالهم في المدارس أو الجامعات.
صعوبات من كل الأنواع
يدير هاني جسري، من منظمة «جسور» السورية، ثلاث مدارس صغيرةً تضمّ كل منها حوالى ٢٠٠ طفل، واحدة في منطقة قصقص في بيروت، واثنتان في البقاع الغربي. يشرح جسري أنه كلما كان الأطفال أكبر سنّاً، أصبح من الأصعب عليهم النجاح في الامتحانات التقييمية في اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية، التي تؤهّلهم لدخول المدارس الرسمية. وفي حين يستطيع الأطفال الأصغر سنّاً اللحاق بالدروس عن طريق «برامج التعليم المعجَّل»، تبدو فرص حصول تلاميذ ما بعد الصفّ التاسع على التعليم ضئيلةً. أما سعداء الحظ الذين حصلوا على تعليم، فيتصارعون مع متطلّبات المناهج المختلفة.
واقع الحال أن السوريين المتواجدين داخل سورية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، يدرسون المنهج التقليدي، فيما يُتاح للسوريين المتواجدين في لبنان إما المنهج غير الرسمي للمنظمات غير الحكومية، أو برنامج المدارس الرسمية اللبنانية، وإما الدروس التي تلقّنها المدارس الدينية الخاصة اللبنانية او حتى تلك التي يشرف عليها الائتلاف الوطني السوري المعارِض. وهكذا، يمكن أن يدرس الطفل نفسه منهجَين أو أكثر إذا اضطرّت أسرته إلى الانتقال. في هذا الإطار، يرى جسري أن نظام «الدوام المسائي» الذي صُدِّق عليه أخيراً خطوة إيجابية. فهذا النظام، الذي لم يُطبَّق بعد، يفرض على المدارس الرسمية الحالية تدريس الأطفال السوريين بعد الظهر. ومن شأن هذا التغيير نظرياً أن يتيح للمدارس استيعاب أعداد أكبر من الطلاب. لكن إلى أن يُطَبَّق القانون، تبقى أعداد هائلة من السوريين من دون تعليم وعمل، وبمهارات قليلة. هذا العجز في التعليم، مُضافاً إليه معدّل البطالة المرتفع، يهدّد بنشوء جيل كامل من الأطفال الأميّين أو شبه الأميّين.
تطال تأثيرات الأزمة المستويات كلها، لا التعليم وحسب. تقول زينة حسن، من الهيئة الطبية الدولية التي تركّز على الصحة وحاجات الصحة العقلية، إن البنية التحتية اللبنانية وصلت إلى نقطة حاسمة، فبعض القرى يضمّ سوريين يفوقون اللبنانيين عدداً. وقالت حسن محذّرةً إن «المستشفيات في سهل البقاع لم يَعُد فيها أسرّةٌ كافية، وثمة مخاوف من تفشّي الكوليرا في المخيّمات غير الرسمية التي انبثقت في كل مكان، فضلاً عن نقص المياه والنظافة». كذلك يخشى العاملون في مجال الصحة أن تقع كارثة صحية عامة في أي لحظة، ولاسيما في المخيّمات غير الرسمية في البقاع. تشير حسن إلى أن المنظمات غير الحكومية ومنظمات الإغاثة الأخرى تلبّي عدداً مفرطاً من الحاجات الفورية، الأمر الذي يمنعها من التخطيط على المدى الطويل. فهي منشغلة باتخاذ خطوات بسيطة مثل الاستثمار في برنامج لمدة سنتين لتدريب السوريين على توفير الرعاية الصحية العقلية الأساسية، وهي وسيلة لتخفيف التكاليف وتوفير مهارات التنمية في الوقت نفسه.
الواقع أن استنتاجات حسن تدعم الفكرة القائلة بأن الأزمة في لبنان لا يمكن أن تُحَلّ من خلال المساعدة الإنسانية وحدها. فاللاجئون كثرٌ ويائسون للغاية، ومن المرجّح أن يبقوا في البلاد وقتاً طويلاً. وكما يتراجع الاهتمام بسورية دولياً، كذلك ستنضب بئر التمويل. لذلك ينبغي أن يأتي الحلّ من مزيج من الاستثمار في التنمية على المدى الطويل والاهتمام بالحاجات الإنسانية الفورية. وفي الواقع، ثمة مؤشرات على أن المنظمات الدولية تقوم بهذا التحوّل، ولاسيما في الأمم المتحدة، إذ إنّ خطة الاستجابة الإقليمية السادسة الخاصة بمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي ستحدّد نطاق الاستجابة خلال العام ٢٠١٤، يُرجَّح أن تدعم تحوّلاً نحو التركيز على تنمية المجتمعات المحلية. تقول سين بيرغبي من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) إن منظمتها، وبحكم صلاحياتها، تركّز على مسألة الإيواء، بما في ذلك تحديد الأبنية التي يمكن العيش فيها من جديد كمساكن جماعية كبيرة، والخدمات المُدُنية الأساسية، خصوصاً تلك المتعلقة بالمياه والنظافة. وتشرح بيرغبي قائلةً إن برنامج الموئل وضع نموذجاً للعمل مع البلديات في مجال البنية التحتية السكنية، بما في ذلك تحسين المياه، وتوليد الطاقة، وشبكات الصرف الصحي، وغيرها. هذه الاستراتيجية تفيد كلاً من النازحين والمجتمعات المضيفة الأكثر فقراً، وتكتسب أهمية خاصة لهذه المجتمعات التي تشعر عن حقّ بأنها تحتاج إلى الدعم بقدر ما يحتاج اللاجئون الآتون حديثاً.
اسطنبول
التقيت في اسطنبول بالبروفيسورة شناي أوزدين لمناقشة بحثها عن اللاجئين السوريين في شرق تركيا. عالمة أنثروبولوجيا مهتمة بكيفية تسيير السوريين أمورهم الحياتية اليومية على المستوى المصغّر، في القرى الحدودية، وتحديداً في ما يخص الخدمات اليومية، و تعليم أطفالهم.
وتتفق اوزدين مع معظم المراقبين على أنه، على الرغم من معاناة العديد من السوريين داخل تركيا، فإنّ الأوضاع الإنسانية وكذلك نوعية الحياة العامة بشكلٍ عام أفضل إلى حد كبير منها في باقي دول الجوار التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين. العديد من اللاجئين الذين التقت بهم أوزدين يدركون أنّ وضعهم أفضل، على الأقل مقارنةً بما يسمعونه من قصص مرعبة من لبنان والمخيمات الأردنية. المشكلة كما تقول هي أن موقف السلطات الحاكمة تجلّى بتقديم المعونات والإحسان إلى «الإخوة» السوريين بدلاً من إعطائهم حقوقهم كلاجئين. كانت الحكومة التركية بالطبع لاعباً أساسياً في الصراع السوري، بعدما كان للحكومة التركية علاقات قوية مع النظام السوري، ولكن سرعان ما حدث تحول جذري في موقفها بعد اندلاع الانتفاضة في آذار ٢٠١١. استمر الوضع على هذا النحو حتى أخذت الحكومة التركية موقعاً متقدماً جداً في مناهضتها للنظام، ففتحت حدودها لكلٍّ من المعارضين السياسيين والمسلحين منهم. كما لعبت دوراً معقداً في كونها مضيفاً سخيّاً نسبيّاً للاجئين، فضلاً عن الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة فضلاً عن كونها القناة الرئيسيّة لدخول الأسلحة والمقاتلين المعارضين للنظام الى الداخل السوري. ورغم الدعم الكبير الذي تحصل عليه الجماعات المتشددة من دول الخليج، يُعتقد أن لتركيا رأياً مهماً حول الدعم ونوعه، رغم أنها نفت مراراً تسهيلها دعم الجماعات الجهادية المتطرفة.
على أيّة حال، فإن قوة واستقلالية المناطق الكردية المتزايدة بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وجناحه العسكري وحدات الدفاع الشعبية (YPG)، إضافة إلى ظهور الجماعات الجهادية المتطرفة مثل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) والذي وضع تركيا في موقف محرج، وبالرغم من أن الأتراك العاديين ليسوا من مؤيدي نظام الأسد، إلّا أنهم شعروا بأن الحكومة قد جرّتهم إلى فوضى لا نهاية لها. وازداد استياء الأتراك بشكل كبير من السوريين في المناطق الحدودية.
في الحقيقة، إن كل اللاجئين السوريين في نوع من مأزق قانوني، خصوصاً أن أيّا من دول جوار سورية (ولا سورية نفسها) باستثناء تركيا ومصر، هم من الموقعين على اتفاقية اللاجئين لعام ١٩٥١ ولا على بروتوكول عام ١٩٦٧، وهذا ما يضع اللاجئين في موقف حرج، إذ إن غالبيتهم لا يعرفون حقوقهم ويعيشون في حالة خوف دائمة من التهجير.
وقائع جغرافية جديدة
معظم اللاجئين يعبّرون عن رغبتهم بالعودة إلى ديارهم حالما يتوقف القتال، لكن إمكانية عودتهم بشكل سريع أو حتى عودتهم بالمطلق ضعيفة للغاية. في جميع أنحاء المنطقة، يتقابل اللاجئون السوريون مع الفلسطينيين والعراقيين والصوماليين والسودانيين والعديد من اللاجئين الآخرين حيث عاش بعضهم حياته كلها لاجئاً مع احتمال ضئيل للعودة.
على الرغم من أنّ الحرب الأهلية في سورية ستستمر لسنوات عديدة، فإن التقسيم الديموغرافي يجري بشكل متزايد حسب مناطق السيطرة. والواقع أن طريقة انتهاء الصراع او التسوية السياسية سيكون لها تأثير كبير في ترسيخ الانقسام او إعادة اندماج المجتمع السوري.
إذا انتهى الأمر بترجمة خطوط جنيف العريضة إلى مفاوضات ذات مغزى فهذا سيفتح إمكانية عودة اللاجئين. ولكن كما هو الحال مع غيرهم من السكان اللاجئين والذين هم ضحايا التطهير العرقي أو التهجير من الحروب الأهلية، هنالك سؤال حول ما إذا كان اللاجئون السوريون سيعودون إلى «بيوتهم» أم إلى «الوطن». شملت اتفاقيات السلام، كاتفاقية دايتون (Dayton) التي وقعت بعد حرب البوسنة شروطاً تقضي بعودة اللاجئين إلى بلداتهم الأصلية ولكنها لم تطبق الا في حالات قليلة وبتدخل من قبل القوات متعددة الجنسيات. وفي لبنان لم تحلّ قضية مهجري الحرب نهائياً رغم مرور ربع قرن على انتهاء الحرب، ورغم وجود وزارة خاصة لها. يجب أن تتجسد الإرادة السياسية في المجتمع الدولي كي يتحقق ذلك، وخصوصاً على المستوى الإقليمي، وذلك أمر مستبعد جداً نظراً لأن طبيعة الصراع بالوكالة بين السعودية وإيران من المرجّح أن تستمر خلال فترة «السلام». كما أن البلدان المضيفة للاجئين قد بدأت بالتضييق اكثر فأكثر على السوريين، وتزداد الأصوات المطالبة بإعادتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بدلاً من قراهم ومدنهم الأصليّة. وفي حال حدوث ذلك، فإن ترسخ الانقسام الطائفي والعرقي لسورية سوف يزداد. من الممكن استبدال الحلم بدولة تعددية وديمقراطية وقائمة على أسس المواطنة بالنمط الضعيف والمجزّأ للدولة اللبنانية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.