بين احتلالين
كانت لحظة سقوط بغداد عام ٢٠٠٣، وبداية عصر الاحتلال الأميركي، اللحظة الأهم، عراقياً، في فاتحة هذا القرن. لا لرمزيتها، أو لأنها أنهت حقبة الدكتاتورية فحسب، بل لأنها عنت، في ما عنته، (وما كان الهدف الرئيسي للاحتلال) تفكيك الدولة العراقية الحديثة. وهي دولة استغرق بناؤها قرناً أو أقل، ولم يكن نظام البعث إلا فصلاً كارثياً متأخراً، لكنه كان الأكثر خراباً في فصولها. وما تلا الاحتلال هو تشكيل نظام سياسي جديد و«بناء» دولة صمّمها المحتل وحلفاؤه (ومعظم هؤلاء عادوا من شتات عراقي امتد شرقاً وغرباً وارتدوا أقنعة طائفية إن لم يكونوا طائفيين أساساً) وفق المخيال الاستشراقي والعنجهية الإمبراطورية التي استعارت من أرشيف القرن التاسع عشر، واستعادت ممارسات وأفكاراً قديمة بعد تغليفها بورق «نشر الديمقراطية» البرّاق.
وسيكون سقوط الموصل المدوّي بيد داعش (وقبلها وبعدها سقطت مدن أخرى في غربي العراق وفي سهل نينوى) لحظة مفصلية وكارثية، ترتبط، عضوياً، بلحظة السقوط الأولى. إذ إنها تكشف الخراب الذي أنتجه وعمّمه هذا النظام السياسي الجديد وتبيّن فشل الدولة الهشّة الفاسدة في حماية مواطنيها وحدودها وبناء جيش وطني مهني. كما تكشف إخفاقها في استيعاب التيارات السياسية المعارضة وإصرارها على منهج إقصائي يهمّش شرائح ومناطق واسعة يجعل اختراقها سهلاً. تلخّص لحظة الموصل، بتداعياتها، وبجذورها، وبردود الفعل إزاءها، مأساة العراق. وتمثّل نتيجة لعوامل وأحداث تضافرت وتفاعلت في العقود الثلاثة الأخيرة. إنها لحظة تثار فيها أسئلة عن وجود العراق ككيان مستقل وعن مصير مواطنيه، خصوصاً من الأقليّات الذين تم تشريدهم وطردهم من ديارهم في الموصل وفي محيطها في سهل نينوى. وأنا أكتب هذه السطور يموت اليزيديون المحاصرون على قمة جبل سنجار في شمال العراق عطشاً بعدما هربوا من سنجار التي سقطت هي الأخرى بيد داعش بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية. وتتقدم داعش في سهل نينوى ويزداد بذلك عدد العراقيين المهجّرين من سهل نينوى والمناطق المحيطة من كل الخلفيّات، وإن كان التركيز، عالمياً وعربيّاً، أكثر نسبيّاً على محنة المسيحيّين. وهؤلاء تم طردهم من الموصل ومصادرة أملاكهم بعد تخييرهم بين الإسلام أو دفع الجزية.
وهكذا تسدد داعش ضربة قاصمة للنسيج الاجتماعي في الموصل وفي سهل نينوى وتغيّر ديموغرافية المنطقة. كما تواصل نسف المراقد والأضرحة الدينية (النبي يونس وشيت) بعدما دشّنت دخولها الموصل بنسف الرموز الثقافية من تماثيل لشعراء وفنانين (أبو تمام وعثمان الموصلي).
داعش: الماضي البعيد أم الماضي القريب؟
إزاء هذا الخراب الكارثي يتساءل الكثير من العراقيين والعرب: كيف يمكن أن يحدث كل هذا في بلد مثل العراق؟ يدفع محتوى الخطاب السياسي الذي تستخدمه داعش، والرموز واللغة التي توظفها في إعلامها الذي يتفوّق بمراحل على إعلام النظام العراقي، يدفع الكثيرين إلى نقاشات وجدالات عقيمة. فيقعون في شراك استشراق ذاتي، حول الماضي البعيد والإسلام، وفرضية ميل الأخير لإنتاج حركات وظواهر مثل هذه لخلل جوهري. وهناك فريق آخر من المثقفين العراقيين يرددون لازمة مفادها أن العراق دولة “مصطنعة” خاطها الاستعمار البريطاني على عجل من ثلاث ولايات عثمانية لتضم قبائل وإثنيات وطوائف لا يمكن لها أن تجتمع وبذلك هي مشروع فاشل أساساً. ويجهل هؤلاء أن كل الدول الحديثة كيانات مصطنعة وأن نشوء الهوية الوطنية العراقية في مرحلتها الجنينية يسبق الاستعمار البريطاني ويعود إلى القرن الثامن عشر. إذ ارتبطت مدن العراق الرئيسية سياسياً واقتصادياً وكانت بغداد مركز حيز اقتصادي وإداري واضح سيكون في ما بعد كيان العراق الحديث. التاريخ، تاريخنا، لا يبدأ بقدوم الرجل الأبيض دائماً!
بدلاً من الدخول في سجالات عقيمة حول الماضي البعيد، فإن ما نحتاج إليه هو نظرة نقدية إلى الظروف المادية والسياق التاريخي والسياسي اللذين يجعلان ظهور حركة مثل داعش ونموها ممكناً أساساً. قد يكون الزخم الذي دخلت به داعش على الساحة العراقية (والسورية أيضاً طبعاً) واحتلالها لمدينة مثل الموصل صادماً، لكنني أزعم أنها كانت محصلة منطقية لما كان يحدث في العراق في السنين الأخيرة. وليست داعش إلا النسخة الأخيرة، الأكثر تنظيماً وقوة من تيارات وتنظيمات كانت فاعلة على الأرض منذ عام ٢٠٠٣. لقد وفّر تفكيك الدولة العراقية وتدميرها واستبدال نظام هش بها أرضية خصبة لحركات إرهابية. والمضحك المبكي في الحرب على الإرهاب أنها تخلق المزيد من الإرهاب الذي يفترض أن تقضي عليه. ليس القصد هنا تنزيه النظام البائد الذي كانت طبيعته الشمولية وسياساته التدميرية وحروبه الانتحارية وعسكرته للمجتمع، كلها مجتمعة، من بين الأسباب الرئيسية التي نخرت جسد الدولة العراقية وأضعفت النسيج الاجتماعي على مدى عقود قبل الغزو. لكن لا بد من فهم تبعات تفكيك الدولة وحلّ الجيش وطبيعة النظام السياسي الفاشل الذي أوجده الأميركان إذا كان لنا أن نستوعب ما حدث ونفهم سياقه.
وقبل هذا لا بد من أن نعود إلى المثال الأفغاني الذي قد يساعدنا في فهم الديناميات والسياق التاريخي الذي «تزدهر» فيه الحركات الداعشية. يجتذب غزو عسكري لبلد ما مجموعات من المقاتلين الأجانب ينضمّون إلى مقاتلين محليين لخوض حرب ضد امبراطورية شريرة (أيامها كان الاتحاد السوفياتي هو امبراطورية الشر، وكان المجاهدون «مقاتلين من أجل الحرية» استقبلهم الرئيس الأميركي رونالد ريغان في البيت الأبيض وحياهم على شجاعتهم وشبّههم بالآباء المؤسسين في الولايات المتحدة، وتعاونت استخبارات النظامين السعودي والباكستاني مع الاستخبارات الأميركية لدعم هؤلاء وتدريبهم.) لسنا بصدد نظريات المؤامرة هنا ولكن بصدد توافق مصالح إقليمية ودولية وتَحّوّل بلد ما إلى ساحة حرب تنمو فيها حركات مثل هذه. ولا داعي إلى سرد ما حدث بعد انتهاء الحرب الباردة وعودة الأفغان العرب إلى بلدانهم.
ما حدث، حدث من قبل: مذبحة سيدة النجاة
لا شك أن هذا التهجير والنزوح الجماعي من الموصل سيكون استعارة أليمة لمصير المسيحيين العراقيين في البلد بأكمله، والفصل الأكثر رسوخاً في ذاكرتهم الجمعية. كانت حادثة الهجوم على كنيسة سيدة النجاة في بغداد عام ٢٠١٠ كفيلة بدق ناقوس الخطر. إذ قامت يومها «دولة العراق الإسلامية» (وداعش، كما ذكرنا، ليست إلا النسخة الأكثر تنظيماً وقوة بعدما استفادت من مآلات الوضع في سورية وإمعان النظام في بغداد في سياساته وفساده) باحتجاز المصلّين رهائن وقتلهم قبل أن تقتحم قوات مكافحة الإرهاب التابعة للنظام العراقي الكنيسة لـ«تحرير» الرهائن. وأعلنت «دولة العراق الإسلامية» بعدها بأيام أن كل المسيحيين في العراق ورموزهم أهدافاً مشروعة لعملياتها، خصوصاً بعد انتهاء المهلة التي أعطتها إلى الكنيسة القبطية للإفراج عن رهينتين اعتنقتا الإسلام.
لم يكن ذاك الهجوم الأول، فمنذ احتلال العراق هوجمت أكثر من ستين كنيسة، وقتل ما يزيد على ألفي مسيحي. واضطر أربعمئة ألف منهم إلى الهروب من العراق بعد تفاقم العنف الطائفي وانعدام الأمن وهدر الدم، في زمن الديمقراطية العجيبة. كما تم تهجير الآلاف من بيوتهم ومناطقهم ليصبحوا لاجئين داخل بلدهم، كما هي حال مئات الآلاف من غير المسيحيين.
ومع أن المسيحيين ليسوا الضحايا الوحيدين للعنف الطائفي (انظروا ما حدث للصابئة مثلاً)، ومع أن عشرات الآلاف من المسلمين السنة والشيعة كانوا ضحايا هذا العنف على اختلاف مصادره وأقنعته، وحرقت وهوجمت جوامع ومساجد، فإن ردود الفعل (خصوصاً في الغرب) تختلف نوعياً باختلاف الضحايا. فترى الكثير ممن لا يحرك ساكناً حتى بعيْد أكثر المذابح وحشية ضد المسلمين، يهب لـ«نصرة» المسيحيين في منطقتنا. وهناك تاريخ لهذا التقليد الرسمي الذي يعود إلى زمن الاستعمار، وخطاب حماية الأقليات، والذي كان محض ذريعة لتحقيق مكاسب سياسية وللضغط على الحكام والحكومات والأمثلة كثيرة لا داعي إلى ذكرها. أما على المستوى الشعبي فإن «هبّة» كهذه ترسخ صوراً نمطية عن العالم الإسلامي وعن مجتمعاته، وتختزل تواريخها المعقدة إلى سردية بسيطة مفادها أن لا مكان ولا حيّز في الإسلام وفي مجتمعاته للآخر (المسيحي هنا)، وأن ما نراه اليوم هو نتيجة حتمية لتاريخ طويل من الاضطهاد والتفرقة. ويصب هذا الاعتقاد بدوره في نهر المخيلة الاستعلائية الهادر الذي ينصّب الغرب المتحضّر حارساً أبدياً للأقليات ولقيم الإنسانية. وهناك من تشرّب هذا الخطاب من بعض المسيحيين وغير المسيحيين أنفسهم في العراق وخارجه وفي المنطقة.
الماضي
يعود تاريخ المسيحيّة في العراق إلى القرن الأول من انتشار المسيحيّة، وتستعيد الطوائف المختلفة تاريخاً عريقاً وآثاراً ولغات ما زالت تستخدم في الطقوس الدينية وإن كادت محكياتها تختفي مع الأجيال الجديدة (باستثناء الآشورية) وتفتخر بها دليلاً على حضور غير منقطع على أرض وادي الرافدين. وهذه تواريخ معقدة وغنية لا يمكن تتبعها هنا.
قد يعترض البعض ويذكر مذبحة سيميل التي اقترفتها الدولة العراقية الناشئة والتي راح ضحيتها الآلاف من الآشوريين في آب/أغسطس من عام ١٩٣٣ عندما هاجمهم الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي. لكن هذه المذبحة يجب أن تقرأ وتفهم في سياق صراع القوميات ونشوء الدولة المركزية وليس في سياق «صراع الأديان». فقد كان للآشوريين، كما لغيرهم من القوميات، مطامح وأحلام بدولة مستقلة وشجعهم البريطانيون في البداية في هذا المسعى، قبل أن يتخلّوا عنهم ويخذلوهم. أسوق هذا للتذكير بالسياق السياسي والتاريخي لمحنة الآشوريين مع الدولة العراقية. ولم تخفت المطالب القومية للآشوريين مذاك بل تعاظمت وخصوصاً في الشتات حيث تصاعدت، ولاسيما في الآونة الأخيرة وبعد ازدياد العنف ضد الآشوريين والمسيحيين من غير الآشوريين في كردستان العراق، مطالب منظماتهم السياسية بـ«ملاذ آمن» في شمال العراق.
والإشكالية هنا هي أن خطاب المنظمات السياسية الآشورية يحاول منذ عقود اختزال كل الهويات والطوائف المسيحية الأخرى تحت مظلة القومية الآشورية وأهدافها السياسية.
لم يعرّف المسيحيون في العراق، قبل ٢٠٠٣ وانهيار الدولة العراقية، أنفسهم دائماً كمجموعة سياسية أو عرقية بالضرورة. ومن الضروري أن نفهم تاريخ وتحولات الهويات التي تم سلخها بفعل تكرار خطاب واحد تكون فيه الهوية الطاغية هي الدين والطائفة والعرق. نعم، كان الأصل العرقي (مهما كان متخيلاً) والانتماء الديني يلعبان دوراً في جدلية الهويات طوال القرن العشرين، لكن كان للمنطقة وللطبقة والإيديولوجيا مكاناتها وتأثيرها المهم في إنتاج وإعادة إنتاج الهوية. أولم يكن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد (يوسف سلمان يوسف) مسيحيّاً؟ أولم يكن طارق عزيز مسيحيّاً هو الآخر وتسنم مناصب مهمة (وبالمناسبة يحظى عزيز، بسبب مسيحيته، بالتماسات رحمة وطلبات عفو، خصوصاً في الغرب. لم يحظَ بها الآخرون من رفاقه، على افتراض أن المسيحي المسالم لا يمكن أن يكون قد ارتكب أو شارك حتى بصورة غير مباشرة في جرائم النظام السابق). هناك أمثلة كثيرة لمسيحيين عراقيين برزوا في حقول وسياقات شتى في تاريخ العراق الحديث. المهم هو أن جلّ المسيحيين لم يكونوا يشعرون بأزمة ما حول عراقيتهم أو انتمائهم. كما تمتعوا بممارسة شعائرهم ومعتقداتهم بحرية. لا يعني هذا عدم وجود تفرقة أو توتر إطلاقاً، لكنه لم يكن مؤسساتياً أو رسمياً. وبالرغم من ضراوة النظام السابق (١٩٦٨-٢٠٠٣) ووحشيته ضد أعدائه السياسيين وحتى من كان يظن بأنهم أعداء، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، فإن تعامله مع المسيحيين، كأقلية، كان بلا إشكاليات.
عاصفة ما زالت تهب
قال جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي في عهد بوش الأب، لنظيره العراقي طارق عزيز قبيل حرب الخليج الأولى عام ١٩٩١: «سنقصفكم قصفاً يعيدكم إلى العصر ما قبل الصناعي». إن هذه الجملة جديرة بالتأمل لكي نفهم واحداً من الفصول المهمة التي أدت إلى خراب العراق. كان الهدف المعلن من الحرب هو إخراج جيش الاحتلال العراقي من الكويت. لكن الأميركان وحلفاءهم دمّروا البنية التحتية في العراق بشكل ممنهج. أما الحظر الاقتصادي الذي كان قد فرض أصلاً لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت (ولم ينجح في ذلك) فقد ظل مفروضاً حتى عام ٢٠٠٣ وهو الأقسى في العصر الحديث. وكانت نتائجه، إضافة إلى موت مئات الآلاف من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالنظام ولا بالطبقة الحاكمة (التي استفادت وأثرت من الحصار)، انهيار الاقتصاد العراقي والنظام الصحّي وتهرؤ النسيج الاجتماعي وهجرة مئات الآلاف من العراقيين وانحسار الطبقة المتوسطة هرباً من جحيم الدكتاتورية. قد لا نغالي إذا زعمنا بأن تفاقم الصعوبات والكوارث دفع بأغلب العراقيين إلى الاحتماء بالإيمان وجعلهم أقرب إلى هويتهم الدينية. وكان لما سمي بالحملة الإيمانية التي شنها النظام في التسعينيات فعلها وأثرها، وخصوصاً بالنسبة إلى المسيحيين.
لكن الغزو الأميركي وتفكيك الدولة العراقية كان الضربة القاضية، فالنظام السياسي الطائفي الذي أسسته الولايات المتحدة في العراق على أنقاض الدولة العراقية عقّد التوترات الموجودة أساساً وزاد من حدتها. ولعل أهم عامل في هذا السياق هو تحول الهويات الدينية والإثنية خطابياً إلى هويات سياسية، ومأسستها ببناء نظام تحاصص طائفي، تصبح فيه الطائفة والإثنية هي العملة الرئيسية الوحيدة القابلة للتداول. لقد أجبر هذا غالبية العراقيين على الاتكاء على الهويات الأولية، وهكذا صار المسيحي مسيحياً، أولا وقبل كل شيء، وكذا بالنسبة إلى المجموعات الأخرى.
لقد ترك نظام وثقافة الميليشيات والأحزاب الطائفية المسيحيين وأمثالهم بلا وسائل دفاع، فلا ميليشيا تحميهم ولا حزب له وزن يمثلهم، فأصبح وضعهم أكثر هشاشة وأصبحوا أكثر عرضة من غيرهم لأعمال العنف والاختطاف والتهجير. فهوجمت وفجرت الكنائس واختطف وقتل الكثير من الرهبان بعد الاحتلال. وتبعثر المسيحيون مثلما تبعثر مئات الآلاف من العراقيين أثناء الحرب الأهلية وبعدها، فلجأ الكثير منهم إلى دول الجوار أو إلى كردستان التي لا تخلو من اعتداءات، لكنها قد تكون أرحم من غيرها.
قدّر عدد المسيحيين في الخمسينيات بستة بالمئة من سكان العراق. دفعت سنين الدكتاتورية والعقوبات الاقتصادية بالكثير منهم إلى الهجرة، حتى قيل إن عدد المسيحيين قبيل الغزو الأميركي كان قد انخفض إلى ٣٪ (ثمانمئة ألف). والآن انخفض عددهم إلى أقل من ثلث ذلك. من المحزن بالطبع أن يصبح إفراغ العراق من مسيحييه واقعاً معاشاً وأن يندثروا ويضافوا إلى أطلال عراق تعددي، كان في يوم ما.
طوال القرن العشرين لم تتم مهاجمة كنائس في العراق ولم يهجم أحد يوماً على مصلين داخل كنيسة ولم يتخيّل المسيحيّون أن يأتي يوم يخيّرون فيه بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية.
وأنا أكتب هذه السطور يزداد عدد النازحين والهاربين، من كل الخلفيّات، هرباً من داعش. بعد شهرين من سقوط ثاني أكبر مدن العراق خارج سيطرة الحكومة المركزية، لا يبدو أن لدى الطبقة السياسيّة في بغداد خطة جديّة لتحرير المدن المحتلّة ولحماية مواطنيها، بغض النظر عن مذاهبهم. وما زال المالكي متمسكاً بمنصبه والبلد يتفتّت. وكان لافتاً الاستعانة بالميليشيات الطائفية في بلد أنفق المليارات على جيشه، وفتْح باب التطوّع أمام المواطنين بعد فتوى السيستاني. إن ثقافة الميليشيات والنظام الطائفي هما عاملان رئيسيان في الخراب الذي وصل إليه البلد. فكيف يمكن للداء أن يكون الدواء؟
الحاضر. . . إلى الشتات والمتاحف والذاكرة
لقد شابت تاريخ وجود المسيحيين العراقيين الطويل توترات ومشاكل، هنا وهناك، لكنه لم يكن مهدّداً في يوم من الأيام. أما الآن فهو يكاد يقترب من نهاية حزينة ومألوفة مرت بها جماعات أخرى في العصر الحديث. ويبدو أنهم، مثل كل العراقيين، بحاجة إلى أعجوبة. لكن لا مكان للأعاجيب في التاريخ.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.