أطلقت إسرائيل جولة أخرى من الدمار والمعاناة في قطاع غزة، أكثر ضراوة حتى من عدوانها في ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩. وحتى الآن، تم تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين مرة أخرى، وقتل أكثر من ألفي فلسطيني وأصيب ثمانية آلاف (معظمهم من المدنيين)، وتم تدمير الآلاف من المباني كلياً أو جزئياً (بما في ذلك العديد من المساجد والمدارس والمستشفيات التي استهدفت مباشرة).
وقد دمرت أحياء في الشجاعية وخزاعة وتحولت إلى أكوام من الأسمنت والحديد المتهالك. وتشير روايات الشهود إلى محو عائلات بأكملها من الوجود، واغتيالات جماعية، وإطلاق النار على المدنيين العزّل، وقتل نحو خمسمئة طفل. ولا يوجد مكان آمن في القطاع ولا حتى مدارس الأمم المتحدة التي تحولت إلى ملاجئ تؤوي ما يزيد عن مئتين وعشرين ألف فلسطيني مشردين داخلياً. وبعد ثماني سنوات من الحصار، وسبعة وأربعين عاماً من الاحتلال، وستة وستين عاماً من الحرمان، يعيش مليون وثمانمئة ألف شخص من سكان غزة في خوف ورعب لمدة شهر تقريباً الآن. ومن جديد، يقوم أقوى جيش في المنطقة بقصف السكان الذين طالت معاناتهم.
وتعتبر التكلفة بالنسبة إلى إسرائيل عسكرية بالأساس: فقد قتل أربعة وستون من جنود الغزو وأصيب عدد أكثر. كما كانت هناك ثلاث وفيات بين المدنيين نتيجة إطلاق الآلاف من صواريخ القسام محلية الصنع وقذائف الهاون على إسرائيل، وقد صدت العديد منها القبة الحديدية التي مولتها أميركا. ورحل العديد من سكان المدن الإسرائيلية الجنوبية (حيث تكثر الملاجئ التي توفرها الدولة) إلى المناطق التي لم تتأثر، أو مناطق أكثر أمناً.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، لا شك في أن الاجتياح الإسرائيلي قد عطل بالأساس الحياة اليومية في المناطق القريبة من غزة، لكن الفلسطينيين المقيمين في غزة شهدوا دماراً على نطاق غير مسبوق. وسوف تحتاج غزة إلى سنوات للتعافي من الدمار المادي الذي أحدثه الجيش الإسرائيلي، ولفترة أطول بالنسبة إلى شفاء الفلسطينيين من الندوب النفسية والحزن والجروح، إذا سمحت لهم إسرائيل بالعيش من دون عمليات قصف واجتياح في المستقبل.
وتثير حقيقة أن إسرائيل يمكن أن تكرر اجتياح غزة الذي حصل في ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩، وتدمير المزيد من البنى التحتية، وقتل المزيد من الفلسطينيين، قلق جميع الذين يعتقدون أن غضب الرأي العام من شأنه أن يضع على الأقل بعض القيود على سلوك الدولة الإسرائيلي.
لماذا، إذن، نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة مع مثل هذا الواقع الكئيب؟ لماذا يكون لإسرائيل مطلق الحرية في التعامل بعنف مع الفلسطينيين؟ وما الذي يمكن أن يضع قيوداً على سلوك إسرائيل في المستقبل؟
حاجة متبادلة؟
يكمن جوهر المسألة في حقيقة أن الفلسطينيين لا يتمتعون بأهمية كبيرة استراتيجياً وجيوسياسياً، سواء في المنطقة، أو باعتبارهم شعباً خاضعاً للسيطرة من دون فوائد لهذه السيطرة. فبالنسبة إلى إسرائيل، تم خفض عدد العمال الفلسطينيين، منذ أوسلو وسياسات الإغلاق. ولم تعد إسرائيل تستغلّهم مباشرة كعمال. ويسلبهم هذا الوضع النفوذ اللازم للتأثير في السياسة الإسرائيلية، كما يجعلهم شعباً يمكن الاستغناء عنه تماماً.
في المقابل يحتاج الفلسطينيون إلى إسرائيل في كل شيء (الغذاء والموارد والمياه والكهرباء، والوصول إلى أراضيهم ـ التي تتقلص بشكل متزايد ـ وإلى المناطق الأخرى داخل الضفة الغربية، والوصول إلى العالم الخارجي، الخ)، ولا تحتاج إليهم إسرائيل في شيء. وتعتبر إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية سوقاً في قبضتها، تضخ فيه سلعها للفلسطينيين، الذين لا يمتلكون أي قدرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والسياسية الخاصة بهم. وهكذا، لم تؤدّ الآلية التي وضعتها أوسلو للاحتلال، إلى حرمان الفلسطينيين سياسياً فحسب (من خلال تعطيل الاستقلال) ولكن اقتصادياً أيضاً، مما يجعلهم يعتمدون اعتماداً كلياً على إسرائيل، وخاضعين لسيطرتها. ونتيجة لذلك، فهم يمثلون زائدة سكانية؛ يتعرضون للقمع، ولكن لا يجري استغلالهم، خاضعون للسيطرة، لكن لا حاجة لهم.
يعني هذا حرية إسرائيل في الغزو، والهجوم على الفلسطينيين، وقتلهم كلما شاءت. وأدّت هذه الحرية إلى تطورات مرعبة في المجتمع الإسرائيلي (راجع كل موضوعات جدعون ليفي في «هآرتس» أخيراً). ولا يمكن تفسير النسب الصادمة (٩٥٪ من اليهود الإسرائيليين) المؤيدة للحملة على غزة، إلا عبر العنصرية الجامحة، التي ترعاها الدولة. فعلى سبيل المثال، صارت الكراهية للفلسطينيين صارخة في جميع غرف الأخبار الإسرائيلية، الحافلة بالمسؤولين السابقين العسكريين والأمنيين المؤمنين بشدة بضرورة توجيه ضربات حاسمة إلى حماس. وهذا واضح في خطاب الحاخامات، والمستوطنين، والساسة إضافة إلى الجو العام الذي يطارد العرب.
ويجسّد هذه الروح بنحو دقيق ببني موريس في مقالته الأخيرة في صحيفة هآرتس: «يجب أن نهزم حماس في المرة المقبلة». وتحدث عن «إنهاء المهمة» و»إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل وتدمير حماس كمنظمة عسكرية، وربما أيضاً كمنظمة سياسية». ويضيف، باعتبار ذلك أمراً واقعاً: «وهذا يتطلب شهراً من القتال، يجري خلاله تطهير جميع أحياء القطاع من العناصر الفاعلة في حماس والجهاد الإسلامي وأسلحتهم. وسيتطلب ذلك ثمناً باهظاً من حياة كل من جنود الجيش الاسرائيلي والمدنيين الفلسطينيين».
ولا يمكن أن تشتعل هذه الرغبات في الإبادة الجماعية إلا عندما يتهم ما يسمى دعاة السلام في إسرائيل مثل عاموس عوز، مرة أخرى، المقاومة الفلسطينية باستخدام «الدروع البشرية» ـ بينما تشير جميع الأدلة في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، إلى أن إسرائيل هي من استخدمت الفلسطينيين بهذه الطريقة لحماية جنودها. ويعتبر قياس عوز صادماً، في محاولة متعمدة لتبرير جرائم الحرب: «ماذا كنت لتفعل لو أن جارك في المنزل المواجه لك عبر الشارع يجلس في الشرفة، ويضع ابنه الصغير في حضنه ويبدأ إطلاق النار على حجرة أطفالك؟».
ألا يستحق عوز جائزة نوبل للآداب على هذا الاستخدام الرائع لقدراته الخيالية؟ فهو ـ مثله في ذلك مثل موريس ـ يؤيد أيضاً نزع السلاح في غزة بالقوة: «أرى أن الشر المطلق في العالم هو العدوان، والطريقة الوحيدة لصد العدوان للأسف هي القوة. وهنا يكمن الفارق بين داعية السلام الأوروبي الإسرائيلي، وداعية سلام إسرائيلي مثلي». فهل يعتقد حقاً أنه يشجع السلام بينما يتحدث بلغة الكراهية؟ وبوجود دعاة سلام إسرائيليين مثل عوز، من يحتاج إلى دعاة حرب؟ سوف تتم الإشادة برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مع تبنّي عوز نهجه العدواني الهمجي الجديد.
مجالات الضغط على إسرائيل
في ظل هذه الظروف من العنصرية الاستعمارية واسعة النطاق والحرب ضد الفلسطينيين، لا خيار سوى فرض ضغط على إسرائيل. يمكن تحديد ثلاثة مجالات للضغط: الداخلي، والإقليمي، والعالمي. وعند فرض هذه الضغوط بالتزامن، تقلّ فرص تحييدها، أو التصدي لها من قبل إسرائيل وحلفائها.
أولاّ: الداخلية؛ حيث تخشى اسرائيل من فقدان السيطرة على سكان الأراضي المحتلة من خلال التظاهرات الحاشدة والمواجهات: أي من خلال طعن شعبي منظّم في نظام الاحتلال الذي فرضته أوسلو. نظام تلعب فيه السلطة الفلسطينية دورها الحاسم في مراقبة المحتلين، وإبعادهم عن الجيش الإسرائيلي، وتنسيق المسائل الأمنية مع إسرائيل عبر تسليم المشتبه بهم، والسماح لإسرائيل بإجراء عمليات الاغتيال والخطف وسجن المسلحين، والمشاركة في المعلومات الأمنية.
وإذا استمر التعاون الأمني المحلي، فسيكون لدى إسرائيل ميزة خطيرة على المقاومين المحليين وموجهي السياسة. وهذا هو المجال الرئيسي للخلاف بين فصائل المقاومة الفلسطينية (بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي) ونخبة «فتح» والسلطة الفلسطينية.
أما القيد الثاني فهو الإقليمي: يمكن أن تمثل الحركات العربية الشعبية والديمقراطية مجرد بيئة أفضل للنضال الفلسطيني والتضامن العربي. ففي الفترة الماضية، على سبيل المثال، نُفّذت عشرات التظاهرات في مختلف أنحاء الأردن تدعو إلى إغلاق السفارة الإسرائيلية، وإنهاء معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية، ووقف التعاون الاقتصادي.
وكما أوضحت غزة ٢٠١٤، فإن شعباً بلا دولة مثل الفلسطينيين حساس بشكل استثنائي للتغيرات الإقليمية. ولم يكن لإطاحة الجيش المصري الرئيس محمد مرسي، والحملة على الحركة الإسلامية في مصر، وإعادة تمكين النظام القديم مؤثراً في ترك حماس بلا حليف رئيسي في المنطقة فحسب؛ لكن في إخماد الثورة وقمعها وتشتيتها من قبل الجيش المصري والنخبة أيضاً. حرم ذلك الفلسطينيين من الدعم الشعبي المصري الذي يحتاجون إليه من أجل تحسين قدرتهم على الصمود ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
ونتيجة لذلك، صار النظام المصري مطلق اليد في خنق غزة بقدر ما يريد، سواء اقتصادياً وجغرافياً، والمساعدة على منع الوصول إلى العالم الخارجي. وإذا كانت إسرائيل هي أساساً المسؤولة عن سياسات إغلاق القطاع (منذ عام ١٩٩١) وحصاره (منذ عام ٢٠٠٧) لمنع الفلسطينيين من السفر إلى الضفة الغربية وإسرائيل – فقد كانت مصر شريكاً رئيسياً في تنفيذ الحصار على قطاع غزة. وبدلاً من تخفيفه (كما حدث لفترة وجيزة في عهد مرسي)، ساهمت مصر في تكثيفه. وساهمت على نحو خطير في احساس سكان غزة بانعدام الأمن والاحتباس، والاختناق المكاني.
الدعم العربي لإسرائيل والمقاطعة الأجنبية
لا تزال المملكة العربية السعودية أكبر دولة تدعم إسرائيل في المنطقة. وترى السعودية ـ حبيسة التحالف مع الولايات المتحدة ـ أن إسرائيل تمثل قوة في الصراع الإقليمي، ليس فقط ضد القومية العربية (من التيارات الناصرية الراديكالية، كما في ١٩٦٧)، ولكن أيضاً ضد التمكين الإيراني والشيعي الحالي في المنطقة. وكان تأييد رئيس الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل لإسرائيل صارخاً عندما اعتبر حماس مسؤولة عن الاجتياح الإسرائيلي الحالي لغزة.
وحتى بيان الملك عبد الله الذي جاء متأخراً، الذي بالكاد ذكر غزة، حفل بعدد كبير جداً من التحذيرات من «الارهابيين» لدرجة أن حركة الجهاد الإسلامي شعرت بأن الخطاب كان موجهاً ضد المقاومة الفلسطينية نفسها. وإذا كان حدوث تغيير شعبي للنظام مستبعداً في المملكة العربية السعودية اليوم، فإن إضعاف أي حلقة في السلسلة السعودية / الإسرائيلية / المصرية / الأردنية / الأميركية ليس مستبعداً، خصوصاً أن الروح الثورية العربية تعاود التنظيم والالتحام مرة ثانية.
والواقع، أن الكثير من دول المنطقة متواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ تساهم قطر في قوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، عن طريق شراء الأسلحة من الولايات المتحدة، كما أنها تستضيف أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، على الرغم من أنها تقدم الدعم الدبلوماسي والسياسي والملاذ لحركة حماس. ويعكس دعم قطر لإنهاء الحصار على غزة، ودعم الحليف الرئيسي لإسرائيل في المنطقة (فضلاً عن قمع الديمقراطية وحقوق الإنسان على أرضها، بينما تقوم بتحويل الأموال إلى الأصوليين في مصر وسورية) خصوصيات الحكم القطري فقط وليس التزامها بحرية العرب. وإذا كانت قطر لا تشكل مشكلة كبيرة مثل المملكة العربية السعودية، فإنها لا تزال مشكلة، وتلعب دوراً نشطاً في الكتلة الخليجية المعادية للديمقراطية الإقليمية (مجلس التعاون الخليجي).
ماذا عن الضغط العالمي؟ لا شك في أن الرأي العالمي ذو أهمية. وكلما فهم الجمهور في الغرب واقع الاحتلال الإسرائيلي والفاشية الإسرائيلية الحالية، كان ذلك أفضل. ويمكن أن يكون ضغط المجتمع المدني فعالاً، إن لم يكن في وقف الحروب، ففي زيادة أعباء الاحتلال الإسرائيلي: مقاطعة البضائع والخدمات المرتبطة بالاحتلال، والدعوة إلى فرض عقوبات التسليح ضد إسرائيل، وملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية.
في العقد الماضي، زاد التضامن مع الفلسطينيين بشكل كبير في الكثير من المجالات المختلفة، كما أنه في سبيله لأن يكون أكثر تماسكاً في أساليبه ومطالبه. وتعتبر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (دي بي إس) أفضل وسيلة يقول بها المواطنون في الغرب لإسرائيل إن الاستعمار غير مقبول.
وهناك أشياء كثيرة ينبغي أن تحدث حتى يكون اجتياح غزة ٢٠١٤ آخر حروب إسرائيل على الفلسطينيين. فليس باستطاعة إسرائيل وحلفائها وقف النضال من أجل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير لفترة أطول من ذلك كثيراً. ولن تكون العدالة على هوى إسرائيل، ودعونا نأمل أن تتحقق قريباً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.