تصوير الحروب فن قديم قدم التصوير الفوتوغرافي بحد ذاته. ولعل الصور الأولى التي نملكها تعود إلى حرب القرم (١٨٥٣ – ١٨٥٦)، التي نشبت بعد أقل من عقدين على الاختراع «الرسمي» للتصوير الفوتوغرافي في ١٨٣٩. كذلك، استُعمِلت الصور الفوتوغرافية لتوثيق الحرب الأهلية الأميركية (١٨٦١ – ١٨٦٥) والحرب العظمى (أو الحرب العالمية الأولى) عام ١٩١٤. وعلى الرغم من أنّ بعض الصور التي نملكها عن هاتين الحربين الأخيرتين كانت مركبة في الواقع، تبقى جميعها وثائق تاريخية مهمة١؛ فهي تقدم لنا معلومات ملموسة عن اللوازم اللوجستية للحرب، مع التلميح في الوقت عينه إلى دوافع و/ أو نيات محتملة لدى المصوّر (المصورين). في ما يأتي، سأعاين عدداً من الصور التي تظهر الجبهة الفلسطينية خلال الحرب العالمية الأولى، وهي صور محفوظة حالياً في أرشيف مكتبة الكونغرس.
بالنظر إلى أهمية الصور كمرجع رئيسي لدراسة تاريخ الحروب، من المستغرب أنّ قلة قليلة من المؤرخين يستعملونها في أبحاثهم. تحفظ الصور لحظة مضت، وتبقى جامدة لنتمكن من رؤيتها كما بدت للكاميرا عندما أصدر غطاء العدسة صوته (طقطقة). من هذا المنطلق، تخبر الصور ما نراه فيها وما لا نراه على حد سواء. فهي تعرض عناصر مهمة بالنسبة إلى المؤرخين، مثل أسلوب اللباس، الأدوات والأسلحة، وتغني خيالنا التاريخي. ولعل الأهم من ذلك كله أنها تحفظ ما يمكننا أن نسميه «هالة التاريخ».
غنيٌّ عن الذكر أنّ الحرب العظمى، أو «الحرب الشاملة» الأولى، شُنَّت على جبهات عدة. وعلى الرغم من مساحة الأراضي الواسعة التي غطّتها، تسلطت عليها عدسات الكاميرات بشدة. لكن مسارح الحروب لم تحظَ جميعها بالقدر نفسه من الاهتمام. بعد مضي قرابة قرن على سكوت المدافع في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩١٨، لا تزال صور الجنود في خنادقهم والجثث المتفحمة على الجبهة الغربية، إلى جانب صور القادة في لباسهم العسكري الكامل، متوافرة على نطاق واسع حتى في يومنا هذا. وعلى الجبهة الشرقية، استعمل البريطانيون والفرنسيون التصوير، أكثر من العثمانيين ربما، على الرغم من أنّ هؤلاء أيضاً استعملوه.
صور بتكليف من «الهلال الاحمر»
يشكّل ألبوما صور جون وايتينغ المحفوظان في مكتبة الكونغرس مثالاً على التوثيق بالصور من الجانب العثماني ثم من الجانب البريطاني. هذان الالبومان، اللذان أهديا إلى وايتينغ وزوجته غرايس، مكرسان بالكامل لفلسطين وسيناء في الفترة الممتدة من عام ١٩١٥ حتى عام ١٩١٧. كان وايتينغ نفسه مصوراً في قسم التصوير في البعثة الأميركية في القدس، ولربما هو الذي صوّر معظم، إن لم يكن كافة، الصور التي يتضمنها الألبومان٢.
عام ١٩١٥، إثر إقامة فرع القدس في جمعية الهلال الأحمر العثمانية برئاسة حسين الحسيني، رئيس البلدية المطرود آنذاك، فوضت الجمعية إلى وايتينغ توثيق نشاطاتها. وبهذه الصفة، استطاع توثيق حياة الجنود على جبهتي فلسطين وسيناء. الألبوم الأول مكرّس بالكامل لمسرح الحرب العثمانية، أما الثاني فيغطي الحرب بعد أن احتل البريطانيون القدس٣.
يحوي الألبوم الأول في طياته ٢٤٣ صورة، الكثير منها مرتبط ارتباطاً مباشراً بالنشاطات العسكرية؛ إذ إنّ بعضاً منها يجسّد مواقع بالقرب من ساحات المعركة. توثّق صور الأساطيل في البحر الميت، على سبيل المثال، التي تظهر نقل الحبوب من السواحل الشرقية، نشاطاً حاسماً بالنسبة إلى القوات في زمن المجاعة الكبرى. أما الأسباب الرئيسية للمجاعة، فتمثلت في الحصار البحري البريطاني وهجمات الجراد عام ١٩١٥ واقتصاد الحرب. من المنطلق نفسه، إنّ الصور القليلة التي تظهر إقفال مكاتب البريد الأجنبية في القدس هي صور حرب. جاء إقفال مكاتب البريد نتيجة لقرار الحكومة إلغاء اتفاقيات الاستسلام التي أتاحت إقامة هذه المكاتب في البلاد. رغم ذلك، جوهر المجموعة التي في الألبوم مكرس للنشاطات الميدانية مع الجنود، الطاقم الطبي والضباط الذين يتصدرون الواجهة.
يبدو أنّ الألبوم منظم بحسب التسلسل الزمني ومُعَدّ بدقة. بدءاً بصورة لجمال باشا، قائد الجيش العثماني الرابع، مروراً بـ«الاحتفالات» التي نظمت دعماً للمجهود الحربي، يعرض هذا الألبوم بحسب التسلسل الزمني نشاطات الجنود في الخنادق وهم يصوبون بنادقهم، ويظهر الطاقم الطبي واقفاً أمام عدسات الكاميرا. مجتمعة، تروي الصور في الألبوم قصة في إطار ما يبدو سرداً رسمياً يظهر الزعيم، والشعب المبتهج، والجنود في مسيرة والطاقم الطبي على الجبهة، وكأنها قصة نجاح٤.
صور حربية مركّبة
في هذا المقال القصير، لا أستطيع مناقشة الألبوم بكامله. على هذه المهمة أن تبقى على الرفّ بانتظار مقال أكثر إسهاباً وتفصيلاً آمل كتابته في المستقبل القريب. مع ذلك، ثمة خصائص معينة مميزة في هذا الألبوم بشكل عام أود أن أسترعي الانتباه إليها. أولها كثرة الصور المركبة ضمن هذه المجموعة. أعتقد أنّ معظم الصور التي تشمل الجنود مركبة. فهي تظهر الجنود في ما يبدو أنه اشتباك عسكري، كالاصطفاف في الخنادق على بطونهم مصوبين بنادقهم نحو ما يبدو أنه مواقع العدو. وتظهر صور أخرى الجنود والضباط واقفين في صور فردية أو جماعية أمام مبانٍ حكومية أو أمام معسكراتهم. يظهر التركيب بشكل واضح في الصور الجماعية من خلال طريقة اصطفاف الجنود والاختيار الدقيق لإطار الصورة، فيما يبدو التركيب أقل وضوحاً في الصور الفردية. مع ذلك، يكشف تفحص صور مماثلة عن درجة من التركيب. فيما يبقى الجنود منخفضين في خنادقهم، للإيحاء ربما بأنهم كانوا يحاولون تفادي نيران العدو، تشير الزوايا من حيث التقطت الصورة إلى أنّ الكاميرا كانت موضوعة على مستوى أعلى، والمصور يقف على مرأى ومسمع من كل شيء. لو كانت نيران العدو مصدر قلق، لكان المصور يقف على مرأى واضح من العدو خارج الخنادق في خطر شديد. يبدو الجنود منظمين في الصفوف، وواقع أنهم يبدون جميعهم في وضعيات لا تحجب جنوداً آخرين إشارة أخرى إلى أنّ الصور قد أخذت بعد قضاء متسع من الوقت في تنظيم من يظهر فيها وخلال أوقات توقف القتال. كذلك، تشير وجوه بعض الجنود الضاحكة أو وقفاتهم المسترخية إلى غياب ذاك النوع من التوتر الذي يرافق عادة القتال.
رغم ذلك، إن التخطيط الدقيق للصور لا يجعلها بالضرورة مزيفة أو غير جديرة باهتمامنا. فبادئ ذي بدء، إنها صور التقطت في الموقع نفسه، والأشخاص الذين يظهرون فيها هم جنود أصليون تمركزوا في الأماكن نفسها التي جرى تصويرها. الأسلحة التي يمسكونها هي نفسها الأسلحة التي استُعمِلَت في القتال؛ والخنادق قد حُفِرَت استعداداً للمعركة.
الأمر نفسه ينطبق على الصور حيث يتخذ الطاقم الطبي الوضعية المناسبة أمام الكاميرا، أو تلك التي تظهره منكباً على معالجة مريض في مستشفى في القدس أو في مستشفى ميداني. يوحي نقص الجثث المتداخلة والقسوة في التقاط الصورة بأنها صور مركبة. بيد أنّ صوراً أخرى تظهر الجيوش في تشكيلات عسكرية أو في مسيرات في القدس أو في أماكن أخرى، لا توحي بأي نوع من التركيب يتعدى اختيار الموقع الأمثل والتوقيت المناسب لالتقاط الصورة.
بروباغندا أو تغطية مصورة؟
يجسّد عدد من الصور زعماء وضباطاً خلال زياراتهم لفلسطين أو للجبهة. صور زيارة أنور باشا للقدس برفقة جمال باشا، أو الصور التي التقِطت لأطباء مشهورين (مثال د. توفيق كنعان)، وضباط آخرين (مثال جمال الثاني)، والحاكم زكي بيك أو نشأت بيك، صور إخبارية تتعلق بمساعي الحرب، وقد كانت ذات فائدة بالنسبة إلى الأشخاص الذين يظهرون فيها في إطار عملهم.
على الرغم من صور قليلة يعرض فيها جنود مصابون جروحهم أمام الكاميرا، ينمّ جوهر المجموعة التي في الألبوم عن تنظيم كبير واستعداد للحرب. وبالعودة إلى موضوع القصة التي يرويها الألبوم، يرى المرء فيه نموذجاً عن البروباغندا المرئية أكثر منه تغطية فعلية للحرب وتكلفتها الباهظة. الألبوم بحد ذاته منظم بأسلوب «وطني» يعرض نوعاً ما سرداً بطولياً للأحداث. من البديهي أنّ مهمة المصور تمثلت في توثيق عمل جمعية الهلال الأحمر، وذلك ربما لتبيين أهمية مساهمتها في جهود الحرب. بيد أن السرد القصصي بحد ذاته، على ما يبدو، يصبّ في مصلحة الجيش والضباط المسؤولين أكثر منه في مصلحة وكالة إغاثة كالهلال الأحمر.
هل اُنتِج هذا الألبوم بناءً على طلب جمال باشا أو أحد قادته البارزين في القدس؟ هذا ممكن حتماً، وخصوصاً في ضوء ادعاء أحد أعضاء قسم التصوير في المستعمرة أنهم كانوا المصورين الرسميين لجمال باشا٥. لكن هذا الادعاء لم يثبت تماماً. فضلاً عن ذلك، لدينا صور كثيرة أخرى التقطها مصورون آخرون اتخذوا من القدس مقراً لهم مثال خليل رعد٦.
في المحصلة، أودّ أن أوضح نقطتين مهمتين في ما يتعلق بالصور بحد ذاتها وليس بالألبوم كقصة. ترتبط الأولى بواقع أنّ صور الحرب تمثل نطاقاً آخر استُعمِل فيه أسلوب التلاعب بالصور. جرى التحضير مسبقاً وبدقة لكل ما نراه في الصور، وذلك لمصلحتنا. لم يُقدَّم أي شيء يرتبط مباشرة بمعاناة الجنود أو بالقتال الحقيقي. عوضاً عن ذلك، ابتكر المصورون واقعاً بديلاً يهدف إلى تغذية رؤية المشاهد التي تنضوي ضمن إطار عقائدي. بمعنى آخر، إن ما نراه لم يعكس تماماً الظروف المادية التي كانت سائدة في معسكرات الجيش أو في ساحة المعركة. أما النقطة الثانية، فتتمثل في أنّ غياب تجربة حرب «حقيقية» في الصور لا يجعلها غير جديرة بالاهتمام. على العكس تماماً، باعتبارها صور جنود وزعماء ومواقع حقيقية، هي تتيح لنا رؤية هالة تلك الفترة الزمنية كما تعكسها تفاصيل الصور والنية الأيديولوجية التصويرية التي تكمن وراءها في آن واحد. تظهر لنا هذه الهالة أشخاصاً حقيقيين سيشاركون في نهاية المطاف في الحرب ومحيطهم. في الوقت عينه، هي تعكس الصورة التي أراد قادتهم أن يقدموها لنا على الأرجح: صورة مجموعة من الأبطال على وشك أن تأخذ على عاتقها المهمة الكبرى المتمثلة في استعادة مصر.
ازالة صندوق بريد فرنسي تزامنا مع التخلص من اتفاقيات الاستسلام الاجنبية.
الاستعراض الأخير الذي قام به جمال باشا وكريس فون كرسنشتاين في القدس عام ١٩١٧.
تظهر الصورة الأولى في الألبوم البيك (العظيم) جمال باشا، على شاطئ البحر الميت، في ٣ أيار (مايو)، ١٩١٥.
عاكف بيك، جراح يعمل في الهلال الأحمر وممرضات، عام ١٩١٧.
نشأت بيك وطاقم العاملين في الهلال الأحمر في المستشفى الإنكليزي في القدس عام ١٩١٧.
- ١. يحتمل أنّ الصور المركبة كانت تستعمل أيضاً خلال حرب القرم. بيد أنني لست على علم بأي دراسات تشير إلى ذلك.
- ٢. وايتينغ هو ابن أميركيين انتقلا إلى القدس ليكونا جزءاً من مجموعة مؤسسي المستعمرة الأصليين. ولد وايتينغ في المدينة عام ١٨٨٢. وقد افتتحت المستعمرة الأميركية في عام ١٨٩٨ قسم التصوير فيها بإدارة إيليا ماير، أحد أبرز أعضائه. مارس ماير التصوير قبل تأسيس القسم. وفي النهاية ظهر السويدي لارس (لويس) لارسن بصفته المسؤول عن إدارة القسم مع وايتينغ، إلى جانب آخرين بما في ذلك إيريك ماتسون، كان أحد أفضل المصورين. المعلومات عن تاريخ المستعمرة الأميركية وقسم التصوير فيها متوافرة على الموقع الإلكتروني لمكتبة الكونغرس على العنوان الآتي: www.loc.gov/pictures/collection/matpc/background.html.
- ٣. لمزيد من المعلومات، انظر الموقع السابق ذكره، فضلاً عن الموقع الآتي: www.loc.gov/rr/mss/acquisitions-adds.html#whiting.
- ٤. بالإمكان تقييم الألبوم عبر الإنترنت على الموقع الإلكتروني hdl.loc.gov/ loc. pnp/pmsca13709. كافة الصور التي تظهر هنا من الألبوم وحقوق طبعها ونشرها محفوظة لمكتبة الكونغرس.
- ٥. يظهر ذلك في النص الذي كتبه لارسن.
- ٦. يظهر عدد من الصور المتوافرة في مكتبة معهد الدراسات الفلسطينية في بيروت والتي التقطها رعد صور مشابهة لتلك الوارد وصفها اعلاه فضلا عن صور لجمال باشا واقفا امام الكاميرا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.