العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

فريد الأطرش

ظلَمَه النقد وأنصفه الناس

النسخة الورقية

حين نتحدث عن مفهوم المدرسة الموسيقية، انما نعني أسلوباً فنياً ذا معالم محددة وأطر واضحة ورؤية موسيقية خاصة وفكر تلحيني مميز يشكل اتجاهاً موسيقياً قابلاً للحياة والاستمرار وقادراً على دمغ حقبة فنية بملامحه الخاصة الفريدة ينضوي تحت لوائه مريدون وتلاميذ يسيرون على نهجه ويتبعون سبيله. مع ذلك، فإن ثمة أعلاماً في تاريخنا الموسيقي المعاصر اضطرونا الى توسيع دائرة مفهوم المدرسة الموسيقية لتصبح توصيفاً لنتاجهم الفذ وعبقريتهم المدهشة. هؤلاء الكبار أضافوا الى تاريخ الفن صفحات خالدة شكلت مرجعاً لانطلاقة جديدة وفن جديد من وحي إلهامها وروعة إبداعها.

فإلى جانب الرواد الكبار محمد عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وزكريا أحمد، يقف فريد الأطرش في منزلة حائرة بين الريادة والتقليد، لكن الأكيد أنه حالة خاصة في تاريخ الموسيقى العربية تحتل منها موقعاً نافراً عن السياق، اذا جاز لنا التعبير، وليس النفور هنا بمعناه السلبي، انما نقصد به الفرادة والشرود عن السرب في كثير من الأحيان كجدول شبّ عن الطوق وأصبح نهراً بحد ذاته نبتت على ضفافه الأشجار. ذلك هو الموسيقار فريد الأطرش وليد الحضارة الموسيقية العربية الشرقية، وابن ثقافتها الفنية ونهضتها التي عرفها الوطن العربي بعد التحول الموسيقي الكبير الذي أحدثه سيد درويش في مسيرة الموسيقى العربية وانتقالها الى آفاق التعبير الرحبة.

مع ذلك فإن فريد الأطرش من الفنانين الذين أثاروا جدلاً في الأوساط النقدية، إذ أخرجه بعض النقاد من لائحة الرواد على اعتبار أن الريادة تقتضي إحداث تغيير في الفكر الموسيقي أو تأسيساً لتقليد موسيقي جديد أو ابداع شكل موسيقي لم يأتِ به الاوائل ممن سبقوه، لكنهم فعلوا ذلك من دون أن يضعوه في مكانته التي يستحقها من وجهة نظرنا.

انصهار الثقافات

ونحن اذ نمتنع عن الدخول في لعبة التصنيف هذه، نؤكد أنّ فريد الأطرش هو لا شك صاحب مدرسة شديدة الخصوصية والتفرد، لا تشبه احداً سواه. مدرسة تلحينية انطلقت من دوائر ثلاث: دائرة محلية شهدت أولى خطواته الفنية في بيئته الشامية، ودائرة اقليمية عربية شرقية عرفت نضجه الفني وتألقه في بيئته القاهرية واستلهمت فن الرواد الأوائل ونسجت على منوالهم، ثم دائرة عالمية استلهمت موسيقى الشعوب الأخرى وايقاعاتها كالسامبا والرومبا والتانغو، وكذلك بعض ملامح الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، لا على سبيل المحاكاة الفجة بل من خلال اخضاعها لروح الشرق وهضمها في بوتقته باقتدار. وذلك نظراً لقدراته الفنية الفائقة وموهبته الحقيقية التي استطاعت أن تبتلع هذه المؤثرات والروافد وتصهرها في موقد خيالها الرحب لتخرج علينا بأسلوب تلحيني مميز ذي ملامح محددة وبصمات خاصة لا يخطئها المتذوق للموسيقى. فريد الأطرش اذاً هو النموذج الأمثل لهذا الانصهار بين الثقافات الموسيقية المتعددة والمتنوعة وأفضل من سكبها في نهر الموسيقى العربية حتى انسابت في مجراه كأحد مكوناته من دون أن تذوب فيه بل نشعر بوجودها ونلمح طيفها كظلال تلوح من بعيد.

فريد الأطرش يمثل في ثقافتنا الموسيقية حالة فنية أضافت وأثرت واستطاعت أن تخترق حواجز المحلية للانطلاق الى العالمية من خلال مجموعة من مقطوعاته الرائعة التي لفتت انتباه الموسيقيين الغربيين. من هذه المقطوعات قصيدة «يا زهرة في خيالي» التي سحرت الألباب وجابت شهرتها الآفاق وتردد صداها في أنحاء العالم وعزفتها الأوركسترات العالمية في أكثر من مكان. ما لم يحدث لأحد من معاصريه من الكبار أو الذين سبقوه. وكان من أوائل الملحنين، بعد محمدعبد الوهاب، الذين ألفوا المقطوعات الموسيقية المحضة التي ذاعت شهرتها عربياً وعالمياً، واهتموا بالمقدمات الموسيقية التي عزفتها الأوركسترا بكامل عديدها وآلاتها، كما اهتم بتوظيف الكورال بشكل بديع في اعماله واللجوء الى تقنية البوليفوني الغربية وتطويعها للموسيقى الشرقية باسلوب خلّاب، كما في ختام قصيدته الشهيرة «عدت يا يوم مولدي».

ونحن اذ نؤكد أن التقدير العالمي ليس هاجساً بالنسبة لنا ولا معياراً وحيداً لأننا نؤمن بأن «أهل مكة أدرى بشعابها» والذوق الغربي قد ينسجم مع ما يناسبه من موسيقى يستطيع أن يفهمها. مع ذلك لا ننكر أن هذا التكريم الغربي عزز مكانة فريد الأطرش محلياً وعالمياً، وربما يكون قد أنصفه قليلاً ورفع عنه ظلماً أصابه في وطنه على المستوى النقدي والتأريخي. وطنه الذي شغلته كثيراً سيرة حياته المليئة بالأحداث الدرامية التي بلغت ذروتها في وفاة شقيقته اسمهان، ونظراً لارتباط الكثير من أعماله باللوحات الراقصة في الأفلام السينمائية والتي وضعت خصيصاً لترقص عليها سامية جمال أو تحية كاريوكا وسواهما. هذا بالإضافة الى أنّ فريد الأطرش قدم اضافاته الحقيقية وأعماله الكبرى الجديرة بالتأريخ والبحث حتى منتصف الستينيات، طبعاً مع بعض الاستثناءات في حقبة النصف الثاني من الستينيات والسبعينيات التي لم يعش منها سوى ٤ سنوات، اقتصرت خلالها أعماله على الأغنية الشعبية الخفيفة التي لم تضف الى تاريخه الكثير باستثناء قصيدة «عش أنت» وأغنية «على الله تعود» التي غناها الفنان وديع الصافي. هذا الضمور على مستوى التألق الفني لا يقتصر على فريد وحده، ذلك أن عطاءات عمالقة الفن عرفت حقباً ذهبية ما لبثت أن خمد أوارها في المراحل الأخيرة من حياتهم، بمن فيهم الموسيقار المجدِّد والمتجدد دائماً الأستاذ محمد عبد الوهاب. فريد الأطرش إذاً اضاف وجدد وله أواليه الخاصة كما له اقتباساته التي لا تقتصر عليه وحده بل يضاهيه في ذلك موسيقار الأجيال والأخوان رحباني وسواهم.

كلاسيكيات الملحن المجدد

قدم فريد الاطرش الألحان الكلاسيكية الشرقية الطويلة التي طبعت الحقبة الموسيقية العربية الثرية جداً في الأربعينيات والخمسينيات والنصف الاول من الستينيات كـ«الربيع»، و«أول همسة»، و«حكاية غرامي»، و«نجوم الليل»، و«حبيب العمر»، و«عدت يا يوم مولدي»، و«بقى عايز تنساني» (غنتها ايضاً سعاد محمد)، و«ختم الصبر» التي رشحها الناقد سعد آغا القلعة ضمن اهم ١٠٠ أغنية عربية.

هذه الأعمال الشامخة التي وقف فيها فريد الأطرش جنباً الى جنب موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والعبقري رياض السنباطي، نالت جماهيرية طاغية واستحقت تقديراً عند بعض النقاد المتحمسين لفنه، اذ قدّم الجديد من خلالها كما يؤكد رئيس اللجنة الموسيقية العليا الاستاذ أحمد شفيق أبو عوف الذي رأى أن فريد الأطرش قد أقدم على «المزج الغريب والبديع بين إيقاع الفالس والمصمودي في اغنية الربيع في سابقة فنية لم يسبقه اليها احد».

هو أول من قدم الأوبريت المكتملة العناصر في الأعمال السينمائية، وقد اعتبر النقاد أوبريت «انتصار الشباب» الشكل الأمثل لمفهوم الأوبريت في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة. كذلك فإن الأطرش كان اول من صاغ المقدمات الموسيقية الشامخة في أعماله الكلاسيكية كما في أغنية «بنادي عليك» التي طوّع فيها الموسيقى الشرقية لأداء الأوركسترا السمفوني. في هذا العمل الكبير نجح الموسيقي في ابراز معنى المناداة ـــــ المناجاة الى حد بعيد من خلال الغناء الفالت المسيطر بشكل عام على الكوبليهات التي سرت نهاياتها على ايقاع الفالس قبل أن تسلّم زمامها إلى تلك الآهات الندائية التي تفصل بينها، لتكثف المعنى الذي على أساسه بنى الشاعر أنشودته وتلقي بظلالها الأخّاذة على العمل من أوله الى آخره. يدل هذا العمل الفذ على فهم عميق لروح الموسيقى الشرقية وإمكاناتها الهائلة في اختراق وتوظيف أشكال الموسيقى الكلاسيكية الغربية في بحر مقاماتها الواسع والعميق. عمل «أطرشي» بامتياز يجبرنا على وضعه خارج التصنيف التقليدي وإن أُخذ عليه ذلك الفصل الحاد بين المقدمة والأغنية.

كذلك فعل في رائعته الثانية «نجوم الليل»، فقد بدا فيها فريد الأطرش موسيقياً كلاسيكياً من طراز رفيع حلّق في ذرى الموسيقى التعبيرية للارتقاء بالشكل التقليدي للأغنية الشرقية ومنحها أبعاداً انسانية عابرة للجغرافيا وأطلق سراحها من أسر المكان والزمان لكي تلتقطها كل أذن تطرب للموسيقى ويستخفّها النغم. فغدت «نجوم الليل» كنجوم الليل يستضيء بها التراث الانساني ويناجيها كل من أظلمت نفسه واستبدّ به الشوق الى ومضة من نور. مقدمة خيالية تصويرية كأنها من عزف السماء ترويها الأوركسترا بكامل عدّتها وبهائها، حوارية موسيقية بديعة على مستويات عدة بين مجموعة الوتريات وآلات النفخ وبين الاوركسترا والبيانو وبين الآلات الغربية والآلات الشرقية الوترية والإيقاعية وبينها وبين آلة القانون، مهرجان من الألم الجماعي والتشاكي الجميل أبحر بنا الى أعالي الموسيقى، هناك، حيت تتكشف الحجب فيغدو المغلق هو الوضوح بذاته.

مقدمة مهيبة بدأت بذلك التآلف البديع بين نهاوند الوتريات وكورد الآلات الهوائية أو النفخ، ثم لامست مقامات أخرى كالعجم والحجاز لتعود وترسو عند شاطئ الكورد، العمود الفقري لهذا العمل، تحكي أحوال النفس الشاكية من الظلم تستكين حيناً وتتمرد أحيانا تهدأ نيرانها مرة وتضطرم أخرى. تعبّر عن نوع من التساؤل الاستنكاري للظلم والقسوة موضوع الأغنية بدا فيها فريد الأطرش متأثراً بالكلاسيكيات الأوروبية، الاسبانية خاصة، من خلال اسلوب توظيفه الدرامي لمقام الكورد واستلهام روح الفلامنكو من خلال إحداث الاحساس بذلك الرجع البعيد للصوت الايقاعي السريع لآلة الكاستانييت الشهيرة لكن بصوت الصنوج في آلة الرق الايقاعية، في محاولة لتجنب التغريب الكلي. حتى اذا انتهى من رسم هذه اللوحة التعبيرية ترك ريشته لتستريح في حضن الحجاز، المقام الشرقي المناسب للتعبير عن الدموع واللوعة، الذي به يبدأ الغناء حيث يجول فريد بين الشهناز والصَّبا والراست والبياتي ليعود أخيراً وينهي الأغنية بمقام الكورد لكن بطعم عربي شرقي المذاق.

الطقطوقة

كذلك قدم فريد الأطرش لقالب الطقطوقة خدمات جليلة ونوّع أسلوب تناولها وأعطاها بعداً غير تقليدي في الكثير من ألحانه، منها على سبيل المثال الطقطوقة الرومانسية الراقية «مش كفاية». طقطوقة رقيقة كقطعة الدانتيلا ارتقى بها فريد الأطرش الى مستوى الأعمال الكلاسيكية من حيث الوقار والعمق وتلك الانسيابية المتأنية الهادئة التي يسير اللحن في خطاها على إيقاع التانغو الأثير في أعماله. إيقاع ثابت لم يتغير، تعزفه الوتريات والأكورديون. عمل خالٍ تماما من الآلات الايقاعية التي قد يؤدي وجودها الى خدش هذه الانسيابية الرقراقة التي عبّرت عنها الوتريات من أول اللحن الى آخره. الكمنجات في هذا العمل تقوم بدور التكثيف والدفع بالمعنى الى منتهاه، فهي تكمل ما بدأه فريد، وتبوح بما لم يبح به كاللازمة «الملتاعة» التي تلت المذهب مباشرة على سبيل المثال. لذلك لا يمكننا اعتبار هذه اللوازم الامتدادية لما هو مغنى توزيعاً بالمعنى المتعارف عليه، أي كياناً قائماً بحد ذاته في موازاة الميلودي، بل هو توزيع بسيط يعتمد على اللوازم التي تربط بين الكوبليهات وبين الجمل الموسيقية. ذلك أن التوزيع المعقد من شأنه أن يساهم في تشتيت اللغة الموسيقية الراقية التي اتخذت شكل الهمس الصريح القائمة أساساً على التعبير عن نوع من الرجاء الذي يتطلب البوح المباشر والوصول الى الهدف بأبسط الوسائل وأقصر الطرق.

وعلى الرغم من الانطباع السائد من أن الحزن مسيطر بشكل عام على نتاج فريد الأطرش، غير أنه قدم مجموعة كبيرة من الاعمال التي لا تخلو من البهجة والسرور. نتوقف بشكل خاص عند أغنيته الشهيرة جدا «جميل جمال». طقطوقة تنوعت مقاماتها ضمن مساحة زمنية صغيرة نسبياً (ست دقائق) وإيقاع مقسوم يراوح بين سريع في اللوازم الموسيقية يتباطأ في الكوبليهات الثلاثة التي ربط فريد الاطرش بينها بلوازم ثلاث عزفت بنفس الطريقة والتكنيك والروح لكن بثلاث مقامات مختلفة صاغ منها الكوبليهات البياتي في الأول، والحجاز في الثاني، والصبا في الثالث، يعود بعد كل منها الى مرجّع النوى أثر ليسلّم المذهب الى الكورال. لكن اللافت حقاً في هذا العمل البهيج هو كيفية استخدامه البديع لمقام الصّبا في الكوبليه الأخير واعطائه بعداً جديداً غير مألوف. هذا المقام الحزين حدَّ النحيب، بدا في هذه الأغنية الرشيقة، بطعم الفرح الشجيّ وهي الحالة التي يكون عليها العاشق في منزلة تتأرجح فيها نفسه بين لواعج الوجد ومباهج الوصال، فيما غالبية الألحان التي ولجت عالم هذا المقام صيغت ببعده المتعارف عليه المعبّر عن شدة الحزن والألم. هنا يطوّعه فريد الأطرش باقتدار لحيوية الفرح الذي عبّر عنه المشهد السينمائي الذي شدا فيه هذه الأغنية الجميلة. صاغ فريد الأطرش اذاً هذه الطقطوقة من ٤ مقامات مختلفة لكنها مشتقة بعضها من بعض هي النوى أثر ثم البياتي ثم الحجاز ثم الصَّبا في صياغة لحنية بالغة الجمال والذوق والعمق التعبيري ساهمت لا شك في تطوير فن الطقطوقة ودفعه في اتجهات جديدة.

فريد الاطرش، «أول همسة» ١٩٧٢

الأغنية الوطنية

كان فريد الأطرش صاحب همّ عروبي، قومي، انساني، حاول أن يعبِّر عنه من خلال فنه، ومن أجل هذا الهم قدم فريد الأطرش إسهامات يمكننا القول إنها ساهمت في التقريب بين ثقافات الشعوب أملاً في النهضة بالموسيقى العربية ومنحها بعداً انسانياً متجاوزاً للأعراق والأجناس والقوميات. بدأها أولاً بالدائرة العربية القومية كما في أوبريت «بساط الريح» التي مر من خلالها على الدول العربية كلها ليعزز فكرة الوحدة ونبذ الفرقة.

وفي مجال الأغنية الوطنية قدم أعمالاً قليلة لكن مميزة، تتراوح بين الأغنية الوطنية الشعبية ذات الطابع العاطفي كأغنيتيه الناجحتين «سنة وسنتين» و«علم العروبة يا غالي»، والنشيد الحماسي الوطني كرائعته «المارد العربي». يستوقفنا هذا العمل الحماسي القومي في موضوعه، ببنائه اللحني الذي يسير على ايقاع الخبب أو حوافر الخيل كخلفية ثابتة تعزفها الطبول بمصاحبة الآلات النحاسية التي تبدو كأنها تعلن النفير والتعبئة العامة من أول العمل الى آخره كأنها الخيول العربية اذ تتقدم في مسيرة لا يريد لها أن تتوقف حتى تحرير كامل التراب العربي من النهر الى البحر. ليس في تاريخ الأغنية الوطنية العربية المعاصرة عمل اتخذ ما يشبه هذا الأسلوب الذي ربط موسيقياً بين العروبة والخيل، هذا الربط الرمزي التقليدي في ذاكرة الأدب العربي لم يكن تقليدياً في الذاكرة الموسيقية.

المطرب

قدم فريد الأطرش خلال مسيرته الفنية عدداً كبيراً جداً من الألحان الهامة التي أثارت جدلاً نقدياً واستحثت الدارسين على البحث والتحليل في هذا النتاج الكبير والغزير لموسيقار شق طريق الفن بكفاح مرير وموهبة حقيقية ومعرفة موسيقية عميقة جعلته جديراً بالمكانة التي وضعته في القلوب من المحيط الى الخليج كأحد أكثر الفنانين العرب جماهيرية على الإطلاق.

فريد الأطرش كان مؤسسة فنية مكتملة العناصر، هو مثلث موسيقي متساوي الأضلاع غناءً وعزفاً وتلحيناً. فريد الاطرش المطرب يمتلك مساحة صوتية كبيرة متفردة ومتوائمة مع خصوصيته كملحن، وبالتالي كان يصعب على غيره أداء بعض ألحانه التي غناها بنفسه، لا سيما تلك التي ترتكز على إظهار مساحته الصوتية الهائلة وقفلاته الخاصة المميزة. صوت عملاق بإجماع الدارسين وذوي الاختصاص بغضّ النظر عن القماشة الصوتية التي قد يُختلف حولها بين «محبّ غالٍ ومبغض ضال». طوّع فريد أداءه الشامّي النشأة للغناء المصري بشكل مذهل، وقد أدى الموال المصري بأسلوبه الخاص الشامي الروح، فجمع الى الرقة والحنان وسلاسة الأداء المصري، العنفوان والقوة التي يتميز بها الاسلوب الغنائي لأداء الموال في بلاد الشام.

اما ألحانه للآخرين فكان يراعي فيها اسلوبهم الخاص وقدراتهم الصوتية في الأداء مع منحها اسلوباً فريداً كان يتميز به هو. لذلك كان باستطاعة أي متذوق للموسيقى أن يميز أعمال فريد الأطرش من غيرها بسهولة نظراً لوضوح بصماته وتفرد أسلوبه في تناول المقامات الشرقية وتوظيفها بطريقة تجمع بين المدرستين الشامية والمصرية مما يجعله صاحب اتجاه موسيقي حقيقي في تاريخ الفن العربي المعاصر.

الـعـود

قبل فريد الأطرش كانت آلة العود، كباقي آلات التخت الشرقي، تطرب الناس ولها مكانتها وموقعها المميز وسط التخت، لكنها لم تكن تفوق القانون مثلاً، من حيث مكانتها وتصدّرها أو قيادتها للتخت الشرقي ولا من حيث شغف الناس بها، حتى ظهر عود فريد الأطرش.

هذه الآلة الشرقية الجميلة الموغلة في القدم والتي عرفت أسماء كبيرة من أمثال الرائد الموسيقي العظيم محمد القصبجي، والمعلم الكبير الشريف محيي الدين حيدر، وتلميذه جميل بشير وأخيه الاصغر منير بشير الذي عدّه النقاد من أهم عازفي العود في التاريخ المعاصر (بغض النظر عن رأينا الشخصي في هذه المسألة) والفنان صليبا القطريب وفريد غصن وغيرهم من الأعلام الذين ساهموا في النهضة الموسيقية العربية بشكل عام، وفي نهضة هذه الآلة العريقة وتطوير تقنياتها واكتشاف آفاق جديدة لقدراتها الكامنة. غير أن ذلك ظل في اطار النخب المهتمة بالموسيقى والدارسين والنقاد والفئات القادرة على ارتياد المسارح الخاصة. ان الاضافة الحقيقية التي سجلها فريد الأطرش في هذا المجال هي انه استطاع ان يحمل هذه الآلة من الصالونات الفنية والنخبوية الى صفوف الجماهير الشعبية العريضة.

كان عود فريد الأطرش يكاد ينافس فريد نفسه جماهيرية وعشقاً. ولم يحدث أن نالت آلة موسيقية ذاك الكم من التصفيق الذي كان ينفجر بمجرد ظهور عود فريد الأطرش على المسرح حتى قبل ظهور صاحبه. لقد بلغت آلة العود جماهيرية لم تعرفها قبل فريد الأطرش الذي جعل الجماهير العربية تلتفت الى هذه الآلة وتتفاعل معها حتى أصبحت بالفعل شغوفة بها. ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا إن فريد الأطرش صاحب فضل على هذه الآلة. قدمها للناس بشكل مختلف وعزز مكانتها إذ جعلها سيدة حفلاته على المسرح، فساهم في تعريب الذوق الفني لدى قطاع واسع من الشباب الذي كان يرى في الغيتار الكهربائي آلة أثيرة في العصر الذهبي للفرق الموسيقية الغربية كالبيتلز وغيرها.

فريد الأطرش صاحب أسلوب متفرد غير تقليدي في العزف لم يسبقه اليه أحد. استطاع أن يخرج من العود امكانات لم تكن مكتشفة. وسيبقى السولو الخالد في مقدمة قصيدة «لا وعينيك» شاهداً على جدارة هذا العازف الكبير الذي منح هذه الآلة تقنيات جديدة حين عزف بالعود معزوفة أستورياس للمؤلف الموسيقي الاسباني إزاك ألبينيز، مما ساهم في توسيع آفاق وأبعاد هذه الآلة وفتحها على احتمالات تفوق الخيال. واذا اعتبرنا أن السنباطي كان صاحب أروع ريشة وأعمق خيال وأرهف احساس عزفاً وتلحيناً في تاريخ الموسيقى العربية، فإن فريد الأطرش واحد من أهم العازفين على مستوى التكنيك عرفته هذه الآلة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة. ولتوضيح القصد من وراء استخدام «أفعال التفضيل» وهو اسلوب غير علمي في التوصيف، يجدر التوقف لحظات لتبيان الفروق الدقيقة بين بعض التوصيفات الملتبسة مثل «أروع»، «أجمل»، «أهم»، «أعظم»...

ابتداءً، يجوز في تقييم العمل الفني كسر الأطر العلمية التي تعتمد على العقل والخروج الى رحاب الانطباع والحس والحدس الذي يتجاوز الوعي. ان «افعل التفضيل» هنا ليس على اطلاقه أو بمعناه الحرفي بل هو تعبير تلقائي شعوري عن الأثر الذي تتركه الدهشة فينا والتي بطبيعة الحال تفيض عن القلب فينطق بها اللسان، وهذا جائز في النقد الفني عموما والموسيقي على وجه الخصوص. «أهم أو أعظم تكنيك» يعني مهارة في العزف عالية المستوى عظيمة القدرات والفهم لأسرار الآلة وامكاناتها والقدرة على العزف بحرفية منقطعة النظير بغض النظر عن جمال العزف وتأثيره الجمالي في النفس. أما حين نوصِّف عزف رياض السنباطي مثلا بالأجمل أو الأروع، فذلك لأن ريشة السنباطي تمتلك من الجماليات ما يجعلها تتجاوز مسألة الحرفية الاستعراضية، حينئذ يكون الانبهار نابعاً من الاحساس بالجمال الخالص لا من القدرات التقنية التي تدهش الوعي ولا تتعداه الى الشعور. يقول الشاعر الفرنسي جان ليسكور في دراسته لرسم تشارلز لاييك «المعرفة يجب أن ترافقها قدرة مساوية على نسيانها. ونسيان المعرفة ليس نوعاً من الجهل بل هو تجاوز صعب للمعرفة».

 

فريد الأطرش وسامية جمال

الجمال يتجاوز المهارة في اعتقادنا، بل هو الذي يؤدي الى خلق جديد اذ تنعكس صورته على مرآة النفس فتتبدل أحوالها وتغدو خلقاً آخر أرقّ وأجمل. ليس الهدف من وراء هذه الفقرة الاعتراضية نفي الجمال عن عزف فريد الأطرش وحصره في قالب المهارة وحسب بل هي محاولة لفك هذه الخيوط المتشابكة في الأذهان بين تقنيات المهارة وتقنيات الجمال. ولم أجد أفضل من هذه المناسبة، ونحن في حضرة عملاقين من عمالقة العود، لتوضيح هذا اللبس الشائع في مهارات الاستماع الى الموسيقي. هو اجتهاد ومحاولة للارتقاء بذائقتنا الفنية من مقام الفهم الى مقام الإدراك.

دعوة إلى اعادة النظر

فريد الأطرش، أحد كبار ذلك العصر الموسيقي الذهبي الذي مازلنا نعيش على ذكراه، يحتاج بلا ريب الى اعادة النظر في تقييم نتاجه حتى يتعرف إليه الجيل الجديد الذي ربما لا يحفظ من فريد سوى «لاكتب على اوراق الشجر»، و«فوق غصنك يا ليمونة»، و«حِبينا» وبعض الأغاني الشعبية الاخرى التي تحظى بالرواج أكثر من غيرها. كما آثر بعض النقاد المرموقين الاهتمام بالمطربة الكبيرة أسمهان على حساب فريد الأطرش الملحن، وهو اهتمام مستحق لكن يعوزه الانصاف.

فريد الاطرش قامة فنية وانسانية عالية قدمت للعالم موسيقى عبّرت عن القيم والأخلاق الانسانية الرفيعة خير تعبير، ورسمت ملامح لمعاناة الانسان في صراعه المرير مع الحياة بحلوها ومرها، وكان نموذجاً للتطابق بين الفنان والانسان خلافاً لبعض معاصريه الكبار الذين قدموا فناً شامخاً لكنه كان قناعاً يخفي وجهاً انسانياً آخر لا يشبهه. ولا نقول ذلك بوصفه عيباً أو سلبية، ففي تاريخ الفنون عامة نماذج فنية وعبقريات لا علاقة لها بسيرتها أو بحقيقتها الانسانية، وليس في ذلك أي بأس لأن ما يعنينا بالدرجة الأولى هوما قدمته هذه النماذج الرائعة من خدمة جليلة للحضارة الانسانية. لكن هذا التطابق التام بين فن فريد الأطرش وشخصيته الانسانية كان لافتاً، لندرته في عالم المبدعين. ولا يمكننا فعلاً أن نفصل بين فريد الفنان وفريد الانسان، بين التسامح والجود والسخاء الانساني الذي اشتهر به وسخائه الفني الكبير، سواء في غزارة أعماله أو في تعامله الأخلاقي مع زملائه وموسيقييه الذين كانوا ينتظرون بشغف ولهفة لحظة دخولهم الى الاستوديو للعزف على مقام فريد الأطرش.

لا يمكننا ابداً أن نفصل بين ألمه الانساني وألمه الفني، بين طيبته في الحياة وطيبته على الشاشة أو في أغانيه ومعانيها، بين حزنه الحقيقي وحزنه الفني الذي لم يكن يملك إلا أن يظلل ألحانه بضبابه. وهل هذا التطابق التام بين الفن والفنان الذي جسّده فريد الأطرش سوى انعكاس صارخ لذلك الصدق الكبير الذي رافقه كظله في علاقاته الفنية والإنسانية؟

هو ذلك الأمير الأطرشي الذي حمله البحر صغيراً من جبل الوطنية الى جبل الفن لينمو ويترعرع ويغدو أميراً كبيراً لفن عربي مشرِّف رسمت ملامحه هذه الثنائية الخالدة التي جمعت مصر وسورية، سياسياً وروحياً وثقافياً، في قلب عروبي واحد تألّق المجد على وقع خفقاته منذ فجر التاريخ السياسي والثقافي لهذه الأمة. ما أحوجنا اليوم الى أن نغني مع فريد الاطرش لهذا الوطن الكبير الذي ينزف فرقةً وتجزئة وانقساماً وفجيعة «على الله تعود بهجتنا والأفراح وتغمر دارنا البسمة والافراح».

فريد الأطرش ... ذلك الرجل الطيب الذي ظلمه النقد وأنصفه الناس.

العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣
ظلَمَه النقد وأنصفه الناس

التعليقات

اسلوب ذات خبرة في شرح وتلخيص محبوبنا الفريد الاطرش ولو اردنا شرح للناس لاحتجنا شهور بل سنين لكبر اعماقه
لم ولن ينجب الشرق بديلا ل فريد الاطرش
مشكور على شرحك الراقي

بادئ ذي بدء اود ان اشكركم على هذا المقال الرائع الغني بالمعلومات القيمة لكنها ايضا اغفلت بعض النقاط الاساسية حقيقة:
1. سر عبقرية فريد والتي تميز بها عن غيره والايام ستثبت ذلك انه غارق في الاصالة والشرقية ولم يحد عنها و كما قال عبد الوهاب. واقتبس فقط في بداياته اقتباسا وليس سرقة ليبين قدرة الة العود وقدرته ايضا لكنه توقف عن ذلك سريعا نظرا لعبقريته, وكان اقدر بعبقريته ان يصل بالموسيقى الشرقية للعالمية تماما كعالم مبدع وعالم عبقري فبالرغم من المبدعين ممن سبقوه وتلوه الا انه عبقرية عالمية متفردة عبرت عنها اليونسكو بجعل فريد شخصية العام العالمية الى جانب عباقرة الموسيقى العلمية كسيناترا. وقد تنبأ بذلك الموسيقار بليغ حمدي وتنبأ ايضا بان الاجيال القادمة ستكتشف كنوز فريد التي لم نستطع اكتشافها.
2. أثر فريد الأطرش في كل الموسيقيين من أكبرهم الى أصغرهم كما اقر بذلك الموسيقار بليغ بل وعبد الوهاب عندما اقر باخذه !!!! جمل لحنية كثيرة من فريد.
3. فريد والعود وفي تحليل الناقد اغا القلعة وكان الى حد ما منصف فان فريد لا يمكن ان يقارن باحد في العزف على العود فقد جمع بين رشاقة الريشة وحلاوتها وقدرتها وصاغها باسلوبه الذي ربط العود به.
4. فريد الاطرش كان شخصية العام 2015 الموسيقية الى جانب عبقريين عالميين. وهذا وحده كاف ليضعه في منزلة اعلى ممن حوله , ولا شك ان فريد حاله يشبه المتنبي في عصره لكن في عصرنا لم نعد نسمع الا بالمتنبي في غالب الاحيان .
2.

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.