العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

في تحرير صورة فلسطين

النسخة الورقية

أنتمي إلى جيل ولد بعد إعلان قيام دولة إسرائيل. ولم أشهد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، بما أنني من مواليد ١٩٨٣. كما أنني لم أتعرف على أي لاجئ فلسطيني في لبنان قبل عام ٢٠٠٣. وأول لقاء لي مع فلسطيني قادم من قلب الأراضي المحتلة كان في عام ٢٠٠٧. لكن طالما احتلت القضية الفلسطينية وحتى اليوم جزءا كبيرا من وعيي السياسي والإجتماعي والثقافي. هي قضية التزمت الدفاع عنها.

لكن منذ سنوات قليلة قررت أن أعيد التفكير بموقعي من تلك القضية. نشأ ذلك القرار بلا أي شك بعدما تطورت علاقتي بفلسطينيين قادمين من مدن وقرى مختلفة في الضفة وغزة وأراضي ما قبل الـ٤٨. حينها أيقنت الشرخ القائم بين الصورة التي طورتها عن فلسطين وشعبها والقضية في مخيلتي، وتلك التي التمستها إثر أحاديث مطولة مع شباب فلسطيني من جيلي، يسكنون في رام الله والقدس وبيت لحم وحيفا وغزة ونابلس، وغيرها من المدن الفلسطينية.

من سلبية المتلقي الى ايجابية المنتج

حينها تنبهت إلى أنني حتى اليوم في موقعي من القضية الفلسطينية أتخذ موقع المتلقي والسلبي في معظم الأحيان. هكذا تكونت في مخيلتي صورة لفلسطين مؤلفة من كل ما تلقيته منها أو عنها. خاصة أنني لا أستطيع أن أزور أرض فلسطين بالرغم من التصاق حدودها مع حدود بلدي. فنسجتُ صورة عنها في مخيلتي، استعرت عناصرها مما علمته عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من قصائد محمود درويش، من الحكايا التي سمعتها على لسان اللاجئين في لبنان، من أغنيات فيروز وأحمد قعبور ومارسيل خليفة، من مقاطعة البضائع الإسرائيلية، من نقاشات لا تنتهي مع مناصري القضية والغير المكترثين بها، من نصوص غسان كنفاني ورسومات ناجي العلي، من صور تصلني كل يوم عن قتلٍ وتعذيبٍ وإذلالٍ... وعناصر كثيرة أخرى شكلت صورة عمرها يزيد على الستين سنة، تراكمت وتفاقمت لتشكل صورة القضية الفلسطينية بالنسبة لي وللكثيرن غيري كل على طريقته.

وبالرغم من حماستي ودفاعي المتزايد عن أحقيّة القضية الفلسطينية، كنت دائماً قابلاً وراضياً بتلك الصورة التي لم أشارك يوماً في صناعتها، وإنتاجها، فقررت أن أنتقل من سلبية المتلقي إلى إيجابية المنتج. أردت أن أنتج صورة لفلسطين كما أراها أنا، ولعلاقتي بتلك القضية وأهلها وأرضها، وأشاركها مع العالم. ولكن ما هي الصورة التي أنوي إنتاجها؟ سؤال دفعني إلى أن أعيد التفكير في جميع الصور التي عرفتها عن فلسطين. وحينها لاحظت أنه ومنذ خمس وستين سنة ونحن نحاول إنتاج صورة تعاود تأكيد أن إسرائيل مجرمة ومغتصبة لحق الفلسطيني. أما تطور تلك الصور التي لم تستطع أن تحقق هدفها، فأمر مريع بحد ذاته. فحين لم تعد صورة المهجرين من قراهم، وصورة القتل تنفع في إظهار الجرم الإسرائيلي، أصبحت الصورة تبحث عن وسائل شتى لإيصال الرسالة. منها الاستثمار في البعد الديني، عبر اختصار مدينة القدس، لا بل كل فلسطين، بصورة يتوسطها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وعندما لم تعد تؤثر في الناظر صورة فلسطيني مقتول على يد إسرائيلي، أصبح على الصورة أن تحتوي عنفاً أكثر.

فأصبحنا بحاجة إلى أن نظهر للعالم كماً هائلاً من الجثث في الصورة الواحدة. وأن نركز على مقتل الشيوخ والنساء والأطفال. وليس الطفل محمد الدرّة سوى أحد الأطفال الكثر الذين قتلتهم إسرائيل، لكن صورة مقتله كانت تحمل عنفاً يتخطى اللامبالاة تجاه صور أطفال آخرين قتلوا بطريقة «أقل عنفا». ثم برزت الحاجة إلى إظهار صور لمواطنين من العالم الأول يقتلون على يد الإسرائيليين، مثل صورة ريتشيل كوري، لنؤكد للرأي العام العالمي أنه ليس الإرهاب الفلسطيني الذي يدفع إسرائيل إلى قتل الفلسطينيين. هكذا دخلنا في دوامة إظهار الصور التي تزداد عنفاً لمجرد محاولة إقناع العالم بأن إسرائيل مجرمة، دون أن نستطيع أن نغير شيئاً. بل أصبحت صور الشهداء أعداداً تضاف على جدران الشوارع، لا مجال للعين أن تحفظها أو تتذكرها. حتى أننا حاولنا استعمال صور أنتجها الإسرائيليون بذاتهم. صور تظهر فظاعة جرائمهم، مثل تلك التي تظهر جنوداً في الجيش الإسرائيلي يلتقطون صوراً مع أسرى فلسطينيين عراة. وأطفالاً إسرائيليين يرسمون على الصواريخ المرسلة لقصف لبنان. وآخرها الصورة التي التقطها جندي إسرائيلي لطفل فلسطيني عبر منظار بارودة القنص وتحميلها على انستغرام. جميع تلك الصور، وغيرها التي تنتج في كل يوم وتملأ الفضاء الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي والميديا، لن تتوقف عن الصدور والتزايد محاولة أن تكون شاهداً على جرائم ترتكب كل يوم. لكنني لن أستطيع أن أضيف إليها شيئاً، لأنني لست في قلب الحدث، ولأنني لن أبحث عن أعنف صورة لأظهرها إلى العالم لعلها تريه ما لم يره بعد.

هكذا بدلاً من أن أعيد القول في صورتي التي أود أن أنتجها أن إسرائيل تنتهك حق الفلسطيني، وتحتل أرضه، صورة تجعل من إسرائيل مركز الصورة، وتختصر الفلسطيني في صورة الضحية، أريد أن أقول أن الفلسطيني إنسان، كما انه صاحب الأرض. فلذلك توجهت إلى أصدقائي في فلسطين، وطلبت منهم أن يصوّروا لي مدينتهم. هو طلب مرفق بوصيتين: أن يصوروا الأماكن في مدينتهم التي يودون أن يأخذوني إليها إذا ما جئت لزيارتهم، والابتعاد قدر الإمكان عن الأماكن السياحية، فليرافقوني في جولة في حياتهم اليومية عبر الكاميرا. هكذا قام أكثر من عشرة أشخاص في مناطق مختلفة، بتسجيل مواد تفوق مدتها العشرين ساعة. التقيت بهم في الأردن وحصلت على جميع تلك المواد المسجلة على أشرطة فيديو، وعدت بها إلى بيروت. فأصبح لدي صورة لفلسطين، لا بل صورة لمناطق معينة اختار فلسطينيون أن يروني إياها لأنها تعني لهم شخصياً، لأنها الأماكن التي يمضون فيها نهارهم، لأنها مدينتهم.

زرت القدس ورام الله ونعلين

أصبحت تلك المواد الجديدة بين يدي، صورة جديدة لفلسطين، فلم يعد عليّ سوى الانتقال من المتلقي إلى الفاعل. سوف أنتج الصورة التي أود أن أرى فيها فلسطين، والتي أود أن أتشاركها مع العالم. سوف أستعير تلك التسجيلات من أصحابها، وأعيد تركيبها في فيديو يسجل رحلتي إلى أرض فلسطين. فيديو أعيد توليفه، لأظهر كأنني حامل الكاميرا، وأسجل رحلتي إلى رام الله والقدس وحيفا. حيث ألتقي برفاقي الفلسطينيين، وأمضي نهاري معهم، في المناطق التي اختاروا أن نزورها. فيديو سفر (على نسق «دفتر رحلات»

«Carnet de Voyage») صنع في بيروت.

عبر إنتاج تلك الصورة، أنتقل إلى مرحلة الفعل، أما فعلي، وبرغم إطاره الخيالي، فهو توكيد للواقع الذي أرغب بعكسه ضمن الصورة. فلسطين بأهلها تشكّل عناصر الصورة الأساسية. إنها مدنهم، حيث ولدوا تحت الاحتلال الإسرائيلي. في رام الله، سار بي خالد وعلاء في الشوارع، وعرفوني بتفاصيل زواريبها، واختاروا أن نذهب كل ليلة إلى «أندرين» - باراً يرتادونه دائماً - لدرجة أنهم أصبحوا يعتبرون من أهل البيت. من على سطح المبنى الذي يرتفع عالياً فوق «أندرين» أخذوني لأرى رام الله مدينة السبع تلال، من فوق. في الأفق استطعت أن أرى بعض المستوطنات الإسرائيلية، وهم دلّوني عليها أيضاً.

أما في نعلين مع يوسف فقد أمضينا نهاراً في مقهى متواضع تتوسطه طاولة بلياردو. هناك شاهدنا مباراة كرة قدم، مع أنني لست من مشجعي الكرة، ولكني كنت سعيداً بالتعرف الى رفاق يوسف. وحالفنا الحظ في نعلين في الليلة الثانية، إذ كان هنالك عرس في ملعب البلدية، فسهرنا حتى الصبح نتفرج على الجمع كما رقصنا قليلاً دبكةً لم أعرفها يوماً من قبل.

أما زيارتي للقدس فكانت مدهشة. دخلت مع روان القدس القديمة، وأسواقها، وتعرفت الى مدينةٍ ليس المسجد الأقصى ولا كنائسها أجمل ما فيها، بل تركيبتها وتفاصيل ازقتها. والتجربة الأكثر إثارة كانت زيارة حيفا. هنالك أمضيت معظم وقتي في بيت مهى. وعندما قررنا الخروج لزيارة حيفا، ركبَت مهى سيارتها وجلستُ أنا إلى جانبها، وراحت تدور في جميع أنحاء المدينة. سرنا في السيارة ما يقارب الأربع ساعات. راحت مهى تدخل إلى قلب المدينة، وتقترب من البحر ثم تعود لتخرج من المدينة إلى المحافظة الكبرى، إلى الجبل المطل على حيفا، لنعود ونجول داخلها في دورات حلزونية. إلى أن عدنا ووصلنا إلى البيت، دون أن نتوقف للحظة في المدينة. لم أسأل مهى عن قرارها بعدم التوقف في حيفا. لم أرد أن أحرجها في تبرير قرار، كان واضحاً أنها اتخذته سلفاً لسبب ما. لكن في اليوم الذي كان عليّ العودة فيه إلى رام الله، كذبت على مهى، وطلبت منها أن توصلني إلى المحطة في وقت يسبق موعدي بساعتين، لكي أجول وحدي في المدينة.

في صورتي عن فلسطين، أهلها الفلسطينيون يعرفونني على مدنهم الى طريقتهم لأنها مدنهم، لأنهم هم أهل الأرض. إسرائيل والإسرائيليون ما زالوا موجودين، لم تتحرر فلسطين منهم، ولكن الصورة تحررت منهم. لكنهم ما زالوا هنا في أفق الصورة، في الطبقة الثالثة أو الرابعة للصورة، إن كان للعين المجردة، أو في تصرفات وتحركات الفلسطينيين أصدقائي الذين أصبح الاحتلال مشكلاً لجزء من شخصيتهم ومنطقهم.

في أول لقاء لي في الأردن بصديق فلسطيني قادم من رام الله، كنا متجهين معاً للمرة الأولى بالباص من جرش إلى عمان. على الطريق وبعد مرور حوالي الساعة والربع، التفت صديقي نحوي، وقال لي دامع العينين: «أتعلم، إنها أول مرة أسير بها في الباص هذه المدّة، من دون أن أتوقف عند حاجز أمنيّ». يومها فهمت أن الاحتلال الإسرائيلي لا يأخذ فقط شكل عسكري ببدلة وسلاح، ودبابات، ومستوطنات. فها هي إسرائيل بعنفها متجلية في الصورة، ولكن تلك الصورة تتكلم عن الفلسطيني هذه المرة، ليس الضحية بل الإنسان الذي يعطيني معنى جديداً للحياة. ذلك لا ينفي أن الصور الأخرى ضرورية، وأن هناك حاجة لها، ولاستعمالها، وتوظيفها في خدمة القضية. لكنني شخصياً لست بحاجة إلى رؤية دماء لكي أعرف أن إسرائيل مجرمة. بل إن إسرائيل حرمتني أن أرى فلسطين جميلة، أن أرى الفلسطينيين بشراً يعيشون. واقتصرت الصورة على جرمها وبشاعتها في صورة فلسطين والفلسطينيين. هل ان صورتي تنفع القضية؟ سؤال يشغلني بما أن القضية تشغلني. لا أدري. لكن الذي أعرفه أنها صورة تضاف الى الصور الموجودة وقد تضيف شيئاً الى بصيرة ناظرها. أما بالنسبة لي شخصياً، فلا أريد أن أنتج صورة للعالم، بل صورة لفلسطين التي أحببتها، وللذين يحبونها. هكذا دخلت إلى أرض فلسطين.

العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.