«العالم منقسم بين الذين يصطفّون لإعلان بؤسهم والذين يشكل هذا الاستعراض العمومي جرعة يومية من الراحة المعنوية تؤكد لهم سيطرتهم.
«ان مبدأ السينما هو: إذهب نحو النور وخلّها تشع على ليالينا.» («موسيقانا»)
طوفان من الصور الماحقة: تلال من الجثث، جنود اميركيون على صهوة خيول، او يعبرون أنهاراً في بلاد اجنبية، طائرات مقاتلة، قنابل ذكية، قادة عسكريون، هنود اميركيون، رعاة بقر يطلقون النار، الفيتكونغ، حمم بركانية، مشاهد من مجزرة، خنادق، دبابات، انفجارات، قبور جماعية في معسكرات اعتقال، فدائي يحمل بندقيته. وفي توليفة للواحدة مع الاخرى، تبدو تلك الصور المتفارقة الجنائزية والرهيبة معاً المأخوذة من الاشرطة السينمائية (على طريقة سيرغاي آيزنشتاين وبيتر بروك) ومن أشرطة الاخبار والارشيف التاريخي، وقد قُسمت الى ثلاثة اقسام تقريبا، تمر دون تعليق، دون تواريخ، دون مراجع. انها اللحظات الافتتاحية لفيلم جان لوك غودار «موسيقانا» (٢٠٠٤). «انه لعجيب حقاً أن يبقى احدهم على قيد الحياة» يقول تعليق صوتي. الفيلم مهدى الى المؤرخ والكاتب الفلسطيني الياس صنبر.
الصورة، النص، التعليق الصوتي
الصور مُبيدة بالنسبة الى غودار (الذي بلغ الثمانينات الآن) - وهو سيّد المجابهة بين صورة ونص وتعليق صوتي عبر توليفه الذي يحمل بصمته الاكيدة، وهو الذي يصنع «الافلام السياسية بطريقة سياسية» - لأن هذا القرن والذي سبقه هما بالتحديد قرنان من حروب الإبادة «العادلة». حروب ليست تكتفي بإبادة الآخر العدو، وانما تبيد «الأُخروية» ايضاً، حيث يصير الذي يتعرض للتعذيب او يموت مجرد «شخص آخر». وإذ يجري تقديمه على هذا النحو، تظهر الصور خارج أطرها في «الأخبار» و«الأحداث» و«الارشيف» و«افلام هوليوود» تحديدا لكي تصير ظاهرج للعيان، وهنا المفارقة، فكأنها المرة الاولى التي نشاهد بها هذا الرعب البشري في الخارج، ولكن من خلال تلك الاطر. هذه الفقرة الافتتاحية للفيلم، المنظمة بطريقة مرنة حول المراتب الثلاث لملحمة اليغييري دانتي «الكوميديا الالهية »، تقع في «مملكة الجحيم».
يبدأ «المطهر» في مشهد خارجي لساراييڤو المدمرة بالقنابل. الحرب العالمية الثانية، فلسطين، حروب البلقان، الهنود الاميركيون المسلوبون من املاكهم مثبتون جميعاً في سرد هوميري عن «حروب طروادة» في الفيلم. يدخل محمود درويش، باحثاً عن شاعر الطرواديين، يتأمل في سرد لا يُنسى عن المنتصرين والمهزومين: «للحقيقة وجهان» يقول لجوديث لرنر، الصحافية الاسرائيلية الصبية الذكية والجوّالة التي تؤدي دورها الممثلة ساره آدلر. «اني أبحث عن شاعر طروادة لأن طروادة لم تروِ قصتها. واني اتساءل: هل لشعب له شعراء كبار الحق في السيطرة على شعب لا شعراء له؟ [...] هل الشعر علامة ام اداة سيطرة؟ [...] أودّ الحديث باسم الغائب، باسم شاعر طروادة. تعرفين لماذا نحن مشهورون؟ لأنكم اعداؤنا. الاهتمام بنا مستمد من الاهتمام بالقضية اليهودية. الاهتمام هو بك، وليس بي. انتم حملتم لنا الهزيمة والشهرة [...] لا الهزيمة ولا النصر يمكن قياسهما بالمقاييس العسكرية. ان شعباً لا شعر له هو شعب مهزوم».
في الفقرة التي تلي، لقطات لغودار وهو يتحدث الى طلاب في ساراييڤو عن الصور (بما هي العلاقة الجدلية بين الفرح والفراغ المميت) واللقطة التعليمية واللقطة المقابلة بما هي اللغة التقليدية للسينما غير المعفية من الاشكالية. يقارن غودار بين صورتين من العام ١٩٤٨: واحدة لاسرائيليي «المستقبل» يصلون الى اسرائيل والثانية لفلسطينيين يهربون عبر البحر، وهو يقول هذه الكلمات التي أصابت شهرة واسعة: «في العام ١٩٤٨ كان الاسرائيليون يمشون على الماء لبلوغ «أرض الميعاد المقدسة»؛ كان الفلسطينيون يمشون على الماء نحو غرقهم. الشعب اليهودي ينضم الى الرواية، والفلسطينيون الى الفيلم الوثائقي. اللقطة واللقطة المقابلة». ماذا تراه يعني غودار؟ فلسطين، ارض اسرئيل في الحلم الصهيوني، تتحقق بالنسبة لليهود ورواية اسرائيل هي نقض لفلسطين وللفلسطينيين الذين على تلك الارض، فيما ينضم الفلسطينيون اخلاقياً ومعنوياً (اي من الناحية الإثنوغرافية) الى تقليد الفيلم الوثائقي الراسخ من خلال تصويرهم الدائم بما هم الضحايا المسلوبون من كل شيء، ينطقون ويغرقون بما هم ضحايا فقط.
ثمة بضع مشكلات بالنسبة للتمثيل في الفيلم الوثائقي يهمنا استخراجها قبل ان نعود الى فلسطين والى فيلم «موسيقانا». ان الفيلم الوثائقي السردي، ذا الخطاب المباشر، يزعم تمثيل الحقيقة او الواقع الموجود خارجنا، نوع سينمائي غالبا ما تعرّض للتشكيك الكبير. فمثلا، إن ادعاء الافلام الاثنوغرافية الاخلاص لمواضيعها - لهولاء «الآخرين» - والطريقة التي تقدم بها تلك الافلام نفسها بما هي بلا عين (اي ان الكاميرا تسجل الحياة «كما هي») مدّعية الموضوعية في عرضها للاحداث، وطريقة استخدامها للترويج والتمثيل «المباشرين»، قد بات إشكالياً عند المخرجين والنقاد عبر العقود. يشهد على ذلك تراث متكامل من الاخراج السينمائي التجريبي كما الملتزم والنظري. فمنذ الانتفاضة الثانية وتجنيز النزاعات السياسية ونشوء وصعود خطاب حقوق الانسان والنزعات الاخلاقية (حيث الاخلاق منفصلة عن السياسة والمواقف) تركزت عيون الوثائقيات على فلسطين. ولكن قبل ذلك بكثير، أدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بما فيها من ارشفة للشهادات والاعترافات، وما سمّي بفشل تجارب الكفاح المسلح في الستينات، وانهيار الاتحاد السوفياتي العام ١٩٨٩، الى تحولات في الكيفية التي يجري بها تصوير «النزاعات» في عصر السياسات النيوليبرالية، حيث القوة باتت تمارَس بطرائق اخرى، اكثر شمولاً وإيذاءً.
ان فشل «السياسة» الشعورية العاطفية المجردة حيث الضحايا يكتفون بالحديث فقط من مواقع الضحايا في عهد الشاهد التقليدي الذي انقضى (مثله مثل اجهزة اعلام التيار السائد إما انها تغطّي ما قد جرى تغطيته وانها تنتج اللامبالاة والشعور بالضعف والرعب) تحتاج الى ان تغذي الطريقة التي بها نواجه سؤال النيو كولونيالية والعنف وتصوير الظلم في ايامنا هذه. أُخرِج فيلم «موسيقانا» في زمن كانت فلسطين قد اكتسبت فيه حضوراً بارزاً في الرأي العام العالمي، بعد الانتفاضة الثانية ودفق الوثائقيات عن جنين او غزة مثلا، وبعد التغطية الاعلامية الواسعة لحصار مقر ياسر عرفات، والتضامن الدولي والمسيرات والحركات والعرائض واعمال التنقيب في ارشيفات الذاكرة كما في الوثائقي الذي اخرجته ديانا آلن بعنوان «ارشيف النكبة» وغيرها. الا ان اعلان الادارة الاميركية «الحرب على الارهاب» العام ٢٠٠١ ما لبث أن تحكّم بالكثير من السياسات الكونية السائدة، واثّر بالتأكيد على الطريقة التي جرت بها «ادارة» احتلال فلسطين وسيطرة الجيش الاسرائيلي عليها عسكريا.
هنا يثور السؤال: هل يمكن النظر الى تصوير فلسطين في الفيلم (والفن) بطريقة اخرى؟ ما هي التقنيات والانماط الشعرية والجمالية التي تكسر الموقف من قضية فلسطين والاحتلال الاسرائيلي البغيض وتفككه لتمنعه من الوقوع في فخ حالة الضحية المجردة، فتجدد الالتزام والفاعلية السياسية والنقد العميق؟ هذا ما يحاوله بعض الفنانين الفلسطينيين الشبان اليوم. ولعله أيضاً الشكل الشعري الذي دعا اليه الراحل محمود درويش في هذا الفيلم، او هو ايضا الرواية الذي يسعى اليها غودار ويريد الاستحواذ عليها. في «موسيقانا» وضِع النضالُ الفلسطيني في مكانه ليس فقط من حروب الابادة وانما ايضا من اشكال النضال المستمرة، وإن تكن متغيرة، للتحرر من تراث المدرسة الامبريالية القديمة ومن التفخيخ النيوليبرالي الشامل في آن معاً.
استعادة الرواية. الرواية بما هي موقف «بعد وثائقي» او على الاقل بما هي تكتيك مغاير يمارَس داخل السينما الوثائقية، وبناء عليه مخاطبة الضحية الكئيبة، وقطع الطريق عليها، وهي تحاول إحياء ماض بما هو الموقف الوحيد الممكن بالنسبة اليها، لتتصدر حضوراً فاعلا في حاضر مراوِغ بما هي فاعل سياسي ونقدي. ينجح غودار في ربط فلسطين بتاريخ كامل من النهب والعنف والاضطهاد والتسلط. وعلى امتداد فيلمه، ليست تدعي سياسة غودار النطق بعنجهية باسم آخرين لا يستطيعون النطق، ولا هي تدعي اصلا انها تعطي هؤلاء فرصة النطق بأنفسهم امام عين او امام كاميرا محايدة، علما أن لا وجود لهذه او تلك. ان الشكل ليس ينفصل عن المضمون ابداً. والتحدي الذي يطرحه فيلم «موسيقانا» على المشاهدين، والأهمية التي يكتسبها بالنسبة للسياسة في فلسطين وعنها، هو تحديدا في الطريقة التي يخلط بها الفيلم الأبعاد المختلفة التي يخلقها الفيلم نفسه: استخدامه المميز للتعليق الصوتي (لأنه لا يكتفي بشهود) والنص والصورة (أكانت ارشيفية ام ممسرحة) وبالتأكيد الطريقة التي تتطفل بها كلمات الآخرين على شخصياته (مثل كلمات صنبر، بلانشو، دوستويفسكي، بيرباوم، مونتسكيو، ليڤيناس، اليس في بلاد العجائب، الخ.).
ثم إن حياة غودار المهنية البالغة الثراء على امتداد ستين عاما ليست جديدة بالنسبة لفلسطين. ان سياساته الجذرية الباكرة، على هدي الماركسية اللينينية والماوية، ومحاولاته السينمائية (وقد اخرج بعضها في اطار «مجموعة دزيغا ڤيرتوڤ، التي أسسها مع جان بيير غوران بين ١٩٦٧ و١٩٧٢) مثل «الصينية» و«براڤدا» و«كل شيء على ما يرام » و«المعرفة المرحة» و«رسالة الى جان» و«ريح الشرق» وغيرها، والافلام التي اخرجها بمفرده مثل «ذكوري-انوثي» و«پييرو المجنون» و«صنع في الولايات المتحدة» والعديد غيرها) كانت جميعها تتغذى من حقده على الاحتكار في الصناعة السينمائية، ومن نقده للنزعة العاطفية عند اليسار (الوسطي) وأخطائه العديدة الاخرى، ومن حرب غودار ضد البرجوازية عموما، بمثل ما كانت احتجاجا على التلفزيرن والاخبار، وحقدا عليهما - فيما هو لا يتورع احيانا عن استخدام مصطلحاتهما لتأطير اعماله. في العام ١٩٧٠ صوّر غوران وغودار فيلما عن فلسطين في فلسطين، وقدّما الاستعدادات القتالية الدقيقة والمنظمّة لفدائيي حركة فتح على انها نموذج للعمل الثوري. كان العنوان الاصلي للفيلم هو «حتى النصر» لكنه لم يستكمل ولم يعرض في الصالات، وقد استكمل لاحقاً بالتعاون مع رفيقة غودار، آن ماري مييڤيل، وعُرِض بعنوان «هنا او في اي مكان آخر» (١٩٧٥).
النظرة السائدة الى غودار أنه سينمائي صعب من حيث الشكل. انه يمارس التكسير حيث الصوت والنص والصورة والوجه والمكان تنفك الواحدة منها عن الاخرى ليعاد ترتيب علاقة المُشاهِد بالراهن المباشر وايضا لاستثارة الُبعاد وممارسة الاستفزاز بواسطته وذلك من اجل اعادة ترتيب مقاربتنا الادبية والذهنية والمادية للصراع الماثل امامنا والذي علينا ان نشارك فيه. فالفيلم والحياة ليسا متساويين عند غودار، كما لاحظ العديد من دارسيه. لا يستطيع الفيلم ان يعكس الحياة، بل لا يستطيع الفيلم ان يعكس إلا ذاته. «ليست هي صورة صحيحة، انها مجرد صورة». ومن خلال هذه الحقيقة عينها نستطيع ان نتبيّن قوة الصورة وطاقتها على التغيير. وهكذا فالسياسة ليست تعمل على سطح الاحداث (او الافلام) انها تنظم الاحداث وتسكنها، وبالتالي على الفيلم ان يلتزم بذلك شكلا وبنية. هي حالة قطيعة مع الواقع وليست حالة ارتباط بالواقع، وهي قطيعة تسمح باعادة ادراك الواقع من جديد والفعل فيه. ولعل هذا ما كان غودار وغوران يعنيانه عندما تحدثا عن اخراج «افلام سياسية بطريقة سياسية».
إنّ غودار «عابد ايقونات»، على قولة إبرمغارد أملهاينز. انه يؤمن بالصور وبقوة الصور في ان تخلّص وتستفز (ولو بطريقة لا دينية). ويتوقف الامر على من يستخدم للصور وكيف يستخدمها. هل هذا شبيه بالطريقة التي تأمل فيها درويش في الشعر وفي فلسطين، بما هي إستعارة، اي علامة على السلطة ام اداة للسلطة؟ ربما ان شعباً لا يفهم الصور فهما شعرياً مكرّساً سياسياً أو لا يصنع الصور هو شعب مهزوم، مهما يكن معنى للهزيمة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.