قد تكون في شهادتي مجازفةُ التركيز على ما يبدو بعيدًا عمّا يُنتظر من «شهادة باحثٍ». ومهما كان الأمر، فلا أقربَ إليَّ ولا أَوْلى بالذّكر من تلقائية الميلِ، عندي، إلى الحميميّ في العلاقة بالمعرفة. في حدود هذا الميلِ، لا أبعدَ منه، أكتفي بلمسات رسمٍ تقريبي لِمَلمحيْن متلازمين جرت العادة على إبعادهما عن مَتْنِ المعرفة العلميّة: المتعةُ والكتابة.
وتجنّبًا للردود «المحصِّنةِ» للبحث، أشير، بدءًا، إلى أن تجربتي تدريسيّةٌ، أساسيًّا. لا أدري إن كنتُ باحثًا، يومًا ما، في موضوع ما. وإذا صادف أن كُنتُه ففي حدود المتعةِ. ولمّا كانت المتعة من جهة الكتابة، أولًا، فهي في «لذّةِ النصّ»، أولًا. ليس للواجب ــ ومنه واجب المهنة ــ دخلٌ في هذه المتعة، إذ هي أقرب إلى الخروج منه، إن لم تكن خروجًا عليه، غالبَ الأحيان. كلُّنا مع الواجب، قيمةً نمدحُها وأداءً نفتخِر به. شخصيًا، لا أتحمّله، في المعرفة، من دون متعتِه. وإذا كان التدريس قد منحني الإحساسَ بالجمع المُريحِ بين الواجب والمتعة، فالبحث لم يمنحني ذلك إلاّ استثناءً، في ما نَدر من محطّاته. ذلك الشحُّ، لا ضيق الوقت أو الوسيلة، هو ما جعلني مُقِلاًّ في البحث، ومُمتعضًا ممّا كان منه تحت الطلب. طبعًا، كانت لي، لحظاتُ الواجبِ المؤدلَجِ، وهي لحظات لا يُعتذَر عنها، كما لا يُعتذَر على وعيٍ سابق. ما يهمُّ منها، في السياق، أنّ أقرب ما بقي إليَّ منها صياغتُها: صياغةٌ آنسُ بما فيها من حميميّةِ الحنين إلى حبٍّ أوّل: الأدب.
هكذا، إذا صادف أن كنتُ باحثًا، يومًا ما، فليس لأنّي بحثتُ بل لأنني ظننتُ أنّي كتبتُ. نزوةُ الكتابة تلك يُضاف إليها انعدامُ قناعتي بأنّي من المتخصصين في فرعٍ أو غرضٍ من فروع علم الاجتماع وأغراضه. لقد شاء تقاطعُ الصّدفة والرغبة أن يتسلّل تكويني إلى مناطق من التداخل لا أرتاح إلّا فيها. كيف أُصنَّف، والحال هذه؟ لا أدري، ولا حرص عندي، على التصنيف. ولو كان لي طموحٌ في هذا لكانَ أنْ لا أُصنَّف، جريًا مع المزاج الذي هو شرطُ المتعةِ.
مهنيًّا، وإذًا إجرائيًّا، أنتسِب إلى علم الاجتماع، ولكنّي لستُ واثقًا من امتثالي لما ساد من شروط هذا الانتساب وطقوسه. وليس ذلك من جهة ما نشترك في معرفته وتعليمه من نظرياتٍ ومقاربات ونصوص ومراجع، وإنّما هو من جهة ما يُسمّى عَرْضًا، على وجه الإِجمال، وكتابةً، على وجه التخصيص. ما أسمّيه عدمَ امتثال للشروط والطقوس هو، تحديدًا، ذلك الإصرارُ على إخضاعِ مواضيع صمّاء لصياغةٍ تلبّي الرغبةَ في الكتابة.
لكلٍّ منّا مسارهُ، لكل منا شهادتُه. وما يستوقِفنا ليس بالضرورة ما تتقاطع فيه مساربُنا، فذلك من عموم التجارب. من منّا لم يُعطِّل أو يَبتُر طموحَ جهدِه ومردودَ طاقته غيابُ الحريات، وحتى إقامة الحدّ على عِلمه، في السياسة أو الدّين؟ من منّا لم يشتكِ من غياب السياسات ومن تدنّي المستويات في البحث والتعليم؟ من منّا لم يُشكّك في مدنيّة معرفةٍ ينسجها التمويل في المجتمع المدني العربي؟ من منّا لم يشعر باليُتم، في غياب مجموعة علميّة ذات سلطة معرفيّة؟ هذه أسئلة، ومثلها كثير، تتقاطع فيها خيباتُنا وأسئلتُنا وما توفّر من أجوبتنا. وراء هذا التقاطع يبقى الحميميُّ، ولكلٍّ منّا نصيبُه منه، في علاقته بمعرفتِه. نصيبي، كما أراه، هو رغبةٌ، مكبوتةٌ إجمالًا، في متعةٍ تأتي من الكتابة. تدقيقًا: تأتي من كتابة رغبةٍ في الكتابة.
الحميميُّ، في هذا المعنى، هو خارج ثنائيّةِ الموضوعي والذاتي المسطَّحة والمكرورةِ في خطابنا. ذلك الموضوعيّ المكمَّمُ بالكميّ، المسكونُ بالهوس التقني والمنحسرُ فيه جهد البناءِ النظريّ، أنتجَ أطنانًا عربيّةً من البحوث ــ أغلبها ميدانيّ ــ لم يَعد لها ذكرٌ. قد يكون ذلك لظرفيّتها، أو لرداءتها، أو لبداهة أو سذاجة فرضياتها ونتائجها، ولكن قد يكون أيضًا لقِصَرٍ في صياغتها. وهي، عندئذ، تُطالَعُ، إن كانت حاجةٌ إليها، ولكنّها لا تُقرأ، أي لا تُمتِعُ.
من الواضح أني لا أضع المشكل ولا مصدر الكبت السوسيولوجي في العجز عن إنجاز بحثٍ، وإنما في العجز عن كتابته. لهذا الكبتِ وسائلُ تخفيفٍ، منها التصعيدُ الشَفوي، كما هي الحال في التدريس، ومنها الهروب إلى مجالات ومواضيع مُطيعةٍ، إذ المجالات بعضُها من قبيل الخامات والأشكال غير القابلة للكتابة أصلًا: إذا كان الكثير من البحوث فيها كلُّ شيءٍ ما عدا الكتابة أو ليس فيها إلّا المنهجُ، على حدّ تعبير رولان بارت، فإنه كلّما كان الانتقالُ من المادّة الخام إلى التأويل، فإلى الخطاب على الخطاب، اتَّسع المجالُ للمجاز، فاتّسعت العبارةُ للكتابة.
أعرفُ أن المسافة بين البحث والكتابة لا تشغل بال الكثيرين من أهل العلوم الاجتماعيّة، وأنّهم قد يرون فيها مسافةَ هروبٍ أو تسيّب. وهم، في ذلك، يستندون إلى ما تميّع وسادَ من خطاباتٍ لا تقوم على معرفةٍ أو هي لا تحتاج إليها. وليست الكتابة من هذا في شيء، إذ هي، اختصارًا، دقةُ المعرفة حين تصاغ جماليًّا.
إنّ القصد من هذه الإشارة تذكيرٌ بأنّ العلوم الاجتماعية العربيّة تحاشت طرحَ مسألةِ العلاقة بين البحث والكتابة. وهي لو طرحتها لعرَّت ما وراءها من أوضاع وأحكام: أعمُّ الأوضاع وأصعبُها بؤس اللغة، وهي هنا العربيّة، في ما آلت إليه من حال. أما الأحكام فمنها المعهودُ من اعتبار الصياغة من شكليات البحث، لا من صُلبه أو نسيجه، ومنها المعهودُ أيضًا من اعتبار اللغة مجرّد حاملٍ للمضمون أو مجرّد وسيلة للتعبير عنه. في الحالتين، يُنسى أثرُ الصياغةِ على المضمون، كما يُنسى أنّ الصياغات الشهيرة، كصياغات نيتشه مثلًا، لم تكن بحثًا عن البلاغة، لذاتها، وإنما كانت سَندًا للتجاوز في المعرفة الفلسفيّة وتثويرًا لها.
الدعوة إلى جمالية العلوم الاجتماعيّة ــ ولنقلْ إلى تجميلها ــ ليستْ جديدة، خارج الفضاء العربي. في السوسيولوجيا، مثلًا، نقاشٌ لم ينقطع، منذ بداية القرن العشرين، منذ جورج زِمّلْ على الأقل، حول علاقة المضمون بالشكل، لا في مدلوله الشكلي بل في معنى الشّكل المشكِّل وهو نقاش لو استعملنا القياس في سحبه إلى سياقنا، لظهر فيه هاجسُ التعبير، بما هو عاملُ تشكيلٍ للواقع، كما يُبنى في النصّ. وإذا عُرِّب هذا الهاجس أصبح مرعبًا لأنّ فحوى القول متباعدٌ عن شكل القول.
أقول هذا من دون أن تغيب عن ذهني نصوصٌ مؤسّسة في العلوم الاجتماعية العربية، منها ما جمع بين صرامة التحليل ورقّة الصياغة. هذا مشرقًا ومغربًا، وإنْ تميّزت في ذلك، بين الحالات المعاصرة، حالة المغرب الأقصى حيث هذا الجمعُ أوسعُ ما يكون، عربيًّا: من كبار الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع من صاغ معرفته بدقةٍ وجمال وأبدع في الأدب، بدءًا بالرواية.
هل تحتاج الدعوة إلى جمالية العلوم الاجتماعية العربية للمزيد من التبرير؟ إن كان الأمر كذلك ــ والمبررات كثيرة ــ أكتفي بمشهدين وتمنّ واحد:
المشهد الأول مشهد علم اجتماع عربي قاتم، ثقيل الظلّ، إذا قُرئ ظُنّ أنّ مجتمعاتنا ليست إلاّ نسيجَ مِحنٍ وشقاء، لا وجود فيها لناسٍ يبدعون ويحبّون ويفرحون ويأملون أو يرفّ لهم وجدان لجمال الكون. لكأنَّ علم الاجتماع العربي كآبةٌ أو لا يكون. الأمثلة؟ صورة امرأة لا تكون، في بحوثنا، إلاّ مضطهدة، معنَّفة، محرومة، مطلقة، معطّلة.. وصورةُ شباب مائعٍ، ينهش «قيمنا الخالدة» ولا يُتوقّع من «رهطه» أن يشحن، يومًا، ثورةً. من أسباب ذلك ما له أصلٌ في نشأة علم الاجتماع العربي نفسها، إذ في الأصل ربطٌ مؤسسيّ بين المعرفة السوسيولوجية وحلِّ المشاكل التي طرحها بناء الدولةِ الوطنيةِ. عالم الاجتماع نشأ «حلاّلَ مشاكل» ولا يزال يُنظر إليه على هذا الاساس، وُيطلب منه الافتاءُ في كلّ شيء.
المشهد الثاني، مرتبطًا بالأول، هو فقدان التهوئة المعرفية والجمالية. مقاومةُ ما يُعتبر، على وجه التّمدرس، خارجًا عن الاختصاص، حال دون الانفتاح على مواضيع ومقاربات ثريةٍ وذكية. قد يكون في الأصل غيابُ حبيّن: الأدب والفلسفة (غيابٌ ملأه تسولُج الأدب والفلسفة أكثر مما ملأه «تأدّب» السوسيولوجيا وتفلسفها) وهو، اليومَ، غياب مرجعياتٍ ــ من نوع زمّلْ وبارت وحتى غيرتس، إلى حدٍّ ما ــ لا يكاد يذكرها إلا المارقون، أو ذوو النزوات من السوسيولوجيين العرب. أما التمنّي فأن يرسم الجمال، في المعرفة، للمعرفة، «معرفةً مرحة» بين سابعة السماوات وتضاريس الأرض. وإذا تطلّب ذلك مروقًا أو نزوةً فليتزايد، بين العرب، عدد المارقين وذوي النزوات في العلوم الاجتماعية، وليكن شعارهم إنقاذ ما أمكن منها بالجمالية، موضوعًا وتعبيرًا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.