العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

شهوة المحو

النسخة الورقية

منذ بدايات الثورة المصرية في أوائل ٢٠١١، اندفعت مختلف الفنون لدعمها ومساندتها ونقلها للجميع، داخل الميادين المنتفضة وخارجها. هكذا ظهرت الشعارات والرسوم الملونة كمرآة معبرة عن كل موقعة تجري وعن كل حدث يقع. وفي أحيان أخرى جاءت مستشرفة للآتي أو محرضة عليه. لم تقتصر في وجودها على العاصمة التي انطلقت منها الشرارة الأولى، بل انتشرت في جميع أرجاء الوطن وربوعه، على جدران المباني والأسوار والأبواب وأكشاك الكهرباء وحتى الأشجار. كل سطح أمكن الرسم أو الكتابة عليه قد امتلأ عن آخره، وخلال فترة زمنية قصيرة، استعاد المصريون موهبتهم الأولى الفائقة في تدوين الأحداث، وتوثيقها حروفًا ورموزًا وأشكالًا. الموهبة التي لولاها لما احتفظوا بتاريخ الآف الأعوام على الجدران والأحجار.

غزا الغرافيتي الشوارع، ليوصل رسائله للجميع، لمن يقرأ ولمن لا يقرأ، لمن يريد ولمن لا يريد، حتى صار بمثابة ذاكرة حية دقيقة ترصد كل نبضة من نبضات الثورة وتحتفظ لها بكل خبر طازج. لكن في الوقت ذاته، ومع صعود هذا الفن إلى ذروة الحماسة والتألق والإبداع، ومع سخونة اللوحات وجرأتها ومواجهتها للسلطة الخائفة دون مواربة، ووصولها إلى الهدف مباشرة دون كثير من التفاصيل، بدأت عمليات طمس موازية: صار هناك من يصنع الرسوم وهناك من يطاردها بدأب ليزيلها بعد ساعات أو أيام.

الشعب يكتب والسلطة تمحو

اتخذت عمليات الطمس أو المحو والإزالة مجراها في وقت باكر جدًا. لكنها لم تكن منظمة وسافرة الوجه كما أصبحت في الفترة التي أحاطت بالعملية الانتخابية. إذ بعد تنحّي الرئيس السابق كانت هناك محاولات للتخلص من بعض الشعارات والعبارات، لكنها تمت على استحياء، وفي ما بعد تطور الأمر ليتخذ شكلًا أكثر فجاجة ووضوحًا، ولتقوم الدولة ممثلة في أجهزتها وهيئاتها بإعلان نيتها في التخلص من كل ما قد يؤرخ لأحداث الثورة الجسام. أحداث قد يصبح الاحتفاظ بها وتخليدها، مرادفًا لإدانة السلطة القائمة، ودافعًا محرضًا على محاسبتها.

يوم ٢٤ شباط/ فبراير ٢٠١٢ على وجه التحديد، كتب أحد النشطاء على الفايس بوك إعلانًا يفيد بأن الجيش قد قام بمحو كل رسوم الغرافيتي من شارع محمد محمود. وفي اليوم التالي، قام عمال «الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة»، بطلي سور مدرسة القلب المقدس بغمره بلون أصفر كئيب للتغطية على العبارات التي كُتِبَت عليه، والتي صاغت اتهامات صريحة لـ«العسكر» تارة، ولـ«المجلس العسكري» تارة أخرى. وفي مطلع أبريل/نيسان ــ أي بعد شهر واحد لا اكثر ــ أخذ عمال «الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة» يلطّخون أسوار نادي الشمس في مصر الجديدة باللون الأصفر المعتاد، ليطمسوا معالم الكتابة والشعارات الثورية التي غطته. وفي شهر مايو/ايار، رصدت غالبية الصحف اليومية وبعض الدوريات الأسبوعية قيام «هيئة النظافة بمحافظة القاهرة» بإزالة رسوم الغرافيتي من سور الجامعة الأميركية في شارع محمد محمود، الذي شهد أشهر المعارك بين الثوار وقوات الشرطة والجيش. بعض تلك الرسوم كانت لوجوه شهداء قضوا نحبهم على يد قوات الأمن أثناء الثورة، وبعضها كان يسخر بخفة الدم المصرية المعهودة من رموز النظام المتهاوي، وهي في مجملها توثيق شديد الأهمية للثورة المصرية.

عاد اللون الاصفر الكئيب ليغمر الجدران كلّها دون ان يميز بين رسوم وكلمات، وليدلّ على المحو المنظم المقصود لكل ما يمت للثورة بصلة، لكن فناني الشوارع لم يصابوا بالإحباط، بل قاموا بتجهيز أدواتهم وعادوا مرة أخرى ليبتكروا رسومًا جديدة أكثر سخونة. هكذا ردّوا على قرار المحو بالتوجه إلى الشارع مباشرة، وملأوا جدرانه بوجوه الشهداء الملونة. لقد أتت الاستغاثات التي انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي لإنقاذ شارع محمد محمود ثمارها، فهو ذاك الشارع الذي أُطلِقَ عليه اسم «عيون الحرية»، حيث فقد العشرات أبصارهم برصاص الشرطة خلال المواجهات الدامية التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والذي صار هواؤه يحمل عبقًا من الرهبة. وأضافت إليه الجداريات عمقًا وشموخًا، وحالة شديدة الخصوصية يعيد فيها المرء تمثل الأحداث بتفاصيلها، رائحة أدخنة القنابل والدماء المختلطة بالتراب.

أحاجيّ ومبررات

بالقرب من ميدان العباسية، راح بعض سائقي السيارات المتوقفة بسبب ازحام المرور، ينادون على العمال الذين يحملون مماسحهم ودهاناتهم للسؤال عما هم بصدد فعله. التفت أحدهم مبتسمًا، وقد بدا أنه الرئيس المسؤول: «بنخبّي الكلام القبيح».. وفي شارع محمد محمود، أجاب أحد العاملين عن السؤال ذاته: «المحافظ بعتنا نمسح الصور دي وقال لنا عشان الرئيس الجديد لما ييجي يلاقي البلد نضيفة». وقال آخر أمام أحد الأسوار التي بدأت فرشاته تكسوها بلون كالح: إن المحافظة كلفته وعددًا من زملائه، القيام بأعمال تجميل في الشارع، عن طريق إزالة «التشوهات» التي لحقت به من فوق الجدران كلها، ودهانها باللون المناسب.

لقد ذكر رئيس «الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة» حين سُئِلَ، أنه إلى جانب الرسومات الجميلة، قد توجد عبارات خادشة وغير لائقة، الأمر الذي يوجب إزالة شاملة. وهو رد لا يسمن ولا يغني من جوع. لكن الأكثر مدعاة للتعجب والدهشة هو تصريح رئيس الهيئة بأن عملية المحو «تأتي في إطار إعادة المظهر الجمالي لقلب العاصمة». تلك العاصمة التي تعج بمختلف أنواع القبح المعماري، لن تجد طريقها للجمال البصري سوى بإزالة الرسوم الفنية والتوثيقية من على جدرانها الشائهة. على الجانب الآخر أكد رئيس جهاز التنسيق الحضاري اهتمامه بتصوير هذه الرسومات تمهيدا لتدريسها، وأشار إلى أنه قام بتشكيل لجنة فنية لبحث ما يجب تركه، وما يجب محوه، أيا كانت قيمته التاريخية، وأن المعيار الأول والأخير هو القيمة التاريخية للمبنى المرسوم على جدرانه وليس للعمل. هي رؤية ربما تحتاج إلى مراجعة، ففي تلك الحالة سوف نقف أمام قيمتين تاريخيتين، تملك إحداهما إصدار الحكم بإعدام الأخرى بغض النظر عن أهميتها. يبدو أن السلطة تقدم في حقيقة الأمر مبررات واهية، يصعب الاتكاء عليها، من أجل إضفاء مشروعية على عملية المحو، وإكسابها قدرًا من تعاطف الناس.

«ليس هذا بغرافيتي!»

صحيح أن الغرافيتي فن ممنوع، وأنه يعتبر في معظم دول العالم تقريبًا بمثابة تخريب للملكية العامة، لكن بلدًا تقوم فيه ثورة كي تُسقِطُ نظامًا، وتضع دستورًا وتسترد حريتها، لا يمكن أن يكون أول عمل تقوم به هو محو كل ما يدل على ثورتها، وشهدائها ومعاركها مع السلطة القمعية. إن تجريم فن الشارع وريشته وصوته يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقوة تأثيره على الناس، وما يشحذ فيهم من طاقة وقدرة على الفعل والصمود، هو محاولة لمحو ذاكرة ما كان وما يجب أن يكون.

في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أقيم معرض لمجموعة من فناني الغرافيتي تحت عنوان : «ليس هذا بغرافيتي». وهو عنوان يحمل دلالات متعددة، فربما هدف اختياره للسخرية من عمليات المحو، ومن غباء القائمين عليها الذين يطمسون كل شيء دون تمييز، بينما هم لا يستدعون بفعلهم سوى المزيد من الرسوم والمزيد من الإصرار. وربما يكون العنوان محاولة استباقية لطيفة، لوقاية المعرض من أي هجمات تستهدف محتوياته، باعتبارها عملًا إجراميًا يعاقب عليه القانون.

لأن الغرافيتي فن يخيف المستبدين والطغاة، يجابه أصحابه دومًا أنواعًا من القمع والتهديد. فقد تعرّض بعض فناني الغرافيتي للاعتقال في ليبيا إبان فترة حكم القذافي، منهم صادق جشوط وهو أحد الرسامين المعروفين، وعُذِّبَت ابنته الطفلة. وفي السعودية، أصدرت وزارة الداخلية قرارًا بتغريم كل من يلقى القبض عليه متلبسًا بالرسم على الجدران، مبلغًا يراوح ما بين الفين وخمسة آلاف ريال، وذلك بعد اعتقال مجموعة من الشباب، كتبوا عبارات وُصِفَت بأنها سياسية ومخلة. وفي مصر، اعتقل الناشط علي الحلبي، لقيامه بالرسم على سور «جمعية الوفاء والأمل» وحبس على ذمة التحقيقات بتهمة إتلاف منشأة عامة تخص القوات المسلحة. وأثناء نظر تجديد الحبس تم توقيع الغرامة التي قدرت بـ١٨٠٠ جنيه عليه، ثم أفرجت عنه النيابة العسكرية بعد دفع المبلغ. كذلك، ألقي القبض على الناشطين أحمد عبد الله وجلال البحيري بعد رسمهما غرافيتي على سور جامعة «بنها»، ثم أطلق سراحهما.

بسبب الإدانة التي تلحق برسامي الغرافيتي وفناني الشوارع، جرت العادة أن ينجزوا رسومهم في غفلة من الآخرين، وهو ما يستدعي في أحيان كثيرة أن يبدأ العمل بعد منتصف الليل أو فجرًا. وبينما هم مضطرون إلى الاختباء عن العيون لإيصال رسائلهم للسلطة من جانب، وللجمهور من جانب آخر، فإن عملية محو تلك الرسائل تجري على مسمع ومرأى من الجميع، وفي أغلب الاحوال تبدأ وقت الظهيرة، حين يكون العمال والطلبة والموظفون عائدين من أشغالهم. والمقصد واضح، فالسلطة تستطيع أن تفعل ما تشاء وقت أن تشاء ولا يملك أحد أن يوقفها، سواء ثار الناس أو لم يثوروا.

آراء أخرى

فيما قرر مسؤولو الدولة أنّ رسوم الغرافيتي تمثل تشويها وتخريبًا للمرافق والمباني، وأنها غير لائقة جماليًا، فقد كان لبعض أصحاب الشأن رأي مخالف. في إحدى الوقائع، أكد أفراد من حرس الجامعة الأميركية أن الخدمة التي تمر للاطمئنان إلى الأمن، فوجئت بعدد من العمال أمام الباب الرئيسي للجامعة الذي يقع بشارع محمد محمود، يقومون بإزالة صور الشهداء من على الجدران. وقالوا إنهم قاموا بمنعهم من ذلك، مُوضحين أن صور الشهداء لا تسيء للجامعة في شيء، بل بالعكس فإن الجامعة ترحب بالصور، وتمجد الشهداء. من ناحية أخرى أصدرت اللجنة الفنية في كلية الهندسة بجامعة الاسكندرية بيانًا للرد على محاولات إزالة رسوم الغرافيتي عن أحد مبانيها، أكدت فيه رفضها القاطع لسياسة «تكميم الأفواه المتبعة من قبل إدارة الكلية المخلوعة، ومن بعض أعضاء الإتحاد»، وأشارت إلى أن رسومات الغرافيتي بوجه عام قابلة للإزالة بعد فترة بطريقة معينة، وذكرت أنها رغم لومها الطلاب الذين نفذوا الرسومات على مبنى الإعدادي الأثري، فإنها لن تتخذ أي إجراء قانوني ضدهم لانهم حصلوا على موافقات من المسؤولين، لكنها سوف تتقدم بمذكرة ضد العمال وضد طلاب الاتحاد الذين قاموا بإزالة الغرافيتي بوسائل غير مناسبة، ودون الرجوع الى اللجنة الفنية المتخصصة في هذه الأمور، ما أدى إلى تشويه المبنى. الطريف في الأمر أنّ البيان لفت النظر إلى أن المشاركين في إزالة الغرافيتي قاموا بإزالة الرأي المكتوب (يسقط حكم العسكر)، و(يسقط قانون الطوارئ) دون محو الغرافيتي بالكامل، فاستنتجت منه اللجنة الفنية أن الهدف ليس إزالة التشويه بل إزالة الرأي الثوري الحر، وعليه وجهت تحذيرًا شديدًا للمعتدين.

لم تقتصر عمليات الإزالة الانتقائية على مباني كلية الهندسة في الاسكندرية، بل كانت ملحوظة ثابتة في أغلب المناطق، حيث أصابت محاولات الطمس والمحو تلك العبارات التي تدين العسكر وتمجد الشهداء. وفي الوقت ذاته تركت باقي العبارات والصور التي لا علاقة لها بالعسكر على حالها، حتى ثار اللغط فقام الطامسون بدهان الجدران كاملة.

على كل حال، تمثل أغلب رسوم الغرافيتي في حد ذاتها قيمة فنية خالصة، وقد ازدانت الآف وربما ملايين الجدران عبر السنين برسوم متنوعة، نفّذها أشهر الرسامين وأعظمهم، منها ما تضمه كثير من الكنائس والأديرة. ولا يُعتَبَر الرسم على الجدران فعلًا مستحدثًا ولا دخيلًا على المصريين، ولنا أن نتصور الحال لو كان لحكام مصر القديمة التي قامت حضارتها لآلاف الأعوام وانتقلت إلينا عبر النقوش الحجرية، أن يعتبروا رسوم الجدران بمثابة تشويه يستدعي تحرك الدولة لإزالته. لا يسع المتابع لتلك المبررات والحجج التي يسوقها المسؤولون للدفاع عن مسلكهم، والتي تتنكر خلف فكرة التشوية والإساءة للقيم الجمالية والحضارية، إلا أن يتساءل عن هذا الكم من الطرز المعمارية المتنافرة التي تزخر بها العاصمة المصرية، وتلك الألوان القبيحة التي يستخدمها أصحاب المحال التجارية في لافتاتهم، والارتفاعات المتباينة للبنايات السكنية التي لا يحكمها ضابط أو رابط، والواجهات الزجاجية العاكسة التي لا تناسب المناخ ولا الطرز العتيقة في أحياء لها عراقتها المعمارية، والسيراميك الذي يغطي بعض أرصفة وسط المدينة ويجعلها مدعاة لسخرية السائحين. ترى ألا تمثل تلك الأشياء جميعًا أي دافع أو محرض على الإصلاح، أم أن بُعدَها عن أي مواجهة مباشرة مع السلطة يكفل لها البقاء، مهما كان مقدار التشويه الذي تتسبب فيه؟

بأيدينا نمحو

ربما كان من الطبيعي أن تعادي السلطة الغرافيتي أو «فن الشارع»، وأن تبذل ما في وسعها لإزالته، فهو في أغلبه موجّه ضدها وضد كل وجه من وجوه الاستبداد والقمع. لكن الغريب أن تشارك في عملية المعاداة والإزالة مجموعات من الشباب، ربما انتمت بشكل أو بآخر للفعل الثوري، وشاركت في صناعته، أمر يحتاج إلى شيء من التأمل والدراسة.

في شهر فبراير/شباط ٢٠١٢، قام ما يقرب من ثلاثين شابًا وصفتهم الجرائد والصحف بكونهم «شباب الثورة» في محافظة بني سويف، بالدعوة إلى تنظيف النصب التذكاري الموجود في ميدان الشهداء من رسوم الغرافيتي والشعارات المكتوبة عليه، مستخدمين مواد حارقة مثل البنزين وماء النار، بالإضافة إلى السنفرة والأسلاك والمُلَمِّعَات. ويتخذ النصب شكل هرم ميدوم، وهو أحد المعالم البارزة في المحافظة، أقيم لتخليد الشهداء خلال الحروب من ١٩٤٨ الى «حرب أكتوبر» ١٩٧٣. أطلق الشباب على حملتهم اسم «حركة بني سويف الحرة»، وذكر أحد مؤسسيها أن النًصُب كان «مشوهًا» بعبارات من قبيل «يسقط مبارك»، و«تحيا ثورة 25 يناير» وأن الحركة قررت إزالة هذه العبارات والرسوم احترامًا للشهداء!

في الشهر التالي (مارس/آذار)، وبينما يستمر المعتصمون المطالبون برحيل المجلس العسكري في اعتصامهم في ميدان التحرير، تشكلت حركة أطلقت على نفسها اسم «أنصار التحرير» قيل إنها تضم شبابا مستقلين وعددًا من مصابِي الثورة، وضعت لنفسها هدف إعادة تنظيف الميدان وتزيينه، وأحضر أعضاؤها أدوات التنظيف اللازمة والدهانات لتلوين الأرصفة. وذكر أحد أعضاء الحركة في حوار صحافي، أن المجموعة أرادت أن تثبت للمجلس العسكري والحكومة أن الثوار والمصابين ليسوا بلطجية أو مأجورين يسعون إلى هدم الدولة، وإنما هم يعملون من أجل بناء مصر جديدة، وأنهم سوف يغادرون الميدان بمجرد الانتهاء من تنظيفه. قامت حركة «أنصار التحرير» بعملها، وحققت الهدف الذي تطلعت إليه، والذي لم يكن يتعلق من قريب أو بعيد بأهداف هؤلاء المعتصمين، الذين واصلوا المبيت في الميدان متمسكين بقضيتهم دون أن تمثل لهم عملية التنظيف والدهان أهمية كبرى. على المنوال ذاته، تكونت رابطة على موقع التواصل الاجتماعي (الفايس بوك) تحمل عنوان «بأيدينا» تضم في عضويتها عددًا كبيرًا من الأطباء والمهندسين والطيارين الذين اتفقوا على النزول إلى الشوارع والميادين الرئيسية «المشوّهة» كل يوم جمعة لتنظيفها. وذكر مؤسس الرابطة ــ وهو طبيب ــ أن الأعضاء قسموا العمل في ما بينهم حيث تولت مجموعة تنظيف أسدَي قصر النيل، وتولت أخرى تنظيف الجدران والكوبري، وأن بعض السياح شاركهم في المحو.

لا يقتصر الأمر على تلك المجموعات التي تنشأ بدافع مثالي، والتي ترفع بشيء من السذاجة راية المسؤولية والانتماء. فهناك الخلافات الإيديولوجية التي تدفع بأفراد أو جماعات، إلى محو الآخر المخالف في الرأي. ذكر شهود العيان أنهم تابعوا أحد الأشخاص الملتحين وهو يحاول طمس جزء من ملامح صورة تظهر شخصًا ملتحيًا يرتدي سترة طبع عليها شعار الإخوان المسلمين، وكتب فوقها «يسرّنا أن نقدم مرشح الجماعة»، بالإضافة لصورة أخرى تتضمن إطار سيارة مكتوب عليه «الاستبن»، لكنه فشل في تلك المحاولة ، وقام آخرون من أنصار الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بطمس غرافيتي يصور الشيخ عماد عفت، واستبدلوا به آخر للشيخ حازم.

مهما أثار فعل المحو من استنكار وضيق، تبقى قواعد اللعبة واحدة: الرسم ثم الطمس، وإعادة الرسم مرة أخرى. انه العناد أمام الخوف وصمود الفن أمام الاستبداد. لم تعد الأيدي التي تزيل خفية، ولم تعد بالضرورة أيدي السلطة المعروفة للجميع، هي أحيانًا أيادٍ صديقة. ورغم كثرتها لا تفتأ الرسوم تنبت على كل حائط، وتكبر يومًا بعد يوم، دون أن يملك أحد السيطرة عليها.

شهوة المحو لدى الاصدقاء: الثورة لم تنته بعد!

يمكن اعتبار مشاهدة عمليات محو الغرافيتي، سواء تلك التي تمت عن طريق الدولة أو التي دعت إليها مجموعات الشباب المستقلة، في ضوء ما سبقها من أحداث، امتدادًا طبيعيًا ومتوقعًا لمرحلة الكنس والتنظيف التي اتخذت مجراها صباح تنحّي الرئيس السابق. للحقيقة كان المشهد غريبًا، حتى أن غالبية صحف العالم أبرزته وعلّقت عليه. أمسك الشباب بالمكانس لإزاحة الأتربة والمخلّفات، وارتدت مجموعات من الفتيات والسيدات ــ بعضهن لم تزرن الميدان ولو لمرة واحدة منذ بدأت الثورة ــ قفازات طبية لجمع القمامة في أكياس سوداء.

لا تكمن الغرابة في عملية التنظيف نفسها، إنما في سرعة الانتقال من الروح الثورية التي تخوض المعارك وتبذل الدماء والأبصار، إلى تلك الروح الخفيفة اللطيفة المرفّهة، التي ترغب في إعادة الميادين والشوارع إلى ما كانت عليه، وتضع على رأس أولوياتها رشّ المياه ومسح الأرصفة، وتطمح إلى إزالة آثار الإقامة ونفايات المعيشة، وآثار الثورة التي قام بها الشعب. هكذا بدأ المحو في عجلة شديدة، وبمنتهى الفرحة والجزل، كما لو كان رحيل مبارك قد أنهى كل شيء، وكما لو أنه تنبغي العودة سريعًا للمشهد المعتاد.

تفرز الشرائح الاجتماعية المتباينة سلوكيات متباينة بالسليقة، الفقراء الذين يتكومون في غرف ضيقة ويشتركون في دورات المياه ويلتقطون من قمامة الآخرين بعض الأشياء التي لا يملكون ترف شرائها، ربما لا يهتمون كثيرًا بقيمة كالنظافة ولا يعبأون بإزالة مخلفات الأيام التي قضوها على الأرض. في المقابل هناك الطبقة المتوسطة التي يحمل أفرادها قيمًا قد لا تحظى بالأهمية ذاتها لدى طبقات أخرى، بل قد لا تتوافر لديها من الأصل، رفاهية الخصوصية والأناقة والنظافة الفائقة، هي قيم ربما دفعت البعض إلى الإمساك بالمماسح فورًا والشروع في تنظيف ومحو كل أثر للثورة، وهي التي جعلت آخرين يقفون أول ما وقفوا، لتلوين الأرصفة، بمنتهى الجدية والفخر، مقتنعين بأن ذاك هو سبيلهم للتقدم بالوطن خطوات إلى الأمام. يؤكد هذا الأمر أن كثيرا من أعضاء المجموعات التي تكونت بغرض القيام بعمليات المحو والتنظيف، هم من الأطباء والمهندسين والصيادلة الذين ينتمون بوضوح إلى الطبقة الوسطى. وتقودني هذه الملاحظة إلى حديث أحد الصحافيين النشطاء في ندوة أقامها منتدى علم الاجتماع النقدي، حين طلب الكلمة ليصرخ بأن الشباب الذين كانوا في الصفوف الأولى، والذين ضحوا وخاضوا معارك الكر والفر مع القوات الأمنية، وقتلوا دون أن يحظوا بأي تكريم، هم شباب الطبقات الدنيا، وأن هؤلاء الذين يسكنون العشوائيات ولا يجدون القوت، هم الذين كانوا يبيتون أسفل الدبابات والمدرعات، وأنهم في حقيقة الأمر لا يهتمون كثيرًا بعمليات التنظيف الحماسية التي جرت في ميدان التحرير عن طريق شباب وشابات «مرفهين»، مع ان وسائل الإعلام إهتمت بها، ونقلتها باحتفاء، وأسبغت على الذين قاموا بها صفة الثوار الحقيقيين.

لا يمثل محو السلطة للغرافيتي سوى حلقة في سلسلة طويلة من الحلقات، جرت وتجري منذ قيام الحركة الثورية المصرية، وإلى جانب مشاركتها الشباب في تنظيف الميادين والشوارع من آثار المعيشة ومخلفاتها، وكأن بشرًا لم يقضوا ليالي فيها. وإلى جانب محو الرسوم والعبارات التي رسمها الثائرون على كل جدار، فقد تم أيضًا محو أدلة لا حصر لها ترتبط بعمليات القتل والاغتيال التي راح ضحيتها المئات. طاردت السلطة آثار الرصاص والدماء والدهس في كثير من المعارك التي لا يزال الجناة فيها طلقاء، ومحتها تمامًا. وقد أصبح اليوم التالي لأحداث ماسبيرو والطرقات مغسولة بالمياه، والشوارع نظيفة لامعة، لا أثر فيها لعمليات القتل التي قامت بها السلطة. أتى الصباح وكأن أحدًا لم يكن هناك. بالمثل تم «محو» الوثائق الموجودة في مقار جهاز أمن الدولة ورآها الناس ممزقة مفرومة لا طائل منها. كذلك تم محو الأشرطة الخاصة بكاميرات المتابعة في المتحف المصري، والتي كانت ضمن أحراز قضية قتل المتظاهرين، إذ صدرت بشأنها مذكرة منسوبة إلى جهاز الاستخبارات وموجهة إلى النيابة العامة، تفيد بعدم صلاحيتها، وبأنه قد تم تسجيل مواد أخرى عليها في الفترة من ٢٥ إلى ٣١ يناير/كانون الثاني، وهي الفترة التي شهدت قتلًا مكثفًا ومقصودًا. هكذا لا تقف عملية المحو والإزالة عند الرسوم. المحو المنظّم يطاول الثورة وآثارها.

العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.