جسد مسجى على طاولة سوداء تلفّه خيوط كما الشرنقة في فترة تحولها. يدا الجسد مفتوحتان لاحتمالات الموت التي هي، في سورية، نفق نهايته مشرّعة على كل احتمالات الضوء. القاتل هناك لا تسعفه فطنته في إنهاك سُبُل الخلود.
جسد
حول الجسد ست شخصيات لكل منها هاجسها والسؤال. شخصية واحدة تعبر عن الفاجعة. لن يعبر محمد عن حزنه أكثر. فهنالك دائمًا مساحة لكوميديا وقعها أشد إيلامًا من الاسترسال بعرض عناصر الفاجعة.
تقدم الشخصيات نفسها تاركةً النحيب للمتلقي. لن تلمس جسد الشهيد. ستبقي الايدي تحت الطاولة ولكنها ستتنشق الغبار عن جسده المنتهَك والمصفّى. بعض الشخصيات يقف في خلفية المشهد يلقي نظرة لا مبالية تنقصها خبرة من ذاق الهوان.
الهوان
هذا هو الشعور الذي سيتحول في عمل «ربطة خبز» إلى فعل مقاومة. العمل يشبه مشهدا اخيرًا من مسرحية يموت بطلها بشكل استعراضي. الاستعراض هنا هو حالة رفض بحتة للتسليم بواقع الموت المنحدر من البحث عن ابسط سبل الحياة.
اليد ما تزال مرفوعة إلى الأعلى حاملة ربطة الخبز، وحولها هالة من دمٍ على مساحة بيضاء. الخبز مختلط بالدم (باللون) ضمن مساحة محايدة يُشكّل قصتها سيخ الحديد والضحية وتأكيد الخبز والدم. لن نحمل وزر مشاهدة القاتل او لوعة المخلّص من المساحة، كما اننا لن نبقى محايدين. سنتورط في المشهد من خلال عين الضحية المفتوحة. هي عينٌ ثالثة ثرثارة ترتب أسئلتنا عن جدوى الفعل كيفما كان.
عينا الضحية مغمضتان وعين ثالثة مفتوحة بإصرارٍ مقاوم: لن يخذلنا الموت.
هو المشهد الأخير من مسرحية واقعية يحارب ضحاياها لرؤية حقٍ بحجم رغيف خبز. لرؤية وطنٍ أكبر من رغيف خبز، «وطن يتسع للجميع».
وطن
تضيق المساحة في عمل «إبن العم» الذي يحاول بعضُهُ اغتيال البعض منه. جسدٌ حيواني ذئبي الملامح بنصفه المسيطر وعلى الرأس أذنان متطاولتان صغيرتان تعلوهما نظارة سوداء تشبه نظارة المُخبرين مشوهي الهوية التائهين بين خوفهم وممارستهم للعنف.
لا يخلو هذا الجزء من الجسد من ثقة وقحة يعززهما حضور لا إنساني قادرٌ على الاستباحة. إبن العم بيدين رجوليتين يكسوهما الشعر، يمسك رأسًا آخر للجسد نفسه في استعراض لعنف سريالي تجاه الذات والآخر. والجسد المتناحر، الذي يحاول اغتيال جزئه الانساني، ينذر بتعفن الجزء الآخر وانتهائه. هي نزعة تدمير ذاتي عبر قتل الضدّ في الذات بدءًا من ذاتها، وإسكات الجزء الادمي فيها. النهاية مفتوحة في هذا العمل. هل سيموت ابن العم؟ هل سيبقى قيد الاغتيال؟
مخيلة
تتبعثر الخطوط في الاعمال لكن خطًا واحدًا يرسم تخومها، تاركًا فوضى أجزاء بشر وحيوانات والآلات داخلها. يرتبك المشاهد من شدّة العنف. لكن شعورًا بالتحدي يحضر داخل تلك المساحة بين الرؤية والإدراك.
في أعمال أخرى لمحمد عمران كائنات هجينة، أجزاؤها بنادق ودبابات، كائنات ملتصقة بعناصر غير عضوية تترك لنا سؤالها عن الزائل. الكرسي من مفردات أعماله الاثيرة. في مجموعته النحتية يرتبط الجسد بالكرسي فيصير هو الكرسي بعضلاته وعظامه الممتدة الى قوائم. ويضيف محمد العجلات إليها، ثم يختصر الجسد فيصير نصف جسد على قاعدة مُدَوْلبة. يتقلّص الجسد في حضرة الكرسي.
ليست أعمال محمد عمران طارئة على الثورة. في استعراض مجموعته النحتية والتخطيطية والتصويرية السابقة نلتقي الأجساد اياها منزوعة الإرادة يشرخها في غالب الاحيان فجٌّ من الصدر إلى أسفل البطن او نلتقيها مقطّعة الأوصال. سنشاهد الغبن ذاته ولكن بصمت أقل. فهذا الصمت الذي تحوّل بعد الخامس عشر من مارس/آذار الى صراخ زادت من حدّته أسئلة الثورة والغُربة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.