ننشر في ما يلي ١٣ مشهدًا من سيناريو «القرامطة» (١٩٨٠) الذي عمل عليه عمر اميرالاي، ومحمد ملص، وصنع الله ابراهيم، وصمّم له الازياء جان بيير ديليفير. لم يبصر السيناريو النور، لكن قراءة هذه المختارات منه اليوم، تضيء حقبة تبدو معاصرة من تاريخنا العربي الاسلامي بقدر ما تغني معرفتنا بإبداع الراحل عمر اميرالاي وزميليه السينمائي محمد ملص والروائي صنع الله ابراهيم.
أنقذَتنا كتابة سيناريو «القرامطة»
من الانحياز للحركات الاسلامية
نريد أن نضع القارئ العربي اليوم أمام نـص سيناريو فيلم روائي عن «القرامطة»، كان قد كتب قبل حوالي خمسة وثلاثين عامًا ولم يصبح فيلمًا. تأخذني الذاكرة إلى التساؤل من جديد: ما الذي جعلنا نفكر، ونحن في الثلاثينيات من العمر، في كتابة هذا المشروع؟
بل ما الذي جمعنا نحن الثلاثة، عمر أميرالاي وصنع الله ابراهيم وأنا، حول مشروع كهذا؟ فننخرط في قراءة الوثائق والمراجع ودراسة اليوميات، ثم نحاول أن نستبصر التاريخ، ونتخيل ونكتب ونعيد المحاولة مرات عديدة، على مدى ثلاثة أعوام أو أكثر؟!
حين أفتح صفحات هذا السيناريو، وقد فارقنا عمر أميرالاي، يعود إلى داخلي التساؤل من جديد حول كنـه هذه الشخصية السينمائية التي فقدناها. جاء يومًا ما إلي، وقد اختمرت في رأسه فكرة كما هو معتاد، وقال كلمة واحدة «القرامطة»! ففتح أمامي، وربما أمام صنع الله ابراهيم أيضًا، ردهة بل ردهات، بل مَعْبرًا وربما معابر عديدة من الوعي والاطلاع والحوار والنقاش والكتابة والتغيير لسنوات عدّة، تبدو لي اليوم محطة راسخة في التشارك الخلاق، ونـواة صلبة للتعاون الإبداعي الذي امتد بيننا لأكثر من خمس وعشرين سنة من عمرنا.
ليس لدي أي شك أبدًا في أنّ عمر أميرالاي، حين جاء إلي ّ في البداية ورمى بكلمة «القرامطة» (في الحقيقة لم يكن عمر يأتي إلي، بل كنا معًا دائمًا) كان لديه الإحساس العميق بأنّ ما يسمى في سورية «التصحيح»، ليس هو في الحقيقة إلا البذور الأولى للثورة المضادة. بالصدفة، أو بعدمها، ومنذ اللحظات الأولى لقيامها، انقضّت بشراسة على التجربة السينمائية التي كانت قد بدأت يومها، وأجهضتها انتقامًا مما قدمته تلك التجربة من أفكار وأفلام، وعقابًا على ما حاولت تلك التجربة أن تؤسسه على صعيد التعاضد السينمائي في البلدان العربية لسينما بديلة وثقافة عضوية وحيّة.
ربما لم يكن أمام هذا السينمائي الوثائقي يومها إلا اللجوء إلى الروائي وإلا العودة إلى التاريخ.
يومها لم تكن المرارة قاتلة بعد! وكان ثمة أمل. لذلك كان عمر يحس بالرغبة في التماهي مع مرارة التجربة القرمطية على أكثر من صعيد.
أتذكر، ولن أنسى أبدًا ونحن نكتب، كيف كان عمر يحدثني عن اللحظات الأخيرة في حياة «الحسن الأعصم»، باني دولة القرامطة، وكيف كنت أماهي بين لحظات البحث عن الهواء والاختناق، بين الشخصيتين: المتحدِث والمتحدث عنه. بينما كان الفجر يلوّح الستارة البيضاء، لكنه لم يكن ينشق يومها إلا عن سواد أواخر السبعينيات السورية.
بعيدًا عن مطبخ ومختبرات الكتابة المشتركة، التي جمعتنا نحن الثلاثة, عمر وصنع الله وأنا، والتي جمعتني بعمر عديدًا من المرات بعدها، أريد أن أقول للقارئ إن سيناريو «القرامطة» ليس عن القرامطة فقط، بل عن تجربة بناء دولة ومجتمع مختلف تسوده العدالة، وعن عسف السلطات والخلفاء الذين حكموا الدولة الإسلامية في العصر العباسي.
وأعتقد أن في ثنايا هذا السيناريو، ثمة حدسًا مسبقًا ندّعي استبصاره، مع ما كان يحدث في سورية خلال فترة كتابة السيناريو ( ١٩٧٦ ــ ١٩٧٩) وما كان يسمى بالصحوة الإسلامية، التي كدنا أن ننحاز إليها، فأنقذتنا الكتابة منها. لذلك لم يكن مستغربًا على الإطلاق، مع تعثر تنفيذ الفيلم فيما بعد، أن تتحوّل الفصول الكثيرة من السيناريو ، إلى حلقات من مشروع تاريخي آخر للتلفزيون (أعلنه للمرة الأولى) بالطموح ذاته، بعنوان «الخلفاء». حاولنا خلاله معًا، عمر وأنا، بمعزل عن التجربة القرمطية، أن نتناول ثلاثة عشر خليفة حكموا خلال مختلف العصور الاسلامية المتعددة.
لكن هذا شيء آخر وكان لا بد له من أن يتعثر أيضًا.
أن لا يتحقق سيناريو كهذا، وأن لا يصبح فيلمًا (وأن لا يصبح الخلفاء عملًا دراميًا) قد لا يبدو لي اليوم أمرًا مستغربًا، بعد هذه السنين الطويلة من المعاناة والمواجهات مع الأوضاع الراهنة، ومع الأنظمة التي سادت وسيطرت على كل شيء. ففي جُعَبنا، ونحن اليوم في الستينيات من العمر، سواء كنا تحت التراب أو فوقه، الكثير من المشاريع المجهضة والموؤودة. لعـل لهذه الإطلالة على سيناريو «القرامطة» أن تساهم في فهم وإحساس الأسباب العميقة وراء نهوض الشوارع بحثًا عن الكرامة المنتهكة وعن الحرية المفقودة، وبحثًا عن الذات التي سلبت خلال هذه الأعوام الطويلة من الاستبداد.
هيا إلى مجتمع الإلفة
هيا إلى الجنّة على هذه الأرض
مقدمة
في منتصف القرن الثامن الميلادي، استولى العباسيّون على الخلافة الإسلامية في بغداد وأقاموا فيها سلطة قويّة شديدة البأس بلغت ذروتها في عهد الخليفة هارون الرشيد.
وفي ظلّ هذه السلطة شهد المسلمون ابتعادًا تامًا عن المبادئ المثالية للإسلام التي جاء بها الرسول محمّد، رافعًا شعارات المساواة بين البشر وإلغاء الرقّ. وتبلورت المعارضة للسلطة المستبدّة في عدّة اتجاهات اتّخذ أغلبها غطاءً دينيًّا، وكان أبرزها المطالبون بأحقية أهل البيت في الخلافة، وعُرف مؤيّدو هذا الحقّ بالشيعة.
ومن فرط ما تعرّض له الشيعة من اضطهاد على يد السلطة العباسيّة (والأمويّة من قبلها) تطرّفوا إلى المناداة بعودة الإمام، وهو ابن عمّ الرسول، أو واحد من نسله، ممّا يمثّل خروجًا عن المبادئ الأساسية للإسلام التي ختمت عملية النبوّة بوفاة النبي محمّد. بل تمادى أحد فروع هذا التيّار، وهو الدعوة الإسماعيلية، فألّهت إمامها، وأقامت في القاهرة خلافة مناوئة للعباسيين وهي الخلافة الفاطمية، في حين اتّجه تيار آخر وجهة معاكسة، إذ تميّز بطابع عقلانيّ صريح، وبأساس اجتماعيّ قوي، وهو الذي عُرف في التاريخ باسم الحركة القرمطية.
المشهد ١
بغداد ـ قصر الخليفة القاهر بالله
قبل ألف عام. قصر الخليفة العبّاسي القاهر بالله.
إحدى ردهات القصر. صدى وقع أقدام. خطوات سريعة وحازمة تقترب من بعيد. حفيف ملابس. ضربات صارمة لكعب رمح على الأرض الرخامية تواكب خطوات رجل. تنعطف أقدامه إلى ردهة أخرى. يقترب منّا الرجل أكثر. إنّه الخليفة القاهر. رجل ربعة. في الأربعينيات. أسمر معتدل الجسم. أصهب الشعر. طويل الأنف وفي مقدّم لحيته السوداء طول. تعابير وجهه تشي بطبع عصبيّ وقاسٍ.
يدخل القاهر بحزم «قاعة الخلافة» المغلفة جدرانها بستائر موشّاة بالذهب وهو يضرب الأرض برمحه على إيقاع خطواته. يتّجه إلى صدر القاعة حيث كرسي الخليفة. يجلس عليه. يضع الرمح بين ساقيه، ويُرخي نصله على كتفه اليمنى.
يلج القاعة رجل كهل يرتدي بردعة المؤرخين التي عرفوا بها وقد تأبّط كتابًا ضخمًا. يتقدّم بخطوات قصيرة متسارعة حتى منتصف القاعة. يركع ويقبّل الأرض أمام الخليفة القاهر.
ينقر الخليفة بكعب رمحه على الأرض. يرفع المؤرخ رأسه قليلًا فيقع نظره على الرمح أولًا، ثم يد الخليفة، ثم نقش خاتمه الذي كتب عليه «القاهر بالله المنتقم من أعداء الله لدين الله».
الخليفة: ــ لتصدقني أو هذه!
وأشار إليه بالحربة.
المؤرّخ: ــ أصدق يا أمير المؤمنين.
الخليفة: ــ عمّا أسألك عنه، ولا تغيّب عنّي شيئًا، وتُحسن القصّة، ولا تسجع فيها، ولا تُسقط منها شيئًا.
المؤرّخ: ــ نعم يا أمير المؤمنين.
الخليفة: ــ أنت علاّمة بأخبار خلفاء بني العبّاس في أخلاقهم وشيمهم من أبي العبّاس السفّاح فمَن دونه.
المؤرّخ: ــ نعم يا أمير المؤمنين.
يقلّب المؤرّخ بضع صفحات من الكتاب الذي وُضع الآن على حامل مصحف. يصمت قليلًا، ثم يرفع رأسه ليخاطب الخليفة بتهيّب شديد.
المؤرّخ: ــ على أنّ الأمان لي يا أمير المؤمنين.
الخليفة: ــ ذلك لك.
يعود المؤرّخ إلى كتابه ويقرأ فيه.
المؤرّخ: ــ أمّا أبو العبّاس السفّاح فكان سريعًا إلى سفك الدماء، واتّبعه عمّاله في الشرق والغرب في فعله، واستنّوا بسيرته.
الخليفة: ــ أخبرني عن المنصور.
المؤرّخ: ــ الصّدق يا أمير المؤمنين.
الخليفة: ــ الصّدق.
المؤرّخ: ــ كان والله أوّل من أوقع الفرقة بين ولد بني العبّاس ابن عبد المطّلب وبين آل أبي طالب، وقد كان قبل ذلك أمرهم واحدًا، وكان أوّل خليفة قرّب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم، وكان أوّل خليفة ترجمت له الكتب من اللغة الأعجمية إلى العربية، منها «كليلة ودمنة»، وكتب أرسطوطاليس من المنطقيات وغيرها، وترجم له كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب إقليدس، وكتاب الأرثماطيقي، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسريانية، وأخرجت للناس فنظروا فيها وتعلقوا إلى علمها، وكان أوّل خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله وصرفهم في مهماته وقدّمهم على العرب، فامتثلت ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت قيادات العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها.
الخليفة (مقاطعًا): ــ قد قلت فبيّنت كيف سقطت قيادات العرب وزالت رياساتهم وذهبت مراتبها.
المؤرّخ مستدركًا.
المؤرّخ: ــ ما قلت إلا الصّدق يا أمير المؤمنين.
الخليفة مقاطعًا بغضب.
الخليفة: ــ وهل بحجّة الصّدق تتطاولون هكذا على بني العباس وتسيئون إلى الذين حملوا وزر الأمّة يا ابن الزّانية؟
يتناول الخليفة الحربة ويهزّها ثمّ يهوي بها نحو المؤرّخ الذي يزيغ منها فتخطئه.
يقف المؤرّخ الذي يرتجف من الخوف ويتّجه نحو الحربة التي انتهى بها المطاف عند باب القاعة، فيلتقطها، ثمّ يعود بها بسرعة إلى الخليفة ويسلمه إيّاها.
يتناول الخليفة الرّمح منه بعصبية قائلًا:
الخليفة: ــ ويلك، أبغضت ما فيه عيناك ومللت الحياة؟
المؤرّخ: ــ لا يا أمير المؤمنين؟
الخليفة: ــ حدّثني عن الرّشيد إذن كيف كانت طريقته.
المؤرّخ: ــ كان مواظبًا على الحجّ، متابعًا للغزو، واتّخذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، فعمّ الناس إحسانه مع ما قُرن به من عدله، ثم بنى الثغور، ومدّن المدن، وحصّن فيها الحصون، وأحكم بناء الحرب، فقمع الباطل وأظهر الحقّ، وأنار الإسلام، وبرّز على سائر الأمم، وكان أحسن الناس في أيامه أمّ جعفر، وكان أوّل من لعب بالشطرنج من خلفاء بني العبّاس، وبالنّرد، فسمّى الناس أيّامه لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها «أيّام العروس».
الخليفة: ــ أراك قد أقصرت من أفعال أم جعفر، فلم ذلك؟
المؤرّخ: ــ يا أمير المؤمنين، ميلًا في الاختصار وطلبًا للإيجاز.
الخليفة: ــ زدني منها!
المؤرّخ: ــ نعم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحسن سيرتها في الجدّ والهزل ما برزت فيه على غيرها، فهي أوّل من اتّخذ الآلة من الذهب والفضّة المكلّلة بالجوهر، واصطنع لها الرفيع من الوشي حتى بلغ ثوبٌ وُشي اتّخذ لها خمسين ألف دينار، وهي أوّل من اتخذ الشاكرية والخدم والجواري يختلفون على الدواب في جهاتها، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها، وتشبّه الناس في أفعالهم بأمّ جعفر، ولمّا أفضي الأمر إلى ولدها، يا أمير المؤمنين، قدّم الخدم وآثرهم ورفع منازلهم، فلما رأت أمّ جعفر شدّة شغفه بالخدم واشتغاله بهم، اتّخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه وعمّمت رؤوسهنّ وألبستهنّ الأقبية كالرجال والمناطق فماست قدودهنّ وبرزت أردافهنّ وبعثت بهنّ إليه فاختلفن بين يديه فاستحسنهنّ واجتذبن قلبه إليهنّ وأبرزهنّ للناس من الخاصة والعامة، فاتّخذ الناس الجواري المطمومات (ذوات الشعر القصير) وسمّوهنّ الغلاميّات.
عند سماع الخليفة ذلك الوصف يذهب به الطرب والسرور والفرح فينادي بأعلى صوته: ــ يا غلام، قدح على وصف الغلاميات!
يبادر إليه جوار كثيرة يتوهّمهنّ المرء غلمانًا، فيسرع بشربه عند رؤيتهنّ ويقول: ــ هيه!
المؤرّخ: ــ نعم يا أمير المؤمنين، ثمّ أفضى الأمر إلى المأمون الذي اجتهد في قراءة الكتب القديمة، وأمعن في درسها، وأطنب على قراءتها، فافتنّ في فهمها، وبلغ درايتها، وجالس المتكلمين، وقرّب إليه كثيرًا من الجدليين المبرّزين والمناظرين وغير هؤلاء ممّا وافقهم وخالفهم، فرغب الناس في صنعة النظر، وتعلموا البحث والجدل، حتى جاء عام ٢٠١.
المشهد ٢
مشارف قرية في سواد العراق
عند مشارف قرية في سواد العراق يبدو حقل زراعي انتشرت فيه عائلة مكوّنة من أب وأمّ وأطفالهما. الجميع يعملون.
الأب يعمل على تحويل مجرى الماء من ساقية آتية من القرية ومتدفقة إلى ساقية صغيرة داخل حقله.
رأس بشري مقطوع تحمله المياه وتصدمه بحاجز السّاقية الرئيسية، ثم يندفع باتجاه ساقية الحقل.
الرجل المنحني فوق ساقية حقله يعمل على تسوية جوانبها.
يجرف الماء الرأس المقطوع الذي يصطدم بيدَي الرجل.
ينتفض الرجل واقفًا، هلعًا، ينظر نحو القرية، يصرخ ــ الجباة.! جباة الخليفة.!
المشهد ٣
القرية تبدو الآن منهوبة، خاوية، بعض الحرائق، أبواب مغلقة، رجال معلقون من أطرافهم إلى الأشجار أو مداخل البيوت، حاجيات وأثاث مرميّة في الأزقّة، عدد محدود من الدّواب بين شارد ومقتول، أدوات زراعية محطمة.
المشهد ٤
الراوي يضرب على الدفّ ويروي: ــ يُروى عن محمّد بن يزيد بن مركوب عن عبد الله الفراتي عن نصر بن مروان بن منذر بن باقر رضي الله عنه، قال: حدّثني معروف ابن السائب بن محمد بن شمس الدين أبو عبد الله المهزار عن عمر بن عماد الدين بن عمّار بن أبي أمّه، قال: روى عكرمة بن عقبة بن فلقان أنّه سمع من أحد المؤمنين الأتقياء أنّ من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار.
نكتشف أنّ الراوي يروي أمام حلقة من أهالي القرية الملتفّين حوله في ساحة القرية.
حين ينهي الراوي رواية الحديث يتلفت الناس فيما بينهم ويبدأ البعض تدريجيًا بمدّ ألسنتهم إلى أرنبات أنوفهم.
كلّ الأهالي يمدّون ألسنتهم ما عدا ثلاثة من الرجال ينظرون إلى الراوي والأهالي باستغراب. أحد هؤلاء الثلاثة رجل في الخامسة والثلاثين من العمر، قويّ البنية، يرتدي ملابس الفلاحين، هو (حمدان قرمط) يقف ويمسك بيده رسن ثور.
جُند الوالي يخترقون الساحة بجيادهم بسرعة، فيتفرق الأهالي ويتناثرون. يرمي الراوي الدّف ويهرب.
يصدم الجند بعض الأهالي. يفرّ الآخرون. فرس تدهس الدّف. حمدان والإثنان الآخران يتنحون جانبًا.
حمدان يسحب الثور خلفه ويتّجه صوب سوق القرية.
المشهد ٥
سوق القرية
نتعرّف من خلال التحيّات المتبادلة بين حمدان وبين الأهالي والباعة أنّ أهالي القرية يكنّون له المودّة.
يبدو أمام دكان أحد الباعة أنّ جمهرة وصخبًا وصياحًا قد نشأت بين بعض الناس.
يقترب حمدان من شيخ طويل القامة، مهيب الطلعة، يرتدي جبّة خضراء وعلى رأسه عمامة بيضاء كبيرة، وله عينان واسعتان. توحي هيئته العامّة أنه كان ربيب نعمة ماضية.
عدد من الرجال من أعيان القرية وملاك الأراضي يحيطون بالشيخ ويلوّحون في وجهه.
ــ لصّ منافق. أخذت أجرك مرتين. لم يكفك أن تسرق تمرنا فرحت تبيع نواه.
البقال يبذل الجهود لتهدئة السادة:
ــ لقد أخطأتم. دعوني أشرح لكم. هذا وليّ من أولياء الله.
بينما يحاول البقال أن يشرح وهو يشقّ طريقه بين السّادة والناس لتهدئة الموقف يلمح حمدان أمامه، فيهتف: ــ هذا هو حمدان قرمط، دعونا نحكّمه الرأي.
الشيخ الأهوازي واقف بثبات وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. يفسحون الطريق لحمدان الذي يقترب، فيهدأ الصياح.
البقال (يخاطب الجمع): ــ لقد طلبتم مني رجلًا يحرس لكم نخلكم، حقّ؟
أحدهم: ــ حقّ.
البقال: ــ ودللتكم على هذا الشيخ الذي وفد علينا منذ شهر وعاش بيننا زاهدًا متعبدًا، حقّ؟
البعض: ــ نعم نعرف كلّ هذا.
البقال: ــ إنّ الشيخ قام بمهمّته وأعطيتموه أجره. ولقد كان يشتري منّي كلّ يوم رطلًا من التمر لإفطاره، وطلبت منه أن يحفظ النوى لأشتريه. وما في اليوم هو نوى التمر الذي اشتراه مني.
حمدان: ــ لقد ظلمتم الشيخ والله.
أحدهم: ــ لم نكن نعلم أنه يشتري التمر.
أحدهم: ــ جُلّ من لا يخطئ.
حمدان: ــ وحقّ عليكم الاعتذار له.
ثالث: ــ نستميحك عذرًا أيّها الشيخ ونرجو أن تقبل عذرنا.
البقال يقبل على الشيخ الأهوازي في حماسة ويمسك بيده ويقبّلها.
البقال: ــ اغفر لهم يا مولانا، فإنّهم لا يعلمون. واغفر لي أيضًا. فأنا السبب.
ينصرف المجموع.
يلتفت البقال ليقدّم حمدان للشيخ فيجد حمدان قد مضى إلى حيث ترك ثوره.
حمدان يجذب مقود الثور.
يمسح الشيخ على رأس البقال وهو يردّد: ــ لا بأس. لا بأس.
حمدان يجذب مقود الثور، والثور يحرن عن الحركة. الأهوازي ينظر باتجاه حمدان ثم يتجه نحوه ببطء. الأهوازي يحاذي حمدان ويخاطبه: ــ دعه فإنّه لم يؤمر بعد.
حمدان (مدهومًا): ــ ومن يأمره؟
الأهوازي: ــ الذي يأمرني ويأمرك!
حمدان في حيرة، بينما الأهوازي يمشي دون أن يلتفت خلفه، وبعد أن يمضي قليلًا يتحرك حمدان نحو الشيخ ويتبعه قائلًا: ــ كأنك تعمل بأمر آمر لك.
يلتفت الشيخ نحو حمدان، وبوجه بشوش يومئ برأسه موافقًا. يقترب حمدان من الشيخ.
حمدان: ــ وهل أمرت بالمجيء إلى القرية؟
الشيخ: ــ أقول لك وتكتم الأمر؟
حمدان: ــ أفعل.
الشيخ: ــ عُهد إليّ أن أنقذ أهل هذه القرية وأملكهم أملاك أصحابها.
الشيخ ينظر إلى حمدان، حمدان مفكرًا. يصمت الاثنان ثم يتوقفان.
المشهد ٦
الشيخ وحمدان في المسجد.
يلتفت كلّ منهما نحو الآخر بعدما فرغا من الصلاة، تتعانق يداهما، ويبدأ الشيخ بأخذ العهد على حمدان.
الشيخ: ــ جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه.
حمدان: ــ نعم.
الشيخ: ــ وذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه وملائكته ورسله.
حمدان: ــ نعم.
الشيخ: ــ أنك تستر جميع ما تسمعه وسمعته من أمري.
حمدان: ــ نعم.
الشيخ: ــ وأمر امامنا المستور الذي سيتحقق العدل الشامل بظهوره للبشر.
حمدان: ــ نعم.
المشهد ٧
حقل زراعي كبير. الوقت أيّام الحصاد. الأعمال في الحقل متروكة.
كلّ الفلاحين العاملين فيه يقفون في الصلاة خلف حمدان قرمط.
الفلاحون ينتهون من الصلاة ويطوون الحصيرة ثمّ يتوزعون في الحقل للعمل.
يتجه حمدان أيضًا إلى العمل.
الملاحظ يراقب العمل عن بعد.
فجأة يتجه الفلاحون إلى الصلاة من جديد.
يهرع ملاحظ نحو الملاحظ الأول.
الملاحظ الثاني:
ــ لم يعد أولاد الكلاب يعملون شيئًا. هذه هي المرّة الثلاثون التي يصلون فيها اليوم.
الملاحظ الأول: ــ إنّه ذلك الشيخ الملعون الأهوازي الذي أقنعهم بأنّ الصّلاة خمسون مرّة وليست خمسًا.
الملاحظ الأول ينادي على حمدان قائلًا: ــ يا كلب. تعال إلى هنا.
حمدان ينظر نحو الملاحظ، يتجاهل النداء ويتجه لينضمّ إلى الفلاحين في العمل.
الملاحظ بعصبية: ــ يا كلب! تعال إليّ!
الفلاحون يتوقفون عن العمل تدريجيًا ويظلون في أماكنهم، حمدان يتفاعل ببطء في عمله.
الملاحظ مغتاظ، والفلاحون ينظرون وينقّلون النظر بين حمدان والملاحظ.
الملاحظ الأول يطلب من الملاحظ الثاني مناداة الوكيل ويلتفت نحو حمدان ويقول وكأنّه يخاطب نفسه:
ــ الكلب لم يعد يستجيب.
يتوقف حمدان عن العمل. الفلاحون في لحظة ترقب.
يظهر الوكيل مقتربًا بسرعة وانفعال وخلفه خادم يحمل له شمسية وهو يثرثر كلامًا فيه شتائم للفلاحين، وحين يقترب أكثر نسمع منه:
الوكيل: ــ عدتم إلى بدعكم يا أولاد الكلاب.
حين يمرّ الوكيل أمام الملاحظ يقطع ثرثرته هذه ويتحدث مع الملاحظ بصوت خافت. ينصرف الملاحظ جريًا.
يتابع الوكيل تقدّمه ويستأنف شتائمه وكأنّه لم ينقطع عنها: ــ عدتم إلى بدعكم يا أولاد الكلب. لقد أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس صلوات. لا بخمسين.
حمدان يعود ببطء إلى التلهي بعمله ويجيب الوكيل
حمدان: ــ والله ما جعلها خمسًا إلا أنتم حتى تشغّلونا.
لم يكد حمدان يتم جملته حتى نهض أحد الفلاحين وقال: ــ إنّ لله علينا حقًا يجب أن نؤديه.
ويدعو الفلاح الفلاحين للصلاة.
يتجه حمدان ويتبعه الفلاحون إلى الصلاة، يحاول الوكيل أن يفرّقهم ويمنعهم من إقامة الصلاة، وحين يفشل يحتار في أمره ويتحرّك في مكانه بلا هدف. الصلاة تقوم.
صوت خيول العساكر.
يتوجه العساكر مباشرة نحو الفلاحين ويبدأون بتفريقهم بالسياط بينما يتجه قائد العسكر نحو الوكيل وينزل عن جواده.
الوكيل: ــ الكلاب يصلّون طوال الوقت ولا يعملون شيئًا.
قائد العسكر يأمر عساكره بسوقهم إلى السجن، فيصرخ الوكيل: ــ لا. أرجوك، نحن الآن في وقت الحصاد.
يتوجه القائد الآن نحو العساكر ويأمرهم بسوق الفلاحين نحو الحقول.
يتبعه الوكيل ويقف إلى جواره.
العساكر تمكنوا الآن من تفريق الفلاحين وسوقهم إلى الحقول.
الكلّ يعود إلى العمل، بمن فيهم حمدان، تحت ضربات السياط والشتائم التي تنهال عليهم من العساكر والقائد والوكيل.
الوكيل للقائد بعد أن يتبعه ويقف إلى جواره: ــ أساس البلاء هو ذلك الشيخ الملقب بالأهوازي الذي جاء إلينا منذ عام وجلب معه بلاء هذه البدع.
القائد: ــ صحيح، لكنّ الوالي يرفض أن نتعرّض له طالما أنّه لا يفعل غير الصلاة. وحتى لا تهيج العامة.
الوكيل: ــ ولكن لا بدّ. لا بدّ من إيجاد طريقة للخلاص منه.
المشهد ٨
بغداد.
حمام في سماء بغداد.
حمامة تطير وتحوم فوق سطح أحد المنازل.
السطح مغطى بأعمدة رفيعة وحبال تشكل مناصب لنشر الصوف المصبوغ.
أطفال يعملون على نشر الصوف المصبوغ ونقله ومدّه على الأعمدة والحبال.
الحمامة تحوم فوق المكان وتقوم بعدة دورات.
أحد الأطفال ينتبه للحمامة ويركض ويدور معها وهو يقول لزميله: ـ هذه الحمامة لعبدان.
الحمامة تلف ثم تهبط إلى حافة جدار فيه فتحات للحمام.
ما أن تحطّ الحمامة حتى يركض الطفل نحوها ويمسكها، ثم يكتشف رسالة مربوطة إلى رجلها، فيتناول الرسالة.
يهرع الصبي في شارع من شوارع بغداد، يجتاز أزقة صغيرة، ثم يقف عند باب إحدى الزوايا الدينية.
حلقة يتصدّرها الحلاج، المتصوّف المعروف، وحوله مجموعة من الناس تستمع له يقول: ــ إنّ هؤلاء الصوفيّة يزعمون أنّ الطريق إلى معرفة الله هو أن ينظر الإنسان في أعماق نفسه، ويدقق النظر، فعندئذ سيشعر بالسعادة لأنه سيرى في قلبه أشجارًا وثمارًا وملائكة وأقمارًا. وأنا أقول أن هذه الأشجار والثمار لا يراها بل ويتمتع بها في الحقيقة سوى منتهكي الحرمات، وتجّار الدّم، وجباة الضرائب، ومرابي الأسواق، ولصوص عرق الآخرين.
في طرف الحلقة نلمح شاب نحيف الجسم، في الخامسة والعشرين من العمر، وهو عبدان، يقف ويتفرج.
الولد حامل الرسالة يبحث بين الوجوه ويتوقف بنظره عند عبدان.
الولد يشير إلى عبدان محاولًا لفت نظره.
يلمحه عبدان الذي يعتذر ويغادر الحلقة باتجاه الولد.
عبدان يتسلم الرسالة ثم يسير في سوق من أسواق بغداد المزدحمة، ويبدو أنّه يمضي في اتجاه مكان معين.
عبدان يخرج من السوق وينطلق محازيًا شاطئ دجلة.
عند الشاطئ ثمّة تجمهر حول شيء ما لا نراه بعد.
عبدان يقترب من التجمهر، فنسمع صوت أحد العساكر واقفًا على مكان عالٍ يقول: ــ وهذا عقاب من يهاجم قوافل الحجاج.
يطلّ عبدان على التجمهر فيلمح ثلاثة رجال مربوطين راكعين على الشاطئ ورؤوسهم مشدودة قريبًا جدًا من الماء ولكن لا تطاله.
وجوه الرجال الثلاثة تتصبب عرقًا، متقشرة، شعرهم منكوش، شفاههم جافة متشققة وعيونهم جاحظة نحو الماء. تبدو عليهم علامات الانهيار.
يحرس الرجال الثلاثة ثلة من العسكر، والرجل الرابع الواقف على مكان عال يتابع ترديد: ــ أطعموا الملح حتى يموتوا عطشًا، وهذا عقاب من يهاجم قوافل الحجاج.
يدخل أناس إلى الجمهرة ويغادرها أناس.
عبدان يتابع سيره وينعطف فنجد أنفسنا في سوق النخّاسين.
أحد النخّاسين ينادي وقد رصف بضاعته من النساء الجواري على منصة خشبية، ووقف يعرضهم ماسكًا أثداء واحدة تارة أو يقرص مؤخرة أخرى أو يتقدم من زنجيّة فيكشف شفتيها وينادي:
ــ إقترب وتوكل. لن تجد أجلد منها على الخدمة!
يتجه النخّاس نحو الجارية الشقراء وينادي:
ــ إقترب. عندي الرومية الشقراء.
يتابع نحو الثالثة ويقول: ــ والهنديّة الولود.
ثم يتوقف عند الجارية التالية: ــ ليس هناك أرقّ من الحبشيات.
بالقرب، وقف بائع جراد، يحمل ميزانًا بيد وباليد الأخرى يخرج حفنة جراد من شوال ليسوّي بها الكيل وهو ينادي بفرح، دون النظر إلى الشارين الذين يبدو عليهم الفقر الشديد: ــ الحمد لله الذي كثر فيه الجّراد هذا العام، فصاده الناس وانتفع الضعفاء بأكله، وكان نعمة من نعم الله عزّ وجل.
يدخل عبدان سوق النحاسين ودويّ الطرق على النحاس يضجّ به المكان.
نرى عبدان متجهًا إلى أحد الدكاكين حيث يجلس صبيّ عند مقدّمة الدكان يطرق على النحاس، يتوقف الصبي عن العمل عند توقف عبدان أمامه.
عبدان: ــ قل لأبيك إنّ عبدان يريد أن يراك.
ينهض الصبي ويختفي داخل الدكان.
يتناول عبدان مقعدًا صغيرًا ويجلس على عتبة الدكان، يتأمل السوق.
مقابل عبدان دكان نحاس يجلس عند مدخله شابان منهمكين في العمل، بينما مدّ رجل ثالث حصيرة أمام الدكان يصلي عليها.
يدخل رجل وسط السوق وقد ارتدى ثوبًا أبيضًا ممزّق الأطراف ذو شعر ولحية مسترسلين يصرخ «أنا نبيّ الله. أنا نبيّ الله.» وهو يدقّ على طبل صغير ويصرخ بصوت منغّم.
أحد النحّاسين يخاطبه من دكانه وقد توقف عن العمل:
ــ وما هي حجتك؟
الرجل: ــ من كان منكم له زوجة حسناء أو بنت جميلة أو أخت صبيحة فليحضرها إليّ، أجعلها له بابن في ساعة واحدة!
النحّاس: ــ نساء ما عندنا، عندي عنز حسناء فاجعلها لي.
الرجل يسير، الناس يشدّونه ويقولون له: ـ إلى أين؟
الرجل: ــ دعوني أمضي إلى جبريل لأعلمه أنّ هؤلاء القوم يريدون تيسًا ولا حاجة بهم إلى نبيّ!
الناس يتركونه ضاحكين.
النحّاس يعود إلى العمل وهو يضحك.
يخرج الصبي من داخل الدكان ويقول لعبدان: ــ أبي يدعوك إليه.
يدلف عبدان إلى الدّكان خلف الصبيّ، ثمّ يجتازان الباب الخلفي للدكان.
دهليز طويل.
عبدان يسير خلف الصبيّ.
ينتهي الدهليز إلى ردهة واسعة فيها أوتاد، وإلى كلّ وتد عُلّق إزار ومئزر.
يتناول الصبي مئزرًا وإزارًا من أحد الأوتاد، فيرتديهما بسرعة وهو يشير لعبدان أن يفعل الشيء ذاته.
يتناول عبدان إزارًا ومئزرًا ويرتديهما فوق ملابسه وهو ينظر إلى الصبيّ محاولًا تقليده.
يتقدّم الصبيّ ويتبعه عبدان.
قبو مضاء بمصباح زيتي يتوسّطه رجال بملابس مماثلة وقد التفوا حول أكوام من أشياء متباينة ومجمّعة بلا ترتيب: خناجر، وسيوف، وسلاسل، وثمّة إبريق كبير من النبيذ وعدد من الأقداح.
يغادر الصبيّ القبو عائدًا بعدما أوصل عبدان حيث ينهض أحد الجالسين ليستقبله مرحّبًا به باسمه.
الرجل يدعو عبدان إلى الجلوس وهو يقدّمه للآخرين. ــ هذا هو عبدان. صهر حمدان قرمط.
يتطلع عبدان حوله ويتأمّل الموجودات.
أحد الرجال الجالسين ينهض ويقدم كأسًا لعبدان، الجميع يشربون نخب الضّيف.
عبدان يضع الكأس، أحد الجالسين، ويبدو أنّه زعيم هؤلاء، يضع كأسه أيضًا ويقول: ــ ما وراءك؟
عبدان: ــ الوالي يستعدّ لقمع حركة حمدان، ولهذا فهو بحاجة إلى السلاح.
أحد الرجال: ــ وهل ينوي حمدان مهاجمة الوالي؟
عبدان: ــ يريد أن يكون قادرًا على الدفاع عن حركته.
أحد الرجال: ــ أنت تعرف يا عبدان أنّ الحرفيين صاروا اليوم مهدّدين باللصوص والأوباش وجند الخليفة والأتراك.
عبدان: ــ الخطر مشترك كما ترون.
أحد الرجال: ــ لكنّ أسلحتنا بالكاد تكفي عملياتنا.
رجل آخر: ــ إذا خرج أحد مثل حمدان على السلطان فلا بدّ لنا من أن نساعده.
يتوقف عبدان عند هذه النقطة التي وصل إليها الحوار ويقول: ــ سندفع ما تطلبونه.
يتشاور الزعيم مع أحد الجالسين ثم يلتفت نحو عبدان.
الزعيم: ــ حسنًا يا عبدان. أخبره بالأمر.
المشهد ٩
مجتمع الألفة
[شخصيات هذا المشهد هم قادة الحركة القرمطية. شخصيات تركت بصماتها على تاريخ الحركة بالمصير المأسوي الذي انتهى إليه كلّ منها].
نتعرّف هنا إلى زكرويه، الانفعالي المندفع الذي يفتقر إلى الصّبر،
وعلى أبو سعيد الجنابي، الهادئ الصبور المتقد الذكاء الذي عطّل الفالج جانبه الأيسر،
وعلى أبو الفوارس الصّلب الذي يتميّز بالإخلاص والصلابة والإقدام أكثر مما يتميّز بالقدرة على التفكير الخلاق.
خيمة واسعة، مفروشة ببساطة، الوسائد مصفوفة في جنباتها. يتصدّر المكان حمدان وعبدان.
إلى الجانبين يجلس القادة وعددهم نحوا العشرة.
حمدان (وكأنّه يواصل حديثه): ــ لقد وافق الإمام على أن يذهب أبي سعيد (يشير إلى الجنابي) إلى البحرين، وأن يذهب زكرويه إلى الكوفة، وأبي الفوارس إلى ريف العراق، وإبن فضل وإبن حوشب (يشير إليهما) إلى اليمن.
يتوقف حمدان لحظة ثم يواصل: ــ والضرورة تلحّ عليّ أن أكرّر: نحن لا نريد محاربة السلطان إلا إذا بدأنا هو بالعدوان.
يتبادل حمدان وعبدان النظر إلى وجوه الحاضرين وعند الجملة الأخيرة من حديث حمدان يبدو زكرويه ممتعضًا وغير راضٍ، بينما يبدي أبو سعيد التفهّم للموقف.
حمدان (مواصلًا): ــ لقد رفض زعيم الزّنج أن ننضمّ إليه حين اقترح عليه ذلك الشيخ الأهوازي قبل اختفائه. لو قبل لربّما لم تستطع جيوش الخلافة سحقه بالوحشية التي فعلتها به. ولربما أمكننا أيضًا أن نخطو بدعوتنا خطوة أكبر.
عبدان: ــ على كلّ حال ما زلنا في البداية، ودعوتنا لكي تنتشر وتقوى لا بدّ لنا من التمسّك بأصول الدعوة والمعرفة لطبيعة النفس البشريّة. علينا ألا نهجم على المستجيبين بأشياء تهزّ عقولهم حتى نرقيهم إلى المراتب حالًا فحالًا وندرّجهم درجة درجة. لا بدّ للداعية من أن يظهر التقشف والعفاف عن الدرهم والدينار، ولا بدّ للداعية من أن يكون حسنًا في سلوكه فلا يشرب الخمرة أو يرتكب المعاصي، ولا بدّ للداعية من أن يكون خبيرًا بالسحر وخفّة اليد، عليمًا بأخبار الأوّلين والآخرين، قادرًا على شرح أيّ مسألة.
حمدان (باسمًا): ــ ولا يكون مثل صاحب الأمّة المنكوبة حين سألوه عن الرّوح وعجز عن الإجابة فقال: هي من أمر ربّي!
يضحك الجميع.
الحمام الزاجل يملأ الشاشة محملًا بالرسائل وينطلق باتجاهات مختلفة في سماء واسعة.
وجه ابن الفضل الزعيم القرمطي في اليمن يتحدّث إلينا بمباشرة وإيجاز فيقول: ــ ولهذا لا بدّ لنا في بداية تقرّبنا من الناس من أن نظهر التشيّع.
وجوه مجموعة من الناس تنظر إلينا وتتابع الاستماع.
صوت ابن الفضل: ــ والقول بإقامة عليّ بن أبي طالب وأحقيّة أهل بيته من بعده بالخلافة.
وجه أبو سعيد الجنابي، الزعيم القرمطي في البحرين، يتحدّث إلينا بمباشرة وإيجاز فيقول:
ــ وعند هذه الدرجة تقبلون على زرع الشكّ في عقل الشخص وتدريبه على التفكير.
وجوه مجموعة من المستجيبين تنظر إلينا وتتابع الاستماع.
صوت أبو سعيد: ــ وإخراجه من سيطرة الأوهام السائدة.
وجه زكرويه، الزعيم القرمطي في بلاد الشام، يتحدّث إلينا بمباشرة وإيجاز، فيقول: ــ وبعد ذلك نشرح له كيف أننا لا نؤمن إلا بإمامنا المهدي.
وجوه مجموعة من المستجيبين تنظر إلينا وتتابع الاستماع.
صوت زكرويه: ــ إنّه في منزلة الأنبياء، وكلامه يلغي شرائع ما قبله من الأنبياء، وبظهوره يكون قد زهق الباطل وتحقق العدل.
وجه أبو الفوارس، الزعيم القرمطي في العراق، يتحدّث إلينا بمباشرة وإيجاز، فيقول: ــ عندئذ نقنعه بعبث الكتب المنزلة، ويلي ذلك إنكار البعث والقيامة.
وجوه مجموعة من المستجيبين، بينهم نساء، ينظرون إلينا ويستمعون.
صوت أبو الفوارس: ــ فمن مات لا يحيا من جديد وإنكار الملائكة في السماء والجنّ في الأرض.
ينطلق الحمام الزاجل ويملأ الشاشة ثم ينطلق في سماء واسعة.
المشاهد التالية يختفي منها قادة الحركة.
الوجوه المتكلمة التي تظهر الآن هي منتقاة من الوجوه التي شاهدناها مستمعة في المشاهد السابقة وهي تتحدّث بالطريقة والأسلوب نفسه وكذلك بالحجم نفسه.
وجه داعية: ــ وإذا دخلت عليه بهذا المدخل.
وجوه دعاة مستجدّين أكبر مما ظهر سابقًا.
صوت الدّاعية يكمل حديثه: ــ درّجته إلى ما تريده ومكنته.
وجه داعية آخر: ــ وإذا ظفرت بيهودي.
دعاة يستمعون: ــ فادخل عليه من جهة المسيح.
وجه امرأة سبق أن رأيناها تقول وهي تحرّك شيئًا لا نراه: ــ بئس من تخلى عن دين عيسى، هؤلاء الذين ظنّوا أنّهم إذا اسلموا.
مجموعة نساء يطحنّ على الرّحى وتتدلى الصلبان على صدورهنّ يستمعن وهنّ يعملن.
تتابع المرأة: ــ سيتخلصون من دفع الجزية. لكنّ المسلمين الخبثاء لم يرفعوا عنهم الجزية بعد إسلامهم.
وجه داعية: ــ إنّ كلّ الناس يرون أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب كان أحقّ بالخلافة.
الدعاة يستمعون في حقل من الحقول ويبدو أنّهم لتوّهم قد تركوا أعمالهم وجاؤوا يستمعون.
الداعية يتابع: ــ لما اتصف به من شمائل ولأنه ابن عمّ النبيّ أيضًا.
عامل صباغة داعية يقول: ـ لله درّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقبلان في الحقّ لومة لائم، كانا لا ينامان وفي المدينة جائع.
مجموعة من عمّال الصباغة يستريحون في حوض المصانع المحيطة ويستمعون: ـ ولولاهما لآل مآل الأمّة الإسلاميّة بعد وفاة النبيّ إلى عليّ بن أبي طالب ولما علم الله ما كان قد حلّ بنا.
وجه صيّاد يقول: ــ لقد ظلمت هذه الأمّة عليّ بن أبي طالب وقتلوا أبناءه وسبوا بناته وهذه الشرور.
مجموعة من الصيادين وقفوا على الشاطئ وقد استعدوا للصلاة يستمعون: ــ لم يكن أساسها إلا الشيخين البائسين أبا بكر وعمر اللذين اغتصبا الخلافة بعد محمّد وعليّ أحقّ بها.
وجه داعية فارسي يقول:
ــ لقد سلبكم هؤلاء العرب كلّ شيء ومنعوكم عن دينكم.
سوق من الأسواق، مجموعة من الناس يقفون ويستمعون إلى الدّاعية: ــ وأكلوا رزقكم وسبوا نساءكم وما أنتم بعاجزين عن حكم أنفسكم.
وجه داعية يسأل: ــ لماذا خلق الله العالم في سبعة أيّام؟ هل عجز عن خلقها في ساعة؟
عدد من الدعاة يستمعون.
الدّاعية يسأل: ــ لماذا جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟
داعية زنجي: ــ لن ننسى ما حلّ بنا في البصرة حين غطت رؤوس الزنج.
مكان يشبه أمكنة السباخ على الشواطئ وقد توقف العمال الزنوج عن أعمالهم وأخذوا يستمعون: ــ المقطوعة صفحة دجلة. ليس لنا خيار إلا الانتقام والثأر.
وجه داعية يقول: ــ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد كلّ هؤلاء الأنبياء هم أنبياء سياسات وشرائع. أما أنبياء الحكمة.
عند مدخل جامع وقف عدد من المستمعين. ــ كأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم من الفلاسفة، فإنّ أولئك قد أخذوا عنهم شرائعهم ليصلوا بها إلى العامّة.
وجه داعية: ــ وإذا وافقتني على أنّ العالم قديم قدم الزمان ولا مدبّر له. تجلس مجموعة من الرجال في غرفة مليئة بالكتب. ــ لم يعد هناك خلاف على الإطلاق بين ما نؤمن به وما ندعو إليه.
المشهد ١٠
[مجموعة من المشاهد التي تعبّر عن استجابة النّاس للدعوة القرمطية في مرحلتها الجديدة وهي مرحلة بناء دار الهجرة].
الحمام الزاجل يملأ الشاشة ثم ينطلق في سماء واسعة.
شمسيّة صغيرة من أوراق النخيل. امرأة عجوز مليئة بالحيوية تجلس تحت الشجرة. حول المرأة أكوام من الأشياء كالغلال والتمر والغزل والنقود.
نسوة قادمات وكلّ واحدة تحمل قدرًا من الصوف المغزول على ساعديها.
العجوز تتناول من النسوة وتسجّل بمسمار على شجرة بالقرب منها.
رجل يهمّ بإفراغ صرّة نقود أمام العجوز.
امرأة تطالبه بانتظار دوره.
العجوز تحسم الخلاف بنبرة حاسمة وتدعوه إلى الوقوف في الدّور.
الرجل يصرّ وينحني أمام المرأة العجوز، يفكّ صرّته، يخرج جزءًا مما تحتويه ويعطيه للعجوز، يبدأ بإعادة ربط صرّته لكنّه يتوقف لحظة، يفتحها من جديد، ويخرج قطعتين نقديتين ويضعهما في يد العجوز.
حقل زراعي.
مجموعة من الفلاحين يجرّون الدهّاق (جابي الضرائب) الذي شاهدناه سابقًا.
الفلاحون يعلقون الدّهاق من أحد ساقيه إلى شجرة.
تلة منعزلة قليلًا.
عدد من الرجال والنساء على التلة يقومون بالبناء، حركة بناء سريعة، جِمال تحمل التبن والخشب، حمير محمّلة بالحصى والرمال، العاملون في البناء مرحون ومندفعون بالعمل بحركات فرحة، رقص وغناء في أرجاء العمل.
الفلاحون يهاجمون بيوت السادة الأثرياء ويقودونهم من حجراتهم خارج بيوتهم.
الفلاحون يقودون اثنين من رجال الشرطة ويستولون على جيادهم.
البناء على التلة الصغيرة مستمرّ وقد ظهرت جدران بيوت بيضاء واكتست أطراف التلال بالحشائش الخضراء.
الحمام يطير فوق المدينة الجديدة مهيماباز (دار الهجرة).
وسط شوارع المدينة البيضاء، السكان متوجهون نحو دار كبيرة ويجرّون خلفهم جواميس وبقرًا ومحاريب وأدوات زراعية ودجاجًا وأنوال النسيج.
في فناء الدار الكبيرة في المدينة البيضاء، رجال يقومون باستلام العطايا التي يتقدّم بها المستجيبون للدعوة.
الاستلام والعطاء يجريان بنظام وبجوّ من المرح والاندفاع.
عند مدخل الدار مجموعة من النساء، بعضهنّ يحمل أنوالًا صغيرة للنسيج، بينما تجمعت الأخريات ضاحكات مازحات حول فتاة تحاول نزع الأساور من يدها. تساعدها النسوة وتحاول هي بصعوبة لكن الأساور مستعصية.
مجموعة أخرى قادمة نحو الدار.
رجل يخلع أقراط زوجته من أنفها، لا تبدو المرأة سعيدة لذلك.
فتاة سمراء ذات حيوية تركض وهي تحمل صندوقًا صغيرًا وامرأة عجوز تطاردها وتقذفها ويبدو أنّها أمّها.
المشهد ١١
المشهد الأعظم
غروب
التلة المكسوّة السفوح بالعشب الأخضر والتي تقوم عليها الآن مدينة «مهماباز» ببيوتها البيضاء.
نيران تشتعل في أماكن متناثرة.
شوارع المدينة وحاراتها تعجّ بحركة مرحة رشيقة والأهالي نساء ورجال يتبادلون الكلمات وهم يأتون ويروحون.
الدار الكبيرة التي شاهدناها مكانًا لدفع العطايا تبدو مضاءة إضاءة خاصّة وتبعث في النفس إحساسًا مرحًا وراحة داخلية والجميع يرتدون الجلابيب البيضاء.
أصوات غناء ودفوف تنبعث حول الدار والحركة في داخل الحوش بادية وكأنّما تجري استعدادات لاحتفال ما.
مجموعات جديدة من الرجال والنساء يتوافدون.
الوافدون ينخرطون في هذه الأجواء بسرعة.
الكلّ يشارك بحيث لا نرى متفرجين.
النساء متدفقات يمازحن والرجال يتحرّشن بخفة بالنساء.
يقف القصاص عند باب الدار يروي ويشارك الآخرين المزاح والتحرش.
بعض النساء يقومون بتزيين الحسان والصبايا. نساء مسنات يكحلن العيون. أخريات يجدلن شعور الفتيات بخيوط الياسمين والورود الصفراء والحمراء.
بالقرب نساء يكحّلن الرجال ويطوّقنهم بالورود الملوّنة.
فتيات يحملن قوارير ماء الورد والمباخر ويتجوّلن ويرششن العطور.
نساء ورجال يملأون الأقداح بالنبيذ. يتسرّب الليل وتتوهّج مواقد النيران وأضواء الشموع والمصابيح.
فتبرز ألوان الزهور والورود وتتبدّى الألوان البيضاء للملابس كهالة متحركة من الحياة والتدفق.
تغمر الجوّ هالة من الشفافية الملوّنة المتحركة.
رجل يرفع كأسه ضاحكًا وهو ينادي: ــ قدح للمعتمد بالله. الخليفة الجديد!
ضربات دفوف هادئة تتصاعد وأصوات غناء وضحك.
شاب ينزع العصابة عن عينيه ومجموعة من الفتيات والشبّان يحيطون به بحركات راقصة مرحة.
الشاب يمسك بيده تفاحة مقضومة من طرفها ويبدأ بالدوران وقياس أسنان الفتيات بقضمة التفاحة. كلّ هذا يجري في حركات نشطة متراقصة ومرحة تتحوّل بالتدريج إلى غمز ودلال يتخللها بعض الحركات الجسدية الموحية.
ضربات دفوف ورقص.
فتاة جميلة (الفتاة التي شاهدناها تحمل صندوقًا صغيرًا من المجوهرات) وهي اليوم في أتم زينتها، تنفصل بحركة سريعة وغاضبة عن حلقة وتقف حانقة وتقول: ــ قلت لك أكثر من مرّة لا. ألا تفهم!
تخفّ الضجّة، تتوقف الحركة قليلًا.
الجميع يتوجهون بأنظارهم نحو الفتاة والحلقة التي انفصلت عنها.
امرأة تقترب من الفتاة وتتساءل بلهفة عما حدث للفتاة، فتقول هذه بصوت غاضب وهي تشير نحو شاب يافع.
الفتاة: ــ هذا الفحل المقدام يظنّ أنّ بوسعه إخضاعي لرغباته بمحض قوته!
تتناثر ضحكات متفرقة ويتحرك البعض نحو الفتاة.
امرأة عجوز متصابية تقف في مكانها وتقول بصوت صارخ وباستخفاف: ـ ولماذا ترفضينه؟
تتوقد الفتاة الجميلة وتزداد غضبًا وتضع يدها في وسطها وتنحني إلى الأمام وتصرخ في وجه العجوز: ــ لأنّي لا أريد. لأنّي حرّة بروحي وجسدي. مفهوم!
تلتفت الفتاة نحو الشاب المرتبك وتتابع: ــ هل تعرف سبب مجيئي إلى هنا؟ لأنّ قبيلتي لم يكن لها رجال كالرّجال. لأنّني لم أجد نفسي إلا وأهلي يسلمونني ليلة زواجي لشيخ القبيلة. اعترضت، بكيت، بكى أبي يومها كالنساء وقال لي إنّ هذا حقّ لشيخ القبيلة منذ القدم. زيّنوني، زفوني إليه بالدّفوف. بعدها حملوني إلى زوجي. في الصباح ذهبت إلى الساحة التي يجتمع فيها الرجال. كانوا كلهم مجتمعين هناك، أخوتي وأبي وأعمامي وكلّ ذوي اللحى والشوارب. هل تعرف ماذا فعلت؟ وقفت أمامهم ورفعت ثوبي هكذا (ترفع ثوبها كاشفة عن فخذيها). وأريتهم ما غدروا به. لقد نكسوا رؤوسهم كالنساء.
يسود المكان صمت.
تتحرك الفتاة ببطء من مكانها.
يتدخل القصّاص ليكسر جوّ الانقباض فيجتاز السّاحة راقصًا وداعيًا الآخرين إلى الرّقص وهو يضرب على الدّف وينشد:
ــ خذي الدّف يا هذه واضربي
وغنّي هزاريك ثم اضربي
تولى نبيّ بني هاشم
وهذا نبيّ بني يعرب
لكلّ نبيّ مضى شرعه
وهانا شريعة هذا النّبي
فقد حطّ عنّا فروض الصلاة
وحط الصّيام ولم يتعب
القصّاص يستثير ضاربي المزاهر والدّفوف.
تبدأ المجموعات بالتحرّك تدريجيًا، تستأنف الحركة، والإيقاع يعود بطيئًا ثمّ يرتفع.
تتمايل فتاة وتشدّ شابًا نحوها.
شاب يركض نحو فتاة بحركات راقصة وهو يغنّي وتهرج الفتاة نحوه.
رقص يتصاعد.
وجوه، أيد، صدور النساء، وجوه، دفّ، حركة، تعرق الوجوه، أيد تلتفّ، أقدام، الرّقص يعلو ويتصاعد.
تتناثر أطواق الزهور.
تموج أطراف الملابس البيضاء.
تموج وتعرق تدريجيًّا أجساد النساء والرجال وتلتفت وتلتصق الملابس حول الأجساد.
رقص.
تموج الحركات وتتكشف أطراف الأجساد.
يسود المكان جوّ ذو مذاق حسّي جميل مفعم باللون والحركة.
تدريجيًا وبنفس الإيقاع تنقسم حلقة الرقص إلى حلقات، ما تلبث هي نفسها أن تتكاثر وتنقسم إلى حلقات أخرى، حتى بات كلّ فتاة وشاب يشكلان حلقة منفصلة تتباعد وتتوارى (نرى فتاة الصندوق مرحة وسعيدة مع شاب آخر) الحركات تتباطأ تدريجيًا والإعياء يجعل الراقصين يتساقطون زوجًا زوجًا إلى الأرض والأنوار تخفت.
أزواج الرّاقصين تتابع الرّقص على الأرض.
الإعياء يزداد والأصوات تخفت والحركات تتوارى.
بالتدريج يفرغ الغناء وتنوس الأضواء باستثناء نيران بعيدة جدًا مشتعلة.
المشهد ١٢
الخليفة المعتضد بالله، رجل اتّصف بالقسوة، وكان السفّاح الثاني بين الخلفاء العباسيين. نحيف الجسم، متوسّط القامة، في السّابعة والثلاثين من العمر، ذو لحية سوداء حسنة، يتمتع بحيوية عالية ودائمة، متحفز باستمرار، خجول.
بعد ظهر حارّ جدًا. إنّه وقت القيلولة.
وجه المعتضد نائمًا، الوجه مسترخ على فخذ سمراء.
يدٌ سمراء تقترب بهدوء ثم ترفع الرّأس النّائم برفق عن الفخذ العارية وتسنده برفق أيضًا إلى وسادة طريّة.
تتحرّك الفخذ العارية وتبتعد الجارية بهدوء لتهبط عن السرير.
يبدو السرير الملكي الموسّد بالحرير وخلفه ستائر حرير وديباج ملوّنة ووجه المعتضد ينضح عرقًا.
يتحرّك قليلًا.
الفم ينفرج، يفتح الخليفة عينيه قليلًا، ثم ما يلبث أن يرفع رأسه فجأة، ينظر حوله، وحين يدرك أين هو يتخذ هيئته وملامحه التي سنعتادها كلما رأيناه.
يلتفت حوله غاضبًا، فنلمح قريبًا منه الجارية السمراء وقد وقفت تمشط شعرها.
المكان قاعة كبيرة من قاعات قصر الخليفة مفروشة بالأرائك والستائر الملوّنة.
الخليفة بحزم وغضب: ــ لماذا نهضت؟
تهرع الجارية نحوه مضطربة وهي تقول: ــ سلِمتَ ودُمتَ يا مولاي!
معالم الغضب لم تتبدّل عن الوجه العظميّ الحادّ التقاطيع للمعتضد الذي ما يلبث أن يتحرّك في استلقائه قليلًا ويقول بنبرة جافة: ــ أسلمت إليك رأسي فتركتني وحيدًا. لا أدري ما يقع لي وأنا نائم!
تقترب الجارية منه ثم تركع إلى جانب السرير عند قدميه وهي تقول بلهجة من الدلع: ــ لقد تعلمت ألا أجلس مع النّيام ولا أنام مع الجلوس والله خير حافظٍ لأمير المؤمنين.
يضطجع المعتضد ويتكئ على الوسائد وتترامى قدماه قريبًا من وجه الجارية التي تبدأ بمداعبة قدميه وتمسح على ساقيه.
المعتضد يبدو شاردًا وغارقًا في عالم ما لكنّه فجأة ودون أن تتغيّر ملامح وجهه يبعث صوتًا وكأنّه يخاطب نفسه: ــ لقد كان حلمًا غريبًا!
الجارية: ــ خيرٌ إن شاء الله يا أمير المؤمنين.
يلتفت نحوها.
المعتضد: ــ رأيت قصري خاوٍيًا ولا أحد فيه وأنا أركض في دهاليز القصر وخلفي حيوان غريب لم أر له مثيلًا من قبل. كان يطاردني بينما كنت أركض. برز بدر رئيس الشرطة أمامي، ناديته، استنجدت به، لكنّه ظلّ واقفًا في مكانه يضحك. وكلما ناديته علا ضحكه واتسع فمه وجحظت عيناه.
الجارية مهدئة وكأنّها لم تفهم شيئًا من هذا الحلم: ــ إنّما هي أحلام يا أمير المؤمنين وتفسيرها عند ربّي.
يعتدل المعتضد في جلسته، يبدو مهمومًا.
حين تقبل عليه الجارية محاولة التخفيف عنه يدفعها جانبًا وينهض واقفًا.
الجارية تسرع بالخِفّ إليه والعباءة وتضعها على كتفيه، يسير المعتضد متمهّلًا ويخرج.
المعتضد يمشي في دهاليز القصر.
في نهاية الدّهليز باب مغطى بستائر يقف على جانبيه اثنان من الخصيان.
يقترب المعتضد من الستائر، تسمع همهمة.
حين يهمّ الخصيان بالإعلان عن مقدمه، وفتح الستائر أمامه، يشير إليهما بحركة هادئة بالكفّ عن ذلك.
المعتضد يمسك طرف الستارة ويزيح جانبها قليلًا وينظر من خلال الشقّ الموجود.
قاعة كبيرة في صدرها سرير.
شغب، زوجة المعتضد، المتكئة على السرير الأبنوسيّ المغطى بالوسائد الحريرية، تتشاغل بجام من العاج.
نراها تلتقط حبّات المسك عن الوسادة وتضعها في الجام.
حول السرير جوار وخصيان يقفون على استعداد لتقديم الخدمة.
وسط القاعة حلقة من الغلمان يتصدّرهم طفل في الخامسة من عمره (وهو الخليفة المقتدر بالله في ما بعد) يرتدي ثيابًا تدلّ على عظمة شأنه.
الطفل يمسك بيده عنقود عنب، يأكل حبّة، ثم يبدأ بتقديم حبّة لكلّ غلام في الحلقة حسب الدّور، حتى يصل الدّور إليه فيأكل حبّة واحدة كالآخرين ثم يواصل الكرّة وهكذا.
المعتضد ينتفض من الغضب، يدير وجهه، ثم يلتفت ويعود إلى الممرّ الذي يفضي إلى الحديقة.
المعتضد يتجه نحو سرير في الحديقة يتبعه أحد الوزراء، يجلس على السرير والوزير يقول له:
ــ ما لي أراك مهمومًا يا مولاي؟
المعتضد: ــ والله يا صافي لولا النّار والعار لقتلت هذا الصبيّ اليوم.
الوزير: ــ حاشا الله يا مولاي، ماذا فعل؟ أعيذك بالله يا مولاي من شرّ اللعين إبليس!
المعتضد: ــ ويحك يا هذا، أنا أبصر بما أقول، ها أنا رجلٌ يسوس الأمور، ويصلح الدّنيا بعد فساد شديد، ولا بدّ من موتي، واعلم أنّ النّاس بعدي لن يختاروا غير ولدي، وهو صبيّ له من الطبع في السّخاء ما رأيت منه اليوم، إذ أطعم الغلمان مثلما أكل.
الوزير: ــ أدام الله عزّك وعزّه يا أمير المؤمنين.
المعتضد (حانقًا): ــ أنت لا تفهم! لقد ساوى الصبيّ بينه وبينهم، إنّه سيفرّط بالأموال مثلما فرّط بالعنب ويودي بالبلاد إلى الخراب وزوال ملك بني العباس.
الوزير: ــ ليبقك الله حتى ينشأ في حياتك ويصير كهلًا في أيّامك ويتحلى بخلقك.
المعتضد ينهض فجأة ويردّد وكأنّه يقول لنفسه: ــ بل سيحدث ما قلت.
المشهد ١٣
خيمة مكشوفة من جهاتها الأربع تقع على مشارف مدينة القرامطة الجديدة.
على مبعدة تتحرّك قوافل جمال وقطعان غنم.
داخل الخيمة اجتمع كلّ من حمدان وعبدان وزكرويه وأبي الفوارس وأبي سعيد، وكذلك بقية الذين حضروا الاجتماع السابق عند بداية الدعوة، عدا ممثلَي اليمن وهما أبي الفضل وأبي حوشب.
زكرويه: ــ إنّ ما نجمعه من أموال إنّما نجمعه باسم الإمام، فلا بدّ إذن من أن يذهب إليه كله أو الجزء الأكبر منه.
حمدان: ــ لكنّ كلّ درهم نجمعه ينفق في بناء مجتمع الألفة وشراء الأسلحة للدّفاع عن الدعوة.
عبدان: ــ لا يمكن أن نرى الناس تعاني من المظالم وتشكو الجوع والعري والمرض ونقول لهم انتظروا حتى يظهر الإمام ليحقق لكم العدل.
أحد الأعضاء: ــ مهمتنا ليست تحقيق العدل بل نشر الدعوة تمهيدًا لظهور الإمام.
شخص آخر: ــ لقد طال انتظارنا لهذا الظهور ولا ندري متى يقع.
زكرويه: ــ ما دامت الدّعوة لم يتحقق لها الانتشار الشامل بعد فإنّ سريّة الإمام واجبة وطاعته لازمة.
أبو سعيد: ــ لقد صارت الدّعوة شبه علنيّة، وهي تنتشر بسرعة في البحرين وفارس واليمن، حتى لم يعد ثمّة معنى لأن ندعو لإمام مجهول يعيش في الخفاء ولا يعرفه أحد، بل لا نعرف نحن عنه شيئًا.
زكرويه: ــ ما تتحدّث عنه ليس انتشارًا، إنّه طريق لن يؤدّي إلى شيء. فالطريق الوحيد لنشر الدّعوة هو أن نسقط السلطان في عقر داره.
حمدان: ــ لكنّنا لا نملك اليوم القوّة لمجابهة السلطان مجابهة مباشرة، ويجب أن نقتصر على الأماكن البعيدة عن عاصمة الخلافة.
زكرويه: ــ إنّ النّاس لا تستطيع الانتظار.
عبدان: ــ ولذلك نحن أقمنا مجتمع الألفة.
زكرويه: ــ لكنّ الفرصة الآن مناسبة لدحر الخلافة بعدما دبّ فيها الوهن وأصبحت تحتضر بالتدريج.
عبدان: ــ على العكس، فهي منذ تولي المعتضد الحكم دبّت فيها الحياة من جديد، لذلك لا بدّ من الانتظار.
شخص يسأل: ــ أنا لا أعرف حقًا لماذا يعترض الإمام على مجتمع الألفة.
عبدان: ــ إنّه يريدنا أن نعود إليه في كلّ شأن من شؤوننا.
زكرويه: ــ لمن ندعو الناس إذا خالفنا طاعة الإمام؟
أحد الأعضاء: ــ لست أفهم كيف يصبح إنسان ما رئيسًا لدعوة لمجرد أن الصّدفة جعلته ابنًا للإمام السابق.
أبو الفوارس: ــ ما شأن الناس بإمام لا يعرفونه ويزعم أنّه من نسل عليّ بن أبي طالب! الناس تريد أن تعيش في أمان من الجوع والحاجة ولا يعنيها لمن تصير الخلافة.
حمدان: ــ إنّ من يريد التخلي عمّا حققناه فهذا شأنه، أمّا من يعتقد أنّنا سنتخلى نحن فهو واهم.
عبدان: ـ بل ينبغي علينا من الآن فصاعدًا أن نشكل مجلسًا يختاره الأعضاء من بين أفضل الرجال يتولى أمور الدعوة مكان الإمام.
زكرويه يتطلع في وجوه الموجودين ويلمح الأكثرية المؤيدة.
ينهض في حدّة ويقول: ــ أنا لا أضع يدي في يد الخارجين على الإمام.
ينهض شخص آخر معه. يغادر الاثنان الخيمة.
يهمّ عبدان بملاحقتهما، لكنّ حمدان يمسك بيده ويهزّ رأسه كأنما يشير إلى عدم جدوى ذلك.
يبدو زكرويه ورفيقه يمتطيان جواديهما وينطلقان بينما يتوسّط المشهد من الأمام سيف معلق على حامل الخيمة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.