العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

فلسلطين بين العولمة والدولة

النسخة الورقية


خليل نخلة، فلسطين المعولمة والتخلي عن وطن, لندن: دار .Red Sea 1220, 2012
Khalil Nakle, Globalized Palestine: The National Sell-Out of a Homeland, London, Red Sea 1220, 2012.

خليل نخلة
انثروبولوجي الجليل، فلسطين.

ينضم كتاب خليل نخلة «فلسطين المعولمة» الى سلسلة من الادبيات الناشئة التي تحلل تأثير «العولمة» في شكلها الاقتصادي النيوليبرالي على صعود طبقات رأسمالية جديدة في مختلف الاقطار العربية، طبقات ترتبط مصالحها بمراكز السلطة العالمية التي تعمل بمؤازرة المؤسسات الدولية، والنخبة السياسية المحلية، وفق سياسات متماشية مع مصالحها. بناءً عليه، يحلل «فلسطين المعولمة» بايجاز دور جناح من الطبقة الرأسمالية المعولمة في فلسطين المكوّن من رأسماليي الشتات، ويكشف تواطؤها مع الداعمين الدوليين كما مع المنظمات غير الحكومية لتقويض ما يعدّه المؤلف مشروع تحرير فلسطين وإمكانية تحقيق دولة فلسطينية.

يتمتع نخلة بخبرة مديدة في تقاطعات التحالف المحوري المكون من ثلاثي «المنظمات غير الحكومية» والمساعدات الدولية والطبقة الرأسمالية. فقد كان شاهدًا عيانًا على كيفية عمل تلك الاطراف معاَ من أجل مصالح الداعمين الغربيين و«لمصلحة اسرائيل، الدولة المحتلة» حسب تعبيره. ذلك انّ الرأسماليين الفلسطينيين ونخبة اوسلو في الاقتصاد السياسي كما المنظمات غير الحكومية الفلسطينية البارزة حديثا،ً بالاضافة الى وكالات الغوث العابرة للحدود الوطنية تعمل جميعها تحت الاحتلال من أجل اعلاء «راية التنمية الاقتصادية». وطبقًا لمقولة الكاتب، فهذا التحالف ليس مرتبًا بشكل واعٍ ومسبق، بل إنّه «كلما طال الوضع الراهن المنبني على فرضية يتم قبولها واستيعابها بأنه لا تناقض بين البقاء تحت الاحتلال وبين عملية التنمية الاقتصادية، فالتحالف الثلاثي يتعرّف الى أهدافه بنحو أفضل واوعى.» (ص xxi). بتعبير آخر فاطراف التحالف الثلاثي يشكلون نظامًا مغلقًا يعمل وحده مثبتًا الناس في بنية هي السلطة الفلسطينية ويتأطر عملهم من خلالها.

يفرد الكاتب فصلًا كاملًا لشرح كيف تحوّل ثلاثي «المنظمات غير الحكومية» والمساعدات الدولية والطبقة الرأسمالية الى نظام متكامل.

يفرد نخلة أطول فصلين في الكتاب لشرح كيفية تحوّل التحالف الثلاثي الى نظام. فيفصّل في عوامل تشكّل الطبقة الفلسطينية الرأسمالية ومن ثم المنظمات غير الحكومية في علاقاتها مع وكالات الغوث. يليهما فصل حول رؤية الكاتب لما يسميه «التنمية التحررية المتمركزة شعبيًا»، يتبعه باستنتاج يقدّم فيه الكاتب إطاره النظري. ويعتمد هذا الإطار على ما يلي:

أولا، الإنتاج المعرفي النقدي للمنظمات غير الحكومية ولعلاقتها بالنظام النيوليبرالي ودوره في اعادة استعمار العالم الثالث من خلال عملية نزع الصفة السياسية عن التنمية بحيث تعتمد على محاربة الفقر لا محاربة البنى والسياسات الاقتصادية التي أدت اليه.

ثانيًًا، نقد خطاب المساعدات الانسانية الذي يؤدي الى نزع الصفة السياسية عن الاحتلال والصراعات السياسية ويفتح الطريق للتدخل الاستعماري في أكثر من منطقة في العالم.

ثالثًا، المقارنة بين مجريات الامور في الضفة الغربية وبين التجربة الجنوب أفريقية.

اما الجزء الاهم من الكتاب فهما الفصلان الثاني والثالث حيث يجادل المؤلف في أن الطبقة الرأسمالية الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو تمثلت في فرعين منفصلين. الفرع الاول يتكوّن من «المغتربين» ممن غادر فلسطين التاريخية وراكم رأس ماله في الشتات وخصوصًا في الدول الخليجية، ليعود الى فلسطين مع اتفاقية اوسلو او بعدها. اما الفرع الثاني فهو الطبقة الرأسمالية المحلية التي يتشكل رأسمالها من الاعمال الصغيرة للأسر الفلسطينية في وحدات لا يزيد عدد العاملين فيها على عشرة عمال منها في ٩٠ بالمئلة من الحالات، وتعتمد بالدرجة الاولى على المقاولات الفرعية مع الشركات الاسرائيلية. ويوضح الكاتب ان السلطة الفلسطينية طالما انحازت الى رأسماليي الشتات «لسيطرتهم على التراكم الهائل للرأسمال وتفاعلهم المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية بسبب مساندتهم لمشاريعها السياسية». ومن أجل التمثيل على الزواج الحاصل مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل اوسلو وبعدها، يفصل نخلة صعود رأسماليّين اثنين هما عبد الحميد شومان، مؤسس «البنك العربي»، وحسيب صبّاغ صاحب «شركة اتحاد المقاولين» (CCC) وأهمية ادوار الوساطة التي لعباها بين منظمة التحرير وبين أنظمة عربية في مناسبات مختلفة، منها التوسط لخروج منظمة التحرير الفلسطينية من الاردن عقب مجازر ايلول الاسود. اما التجسيد الآخر للعلاقة بين المغتربين الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة ما قبل اوسلو، فهم رجال الاعمال الفلسطينيون في مصر، وخصوصا حالة سامي الشوا وامثاله من ابناء قطاع غزة الذين درسوا في اسرائيل ثم نقلوا مهاراتهم في الاعمال الى مصر.

يفصل الكتاب في دور هؤلاء الرأسماليين الفلسطينيين في تطبيع العلاقات الاقتصادية مع اسرائيل حيت إن الشوا وصبّاغ وباسل عقل ومنيب المصري أدّوا دورا مهمًا في التوسط بين وزارة الخارجية الاميركية وياسر عرفات خلال صياغة مسودة القرار ٢٤٢ مثلما أدّوا دورا في قبول هذا الاخير لذاك القرار. وبتعبير الكاتب، فقد حوّل الزواج بين منظمة التحرير الفلسطينية ورأسماليي الشتات المنظمة المذكورة من منظمة ثورية الى منظمة بورجوازية. خلال كل تلك المدة، كان عرفات ممثلًا لنخبة سياسية كانت تتهم رجال الاعمال الفلسطينيين بأنهم «كومبرادوريون»، فإذا بها تدعمهم وتشجعهم وتتوسطهم بينها وبين الانظمة العربية والادارة الاميركية. ثم ما لبث أن تجدد عقد الزواج هذا بعد عودة رأسماليي الشتات الى اراضي السلطة الفلسطينية.

ان اعتماد اقتصاد السوق من السلطة الفلسطينية، وتفعيل القوانين التي تركّز على استثمارات تحفّز الاحتكارات وتتجاهل الزراعة والصناعة لصالح العقارات والقطاع المصرفي، ادى الى استحواذ رأسمال الشتات على الاستثمارات الجديدة في ظل السلطة الفلسطينية. عنى ذلك تهميش الرأسماليين الصغار والمتوسطين من الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين والذين حاولوا جلب الأنظار لمأساتهم عبر العديد المؤتمرات من دون أية نتيجة تذكر. فقد سيطر رأسماليو الشتات على البنى التنظيمية وعلى السياسة الاقتصادية العامة من أجل المحافظة على مصالحهم في ما يطلق عليه الكاتب تعبير «سايكس ــ بيكو اقتصادي».

يعتمد رأسماليو الشتات على استراتيجيتين اثنتين. تقول الاولى بأن التحالف الاقتصادي مع الاسرائيليين هو الطريق الى السلام بين «الشعبين»، علمًا أن معظمهم يمثل شركات اسرائيلية عاملة في اراضي السلطة الفلسطينية. وتقوم الثانية على التشدق بالوطنية اذ يقدم هؤلاء انفسهم بأنهم يريدون «بناء وطن» عن طريق التطبيع الاقتصادي مع اسرائيل. وتتجلى عملية البناء هذه بأوضح ما تتجلّى في «المناطق الاقتصادية الحرة» التي حوّلت الفلسطينيين الى يد عاملة رخيصة لدى الشركات الاسرائيلية، فبعد أوسلو أنشئت في الضفة الغربية وقطاع غزة خمس مناطق حرة اقتصادية في بيت حانون وطرقومية وجنين، وأيريتز في غزة. وقد أقفلت هذه الاخيرة بعد حصار غزة وبعد الفصل بين الضفة والقطاع ووادي الأردن. والجدير بالذكر أن هذه المناطق الصناعية الحرة كانت جزءا من اتفاقيات السلام، بنيت بتمويل من اليابان والاتحاد الأوروبي والدول المانحة على أساس انها سوف تسهم في توفير فرص عمل للفلسطينيين، فكان أن اعتمدت كليا على المصانع الاسرائيلية التي استفادت من المساعدات الموجهة أساسًا للسلطة ومن اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة ومن تسهيل تصدير السلع الاسرائيلية الى دول الخليج العربي بالدرجة الاولى.

كذلك الامر، يجري التطبيع في مختلف لجان رجال الاعمال الاسرائيلية ــ الفلسطينية المشتركة والتي تعقد مؤتمراتها في اسرائيل او في الاردن حيث يدعى فيها رجال الاعمال الاسرائيليون الى الاستثمار في اراضي السلطة الفلسطينية. ولقد أصبح رأسماليو الشتات من القوة بحيث استشعر ياسر عرفات نفسه نفسه خطرهم، فحاول تقليب الرأسماليين من السكان الأصليين عليهم لكنه لم ينجح في مهمته، ففي نهاية المطاف كان هؤلاء يحظون بدعم اسرائيل والولايات المتحدة و«المجتمع الدولي».

تظهر الاسماء نفسها من رأسماليي الشتات (صباغ، مصري، عقل، شومان) في الفصل اللاحق من الكتاب حول الداعمين الدوليين من منظمات غير حكومية ووكالات تنمية دولية. يفصّل الكتاب في ادوار «مؤسسة التعاون» التي انشأها رأسماليو الشتات كممثل للمجتمع المدني الفلسطيني، بما فيها دورها في تسييس المساعدات الى السلطة الفلسطينية، من جهة، وفي نزع الصفة السياسية عن التنمية، من جهة اخرى، كما لو أن التنمية تحصل في دولة «طبيعية»، مستقلة وذات سيادة. ولقد أفضت سياسات التنمية خلال اتفاقية اوسلو وبعدها، مثل المساعدات الدولية، الى خلق طبقة من الفلسطينيين المستفيدين من وظائف في المنظمات غير الحكومية. لقد أسهمت «مؤسسة التعاون» عبر ادارتها للأموال والمنح وعبر دورها كوسيط مهم بين وكالات الغوث والمانحين والمنظمات غير الحكومية المحلية في عملية تقييد الفلسطينيين بالقروض البنكية وقروض من المنظمات غير الحكومية على حد سواء. ويبرهن هذا الفصل من الكتاب على الطبيعة الفائقة التسييس لعملية اعطاء المساعدات ــ بما فيها مساعدات «مؤسسة التعاون» ــ ومدى ما تنطوي عليه من «نفاق ومراوغة وخداع». وتظهِر حالة «مؤسسة التعاون» بالضبط كيف أن الطبقة الرأسمالية تعمل وثيقًا مع النخبة السياسية ومع المؤسسات الدولية، للسيطرة على المجتمع المدني الفلسطيني.

ومن نافل القول أنّ وجود هذه الهيمنة خنق مخيلة الفلسطينيين، وطوّعهم لقبول «الوضع الراهن»، لا بل هو ثبّتهم في بنية تبدو لنا صعبة الكسر. أما من أجل تفكيك التحالف الثلاثي المذكور، فانّ المؤلف يقترح «التنمية التحريرية المتمركزة شعبيًا» في برنامج من خمس نقاط: ١) تحقيق التحرر الذاتي، والوعي «الأصلي الحقيقي المحفّز» عبر تغيير النظام التعليمي؛ ٢) المشاركة الكاملة للجماعة في تحديد نوعية التعليم التي تريد؛ ٣) خلق ظروف مهيئة للتنمية التحررية المتمركزة شعبيا عبر الاستثمار في الرأسمال البشري؛ ٤) وضع الانسان المناسب في المكان المناسب؛ ٥) تلبية الجامعات «لحاجات المجتمع» (ص ٣٢ ــ ٣٥).

والمفارقة انّ كل هذه النقاط، المقدمة بما هي حلول، تنتمي إلى الوصفات الجاهزة التي يدعو اليها البنك الدولي اصلا وسواه من مؤسسات الدعم الدولية، فيبدو مما سبق أنّ العمل خلال عشرين عامًا في قطاع التنمية، يعوق اي امكانية تخيّل أيّ شيء آخر يقع خارج ما قد جرى تعويدنا عليه. ربما هو سلطان الايديولوجية النيوليبرالية التي جففت قدرتنا على مجرد اللتفكير بوصفات تتعدى تلك التي يقدمها النظام النيوليبرالي نفسه والذي يفترض بالكتاب أنّه ينتقده.

ثلاث ملاحظات تقييمية

أولًا: إن التركيز على التعليم وعلى المهارات والوعي والتنمية المجتمعية والثقافة، أو على الهوية «الاصلية» او الهوية عمومًا ــ والتي تحتل مجتمعة موقع القلب من حلول «التنمية التحررية المتمركزة شعبيًا»، انما هي تكرار للاساسي من برامج المؤسسات الاقتصادية الدولية منذ التسعينيات، اي انها النيوليبرالية بلباس انساني. ولعل ابرز سؤال تثيره هو: كيف يمكن لمعالجات تركّز على التنمية المجتمعية وعلى تعميم التعليم وتنمية المهارات، أن تواجه التحالف الثلاثي المتكوّن من النخبة الاقتصادية ــ السياسية والمؤسسات الدولية والمنظمات التنموية غير حكومية؟

ثانيًا: ان كتاب «فلسطين المعولمة» جهد مميز ومبتكر في فهم الوضع الاقتصادي ــ الاجتماعي في الضفة الغربية، وهو قابل لأن يتحول الى دليل عمل فعّال لكل المناضلين من أجل العدالة في فلسطين. لكن الكاتب يستنتج فيه بعض الخلاصات دون إسناد مباشر بالحجج والبراهين الوافية. فمثلا يفتقر الكتاب إلى الاحصاءات والاستبيانات او الامثلة التي تدعم مقولته عن الثروات التي راكمها فلسطينيو الشتات من خلال علاقتهم بالسلطة الفلسطينية.

ثالثًا: ان لهجة الكاتب الاخلاقية تقلّل من قيمته ووقعه بعض الشيء، فعلى الرغم من تحليله الدقيق للنظام الفلسطيني القائم وبُناه الطبقية والتداخل بين مصالح رجال الاعمال والسلطة السياسية ومصالح مراكز السلطة العالمية، فانّه يعرض حلولًا لا تنطلق من مصالح الاكثرية الشعبية بقدر ما تقوم على قيم معيّنة «يفترض» على افراد النخبة الاقتصادية ــ السياسية ان يتحلوا بها ــ بما هم فلسطينيون ــ على اعتبار ان عدم تقيّدهم بتلك القيم يعني أنهم «يبيعون وطنهم» ويطبّعون مع الاحتلال.

العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.