العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

النيوليبرالية والاستبداد في سورية

النسخة الورقية

مع تقدّم الثورة الشعبية في سورية، يتّضح أكثر فأكثر أن النظام الحالي في دمشق يشهد مراحله الأخيرة. وفيما يستمرّ النظام بالتشبّث بالسلطة ويواصل حملته الهمجية لقمع الحركة الاحتجاجية، يستخدم أيضا ورقتَين أساسيّتين لطالما انطبع بهما: أيديولوجيا مناهضة او ممانِعة للإمبريالية أو، ونموذجه الاقتصادي القائم على دولة الرعاية الاجتماعية الاشتراكية. لقد أولي بعض الاهتمام للنقطة الأولى1، لكنّنا نتطرّق في هذا المقال إلى النقطة الثانية، في محاولة لتفنيد المسار الاقتصادي للنظام وتسليط الضوء في شكل أفضل على أحد جوانب الثورة2.

السلطوية والتحرير الاقتصادي

أعطت القيادة السياسية في سورية أولوية كبرى للاستقلال على حساب القوى المعارضة داخل البلاد وخارجها. لكن لدى رسم مسار التحرير الاقتصادي، نلاحظ خسارة تدريجية لهذا الاستقلال من خلال تبدّل القواعد الشعبية للنظام، ما يفسّر جزئيا تفاصيل الأزمة الحالية. فعلى النقيض من بلدان نامية أخرى خضعت لعلاج بواسطة الصدمات، كان التحرير الاقتصادي في سورية تدريجيا ومرّ بثلاث مراحل مختلفة خلال حكم حافظ الأسد، في حين دشّن بشار الأسد مرحلة رابعة فور تسلّمه السلطة (جويا ٢٠٠٥). تكشف هذه الآليات النقاب عن نموذج التثبيت السياسي الذي بناه حزب البعث تدريجا وصقله الأسد لدى وصوله إلى السلطة. كما تسلّط الضوء على العلاقة العضوية التي نشأت، مع مرور الزمن، بين صعود اقتصاد السوق والحكم الإكراهي: فقد ساهم كل منهما في تبلور الآخر. بيد أن النموذج السلطوي النيوليبرالي زاد أيضا من احتمالات اندلاع ثورة اجتماعية.

منذ الانقلاب البعثي عام ١٩٦٣، طوّر الحزب القومي العربي الصاعد نوعا من الاشتراكية مستلهَما من التخطيط الاقتصادي وتوزيع الثروات كما طبّقهما جمال عبد الناصر. وقد مارس حزب البعث العربي تأثيرا في أوساط معلّمي المدارس والمثقفين إلى أن اندمج مع الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني عام ١٩٥٢. كان الحوراني منظِّما فاعلا ومحرِّضا للفلاحين ضد الإقطاعية، ومع الاندماج اكتسب حزب البعث قاعدة واسعة في أوساط الفلاّحين. عندما استولى البعث على السلطة، كان أحد همومه الأساسية تحسين حياة العمّال والفلاحين وإضعاف هيمنة النخبة السنّية المؤلّفة من مالكي الأراضي والتجّار التي كانت تسيطر سابقا على سلطة الدولة والجزء الأكبر من الاقتصاد. أعيد توزيع ثلث الأراضي الزراعية على الفلاحين الذين لا يملكون أرضا. وجرى تأميم القطاع المصرفي وصناعات أساسية فيما احتكرت الدولة التجارة الخارجية (هوبفينغر وبوكلر ١٩٩٦). ومن أجل تطبيق برنامجه، لجأ الحزب إلى القوّة لضبط المجموعات المستاءة وقمع أيّ معارضة منظّمة. وشهدت المرحلة الممتدّة من منتصف الستّينات إلى أواخرها نزاعات سياسية حادّة بين الفصائل المختلفة داخل الحزب، وتحديدا بين الجناحَين «الراديكالي» و«البراغماتي». وفي الوقت نفسه، كان وزير الدفاع حافظ الأسد يناور للوصول إلى الرئاسة، وعمد إلى تصفية خصومه داخل الحزب وخارجه. وقد «سُوِّيَت» السجالات بين الفصائل المختلفة في الحزب بصورة نهائية عن طريق انقلاب نفّذه الأسد عام ١٩٧٠. وشكّل صعود الفصائل المحافظة بداية حقبة جديدة 3.

لدى تسلّمه سدّة الرئاسة، أطلق الأسد برنامجا لوقف الخطوات التقدّمية التي كان الفصيل «الراديكالي» في البعث، بقيادة صلاح جديد، قد طبّقها في الأعوام القليلة السابقة، ولا سيما في مسائل الإصلاح الزراعي وفرض القيود على القطاع التجاري الخاص. ظاهريا اتّبع النظام نموذجا تنمويا قوامه التصنيع بهدف استبدال الواردات بالإنتاج المحلي حيث تمسك الدولة بزمام الاقتصاد، وتطلق مشاريع اقتصادية وتتولى التصنيع، وتفرض قيودا كمّية على التجارة الدولية. وفي الوقت نفسه، كانت البيروقراطية السورية الواسعة النطاق تضع شريحة كبيرة من السكّان تحت السيطرة المباشرة للدولة (بيرثيز ١٩٩٥). لكن بما أن العمّال في المدن والفلاّحين كانوا يشكّلون قاعدتَين اجتماعيتين مهمّتين للنظام، كان الهدف من البرنامج الإنمائي الذي قادته الدولة حمايتهم من السوق بدلا من إخضاعهم لقواعده. وهكذا، على الرغم من تمكّن النظام من إطلاق مشاريع صناعية وتصنيعية مهمّة، لم يستطع تحويلها مصدرا لتراكم الرساميل، وظلّت الدولة توزيعية في طبيعتها، تعتمد على إيرادات النفط والمساعدات الخارجية التي تدفقت من السعودية ودول الخليج لاعتبار سورية «دولة مواجهة»، إضافة إلى تحويلات المغتربين (والدنر ١٩٩٩). وبسبب غياب القطاعات التصنيعية والصناعية الحيوية، ظلّ الجزء الأكبر من التجارة غير النفطية يتركّز على الزراعة من حيث الإنتاج أو التصنيع الزراعي.

بعبارة أخرى، استخدم النظام عائداته النفطية لتمويل البرامج الاجتماعية مثل التعليم المجاني، والمنتجات المدعومة من الدولة، والرعاية الصحية المجانية. وبحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، استخدم النظام «اليد اليسرى» للدولة، وقوامها البرامج الاجتماعية المتنوّعة، من أجل تحسين الظروف المعيشية للسكّان. لكن هدف الدولة الأساسي، كما يشرح بورديو نفسه، هو الإبقاء على هرميّة السلطة، سواء تحقّق ذلك عن طريق الإجماع أو العنف. ولذلك، عندما تواجه الدولة أزمة، تحكم بـ«يدها اليمنى» عبر اللجوء إلى أساليب الإكراه والعنف لقمع أي احتجاجات أو تحرّكات اجتماعية تتحدّى شرعيّتها. لقد دُمِج الفلاّحون والعمّال والنقابات المهنية (مثل نقابات المحامين) في النظام ومُنِحوا تمثيلا رسميا فيه، فخسروا تدريجا كل استقلال ذاتي، وباتت قياداتهم تُعيَّن أكثر فأكثر من السلطات العليا بدلا من انتخابها، وذلك بالاستناد فقط إلى اعتبارات الولاء للنظام. وفي سبيل ترسيخ سلطته، اعتمد الأسد بصورة متزايدة على الجيش واجهزة الامن والمخابرات، إلى جانب إنشائه حرسا بريتوريا (جمهوريا) تولّى شقيقه رفعت قيادته وأُسنِدت إليه المهمّات غير القانونية تماما.

من عبادة حافظ الأسد إلى مجزرة حماه

عاش المجتمع السوري في حالة دائمة من الاستثناء. خلال عهد الرئيس حافظ الاسد، لم يكن هناك مواطنون سوريون بل مرؤوسون ورعايا. كما رأت ليزا ويدين أن «عبادة شخص الأسد» التي طوّرها في السبعينات وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد، استخدمت مزيجا من المشهديّة والبلاغة والطقوس التي تؤلِّه الأسد. ورغم أن هذا المزيج لم يمنح الرئيس شرعية أو «هيمنة» غرامشية (بمعنى الرئاسة والقيادة)، فإنّه نجح في فرض الطاعة له. تقول ويدين إنّ أحدا لم يؤمن فعلا بعبادة الأسد، لكنّ قدرة النظام على إرغام الناس على التصرّف «وكأنهم» يؤمنون، ولّدت في ذاتها هالة من السلطة المطلقة والقوّة التي لا تُقهَر. كما أدّت إلى إبعاد الناس عن السياسة وحتى توريطهم في ممارسات النظام، على الرغم من أن هذه القدرة مبالغ جدا فيها لدرجة تؤدّي إلى تقويض عبادة الشخص بحدّ ذاتها (ويدين ١٩٩٩).

واجه الأسد التحدّي الجدّي الأول لحكمه عام ١٩٧٦. فقد فشل النظام في الحؤول دون حدوث ركود طويل في الظروف المعيشية لعدد كبير من السوريين. وعلاوة على ذلك، لم يبدِ استعدادا لتوسيع المساحة السياسية كي تصبح أكثر شمولا. فأدّى ذلك إلى نزوع المعارضة اليسارية نحو التشدّد، ولا سيما مع صعود «اليسار الجديد» السوري من خلال «رابطة العمل الشيوعي»، فضلا عن انتفاضة «الإخوان المسلمين». نشبت الأزمة السياسية بسبب الحكم المطلق الذي مارسه اللواء السوري حافظ الأسد. فإلى جانب حال الطوارئ المطبَّق منذ عام ١٩٦٣، شنّت الدولة حربا ضروسا ضد أي شكل من أشكال التنظيم السياسي، وانتُهِكَت حقوق المواطنين الأساسية. اتّخذ الصدام بين الدولة والحركات الاجتماعية (النقابات، الإخوان المسلمين، الأحزاب اليسارية) أشكالا متعدّدة بدءا من التنظّم المستقلّ ضمن النقابات والاحتجاجات وصولا إلى الاغتيال والصدامات المسلّحة مع الشرطة وقوات الأمن في حماه ودمشق (لوسون ١٩٨٩). تبيّن أن زج عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في السجون السورية وتعذيبهم بصورة روتينية لم يعد كافيا. فمن أجل وضع حد للأزمات السياسية ومنع انتفاضة «الإخوان المسلمين» من تحقيق أهدافها، أطلق النظام، بواسطة «يده اليمنى»، العنان لممارساته القمعية بحق السكّان. فتراوحت حصيلة القتلى في مجازر حماه عام ١٩٨٢ من ١٠،٠٠٠ إلى ٢٠،٠٠٠ شخص (كليفلاند ٢٠٠٠: ٣٩٤؛ فيسك ٢٠٠٢: ٦٢).

بداية حقبة التعديلات الهيكلية

أدّت السياسة الاقتصادية لنظام الأسد إلى اندلاع أزمة ثانية في منتصف الثمانينات. ومن أجل إيجاد حل لأزمة الديون الحادّة، فكّرت مجموعة داخل الطبقة الحاكمة في طلب المساعدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لكن ذلك كان ليفرض عليهم القبول بإملاءات المؤسّسات الدولية، الأمر الذي لم يرُق للنخبة السورية. ولذلك فضّل النظام عدم الاستعانة بالبنك الدولي وعمل على معالجة الوضع داخليا. بيد أنه اختار، تحت تأثير مجتمع الأعمال الذي كان نفوذه يتعاظم، المزيد من تحرير الاقتصاد. وهكذا، عقب أزمة حادّة في أسعار صرف العملات الأجنبية عام ١٩٨٦، أعلنت الدولة بداية حقبة من التعدّدية الاقتصادية. وقد أقرّت سياسات أتاحت للقطاع الخاص الاستثمار بحرّية أكبر، وزادت عدد القطاعات المفتوحة أمام الاستثمارات الخاصة، وعمدت إلى تحرير الأسعار وخفض الدعم الحكومي لها، وكذلك تحرير التجارة وأسعار صرف العملات. وكان «الاتحاد العام لنقابات العمال» قد أعدّ تقريره الخاص ردا على الأزمة، ودعا فيه إلى زيادة السيطرة الحكومية على الاقتصاد معتبرا أن السبب في الأزمة هو تبعيّة سورية في الاقتصاد العالمي وصعود القطاعات غير الإنتاجية (سكر ١٩٩٤). يُظهر تهميش مقترحات النقابات في مقابل الأخذ بآراء نخب الأعمال الصاعدة، الانحسار المطّرد في تأثير إحدى القواعد الاجتماعية للنظام، واستمرّت هذه النزعة خلال العقد اللاحق. وقد مهّد هذا السياق الطريق لإقرار قانون الاستثمار رقم ١٠ لعام ١٩٩١، الذي نصّ على إعفاء الاستثمارات الجديدة من الضرائب لسنوات عدّة. وأدّت عوامل متعدّدة إلى تحرير الاقتصاد أكثر فأكثر في التسعينات. أصبح القطاع الخاص منافسا جدّيا للقطاع العام (بيرثيز ١٩٩٥: ٢٥٧ ــ ٢٦٠). فضلا عن ذلك، اعتُبِر انهيار الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية أفولا للأيديولوجيا الاشتراكية. فأُسقِطت رواسب الخطاب الماركسي من أدبيات النظام والمناهج الجامعية. وفي صورة عامّة، بات الاقتصاد السوري أكثر تداخلا مع الرأسمالية العالمية. أصبحت الطبقة الرأسمالية التي تعتمد على التمويل العالمي أقوى من روّاد الأعمال المحلّيين. وشهدت أحوال موظّفي الدولة تدهورا سريعا فيما خرج القطاع الخاص الرابح الأكبر من عملية التحرير الاقتصادي النيوليبرالي. أصبحت التناقضات حادّة على مستوى القيادة البعثية. ولمعالجة تلك المشكلة، بدأ النظام تهميش دور الحزب في بعض الميادين. في تلك المرحلة، كانت عمليّة اجتثاث البعث من الاقتصاد واضحة للعيان (جويا ٢٠٠٥). لم يعد حزب البعث مركزا لصنع القرارات والمداولات في المسائل الاقتصادية، مفسحا في المجال أمام تأثير رجال الأعمال البارزين.

«ربيع دمشق» ينقضي بمقابلة صحفية

ترافق وصول بشار الأسد إلى السلطة مع الوعد بالإصلاح السياسي والاقتصادي. لكن، بعد مداعبة قصيرة مع الأوّل، لم يُطبَّق سوى الإصلاح الثاني. أدّى «ربيع دمشق» إلى انتشار الدوريات المستقلّة والمنتديات الفكرية ومنظّمات المجتمع المدني، وتُوِّج بصدور إعلانات أو بيانات عدّة (مثل «بيان الـ٩٩») طالبت بمزيد من حرية التعبير، وبسيادة القانون، واستقلال القضاء، وإلغاء المحاكم الخاصة والقانون العرفي وقانون الطوارئ. معظم مطالب المجتمع المدني كان مدروسا ومترويّا، ولم ينبرِ أحد للمطالبة بإسقاط النظام أو إجراء تحوّل سياسي جذري. ومع ذلك، لجأت الحكومة إلى القمع، وسرعان ما تحوّل «الربيع» «شتاء» مع ما حملته المقابلة الشهيرة التي أجرتها صحيفة «الشرق الأوسط» مع بشار الأسد في فبراير/شباط ٢٠٠١ من مؤشّرات عن التحوّل في الخطاب الحكومي:

«عندما تكون نتائج أي فعل تمس الاستقرار على مستوى الوطن، فهناك احتمالان... احتمال أن يكون الفاعل عميلا يخرّب لصالح دولة ما أو أن يكون إنسانا جاهلا ويخرّب من دون قصد. النتيجة أن الإنسان في كلتا الحالتين يخدم أعداء بلاده. وهنا في هذه الحالة أي على مستوى الوطن يكون التعامل مع النتيجة مباشرة. وهنا يتحمّل الفاعل المسؤولية كاملة بغض النظر عن النيات والخلفيات». (ليش ٢٠٠٥: ٩٢).

نشر عبد الحليم خدّام الذي كان آنذاك نائب الرئيس ثم انشقّ لاحقا عن النظام ويقدّم نفسه الآن في صورة الإصلاحي الديموقراطي ــ نشر إذا رسالة النظام في مختلف أنحاء البلاد مكرِّرا معزوفة أن هؤلاء المفكّرين الليبراليين على صلة بوكالات أو سفارات أجنبية، وأنهم سيتسبّبون بدمار البلاد. لا بد من التذكير بأن الجزء الأكبر من الحراك السياسي خلال «ربيع دمشق» تركّز في الإعلام المقروء والمنتديات العامة والبيانات الرسمية، ولم ينزل أحد عمليا إلى الشوارع (ما عدا احتجاجات قليلة ومحدودة اندلعت على خلفية إغلاق منتدى الأتاسي ومحاكمة الناشطين بطريقة غير عادلة في المحاكم العسكرية).

الإنعطاف نحو اقتصاد السوق

منذ وصول بشار إلى السلطة عام ٢٠٠٠، ازداد اعتماد الدولة على القطاع الخاص إلى حد كبير، بيد أن الاختلاف كان نوعيا وليس كمّيا فقط. قبلا، كان التحرير الاقتصادي يتم بصورة تدريجية ومجتزأة، ويُطبَّق في شكل خاص ردا على الأزمات. أما في عهد بشار الأسد، فقد حصل انعطاف حاسم نحو اقتصاد السوق.

قرّرت القيادة الاقتصادية في ظل الأسد، ولأسباب وجيهة على الأرجح، أن النموذج القديم غير قابل للاستدامة. لكن التخلّص من النموذج بكامله طرح معضلة: هل يستطيع النظام أن يتخلّى كليا عن قواعده الشعبية الأساسية، تحديدا اليد العاملة في المدن والفلاحين؟ وهكذا دار نقاش على مستوى القيادة حول النموذج الذي يجب اعتماده: التحرير النيوليبرالي المطبّق دفعة واحدة أم التحرير التدريجي. أصبح ما يُعرَف بـ«النموذج الصيني» شعارا للمسؤولين السوريين. خلال العقد المنصرم، اتّخذت الحكومة إجراءات واسعة النطاق لتحرير التجارة (مثلا المرسوم التشريعي ٦١ لعام ٢٠٠٩)، بما في ذلك إنهاء الاحتكارات الحكومية للواردات، وتحرير الصادرات الزراعية من خلال خفض الرسوم على الصادرات أو إلغائها.

وعلى الصعيد الداخلي، أدّى هذا أيضا إلى تحرير أسعار معظم السلع (من خلال «قانون المنافسة ومنع الاحتكار» لعام ٢٠٠٨). مُنِحَت للمرة الأولى تراخيص لإنشاء مصارف خاصة، وتأسّست بورصة. وجرى تثبيت تحرير السوق العقارية ورفع التنظيمات عنها، بما في ذلك إبطال قوانين الإيجار القديمة والسماح لمالكي الشقق بطرد المستأجرين بسهولة أكبر من السابق حين كانت المساكن تخضع لقوانين تضبط بدلات الإيجار (قانون الإيجارات والعقارات رقم ٦)، كما تم تعزيز قوانين حماية الملكية الخاصة. وجرى تحرير قطاع الطاقة وسحب الدعم العام عنه، ولا سيما عن أسعار الديزل والبنزين والغاز، كما سُحِب الدعم عن الكهرباء شيئا فشيئا، وحُرِّرَت أسعار المدخلات الزراعية والصناعية. وبسبب تراجع الإيرادات النفطية التي انخفضت إلى النصف تقريبا في غضون خمسة عشر عاما، طبِّق التكييف الهيكلي بعد طول انتظار. وأسفرت الاستراتيجيا التي اعتمدها النظام عن تهميش إضافي للقطاع العام فيما أُسند دور قيادي إلى القطاع الخاص والطبقات المنخرطة في الاقتصاد الجديد.

لم يكن حجم التحرير وانكفاء دور الدولة في الاقتصاد في سورية دراماتيكيا بقدر التحوّل الذي شهدته دول عربية أخرى مثل مصر وتونس. بيد أن سورية كانت تتطلّع إلى تلك الدول أو ترى فيها نماذج تحاول محاكاتها. وقد أشارت وثائق أساسية في السياسات إلى أن هذه الخطوات نحو التحرير تشكّل تغييرا جوهريا في التوجّه الاقتصادي. خلال المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث في يونيو/حزيران ٢٠١٠، أطلِقَت عبارة «اقتصاد السوق الاجتماعي» التي أصبحت النموذج الاقتصادي الجديد في سوريا. صحيح أنه تم الإبقاء على كلمة «اجتماعي»، في إشارة على الأرجح إلى أن جوانب دولة الرعاية سوف تظلّ قائمة، إلا أن هذا التطوّر شكّل تحوّلا حاسما نحو اقتصاد السوق. فقد جاء التطبيق موجّها نحو السوق أكثر منه نحو الرعاية الاجتماعية، ولم تتمكّن الدولة السورية من تأدية الدور التقني الرشيد الضروري لإدارة نظام تنموي قائم على الرعاية الاجتماعية، أو لم تكن مستعدّة له (سعيفان ٢٠٠٩). وبدلا من ذلك، ظهر اقتصاد نيوليبرالي يزداد افتراسا مع تركيز على الاستهلاك، والاستثمارات غير المنتجة، ودور متنام لقطاع الخدمات. والمؤشّر الآخر إلى هذا التحوّل كان استبدال اليساري تيسير الرداوي بالليبرالي الاقتصادي عبدالله الدردري على رأس هيئة تخطيط الدولة، بعدما عبّر الأوّل عن خشيته من تفاقم عدم المساواة وتهميش العمّال في المدن والفلاحين، القوّتين الاجتماعيتين اللتين شكّلتا تقليديا جزءا من قاعدة النظام في سورية.

أمبراطورية آل مخلوف: 30٪ بطالة و30٪ تحت خط الفقر

ولعل التجسيد الأبرز لصعود هذه «الليبرالية الجديدة السلطوية» يتمثّل في الدور الذي أدّاه ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف، عبر التسلّل إلى مختلف القطاعات الاقتصادية الكبرى مستفيدا من منطق عدم التدخّل الحكومي في الاقتصاد. وعندما لم تناسبه يد السوق «الخفيّة»، لجأ إلى الإكراه لتحقيق أهدافه. فعلى سبيل المثال، عندما طرح النائب المعارض، رياض سيف، علامات استفهام حول صفقة مع إحدى شركات الخلوي التي كان مخلوف متورّطا فيها، وُضِع سيف في السجن. وفي هذه الأثناء، استمرّت أمبراطورية مخلوف الاقتصادية في النمو لتتجاوز قيمتها ثلاثة مليارات دولار في أقل من عقد (ويلاند ٢٠٠٦: ٦٠). وقطاع الهواتف اللاسلكية هو من القطاعات التي يمارس شبه احتكار فيها. تجدر الإشارة إلى أن هذا القطاع هو خير برهان عن قساوة النيوليبرالية السلطوية (رُكِّبَت شبكات الهواتف الخلوية في مناطق لا يزال الوصول إلى مياه الشفة فيها محدودا)، والأهم من ذلك أنّه يشكّل قطاعا استراتيجيا لجمع المعلومات ومراقبة السكّان.

أدّت الممارسات النيوليبرالية لمخلوف وأمثاله إلى القضاء على المستوى المعيشي للمواطنين السوريين في الأعوام العشرة الماضية. فتركُّز الثروات هو الأكثر تفاوتا على الإطلاق منذ مرحلة الجمهورية العربية المتّحدة، مع سيطرة خمسة في المئة من السكّان على خمسين في المئة من الثروات. في الوقت نفسه، عملت الطبقة الحاكمة على تحقيق انتقال مهم إنما تدريجي من الاقتصاد المخطّط إلى اقتصاد نيوليبرالي تسبّب بوصول معدّل البطالة إلى ما يزيد على ٣٠ في المئة وارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعيشون دون خط الفقر من ١١ إلى ٣٠ في المئة (ويلاند ٢٠٠٦: ٦٣).

في السابق، كانت الطبقة الحاكمة تسأل «ماذا يكلّف الاحتفاظ بالسلطة؟» وكان الجواب يؤدّي دورا حاسما في تحديد خريطة التحالفات السياسية وتوزيع السلطات بين المجموعات الاجتماعية المختلفة والحزب والجهاز البيروقراطي والأوليغارشية الحاكمة. في الآونة الأخيرة، توقّفت الأوليغارشية الحاكمة عن بناء ائتلافات. الطغمة العسكرية أصبحت البورجوازية الجديدة. استبدل الجنرالات بزّاتهم الكاكية وقبّعاتهم العسكرية ببذلات وربطات عنق سوداء. هكذا قرّر النظام أن يلعب ورقة النمو الاقتصادي بمساعدة وتحريض من المسؤولين السابقين في البنك الدولي الذين روّجوا لقوى السوق اليوطوبية. لكن كان لهذا الدمج ثمن. فالحكم السلطوي لم يعد قادرا على الانفصال عن الطبقات النيوليبرالية للحفاظ على النظام. أصبح مصيره رهنا بنيوليبرالية «معافاة». لم يعد بإمكان الطبقة الحاكمة أن تقيم تحالفات وتلغيها كما كانت تفعل في الماضي؛ بات هامش المناورة السياسية المتاح أمام النظام محدودا جدا. لقد أدّى الدمج بين الطبقات الحاكمة في الميدانَين السياسي والاقتصادي إلى تضييق دائرة الإمكانات السياسية المتاحة. بناءً على ذلك، يجب إدراج تداعي النظام الحالي في هذا السياق الطويل من الالتقاء بين الليبرالية الجديدة والسلطوية.

ثورة ضد التبعية ايضا

يجب ألا تُفهَم الثورات العربية الراهنة بأنها رفض للسلطوية العربية وحسب، إنما أيضا للتبعية للغرب. كلفة الاستعمار الغربي الجديد ممزوجا بالسلطوية المحلية أكبر من أن تُحتمَل. لقد أظهرت نضالات الشعوب العربية ومعاركها ضد الإمبريالية أن بعض العنف الغربي على الأقل غير قابل للتصدير إلى الأطراف. في بعض الحالات، حاولت الشعوب العربية تحدّي السلطوية عبر تبنّي ما وصفه فرانز فانون بـ«برنامج الفوضى الشاملة» الاستعماري و«العنف المطلق»، لكنها فشلت في معظم الأوقات في إطاحة الأنظمة، ومجزرة حماه خير شاهد على ذلك. من الضروري إدراج الثورات التي يشهدها العالم العربي اليوم، والتي تتّخذ طابعا سلميا في غالبيتها، في هذا السياق. لقد اختار غالبية المتظاهرين العرب، إدراكا منهم بأن العنف ضد الديكتاتورية محكوم عليه بالفشل، استخدام سلاح الضعيف: التظاهرات السلمية. وبذلك تخوض الشعوب العربية نضالا مزدوجا:

١) تشنّ معركة ضد السلطوية العربية،

٢) تحاول أيضا تحدّي النيوليبرالية العالمية. لهذا أظهرت الحكومات الأميركية والأوروبية تردّدا في دعم مطالب المجتمعات العربية4.

يتدخّل الغرب فقط لاحتواء هذه الثورات، إما عن طريق عسكرتها وإما عبر عقد صفقات مع المجموعات الأكثر رجعيّة التي تبدي استعدادا لترويج الأجندتين الأميركية والأوروبية في المنطقة. إذا يتحدّى المحتجّون العقد الاجتماعي غير المدوَّن بين الغرب والحكّام السلطويين. لقد قبِل هؤلاء الحكّام استيراد جزء من العنف الغربي؛ وفي المقابل سمح لهم «المجتمع الدولي» بممارسة حكم أوتوقراطي.

في سياق السلطوية العربية، سلكت سورية مسارا مختلفا عن سواها من البلدان. فهي لا تتبع إملاءات الغرب مثل مصر في عهد مبارك أو الأردن بقيادة عبدالله، لكنها لم تكن يوما معارِضة بحق للنظام العالمي الأميركي، كما يحلو لها أن تصوّر نفسها أحيانا. كانت أكثر استقلالا مما قد ترغب فيه الولايات المتحدة، وقد بدا ذلك راديكاليا في حقبة سادها الخضوع التام من جانب إخوان سورية العرب، لكن الهدف الأساسي لهذا الاستقلال كان الحفاظ على النظام. وتورُّط النظام السوري في الحرب اللبنانية عام ١٩٧٦ إلى جانب الميليشيات المسيحية اليمينية لسحق منظمة التحرير الفلسطينية شاهدٌ على طبيعته المحافظة. وفي عام ١٩٩١، اختار حافظ الأسد المشاركة في حرب الخليج ضد العراق، في حين شارك نظام ابنه في حملة استثنائية لتسليم المطلوبين، ولجأ إلى تعذيب المواطنين السوريين لجمع معلومات «أساسية» يمكن أن تساعد الولايات المتحدة في «حربها العالمية على الإرهاب». يُظهر الرد الخجول من الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية «المعتدلة» والولايات المتحدة خلال الأشهر الأولى من اندلاع الثورة في سورية، والصمت الإسرائيلي في شكل عام، أن الغرب كان يرى في النظام السوري ورقة قيّمة يمكن أن تساعد في الحفاظ على هيكلية السلطة المهيمنة حاليا في المنطقة، مع أنه يُفضِّل ربما أن يتم إضعافه ويصبح بالتالي أكثر خضوعا. لكن النظام السوري تمتّع، بفضل سياسته الخارجية «المعارِضة» ظاهريا، بشرعيّة أكبر في عيون بعض العرب إلى حين اندلاع الثورة السورية. علاقته الوثيقة مع النظام الإيراني وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية تجعله فريدا في السياق العربي. وقد اعتقد النظام أن هذه العلاقة الاستراتيجية ستمنحه حصانة ضد موجة الاحتجاجات في العالم العربي. فقد قال بشار الأسد بوضوح قبل اندلاع الثورة أن سورية مستقرّة ولن تتأثّر بـ«الاضطرابات». في الأشهر الأخيرة، تبدّلت الاستراتيجيا الغربية لأن النظام السوري فقدَ هيمنته وأصبح عبئا على أوروبا والولايات المتحدة. كما في مصر وتونس والعراق وليبيا، قد يبحث الغرب عن مستبدّ ودود كي يحلّ مكان بشار الأسد.

واقع جديد يولد في الشارع

ماذا يكلّف الاحتفاظ بالسلطة اليوم؟ تخسر النيوليبرالية السلطوية بسرعة قبضتها على المجتمع، وكذلك ما تبقّى من شرعيّتها. فبعد كل موجة من التظاهرات، يعارض عدد متزايد من السوريين حكمها، حتى ولو كانت أقلّية فقط تتظاهر حتى الآن في دمشق وحلب. لقد تمكّن النظام حتى الآن من إقناع عدد لا بأس به من السوريين في هاتين المدينتَين الكبيرتَين بأن البدائل عن حكمه تتمثّل في المذهبيّات الخطيرة أو أشكال التطرّف المخيفة. لكن العنف وقتل المتظاهرين السلميين المستمرّ يُحدث تحوّلا سريعا في عقول السوريين. يطالب مزيد من الأشخاص بسقوط النظام، وباتوا مقتنعين بوجوب سقوطه بعد الجرائم الكثيرة التي ارتكبها. النظام عاجز بالكامل تقريبا عن بناء تحالف حيوي. فحالة الاستقطاب بين النظام من جهة وباقي السكّان من جهة أخرى تحول دون تكوّن كتلة تاريخية جديدة يستطيع النظام أن يبني مستقبله عليها. يُظهر توقيف كل الرجال والفتيان دون سن الأربعين في درعا ضعف النظام المتزعزع. كما أن هذه الممارسة تذكّر إلى حد كبير بالحقبة الاستعمارية. يلفت فانون إلى أنه عندما تتحرّك آليات التخلّص من الاستعمار، يصعب جدا وقفها. يكتب «لا يمرّ إنهاء الاستعمار أبدا مرور الكرام، فهو يركّز على الكائن ويحدث تغييرا جوهريا فيه، ويُحوِّل المتفرّج المسحوق القابع في حالة لا طائل منها فاعلا محظيا يُسلَّط عليه ضوء التاريخ الكاشف بأسلوب من الأبّهة». ما لا يفهمه النظام السوري وسواه من الأنظمة العربية هو أنه عندما تتحرّر العقول من الاستعمار، يصعب للغاية إعادة استعمارها من جديد. يثير تحرّر العقول من الاستعمار غضب الديكتاتوريين العرب الذين أمضوا في معظم الأحيان عقودا عدّة في محاولة «تدجين» شعوبهم. لكن الأهم هو أن الأنظمة العربية لا تفهم أنه حتى لو تمكّنت من تفادي سقوطها الآن، فهي تؤجّل فقط زوالها الذي سيحصل لا محالة. فرصتها الوحيدة للحفاظ على ما تبقّى من سلطتها هي أن تنجح حيث أخفق نابوليون. فعندما انتقلت عدوى المثل العليا الثورية إلى عدد كبير من السود في الكاريبي في مطلع القرن التاسع عشر، اعتقد نابوليون أن الطريقة الفضلى للحؤول دون وقوع ثورات في المستقبل هي إجلاء جميع السكان من الجزيرة وإعادتهم إلى غرب أفريقيا.

الثورة تتجاوز المعارضين التقليديين

لا تحمل الثورة السورية في ذاتها رفضا للنخبة الحاكمة وحسب، بل ذهبت أيضا أبعد من التصوّر الذي وضعه المعارضون التقليديون للطريقة التي سينتهي بها النظام. يخلق الناس في الشارع واقعا جديدا متقدّمين بأشواط عن بقية السكّان الذين اضطرّوا إلى أن يتحمّلوا بطريقة او بأخرى واقعا لا يطاق. لقد ترسّخ استبطان الخطاب المذهبي والقمع بقوّة في عقول عدد كبير من السوريين، إلى جانب التفكيك والتدمير المنهجيَّين للمجتمع المدني، واللذين وقفا عائقا أمام إجراء نقاشات جدّية حول مستقبل البلاد واقتصادها والتنمية البشرية والديموقراطية، كما ساهما في توليد انطباع بانتفاء البدائل. مهما كان غياب البدائل وهميا، شعر عدد كبير من السوريين بالنفور والخوف من الآخر، بعدما هالهم حجم المعاناة التي تكبّدها كثرٌ من من أبناء قومهم. لم يستطع كثر أن يفهموا كيف يمكن أشخاصا أن يسيروا نحو موت محتوم ــ وكلّ من يغادر منزله في سورية للتظاهر يسير على الأرجح نحو موت محتوم ــ ولا كيف يمكنهم أن يواجهوا الذخائر الحية بأيادٍ عُزَّل، فاحتموا بكل سرور في الأكاذيب ونظريات المؤامرة والكراهية المطلقة والغضب من المحتجّين.5

أما في ما يتعلّق بالإعلام السوري، فقد لجأ إلى التحريض الأكثر دناءة وحقارة ضد المحتجّين. فإلى جانب اختلاق شبح الفتنة المذهبية حين لم تكن هناك أي أدلّة على وجوده، أراد النظام والإعلام أن يجعلا السكّان شركاء لهما في المجازر التي ارتكباها أو هما على وشك ارتكابها. فقد راح المتّصل تلو الآخر يعلنون في البرامج الحوارية عبر التلفزيون الرسمي السوري أنهم يرغبون في رؤية النظام يضرب «المخرِّبين» و«المتآمرين» بيد من حديد، على وقع التشجيع والبهجة العارمة من مقدّم البرنامج.

لقد كان رد النظام مزيجا من الهبات الاقتصادية غير القابلة للاستدامة مقرونة بمزيد من السياسات الاجتماعية الفاسدة إلى جانب العنف والهمجية الشديدَين. على الصعيد الاقتصادي، أُقرَّت زيادة على الأجور، ففي ٢٤ مارس/آذار، رُفِع راتب حوالى مليونَي موظّف ومتقاعد في القطاع العام بنسبة تتراوح من ٢٠ إلى ٣٠ في المئة، إضافة إلى خفض عام في الضرائب على المداخيل. من شأن كلفة زيادة الأجور، إلى جانب الصندوق الاجتماعي الذي أُعلِن عن إنشائه مؤخرا لمساعدة العائلات المحرومة، أن تزيد عن مليار دولار أميركي أو تبلغ نحو ستة في المئة من إجمالي موازنة الحكومة السورية، وذلك من دون احتساب الخسائر في العائدات بسبب خفض التعرفات ومعدّلات الضرائب (الذي يهدف إلى خفض أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأساسية). ومن الواضح أن هذه الإجراءات التي لا يستطيع النظام تحمّل تكاليفها هي شكل من أشكال الرشوة الرامية إلى وقف الاحتجاجات المستمرّة. بيد أن المشهد الأكثر تعبيرا عن تمجيد الحكم السلطوي والسياسات النيوليبرالية هو تلهّف كبار رجال الأعمال مثل رامي مخلوف وأيمن الجابر وخالد عبود وأحمد أنس الشامي لفتح مستودعاتهم وتحويلها مراكز اعتقال موضوعة في تصرّف النظام كي يستخدمها بعدما أصبحت سجونه العملاقة مكتظّة بنزلائها6.

على النقيض من مصر وتونس، لا يزال الجيش والأجهزة الأمنية في سورية وومعهما الهيكلية الحكومية موالية للطبقة الحاكمة. ولا شك في أن هذا الواقع يجعل إطاحتها أكثر تعقيدا منه في مصر أو تونس. لكن مستوى المأسسة واستقلال المؤسسات أكثر تدنّيا في سورية منه في البلدَين المذكورين، ولذلك فإن إسقاط النظام السوري قد يتيح تطهيرا أفضل لمؤسّسات الحكم، ويوفّر فرصة لبناء المؤسّسات بالاستناد إلى الإجماع والمشاركة. فضلا عن ذلك، نسبة الشباب المرتفعة نسبيا هي نعمة وليست نقمة. فهي تتيح صوغ الأيديولوجيات والآراء العالمية بطريقة إيجابية من خلال الممارسة الديموقراطية والخطاب المنفتح بدلا من أن الإمعان في التصلّب والتشدّد في ظل الحكم الأوتوقراطي. لكن الوقت يدهم، وما زال السؤال، ماذا يكلّف الاحتفاظ بالسلطة، من دون جواب.

المراجع المذكورة في المقال

— Andoni, L., 2011. The delusions of Bashar al-Assad.

[online 03 Apr 2011] Available at: [Accessed 10 May 2011]

— Ali Atassi, 2011. Syrian prisons overcrowding, businessmen offer warehouse’s. [online 05 May 2011] Available at:

[Accessed 6 May 2011]

— Batatu, H., 1999. Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and their Politics. Princeton University Press.

— Bourdieu, P., 1998. Acts of resistance : against the new myths of our time. Cambridge, UK: Polity Press.

— Cleveland, W.L., 2000. A History of the Modern Middle East. 2nd ed. Boulder: Westview Press.

— Fisk, R., 2002. Pity the Nation: The Abduction of Lebanon. New York: Thunder’s Mouth Press / Nation’s Books.

— Fanon, F., 2004. The Wretched of the Earth. Translated from French by R. Philcox. New York : Grove Press.

— Hopfinger, H. and Boeckler, M., 1996. Step by step to an open economic system: Syria sets course for liberalization. British Journal of Middle Eastern Studies, 23, pp.183-202.

— Joya, A., 2007. “Syria’s Transition, 1970–2005: from Centralization of the State to Market Economy”. In P. Zarembka ed. 2007. Transitions in Latin America and in Poland and Syria (Research in Political Economy, Volume 24). Emerald Group Publishing Limited. pp.163-201.

— Lawson, F., 1989. Class Politics and State Power in Ba’thi Syria. In B. Berberoglu ed. 1989. Power and Stability in the Middle East. London: Zed Books. pp.15-30

— Lesch, D.W., 2005. The New Lion of Damascus: Bashar al-Asad and Modern Syria. New Haven and London: Yale University Press.

— Perthes, V., 1995. The Political Economy of Syria under Asad. London: IB Tauris.

— Rudy, S., 2011. “The Arab Revolts”. Mt. Holyoke College lecture. April 12th, 2011.

— Sukkar, N., 1994. “The crisis of 1986 and Syria’ s plan for reform”. In E. Kienle ed. 1994. Contemporary Syria: Liberalization Between Cold War and Cold Peace. London: Academic Press. pp. 26-43.

— Waldner, D., 1999. State Building and Late Development. Ithaca, N.Y.: Cornell University Press.

— Wedeen, L., 1999. Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric, and Symbols in Contemporary Syria. Chicago: University of Chicago Press.

— Wieland, C., 2006. Syria: Ballots or Bullets?

- Democracy, Islamism, and Secularism in the Levant. Seattle: Cune Press.

- سعيفان، سمير، السفير، ١٩ أبريل/نيسان 2009.

  • 1. http://english.aljazeera.net/ndepthopinion/2011/04/20114314059483767.h
  • 2. مقابلة خاصة، ٢٠ تشرين الثاني/نوفمبر، ٢٠٠٧، البحر الميت، الأردن.
  • 3. كان مؤسِّسا الحزب، ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، مدرِّسَين تلقّيا تحصيلهما العلمي في فرنسا، وقد تأثّرا بالأفكار الاشتراكية والعلمانية ولا سيما أفكار الاشتراكية الفرنسية. أما زكي الأرسوزي الذي كان أيضا مفكّرا قوميا بارزا، فشكّل مرجعا بالنسبة إلى الجيل (العسكري) الشاب في البعث، ولا سيما الأسد الذي عزل عفلق والبيطار وزعم أن الأرسوزي هو المؤسِّس الأيديولوجي «الحقيقي» لحزب البعث.
  • 4. سايرس رودي «الثورات العربية» محاضرة في كلية ماونت هوليوك، ١٢ أبريل/نيسان ٢٠١١.
  • 5. بما أن الأسد وعددا كبيرا من انصاره ينتمون الى الطائفة العلوية الأقلّية، اختصر عدد كبير من الباحثين المجتمع السوري المعقّد والمتعدّد الطبقات بمجموعة من المذاهب الدينية ذات المصالح المتعارضة. أظهر المؤرّخ العراقي، حنا بطاطو، وآخرون سواه، أن استخدام «النظرية المذهبية» كمقياس أوحد لقراءة المشهد السوري وفهمه، اختزالي جدا، وإن اعتبر بطاطو أنه مع مرور الوقت، أُسنِدت قيادة الأجهزة الأمنية والفرق المختلفة في الجيش إلى مزيد من العلويين. لكن من الخطأ اعتبار النظام «مذهبيا». فقد بيّنت الأحداث الأخيرة أن ثمّة تركيبة سياسية اقتصادية تتقاطع مع الخطوط المذهبية.
  • 6. اتاسي ٢٠١١، ٥ مايو/أيار.
العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.